القسم السادس والثمانون

في صباح اليوم الثاني، عندما وصل بيتر إلى مكتبه، وجَد في انتظاره رسالةً مكتوبةً على ورقٍ مكتبيٍّ غالٍ ومميَّز، بخط امرأة طويل ذي حوافَّ حادة. فتح بيتر الرسالة وجفل؛ فقد كان في أعلى الرسالة شعارٌ من نوعٍ ما ونقش باللاتينية يقول: «جمعية بنات الثورة الأمريكية». أبلغته الرسالة التي خطتها أمينة الجمعية بأن السيدة وارينج سامي تطلب من السيد بيتر جادج أن يتكرم بزيارتها في تمام الساعة الثالثة بعد ظهر اليوم. فحص بيتر الرسالة، وحاول معرفة أي نوع من الحُمْر تمثله. كان معجبًا بالورق المكتبي والنبرة الملكية، ولكن كلمة «الثورة» تلك كانت واحدة من الكلمات المحظورة. لا بد أن السيدة وارينج سامي واحدة من «حُمْر الصالونات» مثل السيدة جود.

أخذ بيتر الرسالة إلى ماكجيفني، وقال متشككًا: «ما نوع مؤامرة الحُمْر هذه؟»

قرأ ماكجيفني الرسالة، وقال: «مؤامرة حمراء؟ ماذا تعني؟»

قال بيتر موضحًا: «أنظر. مكتوب عليها «بنات الثورة الأمريكية».»

حدَّق ماكجيفني في وجهه؛ فقد كان يظن في البداية أن بيتر يمزح، ولكن عندما رأى أمارات الجدية على وجهه، تبسم في وجهه، وقال: «أيها الأحمق! ألم تسمع من قبل عن الثورة الأمريكية؟ ألا تعرف شيئًا عن الرابع من يوليو؟»

في تلك اللحظة رن الهاتف وقاطع حديثهما، وأعطى ماكجيفني الرسالة لبيتر قائلًا: «اسأل زوجتك عنها!» عندما دخلت جلاديس الغرفة، أعطاها بيتر الرسالة، وبدت عليها الحماسة الشديدة. يبدو أن السيدة وارينج سامي سيدة مجتمع راقية للغاية في المدينة الأمريكية، وأن هذه الثورة الأمريكية التي كانت ابنة لها كانت ثورة محترمة حدثت منذ أمد بعيد، وأن أفضل الناس هم من ينتمون إليها، وكان من القانوني والمناسب الكتابة عنها، بل ووضع اسمها على رأس الورق الخاص بك. يجب أن يعود بيتر إلى منزله على الفور لارتداء أفضل ملابسه، والاتصال بأمينة الجمعية وإبلاغها بأنه سيكون سعيدًا بزيارة السيدة وارينج سامي في الموعد المحدد. كانت هناك بعض الأمور الأخرى التي يجب على بيتر دراستها. يجب أن يحصل على نسخة من سجل المجتمع، «سجل الشخصيات البارزة في المدينة الأمريكية»، ويجب أن يتعرف على تاريخ بلاده، ويتعلم إعلان الاستقلال، والفارق بين ثورة حدثت منذ وقت طويل وأخرى تحدث الآن.

وهكذا، ذهب بيتر للقاء سيدة المجتمع العظيمة في قصرها المبني بالحجر الرمادي، ووجدها فاحشة الثراء مثل السيدة جود تمامًا، ولم تتفوق عليها إلا في احترامها لمكانتها الاجتماعية؛ فلم ترتكب خطأ التعامل مع بيتر كندٍّ لها؛ ومن ثَم لم يخطر ببال بيتر أنه قد يستقر على الدوام في منزلها. كان الهدف من طلبها من بيتر أن يزورها هو أن تخبره بأنها سمعت عن محاضرته حول خطر الحُمْر، وأنها كانت رئيسة مجلس إدارة راعيات المنزل المخصص للمحاربين القدامى المعاقين في المدينة الأمريكية، وكانت ترغب في أن يلقي بيتر محاضرة على المحاربين القدامى. فقال بيتر، الذي كان قد تلقى تعليماتٍ مسبقة من جلاديس، إنه سيكون سعيدًا للغاية بالتبرع بهذه المحاضرة مساهمة وطنية. شكَرتْه السيدة وارينج سامي بجدية باسم بلاده، وقالت إنها ستُعلِمه باليوم المحدد للمحاضرة.

عاد بيتر إلى المنزل، ورأى أمارات الاستياء على وجه جلاديس، فكان من المفترض أن تُلقى المحاضرة على مجموعة من الجنود عديمي الفائدة في قاعةٍ مجهولة، بينما كانت تأمل في أن تُلقى المحاضرة في مقر جمعية بنات الثورة الأمريكية نفسه، وفي منزل السيدة وارينج سامي. ومع ذلك، كان اهتمام السيدة وارينج سامي بأي شيء يُعد نجاحًا في حد ذاته. لذا سرعان ما عادت إلى جلاديس غبطتها، وأخبرت بيتر عن حياة السيدة وارينج سامي، ويبدو أنها حصلت على هذه المعلومات القيمة من النميمة التي تدور في صالونات العناية بالأظافر.

ثم تحدثت جلاديس إلى بيتر عن نفسه وهي في مزاجٍ جيد. كانا قد وصلا إلى نقطة يمكنهما النظر منها إلى الماضي ورؤيته جملةً واحدة، وبفضل الثقة والألفة التي تميزت بها حياتهما الزوجية، كانا قادرين على التعلم من أخطائهما والتخطيط لمستقبلهما بحكمة. لقد ارتكب بيتر العديد من الأخطاء، وعليه أن يقر بذلك بلا شك. هل أقر بيتر بذلك؟ نعم، لقد فعل. ولكن واصلت جلاديس حديثها قائلةً إنه كافح بشجاعة، وكان محظوظًا للغاية أن أنعم الرب عليه بواحدة من أعظم نعم الحياة، تعاون امرأة صالحة وقادرة. كانت جلاديس حاسمة تمامًا عندما قالت تلك الكلمات الأخيرة، ووافقها بيتر على قولها. كما وافقها أيضًا عندما قالت إنه من واجب الزوجة الصالحة والقادرة أن تحمي زوجها من أجل تحقيق التوازن في حياتهما الزوجية، حتى يتمكن من تجنب الفخاخ التي يضعها أعداؤه تحت قدميه. كان بيتر قد تعلم بالطريقة الصعبة ألا يجذبه وجه جميل مرة أخرى أبدًا، حتى لا يستيقظ في صباح اليوم التالي ويجد جيوبه فارغة. أقر بيتر بذلك أيضًا. مع استمرار هذه المحادثة، أدرك أن الانتصارات المتتالية التي أصبح يشهدها في حياته كانت بفضل زوجته وحدها، أو على الأقل، أدرك أنه لن تفيده محاولة تغيير قناعة زوجته بشأن هذا الموضوع. وقَبِل بكل تواضُع نبوءاتها بشأن سلوكه المستقبلي، فكان سيحضر راتبه لها نهاية كل أسبوع، وستستخدم زوجته هذا الراتب، بالإضافة إلى راتبها، لتحسين مظهرهما وأسلوبهما، ولمساعدتهما في الترقي إلى مكانة اجتماعية أعلى.

بتطبيق بيتر تعليمات زوجته بحذافيرها، أصبح حديثه أكثر رقيًّا، وحركاته أكثر وقارًا. كانت تخبره باستمرار أن مستقبل المجتمع يعتمد على معرفته ومهارته، ووافقها على ذلك أيضًا. فتعلم ما يجدر به فعله وما لا يجدر به فعله، فلن يتجرأ على عبور الخط الفاصل نحو الجريمة مجددًا أبدًا، أو يخاطر بتجربة حظوظه مع الابتزاز. ولن يتجرأ مرةً أخرى على العمل الحر تحت تأثير كائنٍ دنيء على غرار نيل دولين، ولكنه سيساند «النظام»، وسيضع في اعتباره أن النزاهة أفضل سياسة. ومن ثم سيتقدم بثبات، وسيلتقي بأهم الرجال الكبار في البلاد، وسيذهب لزيارتهم، ليس متذللًا تداعب أصابعه قبعته في توتر، بل بهدوء واثق. سيقابل وكلاء النائب العام الذين يطمحون لأن يصبحوا رؤساء للدولة، وسيزودهم بمعلومات يستخدمونها في جرعة الرعب الأسبوعية من الحُمْر. وسيقابل المشرعين الذين يريدون الإطاحة بالاشتراكيين المنتخبين من مناصبهم، والمحافظين الذين يرغبون في سجن قادة الإضرابات «غير القانونية». سيقابل الكتاب الصحفيين الذين يكتبون المقالات، والروائيين المحليين الذين يبحثون عن أحد الحُمْر المحليين.

ولكن تكمن أفضل فرص بيتر في كونه محاضرًا، فسيساعده ذلك في السفر إلى جميع أنحاء البلاد محدثًا جلبة. هل كان يعرف السبب في ذلك؟ أجاب بيتر بالنفي، فلم يكن يعرف. لا بأس، يمكن لجلاديس أن تخبره؛ السبب في ذلك أنه رومانسي. لم يكن بيتر يعرف ماذا تعني هذه الكلمة بالضبط، لكنها بدت مجاملة، فابتسم بغباء كاشفًا عن أسنانه المعوجة، وسأل جلاديس كيف عرفت أنه رومانسي. فجاء الرد في صورة أمر مفاجئ له بأن ينهض واقفًا ويدور حول نفسه ببطء.

لم يحب بيتر النهوض من كرسيه الوثير المريح، لكنه فعل ما طلبته زوجته التي فحصت جميع جوانبه، ثم صاحت: «بيتر، يجب أن تتبع نظامًا غذائيًّا؛ لقد أصبحتَ في حجم الخرتيت!» كانت تتحدث بجزع، فشعر بيتر بالخوف، فقد حسب أنه مريض. ولكن جلاديس أضافت: «لا يمكنك أن تكون شخصيةً رومانسيةً تقف على منصة تلقي محاضرات إذا كان بطنك يكاد يُلامس الأرض!»

وجد بيتر أن الحديث عنه أمر مثير للاهتمام، فسأل جلاديس مرة أخرى عن السبب الذي جعلها تظن أنه رومانسي. قالت إن ذلك كان لعدة أسباب، ولكن السبب الرئيسي هو أنه كان مجرمًا خطيرًا، ثم اعتزل الجريمة، الأمر الذي أسعد المتدينين، ثم جاءت نهاية حكايته سعيدةً بالزواج، الأمر الذي أسعد قراء الروايات.

قال بيتر ببراءة: «هل هذا صحيح؟» فأكدت له أنه كذلك. فسألها: «وماذا أيضًا؟» فشرحت له أنه كان يعرف عن كثب أولئك الأشرار الخطرين وجميع تفاصيلهم، غيلان العالم الحديث، البلشفيين الذين لم يعرف عنهم عموم الناس شيئًا إلا عبر الصحف. كما أنه لم يروِ قصة مثيرة فحسب، بل أنهاها أيضًا بدرس ذي عائد مادي. وكان الدرس هو «تبرع لجمعية تطوير أمريكا. أَصدِر شيكاتك لجمعية البيت والموقد. يعتمد وجود بلادك على دعمك فيلق الدفاع الوطني.» لهذا السبب ستَذيع شهرة محاضرات بيتر، وسيتوق أمثال جوفي وبيلي ناش من كل مدينة وبلدة في أمريكا لأن يذهب إليهم، وعندما يفعل، ستنشر الصحف صورته، وسيُرحِّب قادة أرقى المجتمعات به وبزوجته. سيصبحان من أبرز شخصيات المجتمع، وسيزوران منازل الأغنياء، وسيصبحان تدريجيًّا من الأغنياء.

تفحَّصت جلاديس زوجها مرةً أخرى أثناء توجههما نحو غرفة نومهما. نعم، كان بلا شك يزداد «وزنًا»، وسيتعيَّن عليه ممارسة الجولف. كان يضع علمًا أمريكيًّا صغيرًا يتدلى من سلسلة ساعته، وتساءلت عما إذا كان ذلك فجًّا إلى حدٍّ ما. كانت جلاديس أيضًا ترتدي خاتمًا من الماس الحقيقي، وتعلَّمت كيف تقول «تُحَف» و«دورة مياه». تثاءبت بطريقةٍ جذابة بينما كانت تخلع «ثوبها المُفصَّل» البني الأنيق، وفكرت في أن الحصول على هذه الأشياء أصبح سهلًا وآمنًا.

أصبحت وبيتر يمتلكان جميع هذه الأشياء بلا استثناء. لم يعودا يخشيان أن يجدا نفسَيْهما ذات يومٍ عاطلَين. ووصلا إلى قناعة بأنه ليس من السهل القضاء على الخطر الأحمر؛ إنه بمثابة سرطان متأصل في دم المجتمع، ويظهر من وقت لآخر في صورة طفحٍ جديد. كانت جلاديس تتفق مع الحُمْر على نقطة واحدة، وهي أنه ما دامت هناك طبقة من الأغنياء والمزدهرين، فسيظل الاستياء الاجتماعي قائمًا على الدوام، وستظل هناك دائمًا مجموعة من الأشخاص تتكسب من التحريض والإدانة والنداء بالتغيير. المجتمع أشبه بحديقة عندما تزرع خضراواتك فيها كل عام، تنبت معها الأعشاب الضارة، وعليك أن تذهب إليها مباشرةً وتقطع رءوس هذه الأعشاب. وكان زوج جلاديس خبيرًا في البستنة يعرف جيدًا كيف يجتث الأعشاب من جذورها، ويعرف أن المجتمع لن يتمكن أبدًا من الاستغناء عن خدماته. وما دامت البستنة مستمرة، فسيظل بيتر رئيسًا لمجتثي الأعشاب، ومعلمًا لصفوف من مجتَثِّي الأعشاب الشباب.

كان من الرائع أن تتزوج رجلًا مثله! كانت هذه الجائزة التي تحصل عليها المرأة الصالحة مقابل مساعدة زوجها وجعله مواطنًا صالحًا ووطنيًّا ومدافعًا عن القانون والنظام؛ هذا لأنه من المعتاد، بالطبع، أن يتأكد أولئك الذين يمتلكون الحديقة من أن ينعم رئيس مجتثي الأعشاب الذي يعمل لصالحهم بحياته، وأن يحصل على حصة من أفضل مما تنتجه الحديقة. وقفت جلاديس أمام مرآتها تضفر شعرها قبل النوم، وتفكر في الأشياء التي ستطلب الحصول عليها من هذه الحديقة. إنها تستحق وبيتر الزهور الأجمل، والفواكه الألذ، وسيطلبانها. فردت جلاديس ذراعيها عن آخرهما فجأةً بعدما شعرت بنشوة الإدراك، وقالت: «لقد نجحنا، يا بيتر! لقد نجحنا! سنملك المال وكل الأشياء الجميلة التي يمكنه شراءها! هل تدرك يا بيتر مقدار ما حققت من نجاح؟»

رأى بيتر وجهها المشرق بالسعادة، ولكنه كان يشعر بالقليل من الخوف والتردد بسبب هذا التقاسم غير المعتاد للشرف. كانت جلاديس مدفوعة بالحنان الممزوج بالشفقة. فمدت ذراعيها نحوه، وقالت: «يا لعزيزي بيتر المسكين! لقد عاش حياة صعبة! من حظه العسر أنه لم يلتق بي في وقت مبكر من حياته لأساعده!»

ثم أطرقت جلاديس للحظات، واندفعت الكلمات من فمها مجددًا قائلةً: «فَكِّر في الأمر فحسب، يا بيتر، من الرائع أن تكون أمريكيًّا! في أمريكا، يمكنك دائمًا الازدهار إذا أديت واجبك! أمريكا أرض الأحرار! إنك مثال حي على نجاح فتًى فقير من شأنه أن يُقنِع حتى الحُمْر الأغبياء بأنهم مخطئون. يمكن لأي فتًى أن يتقدم إذا ما عمل بجِد! يُقال إنه في أمريكا يمكن حتى لأفقر الصبية أن يصبح رئيسًا! هل تودُّ أن تصبح رئيسًا، يا بيتر؟»

ترددَّ بيتر. فقد كان يشك في قدرته على تحمُّل هذا العبء الكبير، لكنه أدرك أنه جلاديس ستستاء لو قال ذلك. فهمس: «ربما، يومًا ما …»

واصلت زوجته حديثها قائلةً: «على أي حال، يا بيتر، أنا مع هذا البلد! أنا أمريكية!»

وهذه المرة لم يتردد بيتر، وقال: «بالطبع أنتِ كذلك!» وأضاف صيغته المفضلة: «أمريكية حقيقية بنسبة ١٠٠٪!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤