هوميروس
أرادت مجلة «الهلال» الغراء أن تكون صلةٌ بيني وبين قرائها في نشر طائفة من الفصول التي اقترحتْ موضوعها. فمن الحق أن أبدأ هذه الفصول بأن أقدِّم إلى «الهلال» أجمل الشكر؛ لما تفضلت به من إيجاد الصلة بيني وبين قرائها، ولما وفقتْ له من اقتراح هذا الموضوع، الذي قد يكون عسيرًا أشد العسر، ولكنه نافع أعظم النفع، فمهما يتكلف الكاتب من العناء في البحث عن دقائقه فهو واثق كل الثقة بأن عناءَه ليس ضائعًا، وبأنه واجدٌ في هذا العناء نفسه من اللذة والفائدة ما ينسيه مشقة البحث وآلامه. ولقد أجاهد نفسي جهادًا شديدًا لأمنعها عن الإسهاب في بيان ما لهذا الموضوع من نفع وخطر؛ لأني أعلم أن البحث نفسه سيبين هذا النفع والخطر أحسن بيان. وحسبنا أننا سنعرض في هذه الفصول لا لتاريخ أشخاص بعينهم، بل لتاريخ العقل الإنساني، وما اعترضه من ضروب التطور وألوان الاستحالة والرقي حتى انتهى إلى حيث هو الآن.
على أني لا أريد أن أبدأ البحث قبل أن أقدِّم بين يديه تنبيهًا للقارئ، أرى أنْ ليس منه بدٌّ؛ فقد تعوَّد الناس في الشرق عامةً وفي مصر خاصةً، أن يفهموا من مثل هذا العنوان الذي قدمته، أن عناية الكاتب والباحث ستتناول الأشخاص وتقصر عليهم؛ فلفظ «قادة الفكر» إذا سمعه القارئ المصري أو الشرقي، فهم منه لأول وهلة، طائفة من الأشخاص لهم أثر يختلف قوَّةً وضعفًا في تكوين الحياة الفكرية عامة، في جيل من الأجيال، أو في بلد من البلاد، ثم اتصل ذهنه بهؤلاء الأشخاص، وانتظر من الكاتب أن يقصَّ عليه أطرافًا من حياتهم، وما اعترضها من خطوب، وما اختلف عليها من محن. وبعبارة موجزة: انتظر من الكاتب أن يقص عليه تراجم هؤلاء الأشخاص.
وهذا النوع من البحث مألوفٌ شائعٌ في الشرق والغرب، يحبه الناس، ويَكْلفون به منذ كتب الكاتب اليوناني المعروف «فلوترخس» كتابه المشهور، الذي ترجم فيه لعظماء الرجال من اليونان والرومان، والذي كان له في العصر القديم وفي القرون الوسطى، وفي أول هذا العصر الحديث أثرٌ لا يكاد يَعْدِله أثرٌ، والذي ما نزال نقرؤه الآن بِلذَّة لا تعدلها لذةٌ، وعناية لا تشبهها عنايةٌ. هذا النحو من البحث مألوفٌ شائعٌ، ولكني مع ذلك سأعدل عنه، وسأكون شديد الاقتصاد في ذكر الحوادث والأخبار والتواريخ التي تتصل بحياة الأشخاص الذين سأعرض لهم في هذه الفصول، لا لأني أهمل هؤلاء الأشخاص إهمالًا، أو أنسى تأثيرهم العظيم في البيئة التي نشئوا فيها؛ بل لأن لي رأيًا أظن أنه الرأي المقرر الآن عند الذين يُعْنَون بتاريخ الآداب والآراء، وهو أن هذه الآداب والآراء على اختلافها وتباين فنونها ومنازعها ظواهر اجتماعية أكثر منها ظواهر فردية: أي إنها أثر من آثار الجماعة والبيئة أكثر منها أثرًا من آثار الفرد الذي رآها وأذاعها.
وإذا كان الأمر كذلك، فليس من الحق في شيء أن ننسى الجماعة التي هي المؤثر الأول في ظهور الآداب والآراء الفلسفية، وتقصر عنايتك على الفرد الذي كان مظهرًا لهذه الآداب أو لهذه الآراء. وأحب أن نتفق قبل كل شيء؛ فالناس يذهبون في مثل هذا الموضوع مذهبين متباينين أشد التباين؛ أريد أنا، كما أراد غيري من المؤرخين المحدثين، أن أتوسط بينهما وأن آخذ من كل منهما خلاصته. فمن الناس من يغلو في إكبار الجماعة والبيئة وإضافة كلِّ شيء إليها واستنباط كل شيء منها، حتى ينسى الفردَ نسيانًا تامًّا، فإن تذكَّره فإنما يذكره على أنه أداةٌ من الأدوات ومظهرٌ من المظاهر ليس له قوةٌ، ولا عملٌ، ولا إرادةٌ. ومنهم من يغلو في إكبار الفرد، فيضيف إليه كلَّ شيء، ويقصر عليه كلَّ العناية، ويفني الجماعة فيه كما يفنيه السابقون في الجماعة. أولئك يمحون الفرد محوًا، وهؤلاء يمحون الجماعة محوًا، أولئك وهؤلاء مخطئون فيما أعتقد. فلست أجهل أن الفرد قوةٌ تختلف عِظَمًا وضآلةً، ولكنها قوة على كل حال، قوةٌ لها أثرها في تكوين القوة الاجتماعية، بل لها أثرها العظيم في تكوين هذه القوة. وإذن، فليس من البحث العلمي القيم في شيء أن تعتبر هذا الفرد كمًّا مهملًا، كما يقولون. ولست أجهل أن الفرد لم ينشئ نفسه، وليس من سبيل إلى تصوره مستقلًّا؛ وإنما هو في وجوده المادي والمعنوي، أثرٌ اجتماعي وظاهرةٌ من ظواهر الاجتماع، لا يوجد إلا إذا التقى الجنسان، فإذا وجدَ فالجماعة كلها متعاونة متظاهرة على تنشئة وتربية جسمه وعقله وشعوره وعواطفه. وهل التربية المادية والمعنوية إلا قالبٌ يصاغ فيه الفرد على صورة الجماعة التي ينشأ فيها! يتعلم الفرد بهذه التربية اللغة التي يتكلمها وليس هو الذي يُحْدِث هذه اللغة، وليس من الممكن أن تعرف الفرد الذي أحدث لغة من اللغات، بل ليس من الممكن أن توجد اللغة إلا إذا كانت هناك جماعة تحدثها، لأنها محتاجةٌ إليها. ثم يتعلم الفرد الدين الذي ينظم حياته الروحية، وليس هو الذي أحدث هذا الدين، بل ما من سبيل إلى وجود الدين إذا لم تكن هناك جماعةٌ تحتاج إليه. وقُلْ مثل هذا في الأخلاق، وقُلْ مثله في النظم الاجتماعية والسياسية، وقُلْ مثله في جميع الأوضاع والآداب.
الفرد إذن ظاهرةٌ اجتماعية، وإذن فليس من البحث القيِّم العلمي في شيء أن تجعل الفرد كلَّ شيء وتمحو الجماعة التي أنشأته وكونته محوًا، إنما السبيل أن تُقَدِّر الجماعة، وأن تُقَدِّر الفرد، وأن تجتهد ما استطعت في تحديد الصلة بينهما، وفي تعيين ما لكليهما من أثر في الآداب، والآراء الفلسفية، والنظم الاجتماعية، والسياسية المختلفة. وإذا كان هذه السبيل المعقولة فلا ينبغي أن تنتظر من هذه الفصول تراجم لقادة الفكر كما تقرأ في كتاب «فلوترخس» تراجم عظماء الرجال من اليونان والرومان، ولا ينبغي أن تنتظر من هذه الفصول مباحث اجتماعية أو جغرافية تدرس منها البيئات والبلدان درسًا مفصلًا، بحجة أنها هي المؤثر الأول في وجود الآراء والأفكار التي خضعت لها الأجيال الإنسانية. إنما هذه الفصول مزاج من البحث الفردي والاجتماعي، سأجتهد ما استطعت في أن أبين فيها شخصية الفلاسفة والمفكرين الذين سأعرض لهم، ولكن على أن تكون هذه الشخصية متصلة بالبيئة التي نشأت فيها، متأثرة بها، ومؤثرة فيها أيضًا.
•••
وبأي هؤلاء المفكرين والفلاسفة تريد أن أبدأ هذه الفصول؟ هم كثيرون، أكثر من عشرة، بل هم أكثر من مائة، بل أحسب أن العد لا يكاد يحصيهم، بل أزعم أنَّا نجهل منهم أفرادًا كثيرين، فكم من مفكر، وكم من فيلسوف كان له الأثر الأعظم في ترقية بيئته وتهيئتها للتطور، ولكن الزمان محا شخصيته محوًا، وأخفاها عن الأجيال إخفاءً، فلم يعرف الناس من أمره قليلًا ولا كثيرًا، وإنما استمتعوا بآثاره، وانتفعوا بآرائه وهم يجهلونه، ثم قد يخطر لهم أحيانًا أن يبحثوا عنه ويتلمسوا شخصيته، فإذا لم يجدوا إليها سبيلًا اخترعوها اختراعًا وابتكروها ابتكارًا، وخلقوها من عند أنفسهم.
ولقد أريد أن أحدثك اليوم عن شخص من هؤلاء الأشخاص، أو عن طائفة من هؤلاء الأشخاص، كان لهم أعظم أثر في تكوين أمة بأسرها، وفي تصوير النظم السياسية والاجتماعية والدينية التي خضعت لها هذه الأمة عصورًا طوالًا، وفي تهيئة هذه الأمة للرقي والتطور، اللذين جعلاها مصدر الحياة العقلية التي لا تزال الإنسانية متأثرة بها إلى اليوم وإلى غدٍ، وإلى آخر الدهر، أريد بهؤلاء الأشخاص أولئك الشعراء الذين أَنْشَئوا «الإلياذة» و«الأودسا»، وغيرهما من الأناشيد القصصية اليونانية التي لم يبق لنا منها إلا طرفٌ قليل، والتي كانت قوام الحياة اليونانية عصورًا طوالًا حتى خلفتها الفلسفة. ولعلك تدهش حين تراني أحدثك عن منشئ «الإلياذة» و«الأودسا». لعلك كنت تُقَدِّر أني سأحدثك عن فيلسوف من هؤلاء الفلاسفة الذين خلد التاريخ القديم والحديث أسماءهم وآراءهم: عن «سقراط»، أو «أفلاطون»، أو «ديكارت»، أو «جان جاك روسو»، أو «كنت»، أو «أوجست كمت»، أو «سبنسر»، سأحدثك عن هؤلاء، ولكن بعد أن أحدثك عن «هوميروس» وخلفاء «هوميروس».
وفكِّرْ معي قليلًا في تاريخ اليونان الذي ترجع إليه الحضارة الإنسانية الحديثة والقديمة. وفكر معي قليلًا في تاريخ العرب أيضًا الذي ترجع إليه الحضارة الإسلامية من بعض الوجوه. وعلامَ كانت تقوم الحياة اليونانية في بداوة اليونان وأول عهدها بالحضارة؟ علامَ كانت تقوم الحياة العربية في بداوة العرب، وأول عهدهم بالإسلام؟ على الشعر.
ونستطيع أن نقول: على الشعر وحده؛ فالعرب واليونان يتشابهون من هذه الجهة تشابهًا كاملًا؛ تستطيع أن تبحث عن فلاسفتهم وحكمائهم، وقادتهم وساستهم، ومدبري أمورهم الاجتماعية أيام البداوة فلا تجد إلا الشعراء. ثم تستطيع أن تبحث عن فلسفتهم ودينهم ونُظُمِهم المختلفة وحياة عقولهم وعواطفهم فلا تجدها إلا في الشعر.
الشعر إذن هو أول مظهر من مظاهر الحياة الاجتماعية القوية لهاتين الأمتين. وتستطيع أن تقول في غير حرج: إن الشعر هو أول مظهر من مظاهر الحياة الاجتماعية القومية لكل الأمم المتحضرة التي عرفها التاريخ. وإذن فالشعراء هم قادة الفكر في هذه الأمم؛ تأثروا بحياتها البدوية، فنشئوا ملائمين لها؛ وتميزت شخصياتهم فأثروا فيمن حولهم، ثم في الأجيال التي خلَفتهم.
وهل كانت توجد الحضارة اليونانية التي أنشأت «سقراط» أو «أرسطاطاليس»، والتي أنشأت «إسكولوس» و«سوفكليس»، والتي أنشأت «فدياس» و«بيركليس» لو لم توجد البداوة اليونانية التي سيطر عليها شعر «هوميروس» وخلفائه؟! وهل كانت توجد الحضارة الإسلامية، التي ظهر فيها من ظهر من الخلفاء والعلماء وأفذاذ الرجال، لو لم توجد البداوة العربية، التي سيطر عليها امرؤ القيس والنابغة والأعشى وزهير وغيرهم من هؤلاء الشعراء الذين نبخسهم أقدارهم ولا نعرف لهم حقهم؟! غير أن هناك فرقًا عظيمًا بين بداوة العرب وبداوة اليونان: بداوة العرب أثرت في العرب وفي الحضارة الإسلامية، ولم تجاوز الحضارة الإسلامية إلا قليلًا. وإذن، فشعراء الجاهلية العربية عرب لا أكثر ولا أقل. أما بداوة اليونان، فقد أثرت في اليونان، وأثرت في الرومان، وأثرت في العرب، وأثرت في الإنسانية القديمة والمتوسطة، وهي تؤثر الآن في الإنسانية الحديثة، وستؤثر فيها إلى ما شاء الله، وإذن فشعراء البداوة اليونانية يونان، ولكنهم مِلْكٌ للإنسانية كلها.
ومن هؤلاء الشعراء من نسيتهم الإنسانية نسيانًا تامًّا، وعاشت بآثارهم عصورًا طوالًا، ثم تنبهت لجمال هذه الآثار فأخذت تبحث عن أصحابها، وما تزال تبحث عنهم إلى الآن دون أن تجدهم؛ وأكبر الظن أنها لن تجدهم أبدًا، وإذن فقد خلقتهم خلقًا، وابتكرتهم ابتكارًا. وبين أيدينا منهم صورٌ مختلفة، تختلف باختلاف الأجيال التي أنشأتها. بين أيدينا الصورة اليونانية التي اخترعها اليونان في القرن السابع قبل المسيح، وفي القرون التي وليته، والتي تمثل لنا «هوميروس» بطلًا من الأبطال نشأ من الزواج بين نهر من أنهار آسيا الصغرى وامرأة من عامة النساء، وتقص علينا من أخباره أقاصيص نعجب بها، ولكننا لا نستطيع أن نؤمن بها، ثم بين أيدينا صورة أخرى ظهرت في أوربا في القرن الثامن عشر، وصور أخرى ظهرت في أوربا في القرن التاسع عشر، تمثل «هوميروس» رجلًا من الرجال، وتجتهد في أن تنشئ له سيرة تشبه سير الناس، ثم بين أيدينا صورة أخرى ظهرت في أوربا أوائل القرن الماضي، تنكر شخص «هوميروس»، وتجحده جحودًا تامًّا، وتزعم أن «هوميروس» هو الأمة اليونانية البدوية كلها، وأن «الإلياذة» و«الأودسا» أثران من آثار الأمة اليونانية كلها. ثم بين أيدينا هذه الصورة التي وقف عندها البحث الحديث إلى حين، إلى يوم يظهر باحث جديد يظهر لنا صورةً أخرى. وهذه الصورة التي انتهى إليها البحث الآن تنكر شخص «هوميروس» كما روته الأساطير، وتزعم أن هناك أسرة كانت تسمى أسرة «الهومريين» توارثت الشعر القصصي فيما بينها، وأذاعته في البلاد اليونانية. ولست تريد — فيما أظن — أن أوغل بك في هذه المباحث المختلفة المعقدة حول شخص «هوميروس» أو أشخاص الشعراء القصصيين الذين أنشئوا «الإلياذة» و«الأودسا» وغيرهما من الشعر القصصي اليوناني؛ فذلك شيء لا غناء فيه الآن؛ وإنما الذي أستطيع أن تأخذني به هو أن أبين لك كيف كان هؤلاء الشعراء الذين نسيهم التاريخ قادة الفكر أثناء البداوة اليونانية، وأثناء عصر طويل من الحضارة اليونانية، وكيف لا يزال هؤلاء الشعراء يؤثرون في الحياة الإنسانية إلى الآن.
تصور جماعة من الناس لا يقرءون، ولا يكتبون، ولا يختلفون إلى مدرسة، ويستمعون إلى فيلسوف، ولا يطمحون في حياتهم إلى أكثر من الأكل والشرب والأمن والدعة. هذه الجماعة التي تعيش هذه العيشة الخشنة، تجدها في البلاد اليونانية قديمًا، وفي البلاد العربية قبل الإسلام، وفي بلاد أخرى لم تبلغها الحضارة اليوم، تصور هذه الجماعة وقد أقبل عليها في يوم من الأيام رجل في يده أداة موسيقية تشبه الربابة فأخذ يلحن على أداته الموسيقية، واجتمع الناس حوله يستمعون إليه، وما هي إلا أن أضاف إلى ألحانه غناءً أخذ ينشده، فغنى الناس به وشجعوه، واندفع هو في غنائه، وإذا هو يقص عليهم، في لغة عذبة ساذجة رائعة، أخبار طائفة من الأبطال يمثلون الثروة التي يطمحون إليها، والقوة التي يعتزون بها، والشجاعة والبأس، وما إلى ذلك من الأخلاق والخلال التي يُكْبِرُها البدو، ويحرصون عليها؛ لأنها قوام حياتهم. واندفع الشاعر في قصصه يغنيه ويلحنه، وأغرق الناس في الاستماع إليه والإعجاب به، وإذا هم معلقون بشفتيه، وإذا هو يخلب ألبابهم ويستهوي عقولهم؛ حتى إذا فرغ من قصصه وغنائه التفوا حوله يهنئونه ويكرمونه، واستبقوا إليه يضيفونه ويمنحونه المنح، حتى إذا قضى بينهم أيامًا ينشدهم ويجيزونه، تركهم وقد حفظوا عنه كثيرًا وقد أحيا عواطفهم وغذَّا عقولهم. تركهم وانتقل إلى جماعة أخرى وقد شجعه ما لقي من الجماعة الأولى، فكان أمره مع الجماعة الثانية كأمره مع الجماعة الأولى. تصور هذه الجماعات وهؤلاء الشعراء المغنين، توجد لنفسك صورة مقاربة للحياة اليونانية، وتأثير الشعر فيها أيام البداوة. تصور الشعراء العاميين الذين يقصون على الناس في قرى مصر أخبار الهلالية والزناتية يلحنونها على الربابة؛ ولكن لا تتصور الناس الذين يستمعون لهؤلاء الشعراء متحضرين تحضر المصريين، يلتمسون آدابهم وأخلاقهم ونظمهم المختلفة في الدين والعلم والفلسفة والسياسة، وإنما تصورهم قومًا ليس لهم دين منظم، ولا أدب مدون، ولا فلسفة ولا سياسة، وإنما الشعراء يحملون إليهم من هذا كل شيء؛ تصور هذا تتمثلْ تأثير «الإلياذة» و«الأودسا» في الحياة اليونانية الأولى.
ثم أضف إلى هذا كله شيئًا آخر، وهو أن هذه الأناشيد التي كان يتغنى بها الشعراء، على هذا النحو الذي قدمته، لم تكن كأخبار الهلالية والزنانية، وإنما كانت تمتاز بشيء من الجمال والروعة ليس إلى وصفهما من سبيل؛ فلم يقف تأثيرها عند هذه الجماعات البادية، وإنما تحضرت هذه الجماعات والتمست آدابها وفلسفتها ونظمها في مصادر أخرى غير هذه الأناشيد، ولكنها مع ذلك لم تستطع أن تنسى هذه الأناشيد أو تسلوها، وإنها أخذت تستظهرها وترويها وتحرص عليها الحرص كله، وبالغت في ذلك حتى عنيت حكوماتها المنظمة بتدوينها على نحو ما عنيت حكومة الخلفاء الراشدين بتدوين القرآن الكريم.
ثم لم يقف الأمر عند هذا الحد، وإنما ظهر في هذه الأمة اليونانية شعراء عدلوا عن القصص إلى الغناء، أو قل عدلوا عن هذا الشعر الذي يقص سير الأبطال إلى شعر آخر يتغنى العواطف الإنسانية المختلفة من حزن وابتهاج، فلم يستطع هؤلاء الشعراء أن يستغنوا عن الشعر القصصي القديم، وإنما التمسوا فيه موضوعاتهم. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، وإنما ظهر في هذه الأمة شعراء آخرون عدلوا عن القصص والغناء إلى التمثيل في الملاعب، فلم يبتكروا قصصهم ابتكارًا، وإنما التمسوا أكثرها في الشعر القصصي القديم. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل ظهر في هذه الأمة اليونانية فلاسفةٌ ومفكرون عدلوا عن القديم كله، وجددوا كل شيء، ولكنهم لم يستطيعوا أن يستغنوا عن الشعر القصصي القديم؛ لأنه كان مستودع المثل العليا في الأخلاق والحياة الإنسانية الساذجة البريئة من الفساد، فرجعوا إليه في فلسفتهم وأخلاقهم ثم دالت الدول وتغير الزمان، وكان العصر الحديث، وأراد الشعراء المحدثون أن ينشئوا القصص التمثيلية والقصائد الغنائية، فالتمسوا نماذجها عند شعراء اليونان، فإذا هم ينشئون قصصهم وقصائدهم على نحو ما كان يفعل اليونان، متأثرين «بالإلياذة» و«الأودسا»، ثم بدا لهم أن يمثلوا القصص اليونانية نفسها، فترجموها إلى لغاتهم، وأخذوا يمثلونها حينًا في اللغات الحديثة وحينًا في اللغة اليونانية القديمة نفسها. و«بيت مليير» الآن معني بتمثيل قصة من قصص «سوفلكليس» هي «أوديب في كولونا»، اشتغل المترجم بنقلها إلى الفرنسية عشرين سنة. ومن قبل ذلك اشتغل عميد «بيت بليير» بنقل قصة «الفرس» «لإسكيلوس» وتمثيلها. ومن قبل ذلك اشتهر الممثل الفرنسي النابغة «سولى» بتمثيل «أوديب ملكًا». وفوق هذا كله لا توجد مدرسة تحترم نفسها في أوربا لا يدرس فيها الشباب الأوربي «الإلياذة» و«الأودسا» في نصوصها اليونانية، أو مترجمة إلى اللغات الحديثة.
أكنت مصيبًا إذن حين زعمت أن شعراء «الإلياذة» و«الأودسا» يعدون بحق من قادة الفكر الإنساني؟ ولكنك ستسألني: ما «الإلياذة»؟ وما «الأودسا»؟ ولست أجيبك عن هذا السؤال، وإنما أريد أن تجيب نفسك عنه، أريد أن تقرأ «الإلياذة» و«الأودسا»، لتعرف ما هما. وكل ما أطمح إليه في هذه الفصول هو أن أشوِّقك إلى أن تقرأ شيئًا قليلًا أو كثيرًا من آثار المفكرين الذين أتخذهم موضوعًا لهذه الأحاديث.