سقراط
رأيت في الفصل الماضي كيف كانت قيادة الفكر إلى الشعراء في العصور الأولى من حياة الأمة اليونانية وغيرها من الأمم التي تشبهها قليلًا أو كثيرًا، ورأيت كيف كان هؤلاء الشعراء يقودون الفكر في شعوبهم المختلفة. ورأيت الطرق التي كانوا يسلكونها لتكوين الآراء والسيطرة على العقول. وأريد في هذا الفصل أن أبين لك، في شيء من الإيجاز الشديد الذي أنا مضطر إليه اضطرارًا، كيف انتقلت قيادة الفكر من الشعراء إلى طائفة أخرى هي طائفة الفلاسفة، وكيف استطاع هؤلاء الفلاسفة أن يقودوا الفكر ويدبروه، وماذا اتخذ هؤلاء الفلاسفة من طريق قيادة الفكر وتدبيره.
وفي الحق أن قيادة الفكر لم تنتقل من الشعراء إلى الفلاسفة في يوم وليلة، بل لم تنتقل إليهم في عام ولا أعوام، بل لم تنتقل إليهم في عشرات السنين، وإنما احتاجت إلى القرون الطوال لتصبح ملك الفلاسفة بعد أن كانت ملك الشعراء. احتاجت إلى القرون الطوال، واحتاجت معها إلى أشياء كثيرة نستطيع أن نختصرها في هذه الكلمة الصغيرة التي تدل على معانٍ كثيرة لا تكاد تحصى، وهي كلمة «التطوُّر»؛ ذلك أنك تستطيع أن تشعر بهذا الفرق العظيم بين الشعر من جهة والفلسفة من جهة أخرى لتعلم أن ليس من السهل ولا من اليسير أن يخضع شعب من الشعوب لسلطان الشعر اليوم، حتى إذا أصبح خضع لسلطان الفلسفة. ليس ذلك سهلًا ولا يسيرًا، بل ليس ذلك ممكنًا إذا لم تتحقق شروط كثيرة تحتاج في تحققها إلى عصور طوال.
ما الشعر؟ وعلى أي ملكة من ملكات النفس يعتمد؟ وما الفلسفة؟ وبأي ملكة من ملكات النفس تعتز؟ أليس الشعر لونًا من ألوان التصور وضربًا من ضروب الحس والفهم أقل ما يمكن أن يوصفا به أنهما يعتمدان على الخيال قبل كل شيء؟ يعتمدان على الخيال فيدركان الحقائق، لا كما هي، بل كما يتصورانها، ويحكمان على الحقائق، لا كما ينبغي أن يحكما عليها. بل كما يستطيعان أن يحكما عليها. أليس الشعر، ولا سيما الشعر القصصي الذي كان إليه قيادة الرأي في العصور الأولى، مظهرًا من مظاهر الطفولة الإنسانية وصورة من صور الحياة الساذجة الغليظة! وإذا كان الأمر كذلك، فالفرق بين الشعر وبين الفلسفة عظيمٌ. ذلك أن الفلسفة لا تعتمد على الخيال ولا تعتز به، وإنما هي مظهر الحياة العقلية القوية، وهي وسيلة الإنسان إلى أن يتصور الحقائق كما هي ويحكم عليها الأحكام التي تلائم طبائعها، أو قل: إنها الوسيلة إلى أن يتصور الإنسان الحقائق ويحكم عليها بعقله لا بخياله ولا بحسه ولا بشعوره. تعتمد الفلسفة على النقد، ويعتمد الشعر على التصديق. ولأجل أن ينتقل الإنسان من هذه الحياة التي يبهره فيها كل شيء، ويستأثر به فيها كل شيء، إلى حياة أخرى لا يخضع فيها لتأثير الأشياء، وإنما يحاول، أو يعتقد أنه يحاول، أن يخضع الأشياء لتأثيره وسلطانه. أقول: لأجل أن ينتقل الإنسان من تلك الحياة إلى هذه الحياة لا بد له من عصور طوال تنمو فيها ملكاته وتستحيل.
تصور هذه الشعوب الأولى التي كانت ترهب كل شيء وتتأثر بكل شيء وترى في كل شيء إلهًا تخافه وتتملقه وتترضاه: ترى في الهواء إلهًا، وفي الماء إلهًا، وفي الأرض إلهًا، ماذا أقول! بل ترى في الأحجار والحشرات والأشجار والأنهار وألوان النبات آلهة تقدم إليها الصلوات وضروب القربان، وتنظم حياتها على إكبار هذه الأشياء وإجلالها؛ وتتخذ من هذا الإكبار والإجلال قواعدها الخلقية والسياسية والاجتماعية. ثم تصور هذه الشعوب وقد تغيرت واستحالت، فهي لا ترهب الأشياء ولا تخافها، بل تحاول إخضاعها وتذليلها واستخدامها، فهي لا ترى في الهواء إلهًا، وإنما هي تحاول أن تفهم الهواء، وأن تستخدمه في حاجاتها ومنافعها. وهي لا ترى في الماء إلهًا، وإنما ترى فيه عنصرًا من العناصر التي يجب أن تستخدم لحاجة الإنسان ولذته. وعلى الجملة هي لا تعبد الأشياء، وإنما تستذلها وتستخدمها. تصور هذه الشعوب في هاتين الحالتين تشعر بالفرق العظيم بين هذين العصرين اللذين يسيطر الشعر في أحدهما على الحياة وتسيطر الفلسفة في الآخر عليها، ثم تشعر بهذا الزمن الطويل الذي يجب أن تقضيه الشعوب لتنتقل من إحدى هاتين الحالتين إلى الأخرى. ونحن إذا سألنا التاريخ عن مقدار القرون التي قضتها الأمة اليونانية مثلًا لتستبدل العقل بالخيال ولتديل الفلسفة من الشعر، أنبأنا بأن هذه القرون ليست أقل من خمسة أو ستة. فقد كان سلطان الشعر القصصي مسيطرًا على الحياة اليونانية سيطرة كاملة في القرن الحادي عشر والعاشر قبل المسيح، ثم أخذ العقل اليوناني يوجد وينمو ويسطر قليلًا قليلًا على الحياة. والغريب أن سيطرته الأولى على الحياة لم تأخذ مظهرًا فلسفيًّا وإنما احتفظت بالصورة الشعرية. أريد أن العقل أثر في الشعر فجعل حظه من الفهم والحكم أعظم من حظه في الخيال والحس، وأخذنا نجد في الشعر القصصي ضروبًا من الفهم أو محاولة الفهم، وألوانًا من الحكم أو محاولة الحكم لم نجدها فيه من قبل. ومعنى ذلك أن العقل أخذ يختلس سبيله إلى الحياة اختلاسًا، ويسلك إليها طرقًا خفية، يسلكها شيئًا فشيئًا دون أن يشعر الناس بذلك، أو يلتفتوا إليه. وأخذ الشعر كلما عظم فيه تأثير العقل يفقد جماله الأول وسذاجته الطبيعية شيئًا فشيئًا، حتى استحال إلى شيء لا نستطيع أن نسميه شعرًا، وإنما نحن مضطرون إلى أن نسميه نظمًا. وربما كان أحسن مظهر لهذا النوع من الشعر الذي ينتصر فيه سلطان العقل على سلطان الخيال، والذي هو أشبه شيء بكتب التعليم وفصول الفلسفة، وأبعد شيء عن هذا الشعر الرائع الخلَّاب، هذه القصائد التي تنسب إلى الشاعر اليوناني «هسيودس»، ولا سيما هذه القصيدة التي تسمى «الأعمال والأيام» التي تجد فيها ضروبًا من الأدب، وألوانًا من العلم مختلفة، تجد فيها الأخلاق منظمة مرتبة، يستدل الشاعر على خيرها وعلى شرها استدلالًا ليس فلسفيًّا كاستدلال «سقراط» ولكنه ليس شعريًّا كاستدلال شعراء «الإلياذة» و«الأودسا»، وإنما هو شيء بين بين، له نصيب من الخيال، وفيه حظ من التفكير والتأمل والتجربة، ثم تجد فيها جانب الأخلاق ضروبًا من التعليم العملي يمس الزراعة وفصولها وحاجاتها ونظمها. ثم تجد فيها ضروبًا من التعليم الديني يصف الآلهة وأخلاقهم، والصلة بينهم وبين الناس. وما أعظم الفرق بين الآلهة في هذا الشعر وبينهم في الشعر القصصي القديم! وكان سلطان هذا الشعر التعليمي منبسطًا على الأمة اليونانية في القرن الثامن قبل المسيح، وكان المنشدون ينتقلون به في المدن والقرى، ويلقونه على الجماعات كما كان المنشدون ينتقلون «بالإلياذة» و«الأودسا» من قبل.
غير أنه من الحق أن نتبين بعض الأسباب التي دعت إلى هذا التطور، وجعلته أمرًا محتومًا، إذا لم نستطع أن نحصيها كلها، ولست أذكر منها إلا سببين اثنين، أعتقد أن لهما أعظم الأثر في هذا التطور: أحدهما سبب اقتصادي، والآخر سياسي واجتماعي.
فأما السبب الاقتصادي، فهو هذا التغير الذي طرأ على الحياة اليونانية فأقرها في المدن والقرى، ونظم لهما الحكومات وأنواع السلطان، وجعلها حاضرة بعد أن كانت بادية، في هذه الحياة الحضرية تغير شعور اليونان بالأشياء وفهمهم إياها وحكمهم عليها، وأخذوا بحكم الزراعة والتجارة والصناعة يشعرون بسلطانهم على الطبيعة، وأخذوا يرهبون هذه الطبيعة أقل مما كانوا يرهبونها من قبل. كانوا في العصور الأولى يجنون ثمرات الأرض على أنها نعمة من الآلهة؛ أما الآن فهم يُكْرِهون هذه الأرض على أن تعطيهم ثمراتها. أضف إلى هذا أنهم كانوا يجهلون الملكية ونتائجها، أما اليوم فقد عرفوا الملكية، وأخذت كل أسرة تحرص على حظها من الأرض، ونشأت الخصومات بين الأسر، واشتد تنازع المنافع. فليس غريبًا أن يكون لهذا كله تأثير عظيم في تكوين العقل وبسط سلطانه على الحياة.
السبب الثاني أن هذه الجماعات اليونانية التي استقرت في الأرض وتحضرت بعد بداوة وأخذت تجني ثمرات الحضارة الحلوة، أخذت في الوقت نفسه تبلو ثمراتها المرة: ضاقت بها الأرض، واشتدت بينها الخصومات، فعرفت الحرب الداخلية والحرب الخارجية؛ واضطُرَّت، بحكم هذين النوعين من الحرب إلى ضروب من المهاجرة والضرب في الأرض، فاستعمرت بلادًا بعيدة في أقطار من الأرض مختلفة، في آسيا وفي إيطاليا وصقلية وفرنسا وإسبانيا بل في إفريقية أيضًا. وأنت تعلم هذه النتيجة المحتومة التي يحدثها اختلاط الشعوب المختلفة، وما ينشأ بينها من حرب وجهاد. تنبه العقل اليوناني بحكم هذه الأشياء كلها، وأخذ يفهم الحياة على نحو جديد لم يكن مألوفًا له من قبل، وكان رقي العقل مصباحًا لرقي آخر هو الرقي السياسي. فلم تكن الأمة اليونانية في حياتها السياسية أثناء القرن الثامن والسابع كما كانت أثناء القرن العاشر والتاسع؛ إذ بينما كانت الحياة السياسية في العصور الأولى مَلكية خالصة تعتمد على سلطان الدين وحده، إذا بها أصبحت في هذا الطور الثاني أرستقراطية ينتقل فيها الحكم من الملك، الذي كان مثالًا لإله من الآلهة، إلى الأشراف الذين يمثلون الأسر ومنافعها وحاجاتها. أي إن الحكم انتقل من الفرد إلى الجماعة، أي إنَّ الجماعة وأفرادها أخذوا يشعرون بوجودهم وشخصياتهم، ويحاولون أن يجعلوا هذا الوجود وهذه الشخصيات أمورًا معترفًا بها لا تقبل نزاعًا ولا جدالًا. وبعبارة مجملة: أخذت شخصية الفرد تظهر قليلًا قليلًا، وسلطان الفرد يتغلب على سلطان الجماعة، ولا يمكن أن يكون هذا إلا نتيجة لتنبه العقل وعظم حظه من الحياة. ثم تتبعْ هذه الشعوب اليونانية، في بلادها الأولى أو في مستعمراتها الجديدة، تجد هذين النوعين من التطور مطردين؛ ينمو العقل فتقوى شخصية الفرد وتشتد مطامعه، وتنشأ عن ذلك الثورات السياسية؛ ثم تنمو المنافع الاقتصادية العامة فتظهر الخصومات بين المدن وتنشأ بينها الحروب، وينتج عن هذا كله أنواع من النظم الاجتماعية والسياسية والدولية لم تكن مألوفة من قبل. ومن هنا لا يكاد ينتصف القرن السابع حتى نجد بلاد اليونان كلها — أو أكثرها — في ثورة سياسية اجتماعية متصلة، فليس النزاع الآن بين الملوك والأرستقراطية كما كان في القرن الماضي، وإنما هو بين الأرستقراطية وأفراد الشعب. وليس لهذا معنى إلا أن سلطان الحياة العقلية قد أخذ ينمو ويمتد، حتى أخذ الأفراد جميعًا على اختلاف طبقاتهم يشعرون بشخصياتهم وحقهم، لا في الوجود وحده، بل في الوجود وفي الحكم أيضًا.
هذا التطور الذي لم يعرفه العالم القديم إلا في البلاد اليونانية وفي البلاد الرومانية من بعد، والذي لم يحدث وحده، وإنما حدث معه تطور عقلي لم يعرفه العالم القديم من قبل، وكان له كل الأثر في حياة الإنسانية من بعد، يدعونا إلى أن نعرض لمسألة تحتاج إلى شيء من التفكير.
بين الشرق والغرب
هذه المسألة هي العلاقة بين اليونان والشرق المتحضر، فأنت تعلم أنه بينما كانت الأمة اليونانية خاضعة لسلطان الشعر القصصي الذي يمثلها ساذجة جاهلة قليلة الحظ من النظم السياسية والاجتماعية الراقية، كان الشرق قد انتهى إلى درجات من الحضارة مختلفة، ولكنها راقية لا تقاس إليها حياة اليونان: كان الساميون في بابل وآشور وغيرهما، قد بسطوا سلطانًا ضخمًا، وأسسوا حكومات قوية منظمة، وانتهوا إلى ألوان من الفن والعلم لا تزال تبهرنا إلى الآن. ولست في حاجة إلى أن أحدثك عما كانت مصر قد انتهت إليه من الحضارة. وإذن، فليس من شك في أن الاتصال قد وجد واشتد بين هذه الأمم الشرقية الراقية وهذه الأمم اليونانية الساذجة، وجد هذا الاتصال واشتد، وتأثرت الأمة اليونانية من غير شك بالحضارات الشرقية المختلفة، وأخذت عن الساميين في آسيا، وعن المصريين في إفريقية، أشياء كثيرة مختلفة. ولم تكن الأمة اليونانية جاحدة ولا منكرة للجميل، وإنما كانت شديدة الاعتراف بالجميل، وربما بالغت فيه مبالغة شديدة أيضًا، فنسبت كثيرًا من الأشياء إلى الشرقيين، بل نسبت مدنًا مختلفة إلى المصريين حينًا، وإلى الفينيقيين حينًا آخر. وعدت نفسها دائمًا تلميذة للأمة المصرية وغيرها من الأمم الشرقية الآسيوية في الحضارة وألوان الفن.
فإلى أي حد كان تأثير هذه الأمم الشرقية في الأمة اليونانية؟ ثم إلى أي حد كان تأثير هذه الأمم الشرقية في تكوين الفلسفة اليونانية، التي لا تزال تدبر حياة العقل الإنساني إلى الآن؟ هذه هي المسألة التي نريد أن نقول فيها كلمة موجزة؛ ونأسف لأن قومًا قد لا يرضون، ولكن الحق أحق أن يُتَّبع.
نعتقد — ونظن أن غيرنا من مؤرخي الفلسفة المحدثين يعتقد أيضًا — أنه لم يكن للشرق في تكوين الفلسفة اليونانية والعقل اليوناني والسياسة اليونانية تأثير يذكر، إنما كان تأثير الشرق في اليونان تأثيرًا عمليًّا ماديًّا ليس غير، فقد أخذ اليونان عن الشرقيين أشياء كثيرة ولكنها عملية مادية كما قلنا. أخذوا عنهم — مثلًا — نظام النقد، وأخذوا عنهم نظام المقاييس. وأخذوا عنهم شيئًا من الموسيقى، وتعلموا منهم فنونًا عملية كالحساب والهندسة، ولكنهم لم يأخذوا عنهم شيئًا عقليًّا يذكر. فلئن كان البابليون قد رصدوا النجوم ووصلوا من ذلك إلى نتائج قيمة، فهم لم يضعوا علم الفلك، وإنما هذا العلم اليوناني لم ينشأ عن النتائج البابلية، وإنما نشأ عن البحث اليوناني والفلسفة اليونانية. ولئن كان المصريون قد وصلوا إلى نتائج قيمة من الهندسة العملية والآلية فليس المصريون هم الذين وضعوا علم الهندسة، وإنما اليونان هم الذين ابتكروه ابتكارًا، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى نجد عند اليونان أشياء لا نجد شيئًا يشبهها في الشرق القديم: نجد عندهم هذه المذاهب الفلسفية المختلفة التي حاولت منذ القرن السادس قبل المسيح فهم الكون وتفسيره وتعليله، ثم نجد عندهم هذه الفلسفة، فلسفة ما بعد الطبيعة، وما نشأ عنها من أنواع البحث التي نظمت العقل الإنساني، ولا تزال تنظمه إلى الآن. ثم نجد عندهم هذه الفلسفة الخلقية التي أنشأت علم الأخلاق، والتي لم يعرفها العالم القديم من قبل. ونحب أن نلاحظ أن العقل الإنساني ظهر في العصر القديم مظهرين مختلفين: أحدهما يوناني خالص، هو الذي انتصر، وهو الذي يسيطر على الحياة الإنسانية إلى اليوم. والآخر شرقي انهزم مرات أمام المظهر اليوناني، وهو الآن يلقي السلاح ويسلم للمظهر اليوناني تسليمًا …
بينما نجد العقل اليوناني يسلك في فهم الطبيعة وتفسيرها هذا المسلك الفلسفي الذي نشأت عنه فلسفة سقراط وأفلاطون وأرسطاطاليس، ثم فلسفة «ديكارت» و«كنت» و«كمت» و«هيجل» و«سبنسر» نجد العقل الشرقي يذهب مذهبًا دينيًّا قانعًا في فهم الطبيعة وتفسيرها: خضع للكهان في عصوره الأولى، وللديانات السماوية في عصوره الراقية، وامتاز بالأنبياء كما امتاز العالم اليوناني الغربي بالفلاسفة.
هناك شيء آخر نجده عند اليونان، ولا نجده في الشرق، وهو هذا التطور السياسي الخصب الذي أحدث النظم السياسية المختلفة في المدن اليونانية من ملكية وجمهورية وأرستقراطية وديمقراطية معتدلة أو متطرفة، والذي لا يزال أثره قويًّا في أوربا إلى اليوم، والذي أخذ الشرق يتأثر به في نظمه السياسية أيضًا، وبينما كانت المدن اليونانية تخضع لهذا التطور الغريب الذي حقق حرية الأفراد والجماعات، والذي انتصر حتى أصبح المثل الأعلى للحياة الحديثة في الشرق والغرب، كان الشرق خاضعًا لنظام سياسي واحد لم يتغير ولم يتبدل، وهو نظام الملكية المطلقة المستبدة الذي تفقد فيه الجماعات والأفراد كل حظ من الحرية، فكيف نستطيع أن نفسر هذا الاختلاف بين الشرق والغرب؟ ولِمَ نفسر؟ وما حاجتنا إلى هذا التفسير؟ يكفي أن نسجل الحقيقة الواقعة، وهي أن الحياة اليونانية التي خضعت للشعر في أول أمرها، ثم خضعت بعد ذلك للعقل، كانت أخصب حياة عرفها الإنسان في العالم القديم.
سقراط
بين يديَّ الآن كتاب ظهر في هذه الأيام، موضوعه تاريخ الفكر اليوناني، لأستاذ من علماء الفرنسيين هو المسيو «ليون روبان»، وليس هذا الكتاب الضخم القيم أول كتاب ظهر في هذا الموضوع، ولن يكون آخر كتاب، بل ليس هو الكتاب الوحيد الذي ظهر في هذه الأيام من نوعه، وإنما هناك كتب كثيرة ظهرت، وتظهر وستظهر في هذا الموضوع، لأن الأوربيين يتخذون هذه القاعدة قانونًا لهم، وهي أن ليس إلى فهم الحياة الحديثة على اختلاف وجوهها من سبيل إلا إذا فهمت مصادرها الأولى. ومصادرها الأولى هي الحياة اليونانية من جهة، والرومانية من جهة أخرى؛ أو قل: هي الحياة اليونانية؛ لأن حياة الرومان كانت من أكثر وجوهها متأثرة بالحياة اليونانية وإذا كنا قد أخذنا في هذا العصر الحديث نسلك سبيل الأوربيين، لا في حياتنا العقلية وحدها، بل في حياتنا العملية على اختلاف فروعها أيضًا، فليس لنا بد من أن نسلك سبيل الأوربيين في فهم هذه الحياة التي استعرناها. أقول: إننا أخذنا في هذا العصر الحديث نسلك السبيل الأوربية في جميع فروع الحياة، ونعدل عن حياتينا القديمة عدولًا يوشك أن يكون تامًّا. وأحسب أنك لن تطالبني بالدليل على ذلك؛ فأنت في المدرسة تتعلم العلم الأوربي، وأنت إذا قرأت تقرأ العلم الأوربي، وإذا فكرت فعلى النحو الأوربي. وأنت في بيتك وفي صِلاتك المختلفة تسلك المسلك الأوربي. وأنت في حياتك السياسية وفي نظامك الإداري والاجتماعي تنهج المنهج الأوربي. وما أحسب أننا نكتفي من هذا الحياة بتقليد القِرَدة، وإنما أعلم أننا نريد أن نتخذها حياة لنا عن فهم وبصيرة. وإذن فلنفهمها قبل كل شيء. ولنتبين — إذا كان الأمر كذلك — كيف كانت حالة الفكر في تلك العصور اليونانية الخصبة، وكيف كانت قيادة الفلسفة إياه. ولنبدأ من هؤلاء الفلاسفة الذين أشرفوا على قيادة الفكر اليوناني، ولا يزالون يشرفون على قيادة الفكر الإنساني، بأبيهم وزعيمهم جميعًا «سقراط».
ولست أستطيع أن أحدثك عن سقراط دون أن ألفتك إلى أنه لم يتول قيادة الفكر اليوناني إلا بعد أن ارتقى هذا الفكر، وانتهى من الرقي إلى حد عجيب، وأن الفلسفة سلكت من قبله طرقًا مختلفة شديدة الالتواء وأفلست فيها واحدة بعد أخرى، وأن هذه الفلسفة التي أفلست في آخر الأمر كانت أيام انتصارها مشرفة على العقل اليوناني، تقوده وتدبره، وتنتهي به إلى الخير، ولكن هذا العقل كان شديد التطور سريع الاستحالة، فلم يكن بدٌّ لتلك المذاهب الفلسفية من أن تنتهي إلى ما انتهت إليه من إفلاس، ولم يكن بدٌّ من أن يظهر مذهب فلسفي جديد يلائم هذه الحياة الجديدة التي انتهى إليها العقل اليوناني في آخر القرن الخامس قبل المسيح.
تستطيع أن تقرأ في غير هذا الفصل من كتب التاريخ الفلسفي، كيف نشأت الفلسفة اليونانية، وكيف جاهدت لتنتصر على الشعر والدين وكيف التمست تفسير هذا الكون في الأرض مرة، وفي السماء مرة أخرى، وفي الماء حينًا، وفي الجو حينًا آخر، ثم كيف عدلت عن المادة إلى المعنى، وكيف تعمقت في بحثها المعنوي دون أن تنتهي إلى شيء قيِّم، وكيف كانت أثناء هذا البحث والاضطراب مصدرًا لهذا التطور السياسي الذي أقر النظام الديمقراطي في أثينا وغيرها من المدن اليونانية، وأما أنا فلن أحدثك من هذا كله بشيء، وإنما أحدثك في كلمات موجزة عن حال العقل اليوناني أيام سقراط، لتستطيع أن تفهم فلسفة سقراط وما تنشأ عنها من المذاهب المختلفة. أما الحياة العامة الأثينية، فكانت متأثرة بشيئين مختلفين: أحدهما النظام الديمقراطي المتطرف الذي يقوي حرية الفرد إلى أقصى حد ممكن، ويجعل شخصيته بارزة تستطيع أن تعاند الدولة وتنتصر عليها أحيانًا. والثاني هذا الاختلاط الشديد بين الشعوب المختلفة المتباينة الذي كان يبعث على الحياة العقلية القوية ويجعلها مضطرمة دائمًا، والآخر كان يبعث على اصطدام المنافع وتنازعها وتعقدها إلى حد عظيم. أضف إلى هذين السببين ما أشرت إليه من إفلاس المذاهب الفلسفية الأولى تنته إلى هذه النتيجة، وهي أن العقل اليوناني في ذلك العصر كان قد وصل إلى حال من الشك لم يعرفها من قبل: شك في الفلسفة التي عجزت عن تفسير الكون، وشك في الدين الذي أصبح من السخف بحيث لا يستطيع أن يؤمن به عقل يحترم نفسه، وشك في الحياة السياسية التي اشتد فيها الاضطراب وعبثت بها الحروب من جهة، والثورات من جهة أخرى. والأهواء الشخصية من جهة ثالثة، وشك في النظام الاجتماعي الذي لا قيمة له إذا لم يعتمد على فلسفة قوية، أو دين متين، أو سياسة ثابتة — شك في كل شيء وحرص على المنفعة الخاصة التي يمكن أن يؤمن بها الفرد حقًّا؛ لأنه يمسُّها ويستمتع بها ويسعى إليها.
في هذه الحال السيئة نشأ سقراط، ولم يكن من أسرة ممتازة، بل لم يكن من أسرة متوسطة، وإنما كان إلى الطبقة الدنيا أقرب منه إلى الطبقات الأخرى: كان أبوه حفَّارًا، وكانت أمه قابلة، ولم يكن حسن الخلق، ولا جميل الطلعة، وإنما كان قبيح المنظر، ممقوت الشكل، ولكنه كان ذكي القلب، نافذ البصيرة، شديد الفطنة. ولم يكن بدعًا من الأثينيين في عصره، وإنما سلك السبيل التي كان يسلكها غيره من الناس يقال: إنه تعلم مهنة أبيه ولكنه لم يمض فيها. ومهما يكن من شيء فقد كان كغيره من الشبان الأثينيين: يختلف إلى المجالس العامة، وإلى الحمَّام، وإلى محالِّ الألعاب الرياضية، وكان يستمع للخطباء السياسيين في جماعة الشعب والقضائيين في المحكمة، وكان يجلس إلى «السوفسطائيين» فيسمع منهم ويحاورهم، وكان يدرس المذاهب الفلسفية المختلفة، حتى إذا قضى من هذا كله وطره وبلغ سنَّ الرجولة، أحس أن في نفسه شيئًا يخالف ما في أنفس الأثينيين، وأن له ميولًا تخالف ميولهم، وأهواءً تخالف أهواءهم، وأخذ يحاور السوفسطائيين من جهة والشبان من جهة أخرى، لا يصرفه ذلك عن واجباته الوطنية؛ فقد كان يشترك في الانتخابات، ويجلس في جماعة الشعب، بل انتخب في مجلس الشورى ورأَسَ جماعة الشعب. وكان يؤدي واجبه العسكري؛ فقد اشترك في الحرب غير مرة، وأظهر فيها بلاءً حسنًا وشجاعةً قيِّمة وتضحية بالنفس في سبيل الأصدقاء. ولكنه كان يحاور كل من لقيه ضروبًا من الحوار غريبة لم يألفها الناس. في ألفاظ إن لم تكن راقية مهذبة، فقد كانت قوية خلابة ساحرة. وما هي إلا أن كلف به الشبان وكلف بهم، فسعوا إليه، أو قل: سعى إليهم، فلم تكن مدرسة، وإنما كان هو مدرسة متنقلة، يحاور في الميادين العامة وفي حوانيت الحذَّائين وغيرهم من الصناع، وفي أروقة الحمَّام وفي الملاعب الرياضية. وقد فُتن به الشبان فتنة لم يُفتنوها بأحد من قبله، فالتفوا حوله التفافًا شديدًا، واستغرق حواره إياهم يومه كله أو أكثره. وكان حَسَن الدعابة، بل لم يكن حواره إلا دعابة متصلة وهزلًا مستمرًّا. ولكن هذه الدعابة الحلوة وهذا الهزل اللذيذ، لم يكونا إلا ستارًا لطيفًا شفافًا ينم بما دونه من حق وَجَدٍّ. لم تكن له مدرسة ثابتة، ولم يكن له موضوع بعينه يدرسه أو يحاوره فيه، وإنما كان يدرس كل شيء، ويحاور في كل شيء، ويتخذ كل شيء وسيلة للبحث والجدال وطريقًا إلى غاية معينة سنراها بعد حين. كان إذن يخالف غيره من فلاسفة عصره من هذين الوجهين: من حيث إنه لم يكن يلتزم مكانًا للدرس، ومن حيث إنه لم يكن يلتزم موضوعًا للدرس. وكان يخالفهم من جهة أخرى، فقد كان هؤلاء الفلاسفة من السوفسطائيين، سواءٌ منهم من طوف في الأرض وانتقل من مدينة إلى مدينة يسعى إلى طلابها ويلتمسهم ومن أقام في مدينة بعينها يسعى إليه الطلاب ويلتمسونه، كانوا جميعًا يتخذون الفلسفة والدرس وسيلة إلى المجد وكسب المال: وسيلة إلى المجد، فكانوا ينشئون الفصول والرسائل يتلونها في المحافل والمشاهد العامة ليفتن بهم الجمهور، ويعجب بهم الناس، كما كانوا يتعرضون للفلاسفة وزعماء العصر ويحاورونهم ويجادلونهم، ويخلبون الناس بهذه المقدرة التي كانت تتيح لهم أن يلبسوا الحق بالباطل؛ ويسبغوا على الخطأ ثوب الصواب. ووسيلة إلى كسب المال، فكانوا لا يلقون دروسهم مجانًا، بل كانوا يتقاضون عليها الأجور الضخمة، وكانوا يحاسبون الطالب حسابًا دقيقًا على ما ألقوا إليه من علم: أتريد درسًا واحدًا أم دروسًا عدة؟ أم أنت تريد أن تتعلم الفلسفة كلها؟ لكل شيء من ذلك أجره.
كان سقراط قليل الميل إلى الديمقراطية؛ كما كان شديد البغض للاستبداد، عدوًّا للأرستقراطية، وقد أغضب هذه الطبقة كما أغضب الشعب: أغضبها حين أبى على الطغاة الثلاثين ما أرادوه عليه من المعونة، وحين عرض نفسه بذلك الخطر. ومن هنا لم ينته القرن الخامس حتى كان سقراط قد ألَّب على نفسه الديمقراطية المنتصرة والأرستقراطية المنهزمة، كما أنه كان قد ألَّب على نفسه الشعراء والفلاسفة والمعلمين، لأنه صرف عنهم الشباب من جهة، ولأنه كان شديد السخر بهم من جهة أخرى. فما هي إلا أن تم انتصار الديمقراطية على الطغاة الثلاثين، حتى تقدم اثنان من الأثينيين، أحدهما شاعر، بقضية إلى الشعب يتهمان فيها سقراط تهمًا عدَّة: منها أنه أفسد الشباب، ومنها أنه لا دين له، ومنها أنه يعبث بالنظم السياسية القائمة. وحوكم سقراط، فلم يكن موقفه من قضاته موقف الرجل الذي يريد أن يدافع عن نفسه حقًّا ويثبت براءته حقًّا، وإنما كان موقفه من القضاة موقف الساخر بهم، المزدري لهم، ومع ذلك فقد صدر الحكم عليه بكثرة قليلة جدًّا. وكانت العادة عند الأثينيين وغيرهم من القدماء أن يصدر في مثل هذه القضايا الجنائية حكمان: الأول يثبت إدانة المتهم أو ينفيها، والثاني يقرر العقوبة التي يستحقها المتهم إذا ثبتت إدانته. وكانت العادة إذا ثبتت إدانة المتهم أن يُسأل عن العقوبة التي يرى أن يستحقها، وأن يُسأل المدعي عن العقوبة التي يرى أن المتهم خليق بها، ثم تفصل المحكمة بين هذين الجوابين، فتقر إحدى العقوبتين اللتين اقترحهما المتهم والمدعي. فلما صدر الحكم بإدانة سقراط سُئل عن العقوبة التي يرى أن يستحقها، فأجاب ساخرًا مستهزئًا: أنه يرى أن تطعمه الدولة مجانًا بقية حياته؛ لأنه أنفق هذه الحياة في تعليم الأثينيين وتهذيبهم. وسئل المدعون فطلبوا الموت، وكان القضاة قد سخطوا لهذه السخرية القاسية، فأقروا في حكمهم ما طلب المدعون، وقُضِيَ بالموت على سقراط.
وليس من شك في أنه لو أحسن الدفاع عن نفسه لبرئ. وليس من شك في أنه لو لم يسخر من القضاة بعد إدانته لما حكم عليه إلا بالغرامة كثيرة أو قليلة؛ ولكن موقفه أحنق عليه القضاة، ثم انتهت به هذه السخرية إلى أن اعتبر مهينًا للدولة، فعوقب معاقبة من تثبت عليه الخيانة العظمى أو الخروج على النظام القائم.
أما إذا أردنا أن نتبين نصيب هذا الحكم من العدل أو الجور، فنحن مضطرون إلى أن نرى فيه رأيين مختلفين: أحدهما أن أثينا لم تكن ظالمة حين قضت بالموت على هذا الرجل الذي خرج بفلسفته وتعليمه على النظام القائم، واتخذ القوانين سخرية وهزءًا، وانتهى إلى أن أهان الشعب ممثلًا في المحكمة. والآخر أن أثينا — وإن كانت قد عدلت في حكمها، بالقياس إلى نظمها وقوانينها — فليس من شك في أنها قد أساءت حين قضت بالموت على رجل لا لشيء إلا أنه خالف الجمهور في الرأي. وبهذا الحكم كانت الديمقراطية الأثينية عدوة لحرية الرأي. وحسبك بهذا سبة وعارًا، وحسبك به مجدًا وفخارًا لسقراط.
ولست أريد أن أنتقل من هذا الموضوع دون أن أشير إلى هذه القصة التي اتفق عليها المؤرخون؛ وهي أن بعض تلاميذ سقراط هيأ له الهرب وأعدَّ له وسائله وألح عليه فيه، ولكن سقراط أبى أن يهرب، ولو شاء لنجا: أبى الهرب إكبارًا لقوانين الدولة، واحترامًا لأحكامها. الحق أنَّا لا نستطيع أن نفهم الصلة بين هذا الموقف الذي وقفه سقراط بعد الحكم والذي يمثله خاضعًا لنظام الدولة محترمًا له، وبين ذلك الموقف الذي وقفه أثناء المحاكمة والذي يمثله ساخرًا من نظام الدولة عابثًا به، وأكبر ظننا أن هذه القصة لا تخلو من مبالغة، أو قل: إن سقراط لم يأب الهرب إلا ازدراءً للحياة وشوقًا إلى الموت. فنحن نراه في حواره ينتظر الموت انتظار مشتاق إليه مؤمن بأنه سيكون سعيدًا به. وقد تناول السم، وجاد بنفسه بين تلاميذه في فبراير أو مارس سنة ٣٩٩ قبل المسيح، وهو في نحو السبعين من عمره.
- أولًا: لأن الآثار التاريخية المباشرة التي تثبت وجود سقراط وما اعترض حياته من الخطوب قد فقدت منذ زمان طويل، فنحن لا نكاد نحقق تاريخ ميلاده، وليست لدينا نقوش معاصرة فيها اسمه أو فيها إشارة إلى ما أصابه. ولكن هذا كله لا يدل على شيء — فقد فقدنا من آثار القدماء معظمها، ولم يكد يبقى لنا منها شيء.
- وثانيًا: لأن سقراط لم يكتب شيئًا، وإنما كان تعليمه حوارًا لا يسجل، فلم يبق لنا من سقراط كتاب يمثل شخصيته تمثيلًا ما، وإنما نحن مضطرون إلى أن نلتمس شخصية سقراط فيما ترك تلاميذه من الكتب: نلتمسها عند أفلاطون وعند ذينوفون (Xénophon) وعند أرسطاطاليس وعند غيرهم من الفلاسفة والكتَّاب الذين حاوروا تلاميذه. وهؤلاء الفلاسفة والكتاب لا يتفقون في تصوير سقراط، بل لا يكادون يتشابهون في هذا التصوير. أضف إلى هذا كله أن آثار هؤلاء الفلاسفة والكتَّاب قد أصابها شيءٌ كثير من عبث الزمان، فهي لا تؤدي إلينا شخصية سقراط على وجهٍ مُرْضٍ.
- وثالثًا: لأن الفلاسفة الذين حاوروا سقراط، وأخذوا عنه قد علموا الفلسفة بعده في مدن مختلفة، بل في أوقات مختلفة؛ وكان من المعقول أن تتشابه فلسفتهم ويتقارب تعليمهم؛ إذ كان كله منتهيًا إلى مصدر واحد هو سقراط، ولكن هذه الفلسفة مختلفة وهذا التعليم متناقض؛ فإذا نطقت بلفظ الفلسفة السقراطية لم تفهم منها شيئًا متشابهًا، وإنما فهمت منها أشياء متباينة تباينًا شديدًا، كما سنرى.
- رابعًا: لأن حياة سقراط وموته وما اعترضه من الخطوب، كل ذلك قد أحدث في نفوس الناس أثرًا عظيمًا، وما هي إلا أن كثرت الأساطير والأكاذيب حول سقراط وحياته، وأخذ الكتَّاب المتأخرون هذه الأساطير والأكاذيب فخلطوها خلطًا، ومزجوها بالصواب مزجًا — فأصبح من العسير جدًّا تمييز الحق في أمر سقراط من الباطل. ولكن كل هذا لا يثبت أن سقراط لم يوجد، وإنما يثبت شيئًا واحدًا لا يختلف فيه اثنان، وهو أن شخصية سقراط شيء عسير الإثبات والتمييز، وما أكثر الفلاسفة والأبطال الذين بعد بهم العهد فأصبح من العسير إثبات شخصياتهم وتمييزها — على أن مثل هذا البحث يخرج بنا عن الخطة التي رسمناها لأنفسنا في هذه الفصول، فلنتركه ولنمض فيما نحن فيه من إيجاز فلسفة سقراط، وأثرها في الحياة بعده.
الفلسفة السقراطية
- الأول: أن الإنسان قد جهل نفسه في جميع العصور المتقدمة، وأن جهله نفسه هو الذي حمله على أن يلتمس العلم في الخارج، فيبحث عنه مرة في الأرض وأخرى في السماء، وحينًا في الجو وحينًا في الماء؛ وكان الحق عليه أن يبدأ بنفسه فيدرسها ويتبين أمرها، حتى إذا فرغ منها استطاع أن ينتقل إلى الخارج. وليس هو في حاجة إلى ذلك؛ لأنه لن يفرغ في درس نفسه أبدًا، ولأنه سيجد في نفسه إذا درسها كل شيء.
- الثاني: أن الفلسفة يجب أن تقوم منذ اليوم على معرفة النفس والعلم بها، أي إن الفلسفة يجب أن تكون إنسانية، أي إن الفلسفة يجب أن تقوم قبل كل شيء على الأخلاق.
فأنت ترى أن هذه القاعدة السقراطية قد حملته قبل كل شيء على أن يعلن جهله؛ لأنه لا يستطيع أن يعلم شيئًا قبل أن يعلم نفسه؛ وإذا كان يجهل نفسه فهو يجهل كل شيء. ثم حملته بعد ذلك على أن يتبين نفسه، فيبحث عن جوهرها وخصالها، وعما يلائمها وما يخالفها. وبهذا البحث وضع سقراط أساس علم النفس من جهة، وأساس علم الأخلاق من جهة أخرى. أما علم النفس فلم يتعمق فيه سقراط؛ لأن سقراط لم يكن نظريًّا ولا مفتونًا بالبحث الخالص الذي ليس بينه وبين الحياة العملية صلة، وإنما كان يشبه السوفسطائيين شبهًا قويًّا، ويخالفهم مخالفة قوية: كان يشبههم من حيث إنه كان يمقت البحث النظري الخالص، وكان شديد الميل إلى البحث الذي يمس الحياة العملية ويهدي إلى سبل الخير فيها.
من هذه الجهة كان ينكر المذاهب الفلسفية القديمة كما كان ينكرها السوفسطائيون، وكان يعبث بالعادات والنظم الموروثة كما كان يعبث بها السوفسطائيون. ولكنه كان يخالف السوفسطائيين خلافًا شديدًا، فقد كان هؤلاء يعرضون عن النظر الخالص إلى المنفعة العملية الخالصة، وكانوا يبتغون المنفعة في أغلظ وجوهها وأحطها: يبتغون المجد والصوت، والمال ولذات الحياة؛ ويسلكون إلى هذا كله أيسر السبل وأسهلها، لا يعوقهم عنه عائق ولا يمنعهم منه مانع.
أما سقراط، فكان يعرض عن النظر الخالص، لا إلى هذه المنافع المبتذلة، بل إلى المنفعة المحققة، إلى منفعة النفس من حيث هي؛ فلم يكن يحفل بالمجد ولا بالثروة ولا بالشهرة، وإنما كان يبتغي السعادة، وقد بحث عنها كثيرًا واهتدى إليها آخر الأمر؛ فعرف أن السعادة إنما هي الخير، أي أن يكون الإنسان خيِّرًا، عدلًا مؤثرًا للحق من حيث هو، مطمئنًّا إلى الحق في نفسه. فبينما كان السوفسطائيون يعلمون الناس أن يكونوا نفعيين ماديين، كان سقراط يعلم الناس أن يكونوا نفعيين، ولكن على الوجه الروحي الذي يؤثر الباقية على الفانية، ويستطيع أن يميز الجوهر من العرض، وأن يزدري زخرف الحياة في سبيل السعادة الحقيقية.
وبينما كان السوفسطائيون ينكرون كل شيء ويجحدون كل حقيقة؛ فيهدمون بذلك كل علم وكل فلسفة، كان سقراط يثبت الحقائق، ويعلن أن هذا العلم ليس لغوًا ولا عبثًا ولا باطلًا، ويسلك في إثبات هذا كله سبيلًا تقرب كل القرب من السبيل التي سلكها ديكارت بعده بعشرين قرنًا، وهي أن يثبت وجود نفسه أولًا. فإذا ثبت له وجود نفسه فقد ثبت أن في العالم حقائق ثابتة، وأن الفلسفة السوفسطائية كلها تقوم على شيء من العبث والمغالطة. ذلك أنك مهما تنكر فلن تستطيع أن تنكر نفسه، ولن تستطيع أن تنكر أنك تفكر وتحسُّ وتشعر، وإذن فنفسك وما يصدر عنها من تفكير وحسن شعور، كل ذلك حقائق ثابتة لا تحتمل شكًّا ولا جدالًا؛ ومن هنا قامت الفلسفة السقراطية، أولًا: على محاربة السوفسطائية، وإثبات أن هناك حقائق موجودة، وثانيًا: على أن هذه الحقائق، إنما تُعلم إذا عُلمت النفس الإنسانية التي هي السبيل الحقيقية إلى إدراكها، وثالثًا: على أن العلم بهذه النفس ليس معناه إلا العلم بجوهرها وما يلائمها وما يخالفها. ورابعًا: على أن العلم بهذا كله ليس الغرض منه — أو لا ينبغي أن يكون الغرض منه — إلا السعادة التي هي تحصيل ما يلائم النفس وتجنب ما يخالفها، وخامسًا: أن الحياة كلها تدور حول محور واحد عنه صدرت وإليه تنتهي، وهو الخير. هذه هي خلاصة الفلسفة التي يمكن أن تضاف إلى سقراط، وهي شيء من اليسير أن يوجز في جمل قصار، ولكن من العسير جدًّا أن يحصى تأثيره في الحياة الإنسانية والعقل الإنساني.
على أن من التقصير أن نزعم أن فلسفة سقراط قد انتهت عند هذا الحد، بل من الحق أن نقول: إن هناك وجهًا آخر من وجوه الفلسفة السقراطية يحسن ألا ننساه وألا نهمله، وهو منهجه في البحث وطريقته في التفكير، فلم يكن سقراط كغيره من الفلاسفة الذين تقدموه، ولا كغيره من الفلاسفة الذين جاءوا بعده بزمن قصير، يواجه المباحث الفلسفية مباشرةً، ويهجم عليها هجومًا عنيفًا، حتى يخلص منها إلى نتائجها، وإنما كان يدور حول المباحث الفلسفية في رفق ولطف، وما يزال يدور حولها، حتى يجد مسلكًا ضيقًا يسلكه فينتهي به إلى النتيجة التي كان يبتغيها. هذه الطريقة الفلسفية هي طريقة الحوار. لم يكن سقراط يضع أمامه مسألة بعينها ثم يأخذ في التحليل والنقد والتعليم حتى ينتهي إلى ما يريد، وإنما كان يتحدث، فيسأل ويناقش جواب المسئول، ثم يسأل، ثم يتعرض للسؤال، ثم يجيب، ثم يورِّط محاوره في الخطأ، أو يتورَّط هو في الخطأ، وما يزال في حوارٍ وفي أخذ وردٍّ حتى يستخلص النتيجة كأنها إحدى القضايا الأولية التي لا تحتمل الشك ولا الجدال. ومصدر هذه الطريقة أن سقراط كان يعتقد أن النفس بطبيعتها قادرة على العلم بالأشياء، وعلى استكشاف الحقائق، ولكن ظروف الحياة العملية وأعراضها، وما ورث الناس من عادات وأخلاق، ومن أساطير وسخافات، كل ذلك قد تراكم على هذه النفس الصافية كما يتراكم الصدأ على المرآة. فعمل الفيلسوف ليس هو تعليم الإنسان ما لم يعلم، وإنما هو إعداد الإنسان لكشف الحقائق، أو قل: إن عمل الفيلسوف إنما هو إزالة هذا الصدأ عن المرآة، حتى إذا أتمَّ صقلها وتصفية جوهرها تجلت فيها الحقائق واضحة بيِّنة. ومن هنا كان سقراط يعلن أنه لا يعلِّم الناس شيئًا؛ لأنه لا يعلم شيئًا، وإنما يبحث معهم عن الحق فيجده حينًا ويخطئه حينًا، ومن هنا سميت طريقة سقراط طريقة «التوليد»؛ لأنه كان يعتقد أن النفس مشتملة على الحقائق كما تشتمل الأم على الجنين، وأن عمل الفيلسوف هو استخراج هذه الحقائق من النفس، كما أن عمل القابلة هو استخراج الجنين من الأم. وسواءٌ أكانت هذه التسمية صحيحة أم لم تكن، وسواءٌ أكانت بينها وبين صناعة سقراط صلة أم لم تكن، فليس من شك في أن هذه التسمية تصف طريقة سقراط الفلسفية في البحث وصفًا دقيقًا.
أعتقد أني قد أجملت لك ما يمكن إجماله من فلسفة سقراط وما هو بمعزل عن النزاع والجدال، فهناك مسائل كثيرة يختلف العلماء في صحة إضافتها إلى سقراط. ولم يبق عليَّ الآن إلا أن أجمل لك مقدار التأثير الذي أحدثه سقراط في العصر الذي جاء بعده مباشرةً.
أما المدرسة الثالثة، فهي أبقى المدارس التي نشأت عن فلسفة سقراط وأبعدها أثرًا في الحياة الإنسانية، وأعظمها حظًّا في الخلود: أثرت في العالم القديم، وأثرت في القرون الوسطى، وأثرت في العالم الحديث، وما زال لها أنصارها وتلاميذها إلى اليوم وإلى ما بعد اليوم؛ ولكني لا أحدِّثك عنها في هذا الفصل؛ فهي تحتاج إلى فصل خاص؛ لأنها نشأت لنا رجلين من قادة الفكر الإنساني العام: أحدهما: «أفلاطون»، والآخر: «أرسطاطاليس».