أفلاطون
كان سقراط قد نيف على الخمسين حين ولد أفلاطون سنة ٤٢٨ قبل المسيح؛ فكان أثر الحوادث التي امتلأ بها الثلث الأخير للقرن الخامس مختلفًا في نفس الشيخ المجرب سقراط، وفي نفس الشاب الحدث أفلاطون: فبينما كان الشيخ ينظر إلى هذه الحوادث نظرة الفاهم لها، الذي لا يخفى عليه من أسبابها ونتائجها شيء، كان هذا الشباب ينظر إلى هذه الحوادث نظر المرتاع لها، الذي لا يقدرها ولا يكاد يفهمها.
ولعل هذا الاختلاف في النظر إلى الحوادث وفهمها والحكم عليها؛ ظاهرة مطردة في تاريخ الإنسانية كلها، على خلاف أجيالها وبيئاتها. فالإنسانية منقسمة دائمًا إلى الشيوخ والشبان، ونظر الشيوخ مخالف لنظر الشبان، وأثر الحادثة المعينة في نفس الشيخ غيره في نفس الشاب.
ومن هنا كان الاختلاف بين الأجيال، ومن هنا كان تطور الإنسانية المطرد، غير أن الحوادث تختلف قوةً وضعفًا؛ فمنها ما هو هولٌ كله، ومنها ما هو لين كله، ونفوس الشيوخ والشبان تختلف اختلافًا شديدًا، فمنها الممتاز ومنها العادي.
فإذا اجتمعت الأحداث التي ليست في نفسها إلا هولًا وإذا قضت المصادفة أن توجد بإزاء هذه الحوادث نفوس ممتازة راقية في حسها أو فهمها أو حكمها، كان من المعقول جدًّا أن يوجد الفيلسوف، أو أن يوجد الرجل العظيم؛ وكان من المعقول جدًّا أن يظهر الاختلاف بين الناس في فهمهم للأشياء وحكمهم عليها. وقد أرادت المصادفة أن تجتمع في هذا العصر، الذي كان أفلاطون يستقبل فيه الحياة وسقراط يستقبل فيه الموت، أحداثٌ عظيمة خطيرة، لم تعهدها الإنسانية من قبل، وأقول الإنسانية، وأستعمل هذا اللفظ العام على عمومه متعمدًا، فقد اعتادت الإنسانية الحروب، وتعرضت للأهوال، وتجشمت الخطوب منذ عرفت الحياة المنظمة، ولكنها لم تكن قد عرفت حربًا، ولا تعرضت لهول، ولا تجشمت خطبًا كتلك الحروب، وتلك الأهوال والخطوب التي تعرضت لها في آخر القرن الخامس قبل المسيح.
الأمر في تلك الحروب كالأمر في الحرب العظمى التي لم ننسها بعد، والتي لا نخطئ إن قلنا إن الإنسانية لم تعرف حربًا تعدِلها هولًا وفظاعةً. فإذا أردنا أن نعلل هذا فتعليله يسير، وهو أن العالم كان قد انتهى في سنة ١٩١٤ إلى حد من الرقي غير مألوف، وأن الحرب استفادت من رقي العالم، فأضافت إلى أهوالها المألوفة أهوالًا لم يكن للناس بها عهد من قبل. كذلك الحال في تلك الحرب التي اضطرب لها العالم القديم في آخر القرن الخامس قبل المسيح، والتي شبت نارها حين كان الإنسان قد انتهى من الحضارة والعلم والقوة إلى حدود بعيدة جعلت هذه الحرب بدعًا من الحروب التي سبقتها.
نشبت هذه الحرب بين أثينا وإسبرطا في نحو العصر الذي ولد فيه أفلاطون، ولم تلبث أن اشتملت بلاد اليونان جميعًا، ثم لم تلبث أن تجاوزت بلاد اليونان الحقيقية إلى المستعمرات اليونانية في آسيا الصغرى وفي إيطاليا وصقلية، ثم لم تلبث أن تجاوزت العالم اليوناني إلى العالم الشرقي، فتدخلت فيها الفرس، ثم تدخلت فيها أمم أخرى غير الفرس، إما خاضعة لأمر الفرس، وإما مخالفة للفرس وإما مناوئة للفرس، وعلى هذا النحو انتهت هذه الحرب إلى أن أحدثت اضطرابًا عالميًّا أخذت كل الشعوب الحية يومئذ منه بحظ. ولم تدم سنة أو سنتين، وإنما اتصلت ربع قرن، ولم تقتصر آثارها على إزهاق النفوس وسفك الدماء وتدمير المدن، وإزالة السلطان وتبديد ألوان الثروة، وإنما كانت لها آثار أخرى أبعد من هذه الآثار، وأشد عملًا في الحياة الإنسانية، أريد بها الآثار العقلية والسياسية والاجتماعية؛ فقد أظهرت هذه الحرب فساد القديم من أكثر وجوهه، وضرورة العدول عنه إلى شيء آخر، وأظهرت ضعف ما كانت تقوم عليه الجماعات المختلفة من أسس ونظم وعقائد، واضطرت الإنسان إلى أن يبحث عن أسس أخرى ونظم أخرى يقيم عليها الاجتماع الجديد.
ولكن النظام الأرستقراطي الذي كان يميل إليه أفلاطون قد اقترف في أثينا ضروبًا من الآثام لا سبيل إلى إنكارها، فانصرف عنه أفلاطون كما كان منصرفًا عن النظام الديمقراطي، ولبث في شيء من الحيرة غير قليل يلتمس النظام الذي يلائم الحياة الإنسانية حقًّا، ويبرأ من الآثام حقًّا.
ولما بلغ أفلاطون العشرين اتصل بسقراط، فلزمه ثمانية أعوام أو تسعة، ولم يكن سقراط أقل منه بغضًا للديمقراطية، ولا أقل منه انصرافًا عن الأرستقراطية. وهنا نستطيع أن نلاحظ مسرعين أن الفلسفة اليونانية كانت دائمًا في حرب متصلة مع الديمقراطية، كما أنها كانت شديدة الكره للنظام الأرستقراطي الذي كان معروفًا حينئذ، وكان سخطها على هذين النظامين يحملها على أن تبحث عن نظام سياسي يبرأ من رذائلهما وآثامهما. فاتفقت ميول أفلاطون وميول سقراط السياسية؛ ثم لم تتفق ميولهما السياسية وحدها، بل اتفقا في أشياء كثيرة أخرى: اتفقا في كره هذا الاضطراب العام الذي تناول كل شيء وأفسد كل شيء. واتفقا في كره السوفسطائية الذين لم يكونوا يهيئون لحياة جديدة بريئة من الاضطراب، وإنما كانوا يذيعون الشك، ويؤيدون المنفعة الخاصة، ومن ذكر الشك والمنفعة الخاصة فقد ذكر الاضطراب. واتفقا في الحكم على المذاهب الفلسفية القديمة بالضعف أو الفساد أو العجز عن السيطرة على العقول والإشراف على الحياة الفكرية العامة. واتفقا أيضًا في الحكم على الشعر القديم وأثره السيء في نفوس الجمهور، ثم اتفقا في الحكم على أنَّ الديانة الموروثة لا تخلو من سخف وسذاجة يخالفان كل المخالفة ما وصل إليه العقل اليوناني من الرقي. ومن هنا اشتدت الصلة بين الفيلسوف الشيخ وتلميذه الشاب.
ولست في حاجة إلى أنْ أَلْفِتَكَ إلى تأثير هذه السياحة في نفس أفلاطون؛ ولكني مضطر إلى أن أذكر أن زيارته لمصر تركت في نفسه من غير شك آثارًا قوية؛ فقد شاهد في هذه البلاد آثار تلك الحضارة الضخمة التي كان يتحدث بها اليونان في إعجاب لا حد له. وليس من شك في أن أفلاطون حاول أن يفهم هذه الحضارة بعض الشيء، ولكن ليس من شك أيضًا في أنه لم يفهم منها شيئًا قليلًا، إذ لم يكن يعرف اللغة المصرية، ولم يكن يستطيع أن يتحدث إلى المصريين مباشرةً، وإنما عرف ما عرف من أمر مصر بوساطة اليونان الذين لقيهم فيها، شأن المؤرخ اليوناني «هيرودوت»، ومن هنا نستطيع أن نقول: إن الحضارة المصرية لم تؤثر في فلسفة أفلاطون تأثيرًا مباشرًا، ثم لم تنته سياحة أفلاطون عند زيارة آسيا الصغرى ومصر وبرقة، بل زار أيضًا إيطاليا اليونانية، زار صقلية، وكان له فيهما شأن سنلم به بعد قليل.
ومن هنا كان تدخل الأمة الفارسية في أمور اليونان، وانتهى هذا التدخل إلى أن أصبح ملك الفرس مسيطرًا على الحياة اليونانية الداخلية والخارجية: يشهر الحرب بين المدن، حتى إذا أضعفها اضطرها إلى الصلح، وفرض عليها شروطه وقواعده. غير أن الأمة الفارسية نفسها لم تكن أحسن حالًا من الأمة اليونانية — فقد كان الفساد قد عبث بها وتغلغل في طبقاتها، حتى عجزت عن الاحتفاظ بملكها وسلطانها، ولجأت إلى اليونان تستأجرهم لحماية هذا الملك والسلطان، ولإخضاع الأقاليم التي أخذت تضطرب وتثور وتنفصل عن الإمبراطورية.
وعلى هذا النحو زال التوازن الذي كانت تقوم عليه الحياة السياسية في العالم القديم، والذي كان يعتمد على قوة اليونان في الغرب، وقوة الفرس في الشرق. زال هذا التوازن فضعف اليونان وضعف الفرس، وأخذ كل من الفريقين يلجأ إلى صاحبه ويسخر منه: أخذ الفرس يلجئون إلى اليونان، وأخذ اليونان يلجئون إلى الفرس: أولئك يبذلون المال، وهؤلاء يبذلون الرجال.
ويظهر في ذلك الوقت أن النظم السياسية القديمة كلها قد أخفقت إخفاقًا تامًّا: فأخفق النظام الديمقراطي والأرستقراطي في بلاد اليونان، وأخفق نظام الملكية الفردية في بلاد الفرس وفي الشرق كله، وترددت الإنسانية بين اثنتين: إما الدمار والفناء، وإما نظام سياسي جديد يخرجها من هذه الفوضى، كذلك كانت الحال في بلاد اليونان وفي الشرق. ولم تكن الحال في إيطاليا وصقلية خيرًا منها في بلاد اليونان الحقيقية وفي فارس، فقد كانت المدن اليونانية في إيطاليا وصقلية مضطربة في داخلها مختصمة فيما بينها، وكان عبث الأحزاب بها شديدًا.
عسير جدًّا درس فلسفة سقراط؛ لأن سقراط لم يكتب شيئًا، وعسير جدًّا درس فلسفة أفلاطون؛ لأن أفلاطون كتب كثيرًا، ولأن فهم هذه الكتب التي تركها أفلاطون وبقيت كلها وهي تنيف على الثلاثين ليس بالأمر اليسير. ليس بالأمر اليسير؛ لأن هناك ضروبًا من التناقض بين هذه الكتب من جهة، ولأن آراء الفيلسوف في بعض المسائل قد بلغت من الغموض والدقة حدًّا عظيمًا جدًّا، ثم لأن هذا التناقض يمكن تفسيره وإزالته. لو استطعنا أن نتبين التاريخ الذي كتبت فيه هذه الكتب. بحيث نستطيع أن نقول إن هذا الرأي قد جاء بعد هذا الرأي؛ فهو يدل على أن الفيلسوف قد تطور وغير من آرائه قليلًا أو كثيرًا. ولكن من العسير جدًّا، أو قل من المستحيل، تحديد التواريخ التي كتبت فيها آثار أفلاطون. ونحن نعلم أن أفلاطون قد بدأ الكتابة منذ مات سقراط، أي في أول القرن الرابع، وظل يكتب ويعلم إلى أن مات، أي في أول النصف الثاني من هذا القرن. وليس غريبًا أن تتطور آراء الفيلسوف وتتغير في خمسين سنة، ولا سيما إذا لم يكن الفيلسوف قد لزم حياة هادئة مطمئنة. فليس إذًا سبيل إلى الشك في أن فلسفة أفلاطون قد تغيرت وخضعت لألوان من التطور يمكن تحديدها لو ظفرنا بالتواريخ التي كتبت فيها الكتب الأفلاطونية. ومن هنا اجتهد العلماء المحدثون في البحث عن هذه التواريخ، وسلكوا إلى ذلك سبلًا مختلفة؛ فمنهم من حاول ترتيب الكتب الأفلاطونية ترتيبًا منطقيًّا، ومنهم من حاول أن يؤرخ كل كتاب بما يجد فيه، أو بما يمكن أن يجد فيه، من الأسماء والتعريض بالحوادث التاريخية. ولكن كتبًا كثيرة لأفلاطون تخلو من هذه الحوادث، ومن هذه الأسماء. وآخر ما اهتدى إليه الباحثون في هذا النحو، هو الطريقة اللغوية، وهي التي تمكن من تحديد التاريخ الذي ظهر فيه الكتاب بوساطة لغة الكتاب نفسه، ذلك أن لغة الكاتب تتطور كما تتطور آراؤه؛ فإذا استطعنا أن نعين لغة أفلاطون في شبابه، ثم كهولته، ثم شيخوخته، فقد استطعنا أن نؤرخ كتبه.
ويظهر أن هذه الطريقة هي أقوم الطرق. ويقول النقاد والمؤرخون المحدثون إنها قد انتهت بهم إلى نتائج قيمة، وينتظر أن تنتهي بهم إلى تحديد هذه التواريخ على وجه التقريب. ومهما يكن من شيء، فلم يعرف العالم القديم قبل أفلاطون فلسفة بلغت من السمعة والعمق والتفصيل ما بلغته فلسفة أفلاطون. فقد كان الفلاسفة القدماء يحاولون فهم الكون وتفسيره، ويجدُّون في ذلك حتى يحدثوا مذهبًا من المذاهب، ويزعمون أنه يفسر الوجود والموجود، ثم يقنعون بهذا المذهب، فيعلمونه ويؤيدونه ويذهبون عنه. ثم جاء عصر الشك الذي أنكر هذه المذاهب جملةً، ثم جاء سقراط فحاول شيئًا آخر غير ما حاوله الفلاسفة القدماء، وهو جعل الإنسان نفسه موضوعًا للفلسفة مكان الكون والكائنات، أو مكان الوجود والموجود. ولكن سقراط لم يتجاوز أو لم يكد يتجاوز هذه النظرية التي تجعل الإنسان موضوعًا للفلسفة، وتجعل معرفة الإنسان نفسه شرطًا ومصدرًا لمعرفة الكون والكائنات، ثم جاء تلاميذ سقراط وكلهم احتفظ بالنظام الفلسفي القديم، فأسس مذهبًا بعينه، وأخذ يعلمه ويؤيده ويذود عنه. وكل ما تمتاز به فلسفة هؤلاء التلاميذ من الفلسفة التي تقدمت سقراط هو أنهم انصرفوا عن الكون والكائنات، وعن الوجود والموجودات إلى الإنسان، فاتخذوه موضوعًا لفلسفتهم، وأخذوا يلتمسون الوسيلة إلى رقيه وسعادته: فمنهم من وجد ذلك في اللذة، ومنهم من وجد ذلك في الزهد. أما أفلاطون فإنه خالف الفلاسفة الذين تقدموا سقراط وخالف سقراط نفسه، وخالف تلاميذ سقراط أيضًا، واستحدث في الفلسفة بدعًا لم يكن مألوفًا من قبل: فلم يتخذ الكون موضوعًا للفلسفة، ولم يتخذ الإنسان موضوعًا لها، وإنما اتخذ الكون والإنسان جميعًا موضوعًا لمباحثه الفلسفية. ثم لم يتخذهما موضوعًا لبحث فلسفي خاص، ينشئه هو، ويقصر عليه عنايته وحياته، ويطبعه بطابعه الخاص، وإنما حاول شيئًا أعظم من هذا كله، ووفق فيه توفيقًا غريبًا: حاول شيئًا لم يكن قد حاوله أحد من قبل، وهو درس هذه المذاهب الفلسفية الكثيرة المختلفة، وموازنتها، واستخلاص ما فيها جميعًا من خير، وإقامة فلسفة جديدة من جهة وقديمة من جهة أخرى: جديدة لأن الناس لم يألفوها. وقديمة لأنها لم تنشأ من لا شيء، وإنما تعتمد على المذاهب الفلسفية كلها. وفي الحق أنك تجد في فلسفة أفلاطون شيئًا من كل المذاهب الفلسفية التي سبقته: تجد فيها شيئًا من مذهب الاستحالة، وتجد فيها شيئًا من مذهب الوحدة، وتجد فيها فلسفة سقراط، وتجد فيها خلاصة الآراء السقراطية، ثم تجد فيها الفلسفة «الفيثاغورية» ثم تجد فيها أشياء أخرى، منها ما يرجع إلى الدين، ومنها ما يرجع إلى الأدب، ومنها ما يرجع إلى شخصية أفلاطون نفسه. وكل ذلك متسق منسجم، لا يظهر فيها الاختلاف ولا التباين، وإنما هو مطبوع بهذا الطابع القومي الذي يمثل شخصية أفلاطون.
ومن أية ناحية نستطيع أن ندرس أفلاطون؟ بل من أي ناحية نحب أن ندرس أفلاطون؟ فنحن نجد في أفلاطون شخصيات مختلفة، كلها خليق بالدرس، محبب إلى الباحث. نستطيع أن ندرس أفلاطون من حيث إنه كاتب؛ فنحن نعلم أن تاريخ الأدب اليوناني لم يعرف كاتبًا ثائرًا كأفلاطون، وأن آثار أفلاطون كلها آيات، لا بالقياس إلى الأدب اليوناني وحده، بل بالقياس إلى الأدب الإنساني كله، سواء منه القديم والحديث. ونحن نعلم أن كل إنسان — مهما يكن حظه من الرقي العقلي، ومهما تكن جنسيته وحضارته — يستطيع إذا قرأ أفلاطون أن يجد فيه لذة لا تعدلها لذة، ولا يشعر بها الإنسان إلا حين يقرأ آيات اليونان، ثم نستطيع أن ندرس أفلاطون من ناحية أخرى غير ناحية الكتابة والنثر، وهي ناحية الشعر والخيال، فلم ينظم أفلاطون الشعر على قواعد العروض والقافية، ولكنه كان شاعرًا في نثره؛ ولا يعرف تاريخ الأدب القديم شاعرًا كان له من قوة الخيال ولطفه وسحره وسلطانه على النفوس مثل أفلاطون. ثم نستطيع أن ندرس أفلاطون من ناحية ثالثة، هي ناحية الفيلسوف الذي يبحث عما بعد الطبيعة. فيتعمق في بحثه تعمقًا لم يسبق إليه، وأخشى أن أقول لم يلحق فيه، بل أستطيع أن أقول ذلك، بشرط أن أستثني تلميذه «أرسطاطاليس». ثم هناك ناحية رابعة، نستطيع أن ندرس منها أفلاطون، وهي ناحية الفيلسوف الخلقي، الذي يؤسس علم الأخلاق، لا على مبادئ سقراط وحدها، بل عليها وعلى مبادئ أخرى، استطاع هو أن يكشفها أثناء بحثه عن الطبيعة وعما بعد الطبيعة. ثم هناك ناحية خامسة نستطيع أن ندرس منها أفلاطون وهي ناحية الفيلسوف السياسي، الذي وضع علم السياسة، وحاول لا أن يتفهم الحياة السياسية فحسب، بل أن يضع نظامًا سياسيًّا يعتقد هو أنه المثل الأعلى للإنسانية المنظمة. ثم هناك ناحية سادسة، نستطيع أن ندرس منها أفلاطون، وهي ناحية الفيلسوف النفسي، الذي هوَّن الأمر على أرسطاطاليس وغير أرسطاطاليس من الذين عُنُوا بالمنطق، ووضع علمًا جديدًا يبحث عن المعرفة وشروطها ونظمها وغايتها، فوضع أساس المنطق، وأساس علم النفس، أو قل: وضع أساس الفلسفة كلها. تستطيع أن تدرس أفلاطون من كل هذه النواحي. ولكنك تستطيع أن تطمئن؛ فلن أدرس أفلاطون في هذا البحث من كل هذه النواحي؛ فمثل هذا الدرس يحتاج إلى كتاب ضخم لست أنا الذي يستطيع أن يضعه. إنما أريد أن أوجز لك أشد الإيجاز، خلاصةً من الفلسفة الأفلاطونية التي كان لها الأثر العظيم جدًّا في قيادة الفكر الإنساني قديمًا وحديثًا.
ولا بد قبل كل شيء من أن نشير إلى المذهب الأفلاطوني في كتابه الفلسفة ودرسها. وهذا المذهب في نفسه هو مذهب سقراط، أي أنه يعتمد قبل كل شيء على الحوار، وإذن فهو في نفسه غير جديد. ولكن لا تنس أن سقراط كان يحاور محاورة لسانية، أي إنه كان يناقش أصحابه وتلاميذه بالفعل. أما أفلاطون فلم يكن يحاور حوارًا لسانيًّا، وإنما كان يكتب. والفرق عظيم بين رجل يلقاك فيحاورك، وبين رجل لا يلقاك ولا يحاورك بالفعل، وإنما يستوحي قلمه حوارًا بديعًا: تخيل أشخاصه، واخترع موضوعه اختراعًا. كان سقراط متحدثًا، أما أفلاطون فمؤلف منشئ. ومن هنا كان من الحق الاعتراف لأفلاطون بفضيلة هذا الفن الفلسفي الأدبي، الذي لم يسبق إليه ولم يلحق فيه، وهو فن الحوار. نعم! إن أفلاطون لم يخترع الحوار اختراعًا، وإنما تأثر بمؤثرين مختلفين، نذكرهما لنلفتك إلى الصلة بين الفلسفة والأدب.
المؤثر الثاني: الشعر، وأريد الشعر الغنائي الذي تعمق في البحث عن العواطف الإنسانية، حتى اهتدى إلى دقائقها، وارتقى في تشخيص هذه العواطف وتمثيلها، حتى بلغ من العظمة حدًّا ربما لم يبلغه الشعر الحديث. وقد يكون من الحق ألا ننسى الشعر القصصي، الذي اعتمد عليه أفلاطون في هذه الأساطير المنبثة في كتبه، والتي يستعين بها على تفسير النظريات الفلسفية وتقريبها. فأنت ترى أن أفلاطون لم يخترع فنه الأدبي اختراعًا، وإنما تأثر فيه بألوان الشعر الثلاثة، كما أنه لم يخترع فلسفته اختراعًا وإنما تأثر فيها بالمذاهب الفلسفية المختلفة التي سبقته وعاصرته. ولكن تأثره بالشعر والفلسفة لم يضطره إلى التقاليد ولم يضعف من شخصيته، وإنما قوَّى هذه الشخصية تقوية عظيمة. وأين هو هذا النابغة الذي يخترع شيئًا من لا شيء ويحدث أحداثًا لا تتصل بما قبلها، ولا تتأثر بما حولها؟ وسنرى أن أفلاطون نفسه لم يستطع أن يتصور إلهًا يوجد شيئًا من لا شيء.
كانت فلسفة سقراط حربًا على السوفسطائية، وكذلك كانت فلسفة أفلاطون. فإن انتصار سقراط على السوفسطائيين، لم يزل سلطانهم، ولم يمح آثارهم. بل نستطيع أن نقول: إن كثيرًا من السوفسطائيين اتخذوا الفلسفة السقراطية وسيلة إلى تقوية مذهبهم، والإمعان فيما كانوا فيه من شك وتشكيك، ولعل هذا هو الذي يفسر لنا وجود هذه المدارس السقراطية المتناقضة فيما بينها، والتي انبثت في أقطار الأرض. فلم يكن إذًا بد لأفلاطون من أن يذهب مذهب أستاذه في محاربة السوفسطائية، وإقامة فلسفة جديدة تعتمد على أن الحقائق ثابتة، وعلى أن الشك ضرب من الضعف لا خير فيه ولا غناء. وقد سلك أفلاطون إلى تأسيس هذه الفلسفة سبيلًا واضحة قيمة، ولكن سلوكها ليس باليسير على غير الفيلسوف.
كان سقراط يقول: «اعرف نفسك بنفسك»، وكان يرى أن أول العلم هو أن يعلم الإنسان جهله بكل شيء، ثم كان سقراط يرى الإنسان متى علم جهله بكل شيء وحاول أن يعرف نفسه بنفسه، كشف في هذه النفس كنزًا لا سبيل إلى أن يقدَّر. وذلك أن النفس عند سقراط ملئت بالحقائق، وأن بحث الفيلسوف عن هذه الحقائق، ليس في حقيقة الأمر اختراعًا لهذه الحقائق، وإنما هو كشف لها في أعماق النفس. وقد أخذ أفلاطون كل هذه النظريات السقراطية، فنظمها وفصلها، واستخرج منها كل ما كانت تشتمل عليه، وجعلها أساسًا لفلسفته. وفي الحق أن فلسفة أفلاطون كلها تقوم على نظرية العلم والمعلوم. فالنفس عند أفلاطون ملئت بالحقائق، كما كانت عند سقراط؛ ولكن تفسير أفلاطون يخالف تفسير سقراط مخالفةً شديدة.
كان سقراط يفهم أن الحقائق موجودة في النفس بالقوة، وأن البحث يجعل هذا الوجود فعليًّا. أما أفلاطون فيرى أن الحقائق موجودة في النفس بالفعل، وأن البحث عن الحقائق لا يؤدي إلى انتزاعها فهي خالدة، ولا يؤدي إلى كشفها فهي معلومة؛ وإنما يؤدي إلى تذكرها، فالنفس قد نسيت الحقائق عندما هبطت من الملأ الأعلى إلى هذا العالم السفلي، وكلما أمعنت النفس في هذه الحياة العملية وما تستتبعه من الخضوع لحاجات الجسم، اشتد نسيانها للحقائق، وتراكم عليها الصدأ. وعمل البحث الفلسفي، هو أن يزيل هذا الصدأ، وأن يذكرها بما كانت تعلم من قبل. وإذًا، فالحقائق كلها خالدة ثابتة لا تحدث ولا تتغير، كما أن العلم بها خالد ثابت لا يحدث ولا يتغير. ومعنى هذا أن النفس الإنسانية خالدة أيضًا، لا تحدث ولا تتغير، وأنها قد مر عليها طور من الوجود كانت فيه بعيدة عن هذا العالم السفلي وأعراضه وأدرانه، كانت تحيا فيه ناعمةً راضية، مجاورة للآلهة وللحقائق الخالدة، مستمتعة بالعلم الذي يظهر على كل شيء، ويمثل فيها كل شيء، ثم هبطت من ذلك العالم العلوي إلى هذا العالم السفلي، فنسيت شيئًا فشيئًا ما كانت تعلم.
وأنا أعتذر إليك من هذا الغموض؛ فقد أبذل ما أستطيع من جهد للتوضيح دون أن أبلغ أكثر مما وصلت إليه، إلا أن أتجاوز ما شرطت من الإيجاز والاختصار. وخلاصة القول: أن أفلاطون يرى في هذا العالم المحسوس طائفة من الظواهر التي لا وجود لها بنفسها، وإنما هي صادرة عن عالم آخر هو عالم الحقائق الخالدة. ومن هنا كانت درجات العلم ثلاثًا، فكان هناك العلم بهذه المحسوسات أو بهذه الظواهر، وهذا العلم هو أحقر أنواع العلم؛ لأنه ظن يتغير ويتبدل بتغير موضوعاته وتبدلها. وكان هناك علم آخر أرقى من هذا العلم الأول، وهو العلم بالأشياء العامة، التي تنتزعها النفس من هذه الشخصيات المتغيرة المتبدلة، هو العلم بالأجناس والأنواع، هو العلم بالكليات والقضايا العامة التي ليست هي شخصيات متغيرة أو متبدلة. وهذا العلم تكتسبه النفس اكتسابًا بملاحظة المحسوسات ومقارنتها والتفريق بينها: فهي تنتزع النوع الإنساني من أفراد الإنسان، كما تنتزع جنس الحيوان من أنواع الحيوان وهلم جرًّا … ثم كان هناك علم آخر، هو العلم حقًّا، وهو الفلسفة حقًّا، وهو اليقين حقًّا. وهذا العلم هو العلم بتلك الحقائق الثابتة التي قلنا إنها خالدة لا تتغير ولا تتبدل.
ولست أريد أن أتعمق في تفصيل الصلة التي توجد بين هذه الدرجات الثلاث من الكائنات. وبين هذه الدرجات الثلاث من العلم؛ فذلك كله يخرج بنا عما نريد من الإيجاز. إنما ألاحظ أن العلم بهذه الحقائق الثابتة هو الغاية التي يسعى إليها الفيلسوف حقًّا، وأنه لا يصل إلا بعد مشقة وجهد عنيف، ولكنه إذا وصل إليها فقد وصل إلى الخير كله، واستطاع أن يمتزج بمصدر الكون أو بالإله. وما الإله عند أفلاطون؟ وكيف أوجد هذا العالم وأثر فيه؟ الإله عند أفلاطون فكرة هي مصدر كل شيء، ومرجع كل شيء، وهي فكرة الخير، وجدت بنفسها قبل أن يوجد الزمان، وهي موجودة مع الزمان، وستوجد بعده، لا علاقة لها به، ولا تأثير له فيها، وعنها صدرت كل الحقائق الخالدة، ولكن هذه الحقائق الخالدة ليست محسوسة، ولا سبيل إلى أن تحس، ومهما يبلغ أفلاطون من إثباتها فلن يصل إلى تفسير هذا العالم المحسوس. فكيف وجد هذا العالم؟ يرى أفلاطون أن الإله وحده لا يستطيع إيجاد هذا العالم. بل إن هذه الحقائق لا تستطيع إيجاد هذا العالم. وإذًا فلا بد من عنصر ثالث ليوجد هذا الكون، وهذا العنصر الثالث هو المادة التي وجدت وحدها والتي اتخذها الإله سبيلًا إلى إيجاد هذا العالم المحسوس.
نظر إلى الحقائق الخالدة التي صدرت عنه، فاتخذها مثلًا ونماذج، صاغ عليها هذا العالم المحسوس، ثم لأجل أن تنبعث الحياة في هذا العالم المحسوس أوجد الإله صلة بينه وبين هذه المثل، فليس الإنسان الموجود في الخارج إلا مظهرًا للحقيقة الثابتة الخالدة التي هي الإنسانية. وكذلك قل في جميع الموجودات الأخرى.
وليس يعنينا أن نفصل هذه الصلاة بين الحقائق الثابتة والعالم المحسوس، ولا أن نصف هذه الطرق الملتوية التي اتخذها أفلاطون ليبين كيف استطاع الإله إيجاد العالم وتدبيره. كل ذلك لا يعنينا الآن؛ وإنما الذي يعنينا هو أن نلاحظ أن هذه الفلسفة كان لها الأثر العظيم جدًّا في حياة العقل الإنساني قديمًا وحديثًا، فأثر المدرسة الأفلاطونية القديمة، وأثر المدرسة الأفلاطونية الحديثة في العالم اليوناني والروماني، أشهر من أن نحتاج إلى ذكره. ثم أثر المدرسة الأفلاطونية التي أنشئت في الإسكندرية ظاهر بيِّن. وحسبك أن الديانة المسيحية لم تخلص منه، وحسبك أنه عمل في تكوين العقل الشرقي عملًا بعيد الأثر، لم يتناول الطبقات الراقية وحدها، بل تجاوزها إلى غيرها من الطبقات الدنيا في العصور المختلفة. أما أثر هذه الفلسفة في الحياة الأوربية أثناء القرون الوسطى، وفي هذا العصر الحديث فأعظم وأبعد من أن نلم به في هذا الفصل. ولعلك تعلم أن الفلسفة الأفلاطونية ما زالت حية إلى الآن، وما زال لها ممثلوها والمدافعون عنها بين فلاسفة الغرب.
على أن جزءًا آخر من فلسفة أفلاطون يستحق عناية خاصة، لأنه يمتاز بشيء من الخصب والغناء، لم تظفر به الأجزاء الأخرى لفلسفته نريد به هذا الجزء الخلقي السياسي؛ فشخصية أفلاطون فيه بارزة قوية خالدة مهما تختلف العصور وتتبدل الظروف. وهذا الجزء من فلسفة أفلاطون متصل بالأجزاء الأخرى، ليس منفصلًا عنها ولا ممتازًا منها. فقد رأيت أن الكون كله يدور حول نقطة واحدة، عنها صدر، وإليها يرجع، وهي فكرة الخير أو الإله. وإذا كانت هذه الفكرة هي مصدر الكون ومرجعه، وهي التي ينتهي إليها بحث الفيلسوف، فينبغي أن تكون هذه الفكرة نفسها غاية الحياة العملية الإنسانية أيضًا: ينبغي أن تكون هي مصدر السعادة، وينبغي أن تكون هي المثل الأعلى الذي يطمح إليه الإنسان في حياته العملية، كما أنها المثل الأعلى الذي ينتهي إليه في حياته النظرية؛ ذلك لأن الأخلاق ليست عملًا عند أفلاطون، وإنما هي علم؛ أو قل إن أفلاطون لا يفرِّق في الأخلاق بين العلم والعمل؛ فهو يؤكد، كما كان يؤكد سقراط، أن مصدر ما نتورط فيه من الرذائل والآثام إنما هو جهلنا بالخير وقصورنا عن إدراكه؛ فإذا أزيل هذا الجهل وأتيحت لنا القوة التي تمكننا من إدراك الخير ومشاهدته، فنحن بمأمن من الرذائل والآثام. وليس يستطيع أفلاطون، كما لم يكن يستطيع سقراط، أن يتصور أن الإنسان يقدم على الشر وهو يعلم أنه شر، وينصرف عن الخير وهو يعلم أنه خير. وإذًا فالفلسفة التي تؤدي إلى إدراك فكرة الخير ليست مصدر السعادة النظرية العملية وحدها، بل هي مصدر السعادة العملية أيضًا؛ فالفيلسوف أسعد الناس لأنه يدرك الخير ويراه، ثم لأنه يسعى إليه ويطمع فيه وينظم حياته تنظيمًا يجعلها ملائمة له.
على أن أفلاطون لا يكتفي بهذا التفسير النظري الخالص، وإنما يحاول أن يفسر لنا مصدر الجهل الذي يورطنا في الشر والإثم. وتفسيره لهذا الجهل بديع قوي، فيه شعر، وفيه فلسفة معًا. فالنفس عند أفلاطون مزاج يتألف من قوى ثلاث: إحداها هذه القوة العاقلة التي تتفهم الأشياء وتتبينها وتنتقل من المحسوس إلى المفهوم ومن المركب إلى المجرد، حتى تنتهي إلى الحقائق الثابتة، ثم إلى حقيقة الحقائق أو فكرة الخير أو الإله. والثانية: هذه القوة الغضبية التي وكل إليها الدفاع عن الحياة والاحتفاظ بها، وهي التي نسميها الشجاعة، وهي التي تحملنا على أن نغضب ونثور كلما احتجنا إلى الغضب والثورة. والثالثة هذه القوة الشهوية، التي تعنى بوجود الجسم المادي؛ لأنها تحمله على إرضاء شهواته المختلفة: من الأكل والشرب وما يتصل بهما من أنواع اللذات. ولكل قوة من هذه القوى الثلاث مركزها في الجسم. فأما الأولى فمستقرها الرأس، وأما الثانية فمستقرها الصدر، وأما الثالثة فمستقرها البطن. والنفس عند أفلاطون تشبه عربة يقودها جوادان أصيلان: أحدهما الغضب، والآخر الشهوة، أما سائق الجوادين فهو العقل. وإذًا فلا بد من أن يوجد بين هذين الجوادين توازن في القوى وتوافق في الحركة من جهة، ولا بد من أن يوجد بينهما وبين السائق توازن آخر يضطرهما إلى الخضوع له والإذعان لأمره من جهة أخرى. فإذا اختل التوازن بين الجوادين أو بينهما وبين السائق، فذلك مصدر الشر الذي يتورط فيه. قد تسرف القوة الغضبية حتى تسيطر على القوتين الأخريين؛ وإذًا فنحن متهورون مندفعون. وقد تسرف القوة الشهوية؛ وإذًا فنحن عبيد اللذة وأرقاؤها. وعلى هذا النحو يرى أفلاطون أن الفضيلة حقًّا إنما هي مزاج ينتج من التوازن بين هذه القوى بحيث يستطيع الجسم أن يحيا ويحتفظ بحياته دون أن يحول بين النفس وبين الطموح إلى الخير والسعي إلى الوصول إليه.
شيء آخر يتم نظرية أفلاطون في الأخلاق، ويعين على فهم هذه الشخصية القوية، وعلى فهم ما كان لفلسفة أفلاطون من أثر بعيد في الحياة الإنسانية، وهو رأيه في العقوبة الخلقية، فليس يكفي أن يمثل لك الخير ويدعوك إليه. بل ليس يكفي أن يمثل لك الشر ويحذرك منه. وإنما هو يرى أن العقوبة أمر محتوم لا منصرف عنه ولا مفر منه، فلكل عمل جزاؤه، له الثواب إن كان خيرًا، وله العقاب إن كان شرًّا — تلك نتيجة محتومة للعدل، وهي نتيجة طبيعية ليست متكلفة ولا مصطنعة، ليست كهذه العقوبات التي تفرضها القوانين المكتوبة، وإنما هي أقوى وأنفع وألزم من هذه العقوبات.
يرى أفلاطون أن هذه العقوبة ليست شرًّا، وإنما هي الخير كل الخير، ذلك أنها لا ترمي إلى الانتقام ولا إلى التعذيب، وإنما ترمي إلى التصفية والتطهير؛ فالأنفس الآثمة عندما تعاقب تطهر من أدران الإثم، وتعد لأن تستأنف حياتها الصالحة الراقية التي تلحقها بنفوس الأخيار وترقى بها إلى مستقرها الأول في الملأ الأعلى. أما تفصيل هذه العقوبات فجميل لا يخلو من لذة شعرية، ولا من قوة خيالية مدهشة. وحسبك أن مذهب التناسخ يختصر هذه العقوبات: فالنفس الآثمة بعد الموت تعود إلى هذه الحياة لتمحو إثمها، وهي تستقر في جسم من الأجسام يلائم نوع الإثم الذي اقترفته: كانت نفس رجل، فهي الآن نفس امرأة. كانت نفس إنسان، فهي الآن نفس فرس، أو نفس كلب، أو نفس حمار، وهلم جرًّا، فأنت ترى أن النظرية الخلقية لأفلاطون متصلة بنظريته في الطبيعية وفيما بعد الطبيعة. وليست بنظريته السياسية بأقل اتصالًا بفلسفته العامة من نظريته الخلقية. ذلك لأن رأيه السياسي يقوم على رأيه الخلقي: فالجماعة عنده كالفرد تتأثر بما يتأثر به وتخضع له، ويجب أن تطمح إلى ما يطمح إليه.
وإذا كان الفرد مكلفًا أن يطمح إلى العدل الذي يرقى به المثل الأعلى وهو الخير، فالجماعة مكلفة أن تطمح أيضًا إلى هذا العدل. وقد رأينا أن العدل بالقياس إلى الفرد هو التوازن بين قوى النفس الثلاث، أو بين الأنفس الثلاث، كما يقول أفلاطون، فكذلك العدل السياسي توازنٌ بين الأنفس الثلاث الاجتماعية أو السياسية. فللجماعة أنفس ثلاث كالفرد: لها نفس العاقلة، وهي الحكومة التي تقوم منها مقام العقل من الفرد ولها نفسها الغضبية التي تحميها وتحفظ عليها قوامها في الداخل والخارج وهي الجيش. ولها نفس الشهوية التي تقدم إليها ما تحتاج إليه من أدوات الحياة، وهي طبقة العمال والزراع ومن إليهم. وإذًا فالحياة الاجتماعية السعيدة هي التي يتحقق فيها التوازن بين هذه الأنفس الثلاث، وليس تحقيق هذا التوازن بالأمر اليسير أيضًا، كما أن تحقيق التوازن عند الفرد ليس بالأمر اليسير أيضًا. ألست ترى أن الكثرة المطلقة من الأفراد أشقياء؟ ألست ترى أن كل المدن والدول القائمة إنما تخضع لألوان من الشقاء السياسي لا تكاد توصف ولا تحصى؟ وإذا لم يكن بدٌّ من أن يؤخذ الفرد بنوع خاص من التربية يمكنه من أن يحقق التوازن بين أنفسه الثلاث، فليس هناك بد من أن يؤخذ الأفراد بتربية سياسية تمكنهم من أن يكوِّنوا المدينة الفاضلة التي يتحقق فيها التوازن بين الأنفس الاجتماعية الثلاث.
ولست أفصل لك قواعد التربية عند أفلاطون، فذلك شيء يطول، ومن اليسير عليك أن تقرأه في الجمهورية — فستجد في قراءته لذة لا تعدلها لذة. ولكني أجمل لك النتائج السياسية التي انتهى بها أفلاطون، والتي كوَّنت مدينته الفاضلة التي هي في الحقيقة مثل أعلى ليس إلى تحقيقه من سبيل، والتي ندهش نحن الآن؛ لأن فيلسوفًا كأفلاطون تصورها، وحاول أن يجعلها حقيقة واقعة.
يريد أفلاطون أن تتألف مدينته الفاضلة من هذه الطبقات الثلاث التي قدمناها الإشارة إليها، ويريد أن تكون الطبقة الأولى التي تشرف على الحكم بمنزلة العقل من الفرد. وكيف تكون هذه الطبقة بمنزلة العقل إذا لم تتألف من الفلاسفة! … الفلاسفة وحدهم قادرون على تدبير الحياة الفردية والاجتماعية؛ لأنهم وحدهم قادرون على تصوير الخير والوصول إليه. وإذًا فأفلاطون عدوٌّ للديمقراطية التي تكل الحكم إلى الناس جميعًا دون أن تفرق بين كفاياتهم وحظوظهم من القوى العقلية. وهو عدو للأرستقراطية التي تعتمد على المولد أو على الثروة والجاه. أفلاطون أرستقراطي، ولكن أرستقراطيته تعتمد على الفلسفة. ولا تبتسم ساخرًا أو مزدريًا! فما زال الفلاسفة إلى اليوم وإلى غد ينحون هذا النحو، ويطمعون أو يتمنون، أن يكون الحكم إلى الفلسفة، ولعلك تعلم شيئًا من رأي رينان في هذا.
ثم يريد أفلاطون أن يأخذ الطبقة الثانية — طبقة الجيش — بنوع من النظام شديد صارم، يمكنها من أن تؤدي واجب الدفاع كما ينبغي، ويمكنها من أن تحفظ التوازن بين هذه القوى التي تتألف منها المدينة، ويعدها في الوقت نفسه لأن ترقى إذا أدركتها السن إلى طبقة الفلاسفة الذين يحكمون. يريد أفلاطون أن يزيل من بين أفراد هذه الطبقة كل سبب للفرقة أو الخصومة، وأي سبب للفرقة أو الخصومة أقوى من الشخصية؟! يجب إذًا أن تزول الشخصية، يجب ألا يوجد الفرد لنفسه بل للدولة. ومعنى ذلك أن كل ما يكوِّن الفرد وشخصيته. يجب أن يزول. يجب أن تمحى الملكية، فلا فقر ولا غنى ولا حقد بين الفقير والغني ولا خصومة بين الأغنياء. يجب أن تزول الأسرة، فلا زوجية ولا أبوة، أي يجب أن تكون المرأة حظًّا شائعًا بين أفراد الطبقة جميعًا تشرف الحكومة على توزيعه بين هؤلاء الأفراد. ويجب أن تمحى الأبوة، فلا يثبت النسب من الأفراد، وإنما الأطفال جميعًا أبناء الدولة، تغذوهم وتقوم على تربيتهم وتنشئتهم حتى يبلغوا سن الرشد ويندمجوا في الجيش، وهي لا تربيهم جميعًا، أو قل لا تحتفظ بهم جميعًا، وإنما تحتفظ منهم بمن تستيقن أنه نافع للدولة يستطيع أن يدفع عنها حقًّا. وإذًا فالمرضى من الأطفال والذين ساء تكوينهم أو أصابتهم العاهات، يجب أن تنبذهم الدولة نبذًا. ولا يفرق أفلاطون في الحقوق والواجبات بين الرجل والمرأة في هذه الطبقة، وإنما هما سواء على أن توزع الحكومة بينهما حظوظهما من الحقوق والواجبات، فتكلف كلًّا ما هو أهل له من الواجبات لصيانة الدولة وحياطتها.
أما الطبقة الثالثة، فيكاد يهملها أفلاطون، وهو لا يريد منها إلا أن تقدم إلى الجيش والحكومة ما يحتاجان إليه. ومن هنا لم يبلغ الملكية في هذه الطبقة؛ ولم يلغ الأسرة. وما يعنيه من هذه الطبقة ما دامت خاضعة لسلطان الجيش وسلطان الحكومة؟!
هذه هي المدينة الفاضلة الأفلاطونية، أعطيتك منها صورة موجزة بل ناقصة، لأني أهملت كثيرًا من النظريات الأفلاطونية في السياسة والتربية حرصًا على الإيجاز. والناس يرون أن هذه المدينة الأفلاطونية حلم من أحلام الخيال، ولكن من الحق علينا أن نلاحظ شيئين: أحدهما أن أفلاطون نفسه قد سبق الناس جميعًا إلى الشعور بأن مدينته هذه خيال ليس إلى تحقيقه من سبيل؛ فعدَل في كتاب القوانين — وهو آخر كتاب كتبه، ويقال إنه تركه غير كامل ولا منقح — عن بعض هذه الآراء الخيالية، لا لأنه جحدها أو عرف أنه مخطئ فيها، بل لأن تجاربه في صقلية وملاحظاته في بلاد اليونان، قد بينت له مكان الغلو في هذه النظريات، وعلمته أن المثل الأعلى شيء والحقيقة الواقعة شيء آخر.
الملاحظة الثانية: أن هذه النظريات الأفلاطونية التي تمثل ما يجب أن يكون، لا ما يمكن أن يكون، قد تركت آثارًا قوية جدًّا في الحياة الإنسانية المعاصرة له والتي جاءت بعده. فقد يقال إن بعض المدن اليونانية الآسيوية تأثرت بسياسة أفلاطون، وطلبت إلى بعض الأفلاطونيين أن يضعوا لها النظم السياسية الملائمة للمدينة الفاضلة قليلًا أو كثيرًا، كما أن بعض المدن اليونانية في إيطاليا تأثرت بالفلسفة الفيثاغورية، ووكلت أمورها إلى الفيثاغوريين.
ومهما يكن نصيب السياسة الأفلاطونية من الفوز أو الإخفاق في حياة المدن اليونانية، فإن هذه السياسة قد أحرزت فوزًا عظيمًا لا يزال قائمًا إلى الآن وإلى غد، وهو فوزها في الكنيسة المسيحية الكاثوليكية بنوع خاص. فإن شيئًا من المقارنة بين نظام أفلاطون وتصوره للطبقة الحاكمة في مدينته الفاضلة وبين نظام الكنيسة الكاثوليكية، يقنعك بأن هذه الكنيسة تأثرت تأثرًا غير قابل بالفلسفة الأفلاطونية في نظامها الدستوري الذي لا يزال قائمًا.
•••
وجملة القول أن شخصية أفلاطون كانت وما زالت وستظل أبدًا شخصية قوية عظيمة التأثير في الحياة العامة، بحيث إنك لن تستطيع أن تدرس مذهبًا روحيًّا، قديمًا كان أو حديثًا، دينيًّا كان أو فلسفيًّا، إلا وجدت للفلسفة الأفلاطونية فيه أثرًا، يختلف قوة وضعفًا باختلاف الظروف التي أحاطت بتكوين هذا المذهب. ولقد يكون من اللذيذ أن ندرس في يوم من الأيام تغلغل التأثير الأفلاطوني في الطبقات المختلفة من الشعوب المتباينة. فإلى الفلسفة الأفلاطونية ممتزجة بعناصر أخرى متنوعة، يرجع كثير من فنون السحر والكهانة والتصوف، وما إلى ذلك من هذه الفنون التي لا تزال عظيمة السلطان على الطبقات الدنيا في أكثر الشعوب.