الإسكندر
كانت قيادة الفكر إلى الشعراء أول عهد العالم القديم بالوجود الاجتماعي والسياسي، ثم ارتقى هذا العالم القديم من الوجهة الاجتماعية والسياسية والعقلية، فانتقلت قيادة الفكر من الشعر إلى الفلسفة، وأصبح قادة الفكر فلاسفة ومفكرين، بعد أن كانوا أصحاب شعر وخيال، ولكن هذه الفلسفة نفسها جدَّت في سبيلها التي سلكتها إلى الرقي، وانتهت إلى ما لم يكن بدٌّ من أن تنتهي إليه، فأحدثت في النفوس شكًّا، وتناولت النظم القائمة بالنقد حتى هدمتها، أو كادت تهدمها؛ وظهر أنها عاجزة عن قيادة الفكر بعد أن وصلت الجماعات إلى هذا التطور الذي وصلت إليه في القرن الرابع قبل المسيح، كما ظهر منذ قرون عجز الشعر عن قيادة الفكر بعد أن تبدلت الحياة الاجتماعية والسياسية.
ولم يكن بد من أن تنزل الفلسفة عن سلطانها لشيء آخر يخلفها على قيادة الفكر وتوجيه الحياة الإنسانية وجهة جديدة؛ تلائم هذه الأطوار الجديدة التي انتهت إلى الجماعات.
وفي الحق أن هذا القرن الرابع قبل المسيح كان عصر انتقال عام تظهر آثاره في جميع أجزاء العالم القديم: في الشرق الآسيوي، وفي الغرب الأوربي، وفي بلاد اليونان خاصة، وشبه جزيرة البلقان بوجه عام، فأنت حين تستعرض تاريخ العالم القديم في هذا العصر، لا تجد إلا تغيرًا وتبدلًا في النظم وأصول الحكم، في الأخلاق والعادات، بل في الشعور الديني نفسه.
أما في الشرق، فقد كانت الدولة الفارسية العظمى، التي بسطت سلطانها على أعظم إمبراطورية عرفها تاريخ الشرق القديم، وأخضعت لهذا السلطان بلاد الفراعنة وبلاد البابليين والآشوريين والفينيقيين، كانت قد انتهت إلى شيء من الضعف آذن بأن سقوطها قد أصبح أمرًا ليس منه بد: كان الفساد قد اشتمل على ملوكها وزعمائها، وكان الترف قد عبث بعامة شعبها الذي كان مصدر قوتها وبأسها، وكان العصيان قد انبث في أقطار الأرض التي خضعت لها، فأصبحت هذه الأقطار ثائرة مضطربة يطمع بعضها في استرداد استقلاله القديم، ويخضع بعضها الآخر لأطماع الحكام والمستبدين. وكانت السلطة المركزية قد يئست من أن تقبض بنفسها على أزِمَّة الأمر، فلجأت إلى أعدائها اليونان، تجندهم لحماية أقطارها، وتستأجرهم للدفاع عن سلطانها. وكانت الأمة اليونانية على ما علمت في الفصل الماضي، من الضعف والانحلال، والفساد الخلقي والسياسي، والزهد في هذه النظم السياسية التي ألفتها والتي ظهر فسادها وعجزها عن ضبط الأمور. ولم تكن إيطاليا ولا غرب أوربا أقل اضطرابًا من بلاد اليونان والشرق، فقد كانت مدينة روما الناهضة تبسط سلطانها الجديد قليلًا قليلًا على إيطاليا — وكان الجهاد عنيفًا بينها وبين عناصر مختلفة كانت تنازعها السلطان: كان الجهاد عنيفًا بينها وبين المستعمرات اليونانية الإيطالية؛ وكان عنيفًا بينها وبين الفينيقيين من أهل قرطاجنة؛ وكان عنيفًا بينها وبين المدن الإيطالية التي كانت تستمتع بالحياة المستقلة في أمن وسلم، فأصبحت الآن ترى هذه الحياة المستقلة معرضة للخطر؛ ذلك إلى هذه القبائل البربرية التي أخذت تندفع إلى بلاد إيطاليا وإلى غرب أوربا، والتي لم تجد روما بدًّا من أن تقف منها موقف المدافع المانع. كل شيء في العالم القديم كان يدل في هذا القرن الرابع على أن الحياة الإنسانية في حاجة إلى أن تتغير، وعلى أن القوة لا بد من أن تظهر لتضبط الأمر وتقضي على هذه الفوضى العامة.
وكان لهذه القوة المنتظرة مركزان: أحدهما قريب من الشرق في مقدونيا، والآخر قريب من الغرب في روما. ولكن هذه القوة المقدونية كانت، فيما يظهر أقدر على الظفر وأخلق بالانتصار من القوة الرومانية؛ لأنها كانت قريبة من مركز الحياة الأدبية والسياسية القوية: كانت قريبة من اليونان شديدة الاتصال بهم، وكانت قريبة من آسيا أيضًا، ولست في حاجة إلى أن أذكر لك مقدونيا وتاريخها، ولا إلى أن أفصل لك نهضتها السياسية واستئثارها بالقوة، فكل ذلك شيء لا يعنينا الآن، وإنما الذي يعنينا هو أن ملكًا من ملوكها وهو فيليب، قد استطاع أن يكسب لها قوة حربية ضخمة، واستطاع بهذه القوة أن يستأثر بالأمر كله في البلاد اليونانية، وأن يخضع هذه المدن اليونانية لسلطان قوي حازم، ويقضي على ما كان بينها من نزاع وخصومة، ويوجه قوتها المادية والمعنوية إلى جهة جديدة نافعة، هي الاستيلاء على الشرق، والقضاء على سلطان الفرس فيه.
ولكن فيليب قتل غيلةً، ولما يبدأ تحقيق غايته الكبرى التي كان يسعى إليها؛ فنهض بالأمر بعده ابنه الشاب الإسكندر؛ واستطاع لا أن يحقق غاية أبيه، بل أن يتجاوزها إلى شيء لم يكن يخطر لفيليب ولا لغيره من المقدونيين واليونان، بل لم يخطر لأحد من قبله، وهو إخضاع العالم القديم المتحضر كله لسلطان واحد قوي منظم.
لعلك تعجب حين تراني أحدثك عن الإسكندر الفاتح، في كتاب يبحث عن قادة الفكر. ولعلك تسأل: ما بال قائد من قواد الجيوش يخلط بهؤلاء الذين لم يتسلطوا إلا على العقول؟ ولكني قلت لك في أول هذا الفصل: إن قيادة الفكر قد انتقلت من الشعر إلى الفلسفة، ثم من الفلسفة إلى السياسة، وكان الإسكندر هو الذي نقلها، أو قل هو الذي انتزعها عن الفلسفة وأقرها للسياسة.
ولقد يكون من الحق، ومن الواجب أيضًا، أن يتغير رأي الناس في الإسكندر، وفي عظمته، وفي مصدر هذه العظمة؛ فالناس جميعًا يؤمنون بأن الإسكندر عظيم، ولكنهم يردُّون هذه العظمة إلى ما أحدث الإسكندر من فتح لم يعرفه التاريخ القديم. وكيف لا يكون عظيمًا ذلك الشاب الذي نهض بالأمر بعد أبيه، فلم يكد يستقبل الملك حتى فسد عليه كل شيء، واضطرب من حوله كل شيء، فإذا جيرانه يغيرون على مملكته من كل صوب، وإذا حلفاؤه ينقضون الحلف ويثورون به يريدون أن يقضوا على سلطانه؛ وإذا هو على حداثة سنه وقلة حظه من التجربة، قد ثبت لهذا كله، فَصَدَّ المُغِير، وردَّ الحليف إلى الوفاء بالعهد، وقضى على أطماع جيرانه، ومحا آمال اليونان في الاستقلال، واتخذ من خصومه وأعدائه على اختلاف أجناسهم، وتباين أهوائهم، وتفاوت حظوظهم من الرقي العقلي، جيشًا ضخمًا منظمًا، عبر به البحر إلى آسيا. فلم يكد يظهر فيها حتى طرد الفرس من آسيا الصغرى، ومضى في طريقه يتبع ساحل البحر حتى أخضع البحر كله لسلطانه، وإذا هو في الشام، وإذا هو في مصر، وإذا هو وارث ملك الفراعنة، وإذا هو يؤسس عاصمة العالم الجديد، وإذا هو يترك مصر ويتعمق في آسيا، فيقضي على دولة الفرس ويرث عرشها، وإذا هو يجدُّ في غزوه ويُمْعِن في فتحه، فيبلغ الشرق الأقصى، ويُوغِل في الهند إيغالًا، ويرفع لواء الحضارة اليونانية والأدب اليوناني في أرض لم تسمع باليونان من قبل، وإذا هو يعود إلى بلاد الفرس ويستقر للراحة في بابل وقد ورث ملك الفراعنة والبابليين والآشوريين والفرس وسلطان اليونان والفينيقيين، وضم هذا كله إلى ملك مقدونيا الذي ورثه عن أبيه.
كل ذلك لم يرضه ولم يقنعه، وما كان استقراره في بابل إلا استعدادًا لحركة أخرى أشد عنفًا من الحركة الأولى وأبعد منها أثرًا؛ فقد كان يريد أن يستأنف السير فيعبر البحر إلى إفريقية، ويمضي في طريقه حتى يبلغ عمود هرقل أو مضيق جبل طارق، فيقضي على سلطان الفينيقيين في إفريقية الشمالية، ويبسط سلطانه على أوربا الغربية، ويقتحم هذا القسم من أوربا حتى يتم دورته، وينتهي إلى مقدونيا حيث ابتدأ حركته. كان يستعد لهذا كله، كان زعيمًا أن يتمه ويوفق له، لولا أن الموت عاجله فوقفه في منتصف الطريق!
كيف لا يكون عظيمًا هذا الشاب الذي فعل هذا كله في عشر سنين أو أقل من عشر سنين؛ نعم هو عظيم، ولم تخطئ الأجيال الماضية حين أضافت عظمته إلى هذه الحركة العنيفة الخصبة.
ولكننا مع ذلك نرى أن عظمة الإسكندر ينبغي أن تضاف إلى شيء غير هذا خليق بالخلود حقًّا؛ لأنه يتصل بالعقل لا بالأرض، فلم يكن الإسكندر قائد جيش ليس غير، وإنما كان قائد فكر قبل كل شيء وبعد كل شيء، وفوق كل شيء. لم يفهمه معاصروه، ولم يفهمه خلفاؤه، وفهمناه نحن، ولكننا لم نفهمه بعد كما ينبغي.
عد إلى الفلسفة اليونانية التي أزهرت في القرنين الخامس والرابع قبل المسيح، والتي انتهت بإفساد النظم السياسية واليونانية، ولم توفق لإيجاد نظم جديدة تخلفها؛ عد إلى هذه الفلسفة تجدها كانت تطمح، قبل كل شيء، وبدون أن تشعر إلى توحيد العقل الإنساني، والأخذ بنظام واحد في التصور والتفكير والحكم، ولم يكن بد إذا انتصرت هذه الفلسفة من أن تتقارب الشعوب وتتعاون على توحيد الحضارة وترقيتها، وعلى إيجاد نوع إنساني متحد الغاية متشابه الوسائل في مساعيه.
ولكن، ما السبيل إلى انتصار هذه الفلسفة؟ وما الوسيلة إلى تحقيق غايتها هذه؟ أما الدعوة والنشر فما كان من شأنهما أن يضمنا هذا النصر، ولا أن يحققا هذه الغاية. فكيف تتصور انتشار فلاسفة اليونان في البلاد الشرقية وإذاعة فلسفتهم في هذه البلاد، وإذا لم يُمَهَّدْ لذلك بإزالة الفروق السياسية والاجتماعية والاقتصادية بين اليونان وغيرهم من الشعوب! فَهِم الإسكندر هذا وجدَّ فيه فَوُفِّق له: وأخضع العالم القديم المتحضر كله لسلطان واحد، وأزال بين شعوبه تلك الفروق التي أشرنا إليها آنفًا، وأتاح للآداب اليونانية والفلسفة اليونانية أن تتغلغلا في أعماق الشرق وتؤثرا في نفوس الشرقيين، وتصبغاها هذه الصبغة اليونانية التي كانت قد أعدَّت من قبل لتكون صبغة عامة خالدة للعقل الإنساني كله. بل لم يكتف الإسكندر بإزالة هذه الفروق السياسية وإخضاع العالم القديم كله لسلطان واحد، وإنما طمع في شيء آخر أبعد مدًى وأعسر تناولًا: طمع في إزالة الفروق الجنسية بين الناس. لم يكتف بخلط الشعوب بعضها ببعض، بل أراد أن يمزجها ويستخلص منها شعبًا واحدًا. انظر إليه حين استقر ببابل، وقد أخذ في هذا المزج بالفعل، فبدأ يزاوج بين اليونانيين والمقدونيين من جهة، والفرس من جهة أخرى، حتى لقد أحدث في يوم واحدة عشرة آلاف من هذه المزاوجة، وأنفق في تشجيع هذه الحركة أموالًا ضخمة، وجعل نفسه وزعماء جيشه قدوة لعامة الجيش، بل لم يكتف بهذا، وإنما أزمع إحداث حركة عامة، وأراد أن ينقل طبقات ضخمة من الفرس إلى البلقان، وطبقات ضخمة من البلقان إلى الفرس، لا يريد بهذا كله إلا مزج الشعوب، وإزالة ما بينها من الفروق الجنسية. ولكن الموت عاجله قبل أن يبدأ في هذه التجربة التي لو تمت لغيرت وجه الأرض، ولحوَّلت سير التاريخ.
وسواء علينا أكان الإسكندر مصيبًا أم مخطئًا في هذه الفكرة وفي انتهاج هذا المنهج، وسواء علينا أوفق أم لم يوفق، وإنما الشيء الوحيد الذي لا شك فيه هو أن الإسكندر لم يكن يريد أن يفتح الأرض وحدها، وإنما كان يريد أن يفتح معها العقل، بل قل: إنه إنما كان يفتح الأرض تمهيدًا لهذا الفتح العقلي. بل لا تستعمل كلمة الفتح؛ فلم يكن الإسكندر فاتحًا بالمعنى الذي فهمته الأجيال المختلفة: لم يكن صاحب حرب وقهر وغلب، وإنما كان صاحب مودة ومحبة وإخاء وتسوية بين الناس. ولقد أُسْرِف في الإطالة لو أني تحدثت إليك بما لقي الإسكندر في ذلك من مشقة وعناء؛ فقد أنكره المقدونيون حتى ثاروا به وهو زعيمهم، وقد سخر منه اليونان، ودبر أولئك وهؤلاء المؤامرات، واضطر الإسكندر إلى أن يتخذ العنف وسيلة إلى قهر خصومه من أنصار القديم. كان الإسكندر قائد فكر كما كان قائد جيش، وقد وُفِّقَ في قيادة الفكر لما لم يوفق له في قيادة الجيش. وهنا عبرة تاريخية يجب أن يتفكر فيها من يريد أن يتعظ ويقدر الأشياء كما هي.
ظفر الإسكندر في قيادته العسكرية بكل ما كان يريد، فخضعت له أقطار الأرض، وورث تلك العروش التي ورثها، وعبدته الشعوب على اختلافها. ولكن هذا الظفر لم يدم؛ فلم يكد الإسكندر يفارق هذه الحياة، حتى تفرق أصحابه واختلفوا، وشبت الحرب بينهم، وتقطع هذا الملك، ولم يتم تكوين هذه الدولة التي كان يرمي إليها الفاتح العسكري، وأخفق الإسكندر في قيادته الفكرية أثناء حياته، فلم يتم له ما كان يريد من توحيد الشعوب، والتقريب بين العقول، وإيجاد حضارة واحدة مشتركة، ولكنه ظفر بهذا كله بعد موته؛ لأن فتحه العسكري قد غرس هذه الفكرة في جميع أقطار الأرض التي وطئتها جيوشه. ولم يكن بد من الوقت لتستطيع هذه الفكرة أن تنبت وتنمو وتؤتي ثمراتها. ولم يكد ينتهي القرن الثامن حتى كانت الحضارة اليونانية حضارة الشرق القديم، واللغة اليونانية لغة الشرق القديم، وحتى أخذ الشرق يشارك اليونان في آدابهم وفنونهم وفلسفتهم؛ حتى نشأ من اختلاط اليونانيين والشرقيين مزاج خاص، تستطيع أن تجده واضحًا جليًّا إذا درست الفلسفة الإسكندرية، أو آداب الإسكندريين، أو زرت المتاحف ورأيت هذه الآثار الباقية التي اشترك فيها الشرق واليونان. وما لنا نضرب الأمثال بهذه الأشياء التي لا يتاح للناس جميعًا أن يشهدوها وبين أيدينا مثلان لا يستطيع أن ينكرهما منكر: الأول الديانة المسيحية؛ فليست هذه الديانة إلا نتيجة لازمة لتعاون العقلين الشرقي والغربي، ومثالًا صادقًا لهذا المزاج الجديد الذي نشأ من هذا التعاون؛ ولهذا ظفرت الديانة المسيحية من الفوز في أوربا بما لم تظفر به الديانة اليهودية لأنها سامية خالصة، وبما لم يظفر به الإسلام لأنه أعرق في السامية من الديانة المسيحية، والثاني هذا التفاهم القائم بين الشرق والغرب؛ فمهما تكن الفروق بين الشرقيين والغربيين، فهي فروق سياسية أو اجتماعية أو جنسية.
أما الفروق العقلية فقد محيت محوًا تامًّا، وأصبح الشرقي والغربي يفهمان ويحكمان على نحو واحد؛ فليس هناك علم شرقي وعلم غربي، وليست هناك فلسفة شرقية يعجز الغربي عن فهمها، ولا فلسفة غربية يقصر الشرقي عن إساغتها. كل ذلك أثر من آثار الإسكندر؛ فهو الذي قارب بين الشرق والغرب، ومزج العقل الشرقي بالعقل الغربي، ولولا حركة الإسكندر هذه لكانت للشرق شؤون غير شؤونهما التي عرفها التاريخ.
والإسكندر إذن قائد من قادة الفكر، بل هو زعيم من زعماء قادة الفكر، بل هو أشد قادة الفكر القدماء إنتاجًا وأكثرهم نفعًا؛ فما قيمة الفلسفة اليونانية كلها لو لم يتح لها الإسكندر؛ ليذيعها في أقطار الأرض، ويبثها في مختلف الشعوب!