بين عصرين
ظن الذين ائتمروا بقيصر وقتلوه أنهم ائتمروا بما كان يمثله قيصر وقضوا عليه، وظنوا أنهم قد وفقوا لما كانوا يطمعون فيه من رد أمور الحكم إلى الشعب، ومحو السلطان الذي كان يحاول القضاء على الروح الديمقراطي، وما الذي يمنعهم أن يظنوا ذلك أو يؤمنوا به وقد ائتمر المؤتمرون من قبلهم بالطغيان فأزالوه، وانتدبوا لنصر الديمقراطية وحرية الشعوب فوفقوا له! ولكن كل شيء وقع بعد قيصر دل على أن هؤلاء المؤتمرين كانوا أصحاب خيال لا أصحاب تحقيق، وعلى أنهم لم يأتمروا بالطغيان، وإنما ائتمروا بما كان باقيًا من الديمقراطية، ولم يقضوا على الجديد وإنما قضوا على القديم، نعم! ودل كل شيء بعد قيصر على أن الذين كانوا قد ائتمروا من قبل بالطغاة والطغيان إنما وفقوا للفوز، لأن نظام الطغيان كان قد أضعف نفسه وانتهى إلى غايته، ولأن النظام الديمقراطي كان حديث العهد يكاد الناس يجهلونه، ولكنهم مع ذلك يحبونه؛ بل قل: إنهم كانوا يحبونه لأنهم يجهلونه.
وكان هذا النظام الديمقراطي يريد أن يعم ويسود، فلا يحاول بينه وبين ما يريد إلا هذا النظام العتيق: نظام الطغيان، واستئثار الأفراد والأقليات بالأمر، فلما أزيل هذا النظام العتيق خلت الطريق للجديد، فظهر وانتصر وسيطر على العقول والعواطف وفروع الحياة العملية.
أما في عصر قيصر، فقد كان الأمر على عكس هذا: كان الناس قد سئموا الحرية، أو قل كان الناس قد ضاقوا بهذه الحرية ذرعًا؛ لأنهم عجزوا عن النهوض بأعبائها فلم ينتفعوا بها ولم تنتفع بهم. وكان النظام الديمقراطي القديم قد أصبح عتيقًا مملولًا، ولا سلطان له على النفوس، ولا تأثير له في القلوب، وكان اختلاط الشعوب، واشتداد الصلة فيما بينها قد أثبتا عجز النظام الديمقراطي القديم عن سيادة العالم وضبط أموره، وكان العالم في حاجة شديدة إلى من يسوده ويضبط أموره في حزم وعزم. وكان قيصر هذا السيد الحازم العازم الذي أتيح له أن يزيل أنقاض القديم، وليتيح للجديد أن يظهر ويظفر ويسود. لذلك لم يحسن المؤتمرون بقيصر إلى الديمقراطية، وإنما أساءوا إليها، وتعجلوا قضاء الله فيها. وأنت تعلم أن جسم قيصر لم يكد يدس في التراب حتى كان أنصاره والمشيعون له أكثر من خصومه والساخطين عليه، وحتى اضطر الذين ائتمروا به وقتلوه أن يفروا بديمقراطيتهم وحريتهم إلى مكان بعيد، وأنت تعلم أن الذين نهضوا بالأمر بعد قيصر ما زالوا بهؤلاء المؤتمرين حتى ثأروا منهم لقيصر، وأنهم بعد أن فرغوا من هؤلاء المؤتمرين انقسموا على أنفسهم، واضطروا إلى أنواع من الجهاد كلفت العالم رجالًا وأموالًا، وجشمته خطوبًا وأهوالًا، وانتهت آخر الأمر إلى حيث كان قيصر قد انتهى من تثبيت سلطان الفرد من ناحية، وجمع الشرق والغرب تحت هذا السلطان من ناحية أخرى، واستقرار أغسطس حيث كان استقر خاله قيصر.
كل هذه الأحداث التي ألمح إليها تلميحًا، تدل دلالة واضحة قوية، على أنه قد آن لقيادة الفكر أن تنتقل من طور إلى طور، ومن يد إلى يد. وفي الحق أنك لا تكاد تنظر في التاريخ منذ ابتداء عصر القياصرة حتى تستيقن أن شيئين قد أخفقا إخفاقًا، وآن أن يقوم مقامهما شيئان آخران. فأما الشيئان اللذان أخفقا فهما الديمقراطية والفلسفة. وأما الشيئان اللذان قدرت لهما السيادة وكتب لهما الفوز، فهما الأوتقراطية والدين. وقد يكون من الحق والصواب أيضًا أن نقول إن كل شيء كان يدل في ذلك الوقت على أن الغرب قد أخفق، وعلى أن الشرق قد قدر له الفوز والانتصار، ومع ذلك فقد كان الغرب منتصرًا والشرق منهزمًا: ألم تكن جيوش الرومان قد وطئت أقطار الشرق وأخذت تستعمره وتستذله؟ ألم يكن أغسطس قد محا استقلال آخر البلاد الشرقية المستقلة وهي مصر؟ كان الغرب منتصرًا من الوجهة العسكرية، ولكن الشرق كان ينتصر من الوجهة العقلية والشعورية. أتظن أن من المصادفة المطلقة أن تنشأ الإمبراطورية في روما ويثبت سلطانها في نفس الوقت الذي يظهر فيه الدين المسيحي في الشرق وتبدأ الدعوة إليه؟! وهل كان النظام الإمبراطوري في الغرب إلا نحوًا من نظام الملك الشرقي؟! لقد عرضنا أمامك في الفصول الماضية ألوان الحياة اليونانية الرومانية، وصور الحكم في هذه الحياة، فما رأيت فيما عرضنا عليك نظامًا أوتقراطيًّا صحيحًا، وإنما رأيت حكمًا مقيدًا يتنقل بين الملكية والأرستقراطية الديمقراطية، ولكنه مقيد دستوريًّا على كل حال، ورأيت فيما عرضنا عليك أن اليونان والرومان لم يعرفوا نظام الدول الضخمة والإمبراطوريات الواسعة في أوربا، وإنما عرفوا في جميع أطوارهم نظام المدن الصغيرة المنفصلة المستقلة التي تتألف من حين إلى حين، ولكن كما يأتلف الأحرار المتحالفون. ورأيت كيف أخفق الإسكندر حين أراد أن يحقق النظام الأوتقراطي، ويكوِّن من الشرق والغرب دولة تخضع لهذا النظام. أما الآن فقد كان نظام الحكم المقيد قد أخفق، وكان نظام المدن المنفصلة قد أخفق أيضًا، وكان الاتصال بين الشرق والغرب قد قوي واشتدت أواصره وأخذت تظهر نتائجه، فما الذي يمنع قياصرة الرومان أن يحكموا العالم كما كان يحكم الفراعنة في مصر والملوك في بلاد الفرس؟ على أن انتصار الشرق — على وضوحه وظهوره — لم يكن كاملًا موفورًا. ولم يكن بدٌّ من أن يتم الجهاد وتنتهي التجربة إلى أقصاها وينهار النظام الغربي القديم أمام النظام الشرقي الجديد. ولم يكن ذلك ميسورًا إلا بعد أن يمضي وقت طويل يزداد فيه الاتصال بين الغرب والشرق شدة وقوة.
ومهما يكن من شيء، فقد فاز قيصر ومذهبه وانخذل النظام الجمهوري وأنصاره. ولم يكن إخفاق الفلسفة بأقل من إخفاق هذا النظام السياسي. وكيف لا تخفق وقد كثر الفلاسفة حتى جاوزوا الإحصاء، وكثرت مذاهبهم واشتد بينها الخلاف والتقاطع، وعجزت الفلسفة ومذاهبها عن أن تحقق للناس ما كانوا يريدون أو بعض ما كانوا يريدون؟ وأين هي آثار سقراط وأفلاطون وأرسطاطاليس في الحياة السياسية والاجتماعية؟ ألم تحتفظ المدن اليونانية التي كانت تدرس فيها هذه الفلسفة بنظمها القديمة التي اندفعت بها إلى الفوضى والاضطراب، وقادتها إلى الذلة والخضوع؟ وهل تريد دليلًا على إخفاق الفلسفة من الوجهة النظرية الخالصة أكثر من هذا الخلاف بين الفلاسفة، ومن اضطرار فريق منهم إلى أن يستأنفوا الشك في كل شيء كما كان يشك السوفسطائية في القرن الخامس قبل المسيح، واضطرار فريق آخر إلى أن ينصرف عن الفلسفة النظرية إلى الفلسفة الخلقية، واضطرار نفر من هؤلاء إلى أن يزهدوا في اللذة، ونفر آخرون إلى أن يتهالكوا عليها؟
عجزت الفلسفة إذًا عن إرضاء الحاجات السياسية للناس، كما عجزت عن إرضاء العقل والشعور؛ فلم يكن بد من أن تنزل عن قيادة الفكر، ولم يكن بد من أن يتولى الدين هذه القيادة. وأي دين هذا الذي يجب أن يخلف الفلسفة على قيادة الفكر؟ ليس هو الدين الوثني القديم؛ فقد جدَّت الفلسفة في هدم هذا الدين، ووفقت لتشكيك الناس فيه؛ وقد عجز الغرب عن أن يستبدل بهذا الدين الوثني دينًا جديدًا يستمسك به. واضطرب الغرب بين هذه الوثنية المضحكة وبين إباحية هادمة لكل شيء مقوضة لكل سلطان. وإذًا فَلِمَ لا ينتشر في الغرب دين شرقي كما انتشرت في الغرب سياسة شرقية؟!
كان هذا كله ظاهرًا بينًا في العصر الذي ولي أيام قيصر، ولكنه مع ذلك لم يتحقق إلا بعد جهاد طويل عنيف. فقد ناضل القديم فأحسن النضال: لجأت المدن الجمهورية إلى مجلس الشيوخ في روما، فناضلت القياصرة ما أتيح لها النضال، ولجأت النظم الوثنية إلى مجلس الشيوخ وقصور القياصرة، فجاهدت المسيحية ما استطاعت الجهاد. ولكن القرن الثالث للمسيح لم يبلغ آخره، حتى كان انتصار الشرق على الغرب تامًّا شاملًا. فأما آثار النظام الجمهوري فمحيت محوًا. وأما القياصرة، فقد أصبحوا فراعنة يُعْبَدون في العالم كله، على نحو ما كان يُعبد الفراعنة في مصر. وأما الوثنية فقد كانت تنفق أقصى ما تملك من عنف لتحتفظ بالبقاء، ولكن البقاء لم يكن قد قدر لها. وإذا القرن الرابع قد انتصف، وإذا المسيحية هي الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية كلها، وإذا المسيحية تضطهد الوثنية بعد أن كانت الوثنية تضطهدها، وإذا الشرق قد سيطر على الغرب بنظمه السياسية وميوله الدينية.
وأنت تعفيني طبعًا من أن أتحدث إليك عن المسيح كما تحدثت إليك عن سقراط وأفلاطون والإسكندر وقيصر، فليس المسيح في حاجة إلى أن تدرس شخصيته وآثاره وقيادته للفكر في فصل موجز كهذا الفصل، أو كتاب مجمل كهذا الكتاب.
هناك شيء لا سبيل إلى الشك فيه، وهو أن المسيح قد قاد الفكر الإنساني دهرًا، ولقد لقيت قيادته للفكر صعابًا أزالتها، وعقابًا ذللتها، وأتيح لها أن تستأثر وحدها بالسلطان في الشرق والغرب حينًا، ولكن هذا الحين لم يتصل، وقد أخرج عما رسمته لنفسي إن حاولت أن أفصل الأسباب التي حالت بين الدين المسيحي وبين الاحتفاظ بما كان قد وصل إليه من سيطرة على العالم القديم كله أو أكثره، وإنما ألاحظ أن هذا الدين المسيحي هوجم في وقتين متقاربين، من ناحيتين متباعدتين، وقد أتيح له الانتصار في إحدى هاتين الناحيتين، وقدر له الانقباض في الناحية الأخرى.
لم يكد ينتصر في الغرب حتى أخذت القبائل الوثنية المتبربرة تهاجم العالم الروماني القديم. وقد استطاع الدين المسيحي أن ينتصر على هذه القبائل المهاجمة ويظلها بلوائه شيئًا فشيئًا، حتى سلمت له أوربا، ولكنه بينما كان يسود في أوربا ويبسط لواءه على هؤلاء الوثنيين قليلًا قليلًا، كانت حركة أخرى تحدث في آسيا، في هذه الصحراء العربية التي لم يكد يظلها القرن السابع للمسيح حتى كانت كلها مائجة بظهور الإسلام. ولم يكد ينتصف عليها هذا القرن حتى كانت قد دفعت بأهلها في أقطار الأرض المجاورة، فإذا هم يفتحون ويمعنون في الفتح وينشرون دينهم الجديد؛ وإذا المسيحية تنقبض أمامهم في الشرق كما ينقبض أمامهم النظام السياسي القيصري أيضًا. ولستَ في حاجة إلى أن أفصل لك الصراع بين الإسلام والمسيحية، ولستَ في حاجة إلى أن أذكر لك أن ظهور الإسلام، مع أنه قد احتفظ للدين بقيادة الفكر الإنساني، قد قسمت به هذه القيادة بين دينين؛ فأما أحدهما فاستأثر بها في الشرق وهو الإسلام، وأما الأخر فاستأثر بها في المغرب وهو المسيحية.
وقد استقر الدينان كل في موضعه مع انبساط وانقباض من حين إلى حين، وتمت لهما قيادة الفكر عصورًا لا يكاد ينازعهما فيها منازع.
وإذا تبينت أمر الفلاسفة الذين ظهروا في الشرق والغرب في ظل الإسلام والمسيحية، وتبينت حظوظهم المختلفة من نعمة وبؤس ومن سعادة وشقاء. وتبينت أسباب هذا كله، فأنت مضطر إلى أن تلاحظ أن هذه الأسباب متشابهة وإن اختلفت أطوارها وبيئاتها، وأنها راجعة كلها أو أكثرها إلى فهم الناس للدين والفلسفة أكثر من رجوعها إلى الدين والفلسفة في نفسهما: راجعة إلى مقدار ما كان للناس من علم يعظم معه نصيبهم من حرية الرأي، أو جهل يضعف معه نصيبهم من هذه الحرية.
ومن غريب الأمر أن ما يسميه الناس اضطهادًا للفلسفة في ظل الإسلام أو المسيحية لم يحدث إلا من قوم كان جهلهم بالإسلام والمسيحية أكثر من علمهم بهما، وكان تعصبهم للمنافع والأطماع أشد من تعصبهم للدين. ماذا نقول! بل من غريب الأمر أن اضطهاد الفلسفة هذا لم يحدث في ظل الإسلام والمسيحية وحدهما، بل حدث في ظل الوثنية أيضًا ولنفس الأسباب التي أحدثته عند المسلمين والمسيحيين، وهي الجهل من ناحية، والمطامع والمنافع من ناحية أخرى. ولقد يكون من الحق على الذين يذكرون اضطهاد ابن رشد عند المسلمين، وتحريق من حرقوا عند المسيحيين، ألا ينسوا مقتل سقراط، وهرب أرسطاطاليس عند الوثنيين، وألا ينسوا أن هؤلاء الفلاسفة جميعًا إنما نكبوا في أيام فتنة ومحنة وجهل وانحطاط في السياسة والأخلاق.
استقرت قيادة الفكر للإسلام والمسيحية طوال القرون الوسطى، ولكن الله كان قد أراد أن تستردَّ الفلسفة والسياسة قيادة الفكر مرة أخرى؛ وقدر للإسلام والمسيحية أن يدعا قيادة الفكر بعدما استأثرا بها هذه القرون الطوال.
لستَ في حاجة إلى أن أفصِّل لك تاريخ النهضة الأوربية الحديثة، ولا ما كان من استكشاف الكتب الفلسفية والآثار الأدبية والفنية التي تركها اليونان والرومان، فأنت تعرف هذا مثل ما أعرفه؛ ولكني أحب أن تفكر معي قليلًا في هذه الآثار اليونانية والرومانية، التي كان كل شيء في القرن الأول للمسيح يدل على أنها قد أخفقت وأصبحت لا تصلح قوامًا للحياة العامة: ما بالها في القرن الخامس عشر والسادس عشر قد أخذت تفتن الناس عن أنفسهم وديانتهم وأخلاقهم وميولهم؟ وما بالها قد أخذت تستأثر بقلوب الناس، حتى إنهم ليعرضوا أنفسهم في سبيلها لمثل ما كان يتعرض له المسيحيون في محاربتها من سجن وموت، ومن ألوان التنكيل والتمثيل؟ بل ما بالها قد أخذت تثمر في هذا العصر الحديث ما لم تستطع أن تثمره في العصر القديم؟ لقد كانت الفلسفة اليونانية قد انتهت إلى الشك في العصر القديم، وعجزت عن إصلاح النظام السياسي والاجتماعي حتى سئمها الناس، وزهدوا فيها. ولكن الناس لم يكادوا يدرسونها في العصر الحديث حتى فتحت أمامهم أبواب الأمل والعمل، ومكَّنتهم من استحداث العلم وتغيير نظم الحياة، وانتهت بهم إلى ما هم فيه الآن من رقي. ما بالها أخفقت قديمًا وفازت حديثًا؟ قل في تعليل ذلك ما شئت فقد تصيب وقد تخطئ، ولكن مصيب من غير شك إن لاحظت معي أن هؤلاء الفلاسفة من اليونان، كانوا أرقى من الأجيال التي عاشوا فيها، وكانوا قد سبقوا هذه الأجيال إلى حيث لم تستطع أن تدركهم. ولم يكن بد من أن تنتظر فلسفتهم قرونًا طوالًا، حتى يتم نضوج العقل الإنساني فيحسن إساغتها واستثمارها. وهذا هو الذي كان: لم تكد تظهر هذه الفلسفة وتشيع بين المحدثين حتى آتت ثمرها طيبًا منتجًا؛ وإذا هي توجد نفرًا من الفلاسفة والساسة تولوا قيادة الفكر حتى انتهوا به إلى الثورة الفرنسية، ثم إلى ما نحن فيه الآن.