العصر الحديث
أما العصر الحديث، فيجب أن يتغير مذهبنا في البحث؛ لأن موضوع هذا البحث نفسه قد تغير، ولأن الظروف التي تحيط بالعقل الإنساني قد تغيرت تغيرًا عظيمًا، وظهرت فروق كثيرة بينها وبين تلك الظروف التي كانت تحيط بهذا العقل أثناء العصور القديمة والقرون الوسطى.
كانت قيادة الفكر للشعر، أو للفلسفة، أو للسياسة، أو للدين، وكان من الغريب أو من النادر أن تشترك هذه الأشياء اشتراكًا ظاهرًا في توجيه شعب من الشعوب أو عصر من العصور، وإنما كانت حياة الأمم المتحضرة في هذه العصور تصطبغ صبغة ظاهرة جلية: هي الصبغة الأدبية، أو الفلسفية، أو السياسية، أو الدينية؛ أما في هذا العصر الحديث، فأنت تضيع وقتك وقوتك إن حاولت أن تجد لشعب من الشعوب أو قرن من القرون صبغة واحدة تستأثر وتشتمل على جميع أطرافه؛ وإنما أنت مضطر حين تبحث عن قيادة الفكر أثناء العصر الحديث إلى أن توزعها بين أمور مختلفة؛ لأن ظروف الحياة نفسها قد وزَّعتها بين هذه الأمور؛ فلم تستأثر الفلسفة. ولم يستأثر الشعر، ولم تستأثر السياسة، ولم يستأثر الدين، بقيادة الفكر في فصل من فصول هذه القصص التي يكونها العصر الحديث، وإنما اشتركت هذه الأمور كلها في قيادة الفكر، وإن شئت التحقيق والدنو من الإصابة، فقل إن هذه الأمور كلها قد تنافست، واشتد بينها النزاع في قيادة الفكر، فقهر بعضها بعضًا، وأخذ كل منها بنصيب من توجيه العقل الإنساني والتأثير في الحياة والشعوب. وآية ذلك أنك تنظر في أي وقت من أوقات هذا العصر الحديث، فإذا أنت أمام فلسفة تجاهد لتسيطر على الحياة، وسياسة تجاهد لتصوغ الحياة كما تحب، ودين يناضل ليحتفظ بمكانته سلطانه، وأدب يجدُّ ليكون له التفوق والفوز، ولكل واحد من هذه الأشياء زعماؤه وممثلوه والداعون إليه والذائدون عنه، حتى في الأوقات التي يخيل إليك فيها أن أمرًا من هذه الأمور قد ظهر تفوقه واستأثر بالفوز والغلبة، فقد يخيل إليك أن عصر الثورة الفرنسية — مثلًا — كان عصر سياسة ليس غير؛ ولكن فَكِّرْ قليلًا وأتقِنْ درس هذا العصر، تَجِدْهُ عصر سياسة وعصر حرب، وعصر علم، وعصر فلسفة، وعصر تشريع، بل عصر دين أيضًا؛ وتجد كل هذه الأمور تزدحم وتتنافس وتستبق إلى قيادة الفكر تريد أن تستأثر بها وتسيطر عليها.
قد يكون من الحق أن نلتمس العلة لهذه الظاهرة الجديدة التي وزَّعت قيادة الفكر بين طائفتين من المؤثرات ولم تقصرها على مؤثر واحد، كما كان الأمر في العصور الأولى. ولعلنا لا نتكلف كثيرًا من العناء في التماس العلة لهذه الظاهرة، فقد نلاحظ أن المطبعة اخترعت في هذا العصر، وأنها أثرت فيها آثارًا لا سبيل إلى تقديرها؛ فأذاعت كتب القدماء والمحدثين، ومضت في هذه الإذاعة لا تقف عند حد ولا تنتهي إلى غاية، ولا تستطيع القوانين والنظم المختلفة أن تقيدها. فبينما كانت تذيع في هذا البلد الكتب الدينية، كانت تذيع في ذلك البلد الكتب الفلسفية، وكانت تذيع في بلد آخر كتبًا أدبية وعلمية وفنية، وبينما كان القانون يضيق عليها في هذا البلد فلا يبيح لها إذاعة كل شيء كان القانون يرخص لها في ذلك البلد فيتركها تذيع ما تشاء. وكان الكاتب أو العالم أو الفيلسوف لا يظفر بانتشار كتبه في العصور الأولى إلا إذا ظفر بشيء من الشهرة، وبعد الصيت يرغب الناس في آثاره؛ ولم يكن الظفر بهذه الشهرة سهلًا ولا يسيرًا. أما الآن فقد يسرت المطبعة على كل ذي رأي أن يذيع رأيه ويناضل عنه، وعلى كل باحث أن ينشر ثمرات بحثه بين الناس. ولم تكد تظهر المطبعة، وتأخذ فيما أخذت فيه من النشر والإذاعة، حتى ظهرت آثار ذلك قوية في حياة العصر الجديد، فكثرت الآراء واختلفت، أو قل ظهرت كثرة الآراء واختلافها، واستطاعت أن تجاهد وتختصم وتتنافس في قوة وسرعة لم يكن للناس بهما عهد من قبل.
ومن هنا استطاعت كل هذه الأمور التي ذكرناها آنفًا، وهي الفلسفة والأدب والسياسة والدين والعلم، أن تظهر وتلتمس حقها في الوجود وتظفر بهذا الحق. ومن هنا لم يكن العصر الحديث مصطبغًا بصبغة واحدة ظاهرة كالعصور التي سبقته، ومن هنا لم يكن من الحق ولا من الصواب أن تبحث في هذا العصر عن قيادة واحدة للفكر، أو عن نوع واحد من قيادة الفكر؛ إنما أنت مضطر إلى أن تبحث عن قيادات للفكر، وعن أنواع من قادة الفكر.
وخذ القرن السابع عشر مثلًا، والتمس فيه المؤثر في قيادة الفكر، فلن تستطيع أن تقول إنه كان عصر فلسفة خالصة، أو عصر سياسة خالصة، أو عصر أدب خالص، أو عصر دين خالص، وإنما كان عصر هذه الأشياء جميعًا، بل هناك ظاهرة أخرى ليست أقل من هذه الظاهرة خطرًا، وهي تمثل الاختلاف العنيف بين العصر الحديث والعصور التي سبقته، ولا سيما العصر القديم.
فقد كانت قيادة الفكر في العصور الأولى لأمر من هذه الأمور التي أشرنا إليها، وكانت في الوقت نفسه لأمة من الأمم، أو شعب من الشعوب.
كانت لليونان، ثم كانت للرومان، ثم كانت للعرب، ثم عادت إلى أوربا فكانت للكنيسة، أي لمدينة روما، أو قل: كانت قيادة الفكر لمدينة من المدن — لأثينا، وللإسكندرية، ولروما، ولمكة، وللمدينة، ولبغداد، وللقاهرة، ولقرطبة، ثم لروما. أما في العصر الحديث فقد تغير هذا كله، وكما أن قيادة الفكر لم تكن إلى الدين أو الفلسفة أو الأدب أو السياسة، وإنما كانت لها كلها، فهي لم تكن لأمة بعينها ولا لمدينة بعينها، وإنما كانت للأمم المتحضرة جميعًا، وللمدن الظاهرة في هذه الأمم — وذلك كله أثر من آثار المطبعة.
وخذ هذا القرن السابع عشر، وابحث عن الفلسفة فيه؛ فقد كانت في العصور الأولى يونانية، أو إسكندرية، أو عربية، أما الآن فلن تكون فرنسية، ولا إنجليزية، ولا ألمانية، وإنما لكل أمة من هذه الأمم فلسفتها. والأمر كذلك في الأدب، وهو كذلك في السياسة، وهو كذلك في الفن والعلم، ونوشك أن نقول إنه كذلك في الدين أيضًا.
للفرنسيين ديكارت، وللإنجليز باكون، وللفرنسيين شعراؤهم الممثلون، وللإنجليز شكسبير، وللفرنسيين لويس الرابع عشر وريشليو، وللإنجليز كرمويل، ونستطيع أن نذكر في الفلسفة والأدب والسياسة والدين والعلم والفن أسماء إيطالية وألمانية وهولندية.
وعلى هذا النحو اشتد توزع قيادة الفكر بين المؤثرات المختلفة من جهة، وبين الأمم والمدن من جهة أخرى، وأخذ يزداد شدة كلما كثرت المطابع وكثرت آثارها المنشورة حتى انتهى الأمر في القرن الثامن عشر، إلى شيء يشبه الفوضى، بل إلى الفوضى. وما أظن أني أقول جديدًا إن زعمت أن المطبعة من أهم المؤثرات في الثورة الفرنسية التي لم يفق منها العالم بعد.
ولم يقف الأمر بالمطبعة عند نشر الكتب والرسائل وما إليها، وعند استحداث ما استحدثت من الآثار في القرن السادس عشر والسابع عشر، ولكن المطبعة استتبعت شيئًا آخر غير الكتب والرسائل، استتبعت الصحف اليومية والدورية كما يقولون.
وما أظن أنك في حاجة إلى أن أدلك على أن ظهور الصحف السياسية والعلمية والأدبية، قد قوَّى توزع قيادة الفكر، وانتهى به إلى حد غريب، فقد كان العلماء والكتَّاب والفلاسفة والساسة ينشئون كتبهم وينشرونها، فيستغرق ذلك منهم الأشهر والأعوام، ويستتبع ذلك بطئًا فيما يكون بينهم من النزاع والنضال والاستباق إلى قيادة الفكر. أما بعد أن ظهرت الصحف فالنزاع يومي، أو أسبوعي، أو شهري، هو عنيف، وهو سريع، وهو متصل، وهو مؤثر في توزيع قيادة الفكر، بمقدار ما يشتد ويسرع ويستمر.
والنتيجة الظاهرة لهذا كله، هو أننا كنا نجد في العصور الأولى رجلًا يقود شعبًا، وشعبًا يقود العالم. أما الآن فقلما يظفر الرجل بقيادة مدينة، أو فرقة من مدينة، وهو إن ظفر بذلك، فإنما يظفر به إلى حد، وعلى مشقة وجهد، إلا أن يكون فذًّا من أفذاذ التاريخ حقًّا، أو يكون في أمة جاهلة لم تظهر المطبعة فيها بهذا السلطان العظيم، ولم يكثر فيها القراء والكاتبون.
أحب أن تلتمس قيادة الفكر — لا أقول في العالم، ولا أقول في أوربا وأمريكا، وإنما أقول في فرنسا وحدها الآن — لأي نوع من أنواع المؤثرات هي؟ أللفلسفة؟ ولأي فلسفة؟ ألفلسفة الوضعيين أم لأصحاب ما بعد الطبيعة؟ ولأي فريق من هؤلاء؟ أم هي للدين؟ ولأي دين؟ أللكاثوليكية أم للإنجيلية؟ أم هي للأدب؟ ولأي مذهب من مذاهب الأدب؟ فقد يكون إحصاء هذه المدارس عسيرًا. أم هي للسياسة؟ ولأي لون من ألوان السياسة؟ للجمهورية المعتدلة؟ أم للديمقراطية المتطرفة؟ أم للملكية؟ أم للإمبراطورية؟ أم للشيوعية؟ أم للاشتراكية؟ …
وتستطيع أن تسأل هذا السؤال بالقياس إلى كل بلد من بلاد أوربا الراقية.
وكأن المطبعة وما استتبعت من النشر والإذاعة، والصحف وما استتبعت من الإلحاح في النشر والإذاعة، لم تكن تكفي لتوزيع قيادة الفكر بين المؤثرات المختلفة، والأمم المختلفة، والفرق المختلفة، فاستحدث هذا العصر الجديد شيئًا آخر أو أشياء أخرى، يخيل إلينا في ظاهر الأمر أنها تعين على توحيد الكلمة، وجمع الرأي، وقصر قيادة الفكر على مؤثر بعينه أو أمة بعينها، ولكنها في حقيقة الأمر تجمع الناس، وتقرب ما بينهم من المسافات المادية والمعنوية، وهي في الوقت نفسه تمعن في توزيع قيادة الفكر إمعانًا غريبًا؛ وهذه الأشياء هي ما اتفقنا على تسميته أسباب المواصلات.
ألغيت المسافات أو كادت تلغى، لا نقول: بين الأمم والشعوب، بل نقول: بين القارات، إلى أن يأتي اليوم الذي تقول فيه الأجيال المقبلة: بين الأفلاك والكواكب، وأصبحنا بفضل البخار والكهرباء، وبفضل التلغراف والتليفون نستطيع أن نعرف في مصر آخر النهار، ما يقع في أقصى الغرب، أو أقصى الشرق، أو أقصى الشمال والجنوب في أوله؛ وأصبح الفيلسوف، أو الأديب، أو العالم، لا يكاد يخرج كتابه للناس في بلده الذي يعيش فيه، حتى ينتشر هذا الكتاب في أطراف الأرض، فإذا هو يدرس، ويلخص ويترجم؛ ويفسر، ويناقش في البلاد الأجنبية؛ وإذا هو يحدث آثارًا مختلفة في البلاد والبيئات المختلفة؛ وإذا آثاره تمعن في التغلغل، وتتعمق في حياة الشعوب — كل ذلك ولم يمض على ظهور كتابه عام أو بعض عام — وإذا أصداء هذا الكتاب المختلفة تتجاوب في أقطار الأرض، وترتد إلى حيث ظهر الكتاب؛ وأصبح الرجل من رجال السياسة لا يكاد يكتب فصلًا، أو يلقي خطبة، أو يفضي إلى أحد بحديث، حتى يتناول البرق ما قال أو ما كتب، فينشره في جميع أطراف الأرض، ولم يمض على قوله أو كتابته ساعات. ولعلك تلاحظ أنَّ الصلة بيننا وبين المدن الكبرى في أوربا وأمريكا، قد ألغت المسافة بالفعل فيما يتصل بالسياسة؛ فنحن نقرأ ما تكتبه الصحف الإنجليزية — مثلًا — في اليوم الذي تكتبه فيه، والإنجليز يقرءون ما نكتب وما نقول كذلك؛ بل تجاوز الأمر هذا الحد وأصبح الخطباء السياسيون في الأحداث الكبرى يلقون خطبهم، لا نقول في المئات والآلاف من الناس، بل نقول في مئات الآلاف.
وظاهر هذا كله أن قد اشتدت الصلة بين الجماعات، فقرب بعضها من بعض، واستطاع بعضها أن يفهم بعضها، وكان من المعقول أن يكون هذا كله سببًا في توحيد قيادة الفكر وقصرها على شعب من الشعوب، أو مدينة من المدن، أو لون من ألوان المفكرين، ولكن هذا ليس من الحق في شيء، وإنما الحق أنَّا لا نعرف عصرًا من العصور توزعت فيه قيادة الفكر، كما توزعت في هذا العصر.
ومصدر ذلك أن اصطناع المطبعة والصحف والبرق والتليفون وأدوات البخار والكهربا ليس مقصورًا على شعب من الشعوب، ولا على مدينة من المدن، ولا على فرقة من الفرق المفكرة، وإنما هو شائع بين أمم الأرض، وهذه الأمم كلها تجاهد وتناضل لتحيا وتسود، والأفراد في هذه الأمم يناضلون ويجاهدون ليحيوا ويسودوا، وهم يصطنعون هذه الأدوات، ويستعينون بها على ما يريدون من سيادة وقيادة للفكر.
والأفراد يتنافسون، والشعوب تتنافس، والنتيجة الظاهرة لهذا التنافس أن قيادة الفكر موزعة في الشعوب بين الأفراد النابهين، وهي موزعة في العالم بين الشعوب النابهة.
وإذًا فكل شيء يدل على أنه لم يبق أمل في أن نحصر قيادة الفكر في مؤثر بعينه، ولا في شعب بعينه، ولا في فرقة بعينها من فرق المفكرين: وإنما السبيل هو أن نبحث عن قيادة الفكر في كل مظهر من مظاهر الحياة العقلية على حدة، بل أن نوزع هذا البحث على الأمم النابهة والشعوب الممتازة.
ومع هذا كله، فقد أراد الله أن يخضع النوع الإنساني لظاهرة لم يجد إلى الآن سبيلًا إلى أن يخلص منها، وليس هو في حاجة إلى أن يخلص منها؛ والخير كل الخير هو أن يستمر خضوعه لها وتأثره بها.
هذه الظاهرة، هي ظاهرة النبوغ التي تكره الأمم والشعوب والإنسانية كلها أحيانًا، على أن تعترف بفرد من الأفراد، وتذعن لقوته العقلية أو الفنية أو السياسية، رغم ما فيها من قوى وكفايات، ومن جهاد بين هذه القوى والكفايات.
وليس هنا موضوع البحث عن النبوغ والتماس أصوله، والمؤثرات فيه، وإنما يكفي أن نلاحظ أن النبوغ ظاهرة اجتماعية عرفها أكثر العصور، ولم يستطع تغير الظروف واستحالة أطوار الحياة أن يمحوها، أو يزيلها، أو يضع من قدرها.
فقد تستطيع المطبعة أن تنشر وتذيع، وتسرف في النشر والإذاعة، وقد يستطيع الناس أن يجاهدوا ويناضلوا؛ ويستحدثوا الآثار المختلفة في ألوان الحياة وفروعها، ولكن شيئًا من هذا لن يستطيع أن يمحو نبوغ ديكارت، وأنه قد صبغ الفلسفة الحديثة بصبغة خاصة ممتازة، ووجهها وجهة خاصة مكنتها من الإنتاج والإثمار.
ولن يستطيع شيء من هذا أن يمحو ما كان لروسو من أثر في حياة الشعوب وفي سياسة العصر الحديث. ولن يستطيع شيء من هذا أن يمحو ما كان لفتكور هوجو من أثر في الشعر الفرنسي والأدب الفرنسي الحديث بوجه عام.
النبوغ إذًا ظاهرة اجتماعية واقعة، نشهدها من حين إلى حين، والأفراد النابغون مهما تعترضهم العقاب، ومهما يكتنفهم من الظروف، فلهم من قيادة الفكر، والسيطرة عليه حظ يلائم نصيبهم من النبوغ.
فإذا قلنا: إن قيادة الفكر في القرن السابع عشر لم تكن إلى الفلسفة وحدها، فنحن مضطرون إلى أن نقول: إن قيادة الفكر الفلسفي في هذا العصر، كانت إلى ديكارت. وإذا قلنا: إن قيادة الفكر في هذا العصر لم تكن للسياسة وحدها، فنحن مضطرون إلى أن نقول: إن قيادة الفكر السياسي في هذا العصر، كانت لريشيليو، وكرمويل، ولويس الرابع عشر.
وقل مثل ذلك في الأدب والفن والعلم والدين. وكل ما بين هذا العصر والعصور السابقة من الفروق، هو أن قيادة الفكر قد تنوعت في العصر الحديث، فأصبحتَ مضطرًّا إلى أن تقسم البحث عنها إلى فصول، وتلتمسها عند كثير من الناس في كثير من الأمم، بعد أن كنت تستطيع أن تجمع البحث عنها في فصل واحد، وتلتمسها عند رجل واحد، في شعب واحد، أو مدينة واحدة.
وبين يدينا كتاب «لإميل فاجيه» حاول فيه أن يدرك قادة الفكر في الأخلاق والسياسة وحدهما، وفي فرنسا وحدها، وفي القرن التاسع عشر وحده، فلم يستطع أن يكتب أقل من ثلاثة أسفار ضخام.
وما أشد ما كنت أحب أن أمضي في هذا الحديث؛ فأدرس النابهين من قادة الفكر المحدثين، كما درست النابهين من قادة الفكر القدماء؛ ولكنك ترى معي أن السِفْر قد طال، وانتهى إلى غاية يحسن الانتهاء إليها، والوقوف عندها، وأن درس المحدثين من قادة الفكر — على اختلاف ما تفرقوا فيه من فروع حياة العقول والشعور — يحتاج — لا أقول — إلى سفر آخر، بل إلى أسفار.
وأنا أتمنى — وما أكثر ما يتمنى الإنسان — أن يتيح الله لي من سعة الوقت وفراغ البال والنشاط لمثل هذا البحث، ما يمكنني من المضي فيه حتى أتمه، على النحو الذي قدَّمته في سِفْر أو أسفار؛ ولكن علم هذا كله عند الله.
فأنا أقدم إليك هذا السِّفْر الذي قدرت عليه، ولست أطمع في أن يبلغ منك مكان الرضا، وإنما أرجو أن يقع منك موقع النفع في غير مشقة ولا إملال.
وأظنك تأذن لي في أن أعتذر إليك مما قد تجد في هذا الكتاب من تفاوت واختلاف؛ فقد كنت أريد أن أفرغ لكتابته حينًا، ولكن ظروف الحياة أرادت غير هذا فكتبت بعض فصوله في بريطانيا، وكتبت بعض فصوله الأخرى في باريس، وأتممته في القاهرة، وكنت في بعض هذه الأوقات راضيًا مطمئنًّا، مستريحًا إلى الحياة والأحياء، فارغ البال إلا مما يلذ ويسرُّ، وكنت في بعضها الآخر ساخطًا أو كالساخط، مكدودًا، موزع القوة بين أعمال مختلفة من الدرس والكتابة، وغير الدرس والكتابة. ولعلي لا أجاوز الحق إن قلت: إني قد اختلست هذا الكتاب اختلاسًا: اختلست بعضه من أوقات راحتي في فرنسا، واختلست بعضه الآخر من أوقات عنائي في مصر، وأنا أتمنى لهذا الكتاب ألا يختلس قراؤه قراءته، كما اختلس كاتبه كتابته، وأن يتيح الله لقرائه ما لم يتح لي من الراحة والنشاط وفراغ البال.