دين وفلسفة
في رأينا أن مسألة وجود الله مسألة «وعي» قبل كل شيء، فالإنسان له «وعي» يقيني بوجوده الخاص وحقيقته الذاتية، ولا يخلو من «وعي» يقيني بالوجود الأعظم والحقيقة الكونية؛ لأنه متصل بهذا الوجود، بل قائم عليه.
والوعي والعقل لا يتناقضان، وإن كان الوعي أعم من العقل في إدراكه؛ لأنه مستمد من كيان الإنسان كله، ومن ظاهره وباطنه، وما يعيه هو وما لا يعيه، ولكنه يقوم به قيامًا مجملًا.
ونحن نخطئ فهم العقل نفسه حين نفهم أنه مقصور على ملكة التحليل والتجزئة والتفتيت، وأنه لا يعمل عمله الشامل إلا على طريقة التقسيم المنطقي، وتركيب القضايا من المقدمات والنتائج، وإثباتها بالبراهين على النحو المعروف.
فالعقل موجود بغير تجزئة وتقسيم … وهو في وجوده ملكة حية تعمل عملًا حيًّا، ولا يتوقف عملها على صناعة المنطق وضوابطه في عرف المنطقيين … وهو في وجوده هذا يقول: «نعم.» ويقول: «لا.» ويحق أن يقولهما مجملتين في المسائل المجملة على الخصوص.
وقد يخطى القول في بعض الأشياء، ولا يضمن الإصابة في كل شيء، ولكن الخطأ ينفي العصمة الكاملة ولا ينفي الوجود، فقد يكون العقل المجمل موجودًا عاملًا وهو غير معصوم عن الخطأ الكثير أو القليل، ولن يقدح ذلك لا في وجوده ولا في صلاحه للتفكير؛ لأن «التقسيم المنطقي» يخطئ أيضًا كما يخطئ العقل المجمل في أحكامه المجملة، ولا يقال من أجل ذلك: إن التقسيم المنطقي غير موجود أو غير صالح للتفكير.
فإذا قالت البداهة العقلية: «نعم … هناك إله.» فهذا القول له قيمة في النظر الإنساني لا تقل عن قيمة المنطق والقياس؛ لأنها قيمة العقل الحي الذي لا يرجع المنطق والقياس إلى مصدر غير مصدره أو سند أقوى من سنده، وقد كان العقل المجمل أبدًا أقرب إلى الإيمان، وأقرب إلى قولة «نعم.» في البحث عن الله، ولم يستطع التقسيم المنطقي أن يقول: «لا.» قاطعة مانعة في هذا الموضوع.
وقد أسفرت مباحث الفلاسفة المؤمنين عن براهين مختلفة لإثبات وجود الله بالحجة والدليل، ونحسب أننا نضعها في موضعها حين نقرر في شأنها هذه الحقيقة التي يقل فيها التشكك والخلاف، وهي أن البراهين جميعًا لا تغني عن الوعي الكوني، وأن الإحاطة بالحقيقة الإلهية شيء لا ينحصر في عقل إنسان، ولا في دليل يتمخض عنه عقل الإنسان، وإنما الترجيح هنا بين نوعين من الأدلة والبراهين، وهما نوع الأدلة والبراهين التي يعتمد عليها المؤمنون، ونوع الأدلة والبراهين التي يعتمد عليها المنكرون، فإذا كانت أدلة المؤمنين أرجح من أدلة المنكرين فقد أغنى الدليل غناءه، وأدى القياس رسالته التي يستطيعها في هذا المجال، وهي في الواقع أرجح وأصلح للاقتناع بالفكر — فضلًا عن الاقتناع بالبداهة — كما يبدو من كل موازنة منصفة بين الكفتين.
ولا يخفى أن قاعدة الإثبات والنفي في مناقشات الخصوم لا تنطبق على هذا الموضوع الجليل، فليس للعقل البشري خصومة في الإثبات، ولا خصومة في الإنكار … وليس على أحد عبء الدليل كله، ولا على أحد عبء الإنكار كله في البحث عن حقيقة الوجود.
ونحن لا نحصي هنا جميع البراهين التي استدل بها الفلاسفة على وجود الله، فإنها كثيرة يشابه بعضها بعضًا في القواعد وإن اختلفت قليلًا في التفصيلات والفروع، ولكننا نكتفي منها بأشيعها وأجمعها وأقربها إلى التواتر والقبول، وهي: برهان الخلق، وبرهان الغاية، وبرهان الاستكمال أو الاستقصاء، وبرهان الأخلاق أو وازع الضمير.
محمد الإنسان
من الأقوال المتواترة بين كثير من مؤرخي المسيحية، أنها انتشرت على يد بولس الرسول، ولو لم يعرف المسيحيون قبل ذلك بهذا الاسم لعرفوا في الغرب باسم «البولسيين» نسبة إلى «بولس» الذي كان يدعى قبل ذلك باسم شاؤل.
ويحمل الاستطراد بعض مؤرخي الغرب إلى التماس الشبه بين انتشار المسيحية، وانتشار الإسلام في خصلة كهذه بين محمد — عليه السلام — وخليفة من أكبر أصحابه، وهو الفاروق عمر بن الخطاب، ويزيدهم ولعًا بهذا التشبيه أن الفاروق كان أيام جاهليته أشد أبناء قريش إيذاءً للمسلمين، وكذلك كان بولس قبل إيمانه برسالة السيد المسيح، فإنه آمن بها وهو يتجرد لاضطهاد أتباعها في حملة من حملاته على الشام.
وهذه مشابهة مغرية بالمقارنة في أكثر ظواهرها وأشكالها، ولكنها تنقضي عند حقيقة واحدة غفل عنها أصحاب المقارنات بين الأديان، وتلك هي الفرق بين أثر الدعوة وأثر الداعي بالنسبة إلى الرجلين، فإن بولس الرسول لم يلق السيد المسيح ولم يعاشره على التحقيق، ولكن الفاروق كان هو نفسه غرسًا من غروس محمد — عليه السلام — وكان في كل ما عمله بعد إسلامه طالبًا مجتهدًا على يد معلم محبوب.
واجتماع الرجال الأفذاذ من قبيل ابن الخطاب هو مقياس العظمة الإنسانية في نبي الإسلام — صلوات الله عليه — فلم يحدث قط في تواريخ الدعوات الدينية، كتابية كانت أو غير كتابية، أن اجتمع حول داعٍ من دعاتها رهط من أفذاذ الرجال يدينون «لشخص» ذلك الداعي بالإجلال والمحبة، ويعترفون له بالتفوق والرجحان راضين مغتبطين كما اجتمع الفاروق وأقرانه حول نبي الإسلام، وقد ظل الفاروق طوال حياته يتحدث بعذوبة قول النبي له: «يا أخي.» مرة وندائه له بكنيته «أبي حفص» مرة أخرى، وظل غيره من الصحابة يحتفظون بكل أثر «شخصي» ظفروا به في أيام صحبتهم له سنوات بعد سنوات …
•••
كان للأنبياء والدعاة أصحاب كثيرون أو قليلون، ولكنهم لم يذكروا بين عداد العاملين أو بين أبطال التاريخ، ولم يجتمع قط في صحبة طويلة للأنبياء أمثال هؤلاء الأصحاب الذين حفوا بنبي الإسلام، ولا نحصيهم في هذا المقام، ولكننا نذكر منهم أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعليًّا، وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، ومعاذ بن جبل، ومعاوية بن أبي سفيان، وأبا عبيدة بن الجراح، والمقداد بن عمرو، وغيرهم من السابقين المتلاحقين في هذا الطراز، كل منهم أمة في رجل أو قائد على جيش، أو مؤسس لدولة أو سيد بين علية القوم يؤتم به ويهاب، وكلهم يلحظ في عشرته لنبيه أنه يعتز برئاسته وولائه، فضلًا عن إيمانه به إيمان المهتدي بهاديه المصدق الأمين.
ذلك مقياس للعظمة الإنسانية لم يتحقق قط لعظيم من عظماء بني الإنسان، ولا استثناء لأحد من العظماء الدينيين كان أو من العظماء الدنيويين.
فالصداقة العالية أكبر برهان من براهين العظمة المحمدية في صورتها الإنسانية، مع صورتها القدسية الإلهية.
ومحمد الصديق هو أعظم العظماء بين بني الإنسان بمقياس هذه «الظاهرة» النفسية الفذة في تواريخ العظماء.
•••
ولسنا نقول غير الحقيقة التي تثبت كل الثبوت بمعيار النفوس، إذا قلنا: إن محمدًا الزوج أعظم نفسًا وخلقًا من محمد الصديق.
إن الأراذل من المحترفين بالتبشير الديني قد ابتذلوا كل أدب من آداب الدين، وكل خلق من أخلاق الكرام، حين اتخذوا من زواج محمد — عليه السلام — مذمة يعيبونه بها، حاشاه بين رسل الله، بل يعيبونه بها بين عامة الخلق من عباد الله.
ولو كان محمد كما أرادوا أن يكون طالب متعة في زواجه، لكان على النقيض مما كان، لو كان كما أرادوا لكان في حريمه عشرات من أجمل العقائل والجواري، من بيوت العرب ومن سبايا العجم والروم، يرفلن في الحرير ويتحلين بالذهب والجوهر، ويأكلن على سماط كسماط قيصر وكسرى وبلقيس.
ولكنه كان وحوله من الزوجات الكهلة والشيخة، والتي مات عنها زوجها، والتي عزَّ عليها الزواج من غيره، ولم تكن بين هؤلاء غير فتاة عذراء واحدة هي بنت صديقه أبي بكر الصديق، وكنَّ جميعًا يشكين قلة المؤنة، وشظف العيش، ويخيرن بين الطلاق وبين البقاء على هذه الحال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِن اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (الأحزاب: ٢٨، ٢٩).
وإذا بحثنا عن بواعث الزواج النبوي كلها لم نجد بينها غير باعثين اثنين، كان لهما الأثر الأول والأخير في اختياره — عليه السلام — لكل زوجة من زوجاته، وهما مصلحة الدعوة والمروءة العالية.
فقد بنى بثلاث من زوجاته لأنهن بنات أصحابه الأوائل: أبي بكر وعمر وعثمان، وليس للأخوة في الله من سند إنساني في بلاد العرب أوثق من الأخوة في النسب والمصاهرة.
وأولى زوجاته خديجة — رضي الله عنها — كانت في نحو الأربعين يوم بنى بها وهو في نحو الخامسة والعشرين، ولم يكن وفاؤه لها وفاء الحس والمتعة؛ لأنه فضلها على أصغر زوجاته وأحبهن إليه: عائشة بنت الصديق، عليهما الرضوان …
وكانت أم سلمة مسنة حين قتل زوجها عبد الله المخزومي في واقعة أحد، ورملة بنت أبي سفيان تركت أباها لتسلم وتركت وطنها لتهاجر، وفارقها زوجها بغير عائل وهي في الحبشة، فطلبها النبي من النجاشي وتزوج بها لكي لا ترتد وهي عائدة إلى أهلها، وصفية الإسرائيلية خيرت بين العودة إلى قومها وبين العتق وزواج الحرائر غير السبايا … فاختارت زواجها بالنبي عليه السلام.
وأكرم ما كان من بواعث المروءة في اختيار زوجات النبي قد كان ذلك الزواج الذي خاض المبشرون في حديثه، وزعموه عشقًا غلبه على نفسه الكريمة، حاشاه، فطلقها من فتاه زيد ليضمها إليه.
فقد كانت زينب زوجة زيد بن حارثة من بنات عمومته — عليه السلام — رآها منذ طفولتها إلى يوم زفافها، ولم تكن من الغريبات اللاتي يفاجأ برؤيتهن لأول مرة في بيوت أزواجهن، وإنما كان كرم النبي هو الذي حبب إليه أن يرفع من شأن الأسير الغريب، فيجعله أهلًا لمصاهرته ومصاهرة بني هاشم من أبناء عمومته، وقد شق على الفتاة أن تسكن إلى العيش مع رجل من غير أكفائها، ثم شق على زيد أن يواجه النبي بتسريح بنت عمته بعدما كرمه بمصاهرته، فكان كرم النبي باعثه على إعفاء الزوج من ضنك هذه العشرة، وإعفاء الزوجة من إهمال يصيبها بعد طلاق يذلها، ثم يقصي عنها الخاطبين الذين لا يتقدمون مختارين إلى مطلقات الأرقاء، وتمت القدوة كما أرادها الإنسان بمروءته وأرادها النبي بتشريف الأسير وجبر الخاطر الكسير …
وإن الإنسان — حق الإنسان — ليعرف من أمر محمد في اختيار زوجاته جانبًا من المروءة المثلى في صاحب الدعوة الإلهية ينبئ عن تلك العظمة الإنسانية، التي تمثلت في مكانة الرجل بين صفوة الأبطال من عظماء الرجال؛ فهو كذلك لأنه إنسان عظيم، غاية ما ترتقي إليه شمائل الرجل العظيم.
ولقد كانت معاملة محمد لنسائه صفحة أخرى من صفحات تلك المروءة التي يسمو بها — إنسانًا عظيمًا — إلى شرف الرسالة الإلهية، فمن وصاياه، نبيًّا، أن خير الناس خيرهم لنسائهم، ومن رعايته لهن إنسانًا، قد ضرب للرجال مثلًا يعلو على غاية الغايات في العمل بتلك الوصية، فما من رجل مضت له في العشرة الزوجية سنوات طوال لم تفلت من لسانه الكلمة النابية، ولم تبد على وجهه اللمحة القاسية، ولم يلق امرأته بحالة من الشدة تبدر من الرجل للمرأة كما تبدر من المرأة للرجل، وهذه سيرة محمد مفصلة مطولة لم يهمل رواتها خبرًا من أخبارها، ولم يسقطوا حديثًا من أحاديثها التي تؤثر بالنقل والرواية، فما انتقلت إلينا منها كلمة زجر ولا نظرة سخط، ولا لمحة تأنيب أو زراية، ولم يكن له في حالة غير حال الرضا موقف أشد من موقف العتاب في صمت، أو السؤال في غير إقبال، وتلك شيمة من شيم الرفق الإنساني تتلاقى عندها طبائع الملائكة وطبائع البشر من أبناء آدم وحواء.
وليس هذا من صنيع رجل لا يعرف الغضب، فليس من لا يعرف الغضب بإنسان! ولكنها قدرة على النفس حيث تحمد القدرة في موضعها، وهي أحمد ما تكون من رجل إذا غضب حق الغضب استطاع أن يوقع بمن يغضب عليه ما ليس في طاقة الأقوياء، بله الضعفاء، ولقد غضب النبي على أناس خدعوه وكفروا نعمته، وقتلوا الآمنين من رجاله واستدرجوهم ليعلموهم الدين كما زعموا، فغدروا بهم وانتزعوا منهم ما أحسنوا به إليهم، فغضب الإنسان محمد، والنبي محمد، حيث يعاب الرضا والهوادة.
غضب على الغدر والشر والخداع والغلظة، وجزاهم الجزاء العدل وهم غير أهل للرحمة، ولم يحرمهم الرحمة وهي ليست عنده أو ليست من ألزم شمائله، بل حرمهم رحمته ورحمة الله؛ لأن الرحمة بهم قسوة على كل خلق شريف في الإنسان، فكان غضبه سواءً لرفقه ورحمته في خير ما يحمد من إنسان.
ولقد يكون الضعف الإنساني خير مقياس للعظمة الإنسانية في أرفع مراتبها، بل هو في الواقع أصدق قياسًا للعظمة الحقة من منازلة الأبطال الأشداء من الرجال، فإن من يغلب بقدرته قدرة تصارعها وتضارعها عظيم، ولكن القدرة التي هي أعظم من قدرة القاهر الغلاب قدرة تغلب نفسها باختيارها لترفق بالضعيف، الذي لا طاقة له بقهرها ولا غنى له عن رفقها، ولا أمل له في النصفة من غيرها، ولا حصر لمآثر النبي التي شمل بها الضعفاء في عنفوان قوته ونصره، ولكننا قد نحصرها كلها إذا ذكرنا منها تلك المروءة التي حببت إليه أن يجبر خاطر الأسير الضعيف المنقطع عن أهله، فيرفعه إلى مقام مصاهرته في أقرب الناس إليه، وتلك آية من آيات «الإنسانية» الحقة أروع ما فيها أن تأتي من النبي العربي القرشي الهاشمي، وليس أحق منه باعتزاز النسب في مقام المصاهرة.
وإن محمدًا الصديق لإنسان في الذروة من عظمة الإنسانية.
وإن محمدًا رب الأسرة لفي الذروة من رفق الإنسانية.
وإن محمدًا المنتقم لفي الذروة من بأس الإنسانية، وعدل الإنسانية والرحمة بالإنسانية.
وإن محمدًا السيد لفي الذروة من بطولة الإنسانية.
وإن محمدًا الأب قد عرف ضعف الإنسان فبكى بكاء الإنسان، فكان في موضع ضعفه نعم الأب الإنسان، ونعم النبي المرسل في آن.
بكى وهو يحمل جثة وليده الصغير إبراهيم على يديه، ونظر إلى الجبل فقال: «يا جبل! لو كان بك مثل ما بي لهدك، ولكن إنا لله وإنا إليه راجعون.»
وكان النبي الصادق الأمين أقرب ما يكون يومئذ من الإنسان الباكي الحزين، فلما انكسفت الشمس وقيل: إنها انكسفت لموت إبراهيم، أبت النبوة على الأب أن يبلغ بالبنوة هذا المبلغ في سورة الوجد عليها، فقال الأب الذي انكسفت الشمس حقًّا في عينيه: «كلا، إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تخسفان لموت أحد ولا حياته.»
بهذا الحزن الصادق وهذا الصدق الحزين استحق الإنسان محمد بمشيئة الله أن يصبح رسوله إلى الناس: واللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ (الأنعام: ١٢٤)، كما قال عزَّ من قال.
ومحمد الإنسان هو الذي استحق كرامة النبوة، فصنع في تاريخ الكون ما لم يصنعه قط إنسان سواه: أربعمائة ألف ألف من بني الإنسان هم اليوم في مشارق الأرض ومغاربها يقرنون اسمه باسم خالق الأرض والسماء كل صباح ومساء: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
ليلة القدر
لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (القدر: ٣).
والمتفق عليه بين جلة المفسرين أن ليلة القدر قد شرفت هذا التشريف لنزول القرآن الكريم فيها، ولا خلاف بينهم على هذا المعنى، ولكنهم — كعادتهم في تحقيق كل دقيقة وجليلة من تفاصيل الآيات والأخبار القرآنية — يفسرون نزول القرآن على كل وجه من وجوهه المحتملة، إذ يجوز أن يكون المقصود به ابتداء النزول، كما يجوز أن يقصد به نزول الكتاب كله جملة واحدة، ويشير القرطبي وابن كثير إلى قول القائلين: إن ليلة القدر اسم جنس لجميع الليالي التي تنزلت فيها الآيات، قد تبلغ عدتها عشرين ليلةً أو أكثر من عشرين ليلة على هذا الاحتمال، ولكنه قول لا يأخذ به الكثيرون، وإن أخذوا بتعدد الليالي التي تنزلت فيها آيات الكتاب.
والمفسرون الذين يحققون أن ليلة واحدة من ليالي شهر رمضان يرجحون أنها إحدى لياليه العشر الأخيرات، وأنها على الأرجح ليلة السابع والعشرين منه لأسباب لا محل لتفصيلها في هذا المقام.
ومن المفسرين من يرى أن نزول القرآن الكريم جملة واحدة هو المقصود بنزوله في ليلة القدر، ويعززون رأيهم بأن ابتداء نزول الآيات كان نهارًا، ولم يكن في ليلة من الليالي؛ لأنه من المتواتر أن النبي — عليه السلام — خوطب بأول آية كريمة وهو عاكف بغار حراء، وقيل له: اقرأ. فقال: ما أنا بقارئ، إلى آخر ما ورد في الحديث المشهور، ولكن الأمر الذي لا خلاف فيه أن سورة العلق التي افتتحت بهذه الآيات قد تمت بعد ذلك؛ لما ورد فيها من الإشارة إلى الأمور التي حدثت كما قال الأستاذ الإمام «بعد شيوع خبر البعثة، وظهور أمر النبوة، وتحرش قريش لإيذائه عليه السلام».
فلا خلاف على وجه من الوجوه في تشريف ليلة القدر لنزول القرآن الكريم فيها آيات متفرقة أو جملة واحدة، وإن حكمتها الكبرى أنها هي ليلة الفرقان كما جاء في سورة الدخان: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ.
فهي ليلة القدر؛ لأنها ليلة التقدير والتمييز بين الخير والشر، والتفريق بين المباح والمحظور، والأمر بالدعوة والتكليف، وهو أشرف ما يشرف به الإنسان؛ لأنه هو المخلوق المميز بالتكليف والمخصوص بالتمييز بين جميع المخلوقات، ومن أجل هذا فضل الإنسان على الملائكة؛ لأنها لا تتعرض لما يتعرض له الإنسان من فتنة التمييز بين المباح والمحظور، وفضيلة الوصول إلى الخير والامتناع عن الشر بمشيئة الحي المكلف المسئول، وقد افتتحت دعوة محمد — عليه السلام — بالأمر بالقراءة، واقتران تمييز آدم على الملائكة بفضيلة العلم، كما جاء في وصف الخليفة من الكتاب المبين: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (البقرة: ٢٨–٣٣).
وقد جاء وصف الإنسان بهذه المزية بعد الأمر بالقراءة في أول آية خوطب بها عليه السلام: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (القلم: ٣–٥).
وهكذا ينبغي أن نفهم معنى القرآن ومعنى الفرقان، ومعنى التقدير والتمييز الذي خُصَّ به الإنسان، ومعنى الأمر الحكيم الذي يفرق في ليلة القدر، بأمر العليم الحكيم …
فالشرف الذي فضلت به ليلة القدر إنما هو شرف التقدير والتمييز، وشرف القرآن والفرقان، وشرف التكليف الذي رفع به الإنسان إلى منزلة أشرف المخلوقات وحق عليه أن يذكره؛ لأنه محاسب عليه، فيذكر في كل يوم وليلة أنه مسئول عما يفعل وأنه مشرَّف بين الخلائق جميعًا؛ لأنه مناط السؤال والحساب.
وعلى هذا المعنى وحده ينبغي أن نفهم التقدير الذي يرتبط بنزول القرآن وبأمر القراءة والعلم الذي يفرق به كل أمر حكيم.
ومن حقائق البداهة التي يدين بها المؤمن بالله أنه — سبحانه وتعالى — يقدر الأقدار ويقسم الأرزاق، ويحيي ويميت، ويجري قضاءه في صروف الحوادث وأطوال الحياة والأحياء، ولكن اقتران ذلك بليلة واحدة من ليالي الزمن أمر لا يقول به المؤمن بالإله الواحد السرمد الذي لا أول له ولا آخر، ولا تأخذه سنة ولا نوم، وإنما يتخلص هذا الاعتقاد من بقايا الأديان التي ظلت تعدد الأرباب، وتخص كل رب منها بوقته وسماته، أو تشبهه بما يعده الإنسان من أعمال أصحاب التصريف والسلطان من بني نوعه المحكمين فيه، وتجعل للسعود والنحوس أيامًا تتعلق بمطالع النجوم، ومدارات الأفلاك، ويستنزلها العارفون بأسرار النجوم عندهم توسلًا إليها بشفاعة القرابين والضحايا، ورموز الطلاسم والعبادات.
ومن بقايا تلك العقائد الوثنية تسربت عقيدة التقدير في إحدى ليالي السنة، وسرت إلى بني إسرائيل بعد اختلاطهم بعباد النجوم والأرباب الأرضية أو الفلكية في أرض بابل، فأخذت سبيلها مع سائر الخرافات والإسرائيليات إلى عامة المسلمين، فظهرت في تلك الأساطير التي أحاطت بأخبار ليلة القدر، وعدلت بتلك الليلة المباركة عن معناها الذي يتصل به شرف الإنسان، وشرف التمييز والتكليف إلى معنى يناقضه، ويبطل حكمته ويبطل حكمة الإسلام في جملته؛ لأنه يرتهن السعادة والشقاء والمثوبة والجزاء بغير الأعمال والمقاصد، ويعود بها إلى أرصاد الليالي والأيام، ورموز الشفاعات والقرابين.
كان قدماء البابليين يحتفلون بسنتهم الزراعية، ويبتهلون إلى أربابهم في مطلعها أن يغدق فيها المطر، ويورق فيها الشجر، ويجعلها سنة أمن ورخاء ونعمة وثراء، لاعتقادهم أن أرباب النجوم تقضي في الليلة الأولى من مطلع السنة كل ما يقضى من أمور الخصب والجدب والرزق والحرمان والحياة والموت، وكان من عقائدهم أن للأعمار شجرة تخضر أوراقها أو تذبل مع اخضرار الشجر على الأرض وذبوله، فمن كتب له العيش اخضرت ورقته، ومن قضي عليه بالموت ذبلت ورقته وسقطت فلم يبق منه غير عود كعيدان الحطب بغير روح، وكان من عقائدهم مع هذا أن اخضرار الورقة وذبولها مرتهنان بمراسم الصلاة وطلاسم السحر التي يتولاها الكهان ويفرضون من أجلها القرابين والهدايا على طلاب الصلوات والدعوات.
وقد نقل الإسرائيليون كل ذلك إلى عيد من أعيادهم التي اختلطت فيها عبادة الإله بعبادة الأرباب الوثنية، ثم تسربت منهم إلى عامة المسلمين، وانخدع بها من غير العامة من كان يحسب أن القوم ينقلون ذلك عن مصادر الكتاب الصحيحة، فأضافوا إلى ليلة القدر أكثر ما كان يقال عن مراسم السنة الزراعية عند البابليين، ومراسم التفكير عند كهان إسرائيل.
ولعل انتقال بعضهم بليلة القدر إلى منتصف شهر شعبان، مع وضوح نسبتها إلى شهر صيام في القرآن الكريم، إنما جاء من ذلك الاعتقاد القديم في السنة الزراعية، إذ كان شهر شعبان إنما سمي بذلك لانشعاب عيدان الشجر فيه على ما جاء في روايات الجاهلية، فهو أشبه بما كان يقال في بابل القديمة عن شجرة الحياة وعما يعرض لها من «انشعاب» الأعمار بين الاخضرار والذبول.
لكنه في الواقع «انشعاب» آخر بين العقائد الإسلامية في صميمها وبين العقائد التي تخلفت عن عبادة الأوثان والأرباب من دون الله.
فالعقيدة الإسلامية في صميمها لا تتمثل في شيء كما تتمثل في التكليف والتمييز، وفي المخلوق العاقل المسئول الذي يدان بعمله ولا يصيبه الجزاء أو الغفران من عمل غيره، وهنا تنشعب العقائد بين ليلة القدر في شريعة المسلم، وبين أشباه هذه الليالي في كل شريعة يناط فيها قدر الإنسان بغير الأعمال والنيات، وإن المسلم ليعود إلى إسلامه الصحيح كلما احتفل بليلة القدر، وهو يذكر أنها ليلة فرقان وحساب، وأنه يدعو الله فيها ليشرف بما شرفته به الليلة المباركة من آيات التقدير والتذكير.
القصة في القرآن الكريم
القصص في اللغة هو تتبع الأثر لمعرفة المكان الذي نزل به أصحابه أو سلكوه.
ومن هنا قيل للحكاية عن القوم: إنها قصة؛ لأن من يحكي عنهم يتتبع أثرهم ليعرف خبرهم، فهو يقص سيرتهم في الزمان، كما تقص السير في المواقع والجهات.
وقد وردت الكلمة في القرآن الكريم بالمعنيين في سورة واحدة، فجاء في سورة الكهف: فَارْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصًا بمعنى تتبع الأثر لمعرفة الطريق، وجاء فيهما: نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى بمعنى تتبع الخبر في التاريخ.
ولكن كلمة القصص في القرآن الكريم تنصرف على عمومها إلى معنى الهداية إلى الأخبار والآثار الباقية من سير القرون الغابرة، وهي تساق في الكتاب لمقاصد كثيرة تجمعها كلها هذه المقاصد الثلاثة: فهي تساق للعبرة والموعظة، أو تساق للقدوة وتثبيت العزيمة، أو تساق للتعليم والهداية.
وتتلى قصص العبرة والموعظة في القرآن الكريم لتذكير الأحياء بمصائر الغابرين من الأمم الأولى، وكانت توصف بأنها أساطير الأولين من الكلام المسطور؛ أي المكتوب، وقد تكون الكلمة إحدى الألفاظ التي تعربت عن اليونانية؛ لأن «الأستوريا» عندهم بمعنى الخبر المسجل أو المعروف، ولا يبعد أن يكون اليونان قد أخذوها عن العرب؛ لأنهم أخذوا الكتابة عن الأمم السامية، وسبقهم عرب الشمال وعرب الجنوب إلى رسم الحروف، ولا تزال أسماء «الألفا والبيتا والجاما» عندهم منقولة من الألف والباء والجيم، بل يرجَّح أن كلمة «كلموس» اليونانية؛ أي «القلم» منقولة عن العربية؛ لأن القلامة أصيلة فيها، ومن مادتها «القصم والقضم والقطم والقحم والقرم»، وكلها تفيد القطع كما يفيده التقليم، وكذلك السطر والشطر بمعنى الخط أو القط في العربية، يقال: سطره وشطره وخطه وقطَّه بمعنى واحد، فليس من البعيد أن تنتقل هذه الكلمات مصاحبة للكتابة التي لا شك في انتقالها من الأمم السامية إلى اليونان.
وقد ترددت في القرآن الكريم أخبار الأولين على سبيل العبرة والموعظة، وكان مدارها جميعًا على تحذير الأمم الباقية من الاغترار بالمتعة، كما اغترت بها الأمم الخالية، وكانت هذه العظات ألزم العبر لتلك الأمم التي آمنت بالأوثان والأرباب، ولم تؤمن بالوحدانية، فإنها إذا علمت أن أربابها لا تحميها من الكوارث، ولا تقدر على إصابتها بها، ذهب إيمانهم بتلك الأرباب، ووجب عليها أن تبحث عن قوة إلهية تملك القدرة التي عجزت عنها معبوداتها.
وفي القرآن غير القصص التي تدعو إلى العبرة بمصير الكافرين أنباء تروى عن الأنبياء، الذين أرسلوا إلى الأمم الغابرة، فكذبتهم وتنكرت لهم، ثم ظهرت دعوتهم وحاقت النقمة بمن كذبوهم وأنكروهم، وبقيت قدوتهم لينتفع بها من يعمل عملهم، ويقفو أثرهم، ويلقى من قومه مثل ما كانوا يلقونه من أقوامهم … وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ كما جاء في سورة هود.
وهذه على الجملة حكمة القصص التي جاءت في الكتاب عن جهاد الرسل، وعاقبة الصبر على الدعوة، تثبيتًا للأفئدة وتبشيرًا للدعاة والمصلحين بعاقبة الصبر على الجهاد.
•••
ومن قصص التعليم والهداية في القرآن قصة موسى والخضر — عليهما السلام — يرى بعض المفسرين أنها درس لأصحاب الشرائع يفرقون به بين شريعة الظاهر وشريعة الباطن كأنهما على اختلاف، كما اعتقد أناس من القائلين: بالأسرار والإشارات الخفية، ويرى الثقات أن القصة درس لأصحاب الشرائع حقًّا، ولكنهم يفهمون من هذا الدرس أن سعة العلم من شروط القضاء بين الناس، وأن العدل منوط بمقدار ما يعلمه الحاكم من شئونهم، وحقائق أحوالهم، وأسباب مصالحهم، فلا يتساوى في العدل قاضٍ يعرف تلك الأحوال على حقائقها، وآخر ينظر فيها بما يبدو له من ظاهرها، وذلك درس لا غنى عنه لمن يقضي بشريعة من الشرائع تجري على قسطاس واحد، ولا يختلف فيها ظاهر وباطن، كما يعتقد القائلون بالأسرار والإشارات الخفية، فلا حاجة بالقاضي العادل إلى غير العلم بحقيقة القضية التي بين يديه، ثم لا يختلف فيها بعد ذلك قولان.
ومن الواجب أن نذكر أن قصص القرآن جميعًا تساق للموعظة والتعليم وحسن القدوة، وأنها تأخذ من التاريخ ما فيه الغنى لكل سياق أو مقصد يعنى به الدين، فليس المقصود بها تفصيل التواريخ ولا تسجيل الوقائع والسنين، وليست حكمتها موقوفة على شيء غير ما فيه الكفاية لهذه المقاصد كما يفهمها الناس.
ولكن الجانب التاريخي المحض من القصص الديني قد كان له درسه النافع للمتعجلين من أدعياء التحقيق العلمي منذ أوائل القرن التاسع عشر، لعلهم لا يستغنون عنه بعد انتصاف القرن العشرين، فقد كان ورود الخبر في كتاب من كتب الدين كافيًا عندهم للجزم باختلاقه وحسبانه في عداد الخرافات أو في عداد الخيالات الشعرية التي لم تحدث قط في غير أوهام الشعراء، فلم تمض سنوات على الشروع في حركة البحوث الحفرية، حتى ثبتت علامات الصبغة التاريخية لكل خبر من أخبار تلك الحوادث المشكوك فيها، وثبت أن علماء التاريخ كانوا خلقاء أن يجهلوا كل شيء عن تلك الحوادث لو لم يعلموا بها من مصادرها الدينية، قبل أن يتوفروا على حركة الحفر والتنقيب في آثار الشرق الأدنى وما جاور بلاد النهرين.
وفي هذه الأخبار ما كانوا يقرءونه في الكتب ويمرون به على غير انتباه؛ لأنهم لم يعرفوا له خطرًا جديرًا بالاهتمام في غير المصادر الدينية، فشكوا في وجود عاد وثمود، وشكوا في حملة الفيل وهلاك أصحاب الفيل، وشكوا في الزلازل والأعاصير والطوفانات والجوائح والحروب التي سيقت مساق العبرة في قصص القرآن، وانفرد بها أحيانًا بين كتب الأديان، فلما حققوا الآثار وصححوا المراجعة تبيَّن أن عادًا وثمود من أخبار بطليموس، وأن هلاك أصحاب الفيل من تواريخ الحبش والروم، وأن المدن التي ساخت بها الأرض أو عصفت بها الرياح حقيقة لا تقل في صدقها عن حقائق طيبة ومنف وطروادة ومسيني، وأن بقايا اللغة تقول لنا اليوم بعد المقارنة بين اللغات كل ما كذبوه من الأصول، أو من الصلات بين شعوب الأمس وأعراقه في أحاديث المتدينين، وأنهم هم في إنكارهم وتحقيقهم المزعوم قد أبدعوا لهذا العصر صورة جديدة من صور الخرافة لم تكن مقبولة عند المخرفين الأقدمين، وهي خرافة العالم الذي ينكر ما يجهل ويجهل ما ينكر، ويظن أن كلمة «التحقيق» وحدها سلطة تخولهم دون غيرهم حق الاستئثار بالرفض والإنكار.
وإذا أنكر هؤلاء المتعجلون كل شيء في الدين، فلعلهم لا يستطيعون أن ينكروا اليوم هذا الدرس الذي تعلموه من كتب الدين، فقد تعلموا على غير قصد منهم أن التعجل بالإنكار جهل شائن كجهل المتعجلين بالتصديق.
رمضان شهر الإرادة
كان منا رجل من رجال الأعمال، وسفير، وشاعر، وكاتب، وصحفي، ومنا المسلمون والمسيحيون، وجرى حديث الصحة ونظام التغذية المفضل فقال رجل الأعمال: «إنني تعودت بين حين وحين أن أصوم أسبوعًا أو أسبوعين عن كل طعام غير السوائل، وأفضل من السوائل عصير البرتقال.»
وقال السفير: «إنني أصوم فترة كهذه وأكتفي فيها كل يوم بوجبة أو وجبتين من اللبن، ولكني أفضل عليه السوائل الأخرى.»
وقلت: «إنني أعالج الصوم مرة في كل أسبوع، وأختار يومًا من أيامه للصوم عن كل طعام غير السوائل، وأفضل منها مغلي البابونج أو عصير الليمون الحلو أو عصير البرتقال، وقد أحتاج في أيام الأسبوع الأخرى إلى إسقاط وجبة من الوجبات الثلاث، وأكثر ما تكون وجبة العشاء.»
ولا أذكر مما قيل في هذا المعنى غير ما تقدم، ولكني على يقين أن القارئ يسمع في مجالسه مثل ما سمعنا في ذلك المجلس وفي غيره، فإن لم يسمع حديثًا عن الصيام لإصلاح المعدة سمع حديثًا عنه لاجتناب السمنة أو لزيادة نصيب الجسم من بعض الأغذية الحيوية، أو سمع عن الصيام السياسي الذي يراد به فرض رأي أو الاحتجاج على معاملة، فليس أكثر من أنواع الصيام في هذه الأيام.
ولا حاجة إلى الإفاضة عن الكلام على أنواع الصيام التي يعالجها الجنس اللطيف حرصًا على الرشاقة واعتدال القوام، أو رياضة له في سبيل الجمال تشبه الرياضة التي يعالجها اللاعبون في سبيل القوة والنشاط، فإن حديث الصيام من هذا القبيل في كل بيت وكل نادٍ، وبلغ من شيوعه أنه أخاف المصانع التي كانت تعول على الشراب الخفيف كالجعة والمنقوعات وما إليها، وتعلم أن وجود الجنس اللطيف مع الرجال أكبر مشجع على الإكثار من هذه الأشربة، فإننا نقرأ أخيرًا عن الجعة التي تخفف السمنة، وعن التي تزيل الرواسب وتحفظ على الجسم «هندامه» واعتدال قوامه.
ووراء هذه المنشورات مصالح تلك المصانع على الأقل في بعض الأحايين.
ليس زماننا إذن زمان الإعراض عن الصيام كأنه عادة من عادات الأقدمين التي عفى عليها الدهر كما يقولون، بل هو في الواقع زمان تزيد فيه ألوان الصيام ولا تنقص، ويكثر فيه اختلاف أنواعه ولا يقل، فما علمنا من عصر قط أنه استحق أن يسمى عصرًا «صياميًّا» كالعصر الذي نحن فيه.
ونقول: «الصيام على اختلاف أنواعه.» لأن الأنواع التي ذكرناها آنفًا ليست هي كل الصيام الذي يشتغل به أبناء العصر الحاضر، فتلك جميعًا أنواعٌ «جسدية» تراد لحفظ الصحة أو حفظ الرشاقة أو حفظ القوة والنشاط، وغيرها كثير من أنواع الصيام يدرسها أبناء العصر الحاضر، ولا يطلق عليها وصف «الأنواع الجسدية» … لأنها تراد لتربية الخلق ورياضة النفس، وتعويد الإنسان أن يملك عاداته كما يشاء.
وقد تفتَّح باب البحث في هذه «الصيامات» على أثر التوسع في دراسة الأديان والمقارنة بينها، وعلى أثر التوسع في الدراسات النفسية وعلاقة العقل فيها بالبنية، وعلى أثر القول بإمكان توليد الأمراض العقلية وشفائها بتعاطي بعض العقاقير أو الامتناع عن بعض أصناف الطعام.
وكثر الكلام على «اليوجا» الهندية، كما كثر الكلام على عادات المتصوفين والنساك التي ملكوا بها زمام أجسادهم وضمائرهم، فلا يقل الكلام على الصيام في سبيل الروح والضمير عن الصيام في سبيل الجوارح والعضلات.
والصيام الذي فرضته الأديان أحق هذه الأنواع بالبحث عن دواعيه وعن معانيه، وقد طال القول في أصل الصيام الديني قديمًا قبل ظهور الأديان الكتابية، فلا حاجة بنا إلى استقصائه في هذا المقام.
أما حكمة الصيام في الأديان الكتابية، فهي محصورة في أغراض معدودة: وهي تعذيب النفس والتكفير عن الخطايا والسيئات، وتربية الأخلاق على نحو من الأنحاء.
والدين الإسلامي هو الدين الكتابي الوحيد الذي فرض كتابه الصيام فترة معروفة من الزمن على نحو معروف من النظام.
ولا خلاف بين الأئمة في الحكمة المقصودة بهذه الفريضة، وهي تقويم الأخلاق وتربيتها، وإن تعددت الأخلاق التي تذكر في هذا المقام.
فمن الجائز كثيرًا أن صيام الغني يعلمه الرحمة بالفقير، ولكنه مقصد لا يشمل الفقراء كما يشمل الأغنياء، وكما ينبغي في كل فريضة عامة لا تخصص بإنسان ولا بطائفة من الناس.
أما الخلق الذي يعم الأغنياء والفقراء ولا يستفاد من فريضة عامة كما يستفاد من الصيام، فهو «الإرادة» ألزم الصفات لكل إنسان، إن الإرادة لازمة في كل تكليف وفي كل تبعة وفي كل فضيلة، فلا قوام للفرائض جميعًا بغير هذه الإرادة.
وهي لازمة للفقير لزومها للغني، فإن كان أحدهما أحوج إليها من الآخر فهو الفقير؛ لأن الغني قد يجد عنده ما يعوض التفريط في أعمال الإرادة والعزيمة والحزم والمضاء، وليس هذا العوض ميسورًا للفقير إلا بزيادة الجهد والعناء.
الإرادة إذن هي فضيلة الفضائل في الصيام.
ومتى عرفت هذه الحكمة فآداب رمضان كلها محصورة فيها مستفادة من معناها، ولا حاجة بالصائم إلى أدب غير أن يذكر أنه يريد الصيام، وأنه يقوم بفريضة يطلبها ويعلم نفعها، ويحمل جهدها، وإن لم تكن مفروضة عليه.
فليس من أدب رمضان أن يتململ الصائم وأن يتجهم لمحدثيه، وأن يبدو منه ما يدل على الضيق بالفريضة كأنه مكره عليها مطيع لها بغير رضاه.
وليس من أدب رمضان أن يهرب الصائم من إرادته بقضاء النهار كله في النوم تاركًا للطعام؛ لأنه غافل عن مواعيده غير متنبه إليه.
وليس من أدب رمضان أن يفلت زمام الإرادة بعد غروب الشمس، فلا يعرف الصائم له إرادة تصده عن الإفراط في الطعام والشراب إلى موعد الإمساك.
وليس من أدب رمضان أن يصوم الإنسان وهو معرَّض للتهلكة بصيامه، فإن من كان مريضًا لم تجب الفريضة عليه، ولا معنى لأداء الفريضة إذن إلا أنه يريد لنفسه الهلاك، وهذا محرم عليه.
كلمة «الإرادة» وحدها تلخص آداب رمضان، ولا تحتاج إلى إسهاب في تفسيرها وتعديد أنواعها.
ومزية رمضان أنه فريضة اجتماعية مع فرضه على آحاد المكلفين، فهو موعد معلوم من العام لترويض الجماعة على نظام واحد من المعيشة، وعلى نمط واحد من تغيير العادات، وليس أصلح لتربية الأمة من تعويدها هذه الأهمية للنظام ولتغيير العادات شهرًا في كل سنة، تتلاقى فيه على سنن واحد في الطعام واليقظة والرقاد، وما يستتبع ذلك من أهبة الجماعة كلها لهذا الشهر خلال العام.
وإذا استطاعت الجماعة أن «تريد» ذلك التنظيم وذلك التغيير، فليس ثمة نمط من أنماط المعيشة لا تستطيعه على هذا المثال في الشدة أو الرخاء.
رمضان شهر الإرادة؛ أدبه أدب الإرادة، وحكمته حكمة الإرادة، وليست الإرادة بالشيء اليسير في الدين والخلق، فما الدين وما الخلق إلا تبعات وتكاليف، وعماد التبعات والتكاليف جميعًا أنها تناط بمريد.
ومن ملك الإرادة فزمام الخلق جميعًا في يديه.
لو عاد محمد عليه السلام
من الأماثيل التي تعاد ولا تمل أمثولة للكاتب الروسي «ديستيفسكي» عن السيد المسيح ومحكمة التفتيش في قصة الإخوة كرامزوف.
وخلاصة الأمثولة أن السيد المسيح عاد إلى الأرض، وأخذ في وعظ الشعب وتبشيره بالملكوت، فأقبلوا عليه واستمعوا له، وأوشكوا أن ينفضوا عن وعاظهم ودعاتهم المعهودين، فأشفق هؤلاء على مكانتهم وأوعزوا إلى رئيس محكمة التفتيش، فاعتقله وتوعده بالمحاكمة والحكم عليه لتضليله الشعب، والانحراف به عن تعاليم السيد المسيح! وقال له: إن هؤلاء الذين يقبلون عليك اليوم هم أول الثائرين عليك، وأسبق المبادرين إلى تنفيذ القضاء فيك …
أمثولة تعاد ولا تمل؛ لأن العبرة بها لا تنقضي في حقبة واحدة، ولا تزال عبرة الدهر كله في أحاديث المصلحين والمفسدين.
ولم يبالغ الكاتب العظيم في تخيله، فإنما يكون مبالغًا لو كان ما تخيله بعيدًا أو غريبًا في بابه، ولكنه في الواقع أقرب شيء إلى الاحتمال مع هذه البشرية التي تختلط فيها الشيطانية والخنزيرية والحمارية في وقت واحد، فلا تزال حربًا على من ينفعها وألعوبة في أيدي العابثين بها، وإن كرروا العبث بها كل يوم مراتٍ بعد مرات.
لو عاد السيد المسيح لأنكره كثيرون ممن يعيشون باسمه وينتحلون هدايته.
ولو عاد محمد — عليه السلام — لكان له نصيب كذلك النصيب ممن يرفعون العقيرة بهداية الإسلام والإسلام بريء منهم، وكل ما هنالك من خلاف أن المسألة لا تمر بتلك السهولة التي توهمها رئيس محكمة التفتيش، أو من يتصدى في الإسلام لمثل عمله، وأنه سيندم على فعلته ندمًا يكفر عن سيئاته، إن كانت سيئاته مما يقبل التكفير.
وأسأل نفسي كيف ينتفع المسلمون على أحسن وجوه النفع بعودة النبي — عليه السلام — فترة قصيرة من الزمن؟ وما هي المسائل التي يرجعون بها إلى شخصه الكريم فيسمعون منه فصل الخطاب فيها؟
أسأل نفسي فتخطر لي مسائل خمس يرجع فيها إلى شخصه الكريم، ويغني جوابه فيها كل الغناء، فلا لجاجة ولا اختلاط ولا حاجة إلى الاجتهاد والتأويل من مجتهد أو مقلد، وما أشبه الاجتهاد والتقليد في هذا الزمان!
تلك المسائل الخمس هي: مسألة الأحاديث النبوية، ومسألة الروايات في قراءة الكتاب المجيد، ومسألة الخلافة والملك، ومسألة الرسالة والنبوة بعد خاتم المرسلين، ومسألة المذاهب الاجتماعية الحديثة، وحكم الإسلام عليها، وقول نبي الإسلام فيها.
مسألة الأحاديث النبوية
إن رجال الحديث قد بلغوا الغاية من الاجتهاد المشكور في جمع الأحاديث وتبويبها، وتقسيم رواتها وأسانيدها، وقد جعلوا من أقسامها الثابت والراجح والحسن المقبول والضعيف، والمشكوك فيه والمرفوض، وجعلوا لكل قسم شروطه وعلاماته، فأصبح الحديث بفضل هذه الشروط والعلامات علمًا مستقلًّا يتفرغ له علماء مستقلون.
وبعد كل هذا الجهد المشكور لا تزيد الأحاديث الثابتة على عشر الأحاديث المتداولة في الكتب وعلى الألسنة.
وكلمة واحدة من فمه الشريف — عليه السلام — ترد الأمور جميعًا إلى نصابها: «لم أقل هذه الأحاديث!» وينتهي القيل والقال ويبطل الخلاف والجدال، ويبطل معهما بلاء أولئك المحدثين الذين يستندون إلى الحديث الكاذب في التضليل وترويج الأباطيل.
قراءات القرآن
ومسألة الروايات القرآنية دون مسألة الأحاديث في أشكالها ونتائج الاختلاف عليها، فإن الروايات التي لم يتفق عليها القراء لا تغير شيئًا من أحكام القرآن، ويمكن الأخذ بها جميعًا ولا ضرر في ذلك ولا ضرار.
إلا أنها لا تحتمل أقل اختلاف مع وجود النبي الذي تنزل عليه القرآن، فما يقوله فيها فهو مجتمع القراءات ومرجع الروايات، ومتى استمع الناس إلى تلاوته — في عصر التسجيل — فتلك ذخيرة الأبد في ذاكرة الأجيال، وسيبقى صوته بتلاوة القرآن أول ما يسمعه السامعون في مجالس الذكر الحكيم.
الخلافة والملك
وتأتي مسألة الخلافة، بل معضلة الخلافة.
تلك المعضلة التي سالت فيها بحور من الدماء وجداول من المداد، وبقيت وراء كل انقسام نذكره في الإسلام حين نذكر السنة والشيعة والإماميين والزيديين والإسماعيليين والنزاريين، وحين نذكر الهاشميين والأمويين والعباسيين والفاطميين وغيرهم من المنقسمين وأقسام المنقسمين.
بم أوصيت يا رسول الله في أمر الخلافة؟ وهل أوصيت بها دينية أو دنيوية؟ وهل تريدها اليوم على هذه أو على تلك من صفاتها وأحكامها؟
فإذا قال عليه السلام: أوصيت بكذا ولم أوصِ بكذا، فكأنما مسح بيده الشريفة على تلك الصفحات والمجلدات، فإذا هي بيضاء من غير سوء، وإذا هي بقية من بقايا الماضي تحال إلى دار المحفوظات للعبرة والحذر، أو يلقى بها حيث لا حس ولا خبر.
وكفى الله المؤمنين شر القتال وذكرى القتال.
الرسالة بعد خاتم المرسلين
والخطب أهون من ذلك جدًّا في مسألة الرسالة والنبوة بعد خاتم المرسلين، فإن المخالفين للإجماع في هذه المسألة واحد في كل خمسمائة مسلم، وسينتهي خلافهم عما قريب، ولكن إذا انتهى بكلمة من الرسول الذي يؤمن به المسلمون جميعًا، فتلك هي النهاية الفاصلة، وقد تمنع في المستقبل أضرارًا لا يقاس عليها ضررها في الوقت الحاضر، وخير من واحد ينشق على خمسمائة أن يتفق الخمسمائة فلا ينشق منهم واحد.
المذاهب الاجتماعية الحديثة
وما قولك يا رسول الله في دعاة المذاهب العصرية من اجتماعية أو غير اجتماعية؟
لا حاجة إلى السؤال عن الديمقراطية، فإن سابقة الإسلام فيها أصلح من كل سابقة.
ولا حاجة إلى السؤال عن الفاشية، فإن الإسلام يمقت الجبارين والمتجبرين.
ولا حاجة إلى السؤال عن الشيوعية الماركسية، فإنها ملعونة في كل دين.
وإنما يسأل النبي — عليه السلام — في الاشتراكية فيقول ما قاله القرآن، حيث نهى أن تكون الثروة «دولة بين الأغنياء» … ثم يسأل عن شرحها فيتلقاه منه المسلمون على أقوم المناهج وأسلم الحلول.
وتأتي على الهامش أسئلة عن ترجمة القرآن وعن حقوق المرأة، وعن دعاوى المدعين في الأحكام والقوانين باسم الدين، وعن أحاديث شتى مما يتحدث عنه الصحفيون وأشباه الصحفيين.
ويسمع من النبي — عليه السلام — في أولئك كله جواب يغني عن ألف جواب أو عن كل جواب.
ونعود إلى محكمة التفتيش وما يشبه محكمة التفتيش بين المسلمين.
إن كانت هذه السطور آخر من يؤمن بإقناع العقول، أو بسلطان البرهان في الإقناع.
إن كاتب هذه السطور قد رأى بعينيه أناسًا أغرب وأصفق ممن ينكرون الشمس في رائعة النهار.
وليس بالمستحيل عندي أن يعاندك المعاند ويكابرك المكابر في «اثنين واثنين يساويان أربعة وفي واحد وواحد يساويان اثنين».
بل ليس بالمستحيل عندي أن يكابرك المكابرون في معنى الواحد ومعنى الاثنين، وأن هذا خمسة وليس بواحد وذلك صفر وليس برقم من الأرقام.
فإذا عاد النبي — عليه السلام — وقضى قضاءه في أحكام الإسلام، فلا والله لا يعدم الناس من يشكك في كلامه وبيانه، وفي ملامح وجهه وعلامات جثمانه، ولا والله لن يسلس المقاد ممن يلج في العناد، ويضيع عليه الجاه أو الغنى بما قضاه الرسول وتلقاه الناس منه بالتسليم والقبول.
غير أنه — فيما نحسب — عناد لا ينفع أصحابه، ولا يطمعون في الرجاء منه حتى تفجأهم الحوادث بالندم عليه، وصلى الله على محمد في الأولين والآخرين، فما هو إلا أن يعود فلا تعز عليه هداية المهتدين ورياضة الذين لا يهتدون، فلا يصدون أحدًا عن الدنيا ولا عن الدين.
لو عاد السيد المسيح
في إحدى روايات الكاتب الروسي العظيم — دستيفسكي — بطل من أبطال الرواية يتخيل أن السيد المسيح عاد إلى الأرض في طوفة عابرة، ونزل بأشبيلية في إبان سطوة «التفتيش»، فوعظ الناس وصنع المعجزات، وأقبل عليه الضعاف والمرضى والمحزونون يلثمون قدميه ويسألونه العون والرحمة.
وإنه ليمضي بين الشعب يضفي عليهم حبه وحنانه، ويبسطون له شكاياتهم ومخاوفهم إذا برئيس ديوان التفتيش — المفتش الأعظم — يعبر بالمكان، ويتأمل السيد والشعب من حوله هنيهة، ثم يشير إلى الحراس ويأمرهم أن يعتقلوه ويودعوه حجرة السجناء في انتظار التحقيق.
ويأتي المساء فيذهب المفتش الأعظم إلى الحجرة، ويقول للرسول الكريم: «إنني أعرفك ولا أجهلك؛ ولهذا حبستك، لماذا جئت إلى هنا؟ لماذا تعوقنا وتلقي العثرات والعقبات في سبيلنا؟»
ثم يقول له فيما يقول: «إنك كلفت الناس ما ليست لهم به طاقة، كلفتهم حرية الضمير، كلفتهم مؤنة التمييز، كلفتهم أوعر المسالك فلم يطيقوا ما كلفتهم وشقيت مساعيهم بما طلبت منهم … والآن وقد عرفنا نحن داءهم وأعفيناهم من ذلك التكليف، وأعدناهم إلى الشرائع والشعائر، تعود إلينا لتأخذ علينا سبيلنا، وتحدثهم من جديد بحديث الاختيار وحرية الضمير؟
ليس أثقل على الإنسان من حمل الحرية، وليس أسعد منه حين يخف عنه محملها، وينقاد طائعًا لمن يسلبه الحرية ويوهمه في الوقت نفسه أنه قد أطلقها له، وفوض إليه الأمر في اعتقاده وعمله، فلماذا تسوم الإنسان من جديد أن يفتح عينيه، وأن يتطلع إلى المعرفة وأن يختار لنفسه ما يشاء، وهو لا يعلم ما يشاء؟
إنك منحتنا السلطان قديمًا وليس لك أن تسترده، وليس في عزمنا أن ننزل عنه، فدع هذا الإنسان لنا وارجع من حيث أتيت، وإلا أسلمناك لهذا الإنسان غدًا وسلطناه عليك، وحاسبناك بآياتك وأخذناك بمعجزاتك، ولترينَّ غدًا هذا الشعب الذي لثم قدميك اليوم مقبلًا علينا مبتهلًا لنا أن نخلصه منك، وأن ندينك كما ندين الضحايا من المعذبين والمحرقين.»
قال إيفان كرامزوف بطل الرواية التي تتخيل هذا الملتقى وهذا الحوار: «إن السيد المسيح لم ينبس بكلمة ولم يقابل هذا الوعيد وهذا العداء بعبوس أو ازورار، وتقدم إلى المفتش الأعظم — وهو شيخ فانٍ في التسعين — فلثم شفتيه وخرج إلى ظلام المدينة، وغاب عن الأنظار.»
خلاصة لما تخيله الكاتب العظيم في خطاب طويل مملوء بحكمة الحياة، كما يراها «الحكماء» من الطرف الآخر الذي يقابل الحكمة المسيحية: حكمة الرسول الكريم.
ولا نحسب أن الخيال في هذا الخطاب العجيب بعيد عن الحقيقة، ولا نستبعد ما قاله المفتش الأعظم حين أنذر الرسول الكريم أن يسلمه لمن يثور عليه، ويصب عليه الويل والغضب، بعد أن أحاط به ولثم قدميه وتوسل إليه.
كلا، إن الخيال في ذلك الخطاب غير بعيد من الحقيقة، وأقرب شيء إلى طبائع الناس أن يصنعوا ذلك الصنيع، وأن يتبعوا المفتش الأعظم في نقمته على الرسول الكريم.
وأقرب شيء أن يكون لو عاد السيد المسيح إلى الأرض أن ينكر الكثير مما يعمل اليوم باسمه، وأن يجد بين أتباعه كتبة وفريسيين ينعى عليهم الرياء، ويعلمهم من جديد أن السبت للإنسان وليس الإنسان للسبت، وأن العبرة بما في الضمائر لا بما تفوه به الألسن ويبدو على الوجوه، وأن الوحي في طوية الإنسان لا في طوايا الكتب والأوراق.
أقرب شيء أن يكون أن ينعى على الناس ما نعاه قبل ألف وتسعمائة سنة، وأن يجد إنسان اليوم كإنسان الأمس في شروره وعداوته، وفي نفاقه وشقاقه، وفي إعراضه عن اللباب وإقباله على القشور، وفي استعلائه بالتقوى حين يتقي، ولجاجه في الجحود والعدوان حين يجحد ويعتدي، خمرًا جديدة في زق قديم.
ذلك أقرب شيء أن يكون.
وأقرب شيء أن يقال إذا طاف بالخاطر ذلك الخيال، أن يردد اللسان قول أبي العلاء:
ففيم يشقى المصلحون؟ وفيم يهلك الشهداء؟ وفيم يأتي الأنبياء ويذهبون؟ وفيم اختلفت الديانات واصطرع عليها المتدينون؟ فيم كان هذا؟ فيم جاءهم رسول بعد رسول؟ وفيم توالى التابعون بعدهم بإحسان أو بغير إحسان؟
جاءوا وعادوا.
لئن قيل هذا ليكوننَّ أقرب ما يقال بعد تلك الحقيقة التي جاءت في صورة الخيال.
ولكن الحقيقة الكبرى التي توزن بها جميع الحقائق هي أن الحقيقة لا ترى من جانب واحد، ولا سيما الحقيقة التي تخلد على الزمن في أطوار الإنسان منذ كان، وتخلد معه أنى يكون.
ليست حرية الضمير مطلبًا محدود المسافة، يرحل إليه الإنسان ثم يصل إليه ويقعد عنده، ويكف بعده عن كل عناء.
إنما حرية الضمير جهاد دائم وعمل دائب، يتقدم فيه الإنسان شوطًا بعد شوط، أو طبقة فوق طبقة، ولا يفرغ من جهاده يومًا إلا لينظر بعده إلى جهاد مستأنف، ولا يودع الشر في مرحلة من مراحله إلا ليلقاه ويجاهده، ولن يلقاه في سلام.
ومطالبنا المحسوسة تهدينا إلى القياس الصحيح في هذه المشكلة، وهي أولى بأن ندركها من المطالب الخفية التي تعتلج بالضمير، وتبعثه إلى العمل مرة حيث يرى مواقع خطوه، ومراتٍ حيث يبصر فلا يرى غير الحجب والظلمات.
من ذا يقول: إن عناء التعليم باطل، إذا رأى الطفل يحمل الكتاب وهو في الخامسة، ورآه يحمله وهو في العاشرة، ورآه يحمله وهو في العشرين ثم في الثلاثين، ثم رآه مدى الحياة لا يستغني عن علم ولا يقضي على الجهل كل القضاء؟
من ذا يقول: إن عناء الطب باطل، إذا رأى الناس يمرضون بعد علمهم بالجراثيم، وبعد افتنانهم في الطبابة ومواقع الدواء وموانع الشفاء؟
من ذا يقول: إن الغاية عبث؛ لأن الطريق إليها طويل؛ أو لأنها غاية تتلوها غاية بلا انقطاع ولا اكتفاء؟
لا نقول هذا في محسوساتنا التي نلمحها ونلمسها، فهل نقوله في غاية كحرية الضمير، وهي سر الأسرار في حياة الإنسان منذ كان وأنى يكون؟
ليست العبرة أن الشر واقع، ولكن العبرة كيف ننظر إليه، وكيف نواقعه أو كيف نتقيه.
وإذا وقع اثنان في الشر، فليس الذي وقع فيه وهو مستريح إليه مستزيد منه، كالذي وقع فيه وهو مضطر إليه نادم عليه، وليس الذي وقع فيه وهو يعلمه كالذي وقع فيه وهو يجهله، أو يقف منه موقف المغالطة بين العلم والجهل وبين القصد والاضطرار.
إنما الإنسان غير الحيوان البهيم؛ لأنه صاحب ضمير، وإنما يقاس ضمير الإنسان بالقيم التي يقومها والمثل العليا التي يتمثلها، والمطالب التي يطلبها وينالها أو لا ينالها، وما دام المصلحون والرسل يعلمون الإنسان قيمة يغليها، ويرفعون أمامه مثلًا أعلى يتسامى إليه … فهم عاملون وعملهم لازم، ونتيجته محققة، وإن دام الشر ولم ينقص عدد الذنوب والجرائم بأرقام الإحصاء.
وإذا قلنا يومًا: إن الإنسان في هذا العصر يطلب الخير ولا يدركه، فقد قلنا على اليقين: إنه أفضل من الإنسان الذي كان لا يطلبه ولا يعرفه، وإن عمله غير مطلوب وغير معروف كما يعمل الحيوان.
إنما تقاس الأديان بما تودعه النفوس من القيم والحوافز، وبما تزيده من نصيب الإنسان في حرية الضمير، أو في حرية التمييز بين الحسن والقبيح، وقد عملت الأديان كثيرًا ولا تزال قادرة على العمل الكثير، ولكنها لن تغني الإنسان يومًا عن جهاد الضمير.
كان جهلاء الناس فيما غبر ينتظرون ألف سنة يعم فيها الخير، وينقطع فيها الشر ويمتنع الشقاء، ولا يرى في العالم يومئذ غير سعداء أبناء سعداء.
وكان «العارفون» يقولون عن هؤلاء: إنهم جهلاء.
لكن هؤلاء العارفين أجهل منهم إذا اعتقدوا أن دينًا من الأديان لم يعمل عملًا، ولم يكن غير عبث من العبث؛ لأن الدنيا باقٍ فيها الشر، باقٍ فيها الغي، باقٍ فيها الكفران.
أي فرق بين العارفين الذين ينتظرون من الدنيا دنيا لا تعاب وبين الجاهلين الذين انتظروا السعادة المطلقة في «الألفية» الموعودة آخر الزمان، بعد قرون تعد بالعشرات أو بالمئات؟
لعل هؤلاء الجاهلين أقرب إلى التقدير الصحيح من أولئك العارفين؛ لأنهم يفكرون وينتظرون «الألفية»، وقد انتظرها الجاهلون بغير تفكير!
لو عاد السيد المسيح اليوم لوجد كثيرًا يصنعه ويعيد صنعه، ولصنع كثيرًا بين أتباعه ومن يعملون باسمه ويتواصون بوصاياه، ولكن الدنيا التي يصنع فيها الهداة صنيعًا كثيرًا خير من الدنيا التي لا موضع فيها لصنيع الهداة وجهاد الضمير.
ولن يختم المسيح العائد إلى الدنيا رسالة الخير والهداية، فتلك هي شروط الضمير الذي لا ختام له، وهو الغاية وراء كل ختام.
وسيعلم الناس في العصر الحديث — إن لم يكونوا قد علموا حتى اليوم — أن عقيدة الإنسان شيء لا يأتيه من الخارج فيقبله مرضاة للداعي أو ممتنًّا عليه، ولكنها هي ضميره وقوام حياته الباطنية يصلحه، إن احتاج إلى الإصلاح، كما يصلح بدنه عند الطبيب، وهو لا يمتن عليه ولا يرى أنه عالج نفسه لمرضاته، فالعقيدة مسألة الإنسان، لا شأن للأنبياء بها إلا لأنها مسألة الإنسان، وعليه إذا عالج إصلاحه أن يعالجها كما يعالج جزءًا من نفسه، بل كما يعالج قوام نفسه، ولا يعالجها كأنها بضاعة يردها إلى صاحبها ويفرغ من أمرها، فلا فراغ من أمر العقيدة إلى آخر الزمان.