في الشعر العربي
نظم الشعر في اللغة العربية فن مستقل بذاته بين الفنون التي عرفت في العصر الحديث باسم الفنون الجميلة، وتلك مزية نادرة جدًّا بين أشعار الأمم الشرقية والغربية، خلافًا لما يبدر إلى الخاطر لأول وهلة، فإن كثيرًا من أشعار الأمم تكسب صفتها الفنية بمصاحبة فن آخر، كالغناء أو الرقص أو الحركة على الإيقاع، ولكن النظم العربي فن معروف المقاييس والأقسام بعد استقلاله عن الغناء والرقص، والحركة الموقعة، فلا يصعب تمييزه شطرةً شطرةً بمقياسه الفني من البحور والأعاريض، إلى الأوتاد والأسباب.
وليست هذه خاصة من خواص اللغات السامية أخوات العربية، فإننا إذا أخذنا سطرًا على حدة من قصيدة عبرية لم نستطع أن ننسبه إلى وزن محدود أو مقياس متفق عليه، ولا بد من اقترانه بسطور أخرى يتم بها الإيقاع ولا تطرد في قول كل شاعر ولا في سطور كل قصيدة، فهو والفاصلة النثرية التي يمكن أداؤها بالغناء، أو بالإيقاع على حركة الرقص، متساويان.
ومن الشعر الغربي ما يعرف كل سطر منه بعدد من المقاطع والنبرات، ولكنه بغير قافية تنتهي إليها هذه السطور.
فالشعر الذي لا يُضبط بالوزن أو بالقافية موجود في اللغات السامية واللغات الآرية، وبعضه لا يزيد الإيقاع فيه على الموازنة بين السطور بغير ضابط متفق عليه، وبعضه يضبط فيه الإيقاع بعدد المقاطع والنبرات، ولا ينتهي إلى قافية ملتزمة في القصيدة أو المقطوعة الصغيرة.
إنما الوزن المقسم بالأسباب والأوتاد والتفاعيل والبحور خاصة عربية نادرة المثال في لغات العالم، وكذلك القافية التي تصاحب هذه الأوزان.
ومرجع ذلك إلى أسباب خاصة لم تتكرر في غير البيئة العربية الأولى، أهمها سببان، هما الغناء المنفرد، وبناء اللغة نفسها على الأوزان.
فالأمم التي ينفرد فيها الشاعر بالإنشاد تظهر القافية في شعرها؛ لأن السامعين يحتاجون إلى الشعور بموضع الوقوف والترديد، ولكن الجماعة إذا اشتركت في الغناء لم تكن بها حاجة إلى هذا التنبيه؛ لأن المغنين جميعًا يحفظون الغناء بفواصله ولوازمه ومواضع النبر والترديد في كلماته وفقراته، فينساقون مع الإيقاع بغير حاجة إلى القوافي عند نهاية السطور، وإنما تنشأ الحاجة إلى القافية، أو وقفة تشبه القافية عند تفاوت السطور وانقسام القوم إلى منشدين ومستمعين.
إن إحدى نتائج هذا الاختلاف زيادة الاعتماد على القافية في اللغات الحديثة، ففي اللغتين اللاتينية واليونانية ينظمون بغير قافية؛ لأن الأوزان فيهما واضحة، وإنما تدعو الحاجة إلى القافية لتقرير نهاية السطر، وتزويد الأذن بعلامة ثابتة للوقوف … وبغير هذه العلامة تثقل الأوزان وتغمض، ولا تستبين للسامع مواضع الانتقال والانفصال، بل لا يستبين له هل هو مستمع لكلام منظوم أو كلام منثور، وقد اختلف الطابعون عند طبع الكتب هذا الاختلاف في بعض المناظر المرسلة من كلام شكسبير، فحسبها بعضهم من المنثور وحسبها الآخرون من المنظوم، ومما يلاحظ أن اللاتين اعتمدوا على القافية حين فقدوا الانتباه إلى النسبة العددية، وأن الصينيين يحرصون على القافية؛ لأنهم يلتزمون الأوزان، وأن انتشار القافية في أغاني الريف الإنجليزية يقترن بالترخص في أوزان الأعاريض.
ويستطرد الأستاذ موري إلى الشعر الفرنسي فيقول: «إن اللغة الفرنسية حين رجع فيها الوزن إلى مجرد إحصاء للمقاطع، وأصبحت المقاطع بين مطولة وصامتة — نشأت فيها من أجل ذلك حاجة ماسة إلى القافية، فصارت في شعرها ضرورة لا محيص عنها، ودعا الأمر إلى تقطيع البيت أجزاءً صغيرة ليفهم معناه.»
ومن أسباب الاكتفاء بالوزن دون القافية في أشعار الغربيين سبب لم يذكره الأستاذ موري، وهو غناء الجماعة للشعر المحفوظ كما تقدم.
فحيث شاعت أناشيد الجماعة قل الاعتماد على القافية، وكثر الاعتماد على حركات الإيقاع، ولو لم تكن متناسقة الوزن على نمط محدود؛ لأن الغناء بالكلام المنثور ممكن مع توازن الفواصل، وموازاة السطور.
وأناشيد الجماعة قد شاعت بين العبريين؛ لأنهم قبيلة متنقلة تحمل تابوتها في رحلتها، وتنشد الدعوات معًا في صلواتها الجماعة، وفي هذه الدعوات ترانيم على وقع الدفوف، كما جاء في الإصحاح الخامس عشر من سفر الخروج حيث «أخذت مريم النبية الدف بيدها، وخرجت جميع النساء وراءها بدفوف ورقص، وأجابتهم مريم: رنموا للرب فإنه قد تعظم …»
وكذلك شاعت بين اليونان أغاني المسرح التي ترجع في نشأتها إلى الشعائر الدينية، ثم انتقلت منها إلى الأمم الأوروبية.
ومما يؤيد الصلة بين غناء الفرد، والتزام القافية أن شعراء الأمم الغربية الذين ينشدون قصائدهم للمستمعين قد لجئوا إلى القافية والتزموا في مراعاتها أحيانًا ما يلتزمه عندنا شعراء الموشحات.
أما البيئة العربية فلم تكن فيها قبل الإسلام صلوات جامعة منتظمة بمواعيدها ومحفوظاتها، وإنما كان الحداء هو الغناء الذي يصاحب إنشاد الشعر على بساطة كأنها بساطة الترتيل، ينشده الحادي على انفراد وتصغي إليه القافلة أحيانًا في هدأة الليل؛ إذ يعتمد الحس كله على السمع في متابعة النغم إلى مواضع الوقوف والترديد، فتقفو النغمة على وتيرتها، ويصدق عليها اسم القافية بجملة معانيه.
لهذا استقل المنظم بحقه في الصنعة؛ لأن هذه الصنعة لازمة لتمييزه مع الغناء ومع غير الغناء، فانتظمت قوافيه وانتظم ترتيله انتظامًا لا بد منه لكفايته، مع بساطة أفانين الغناء.
وإذا التمسنا مدخلًا لفن الحركة الموقعة مع الحداء، فهناك إيقاع واحد نتابعه في خطوات الإبل، وفي خطوات الهرولة التي تصاحبها على القدم، وإلى هذا الإيقاع يرجع وزن الرجز على قصد وعلى غير قصد، ومجيئه على غير قصد أدل على تمكن العادة، وعلى أصالتها في الحياة البدوية.
•••
وقد تكون حركة الهرولة في الطواف بالكعبة ملحوظة في كل دعاء مروي كيفما اختلف المختلفون في صحة الرواية، كما قيل عن امرأة أخزم بن العاص حين نذرت ولدها للكعبة، فقالت:
فهكذا يفهم الناظم كيف تكون حركة الدعاء مع الهرولة، أيًّا كان صاحب النظم أو من ينسب إليه.
هذه المرددات الفردية هي التي ميزت النظم العربي باستقلال فنه، ووضوح قافيته وترتيله، ولو وجدت في الجاهلية العربية صلوات جامعة تنشد فيها الدعوات المحفوظة لوجدت فيها القصائد التي تمثل لنا حياتهم الدينية وحياتهم الاجتماعية، إما من أناشيد الصلاة كما عرفها العبرانيون، أو من أناشيد المسرح كما عرفها اليونان، ولكننا نعرف العرب من قصائدهم الفردية، كما نعرف الأمم الأخرى من أمثال تلك القصائد، فلا يفوتنا منها غاية ما تدل عليه.
هذا سبب من أسباب تلك الظاهرة النادرة التي ظهرت لنا في القصيدة العربية، وكانت نادرة بين الأمم السامية والأمم الآرية على السواء.
أما السبب الآخر فهو أصالة الوزن في تركيب اللغة، فالمصادر فيها أوزان، والمشتقات أوزان، وأبواب الفعل أوزان، وقوام الاختلاف بين المعنى والمعنى حركة على حرف من حروف الكلمة تتبدل بها دلالة الفعل، بل يتبدل بها الفعل فيحسب من الأسماء، أو يحتفظ بدلالته على الحدث حسب الوزن الذي ينتقل إليه.
هذه أصالة في موضع الوزن من المفردات والتراكيب لا يستغرب معها أن يكون للوزن شأنه في شعر هذه اللغة، وأن يكون شأنها في نظم أشعارها على خلاف المعهود في منظومات الأمم الأخرى، ولو صرفنا النظر عن أثر الإنشاد الفردي في تثبيت القافية، واستقلال فن العروض عن فن الغناء في القصائد العربية.
نعم إن اللغات السامية تجري على قواعد الاشتقاق، وتوليد الأسماء من الأفعال، ولكن المقابلة بين هذه اللغات في أقسام مشتقاتها، وتفريع الكلمات من جذورها تدل على تمام التطور في قواعد الأوزان العربية، وعلى نقص هذه القواعد أو التباسها في أخواتها السامية، بل تدل في باب الإعراب خاصة على تفصيل في العربية يقابله الإجمال أو الإهمال في أخواتها، وفي غيرها من اللغات الآرية التي دخلها شيء من الإعراب.
•••
وواضح مما تقدم أننا قصرنا القول على النظم من حيث هو أوزان عروضية، أو قوالب تحتوي الكلم المنظوم فيها.
فهذه القوالب هي التي تطورت في اللغة العربية، فأصبحت فنًّا مستقلًّا بمقاييسه عن فن الغناء أو فن الحركة الموقعة، أما الكلام المنظوم في تلك القوالب فهو عمل ممتد مع الزمن يأتي فيه كل عصر بما هو أهله من الإبداع أو الزيادة أو المحاكاة، وإنما نعود إلى القوالب والأوزان في كل عصر لنسأل: هل هي صالحة لأداء المقاصد الشعرية ومجاراة الأمم في تطورها الذي يمتد مع الزمن على حسب حالاتها من الشعور والفهم والقدرة على الأداء؟ وهل تتسع للتعديل إذا وجب التعديل للوفاء بمطلب جديد من مطالب التعبير؟
إن تجارب العصور الماضية تنجلي عن صلاح القوالب العروضية لمجاراة أغراض الشعر في أحوال كثيرة، ويبدو منها أن أساس العروض العربي قابل للبناء عليه بغير حاجة إلى نقضه وإلغائه، فقد كانت بضعة بحور من أوزان الشعر كافية لأغراض الشعراء في الجاهلية، أشهرها الطويل والكامل والوافر والخفيف، ثم نشأت من أوزانها مجزوءات ومختصرات صالحة للغناء حين استحدثت الحاجة إليه في الحواضر العربية التي عرفت الغناء على إيقاع الآلات، ثم اتخذت من هذه البحور أسماط وموشحات وأهازيج تتعدد قوافيها مع اختلاف مواقعها، وتطول فيها الأشطر أو تقصر مع التزام قواعد الترديد فيها، واختار بعض الشعراء نظم المثاني أو المزدوجات، وبعضهم نظم المقطوعات التي تجتمع في قصيد واحد متعدد القوافي، أو تتفرق وتتعدد بأوزانها مع توحيد الموضوع، ولما نقلت الإلياذة اليونانية إلى النظم العربي لم تضق بها أوزانه، ولم يظهر سياق الترجمة أن هذه الأوزان قاصرة عن التنويع فيها على نمط غير هذا النمط لمن يشاء التنويع، واستجابت الأوزان لمطالب المسرح كما استجابت للملحمة المترجمة ولما يشبهها من القصائد التاريخية المطولة.
وقد أفرد الموسيقار العصري الأستاذ خليل اللاوردي فصلًا وافيًا في كتابه فلسفة الموسيقى الشرقية لبحث التوزين والإيقاع، وتطبيق العروض العربي على الضوابط الموسيقية، فانتهى من بحثه إلى إمكان التنويع في الأوزان العروضية، واستطاعة الموسيقي والشاعر أن «يفتتح أشكالًا غير محدودة من أشكال الموازين، واعتمد في تجاربه على الجهاز الفني المسمى بالمتروتوم، وهو صندوق صغير من الخشب هرمي الشكل، يفتح من إحدى جهاته الأربع، فينكشف عن قضيب معدني مقسم بخطوط، وعليه ثقل متنقل يحدث حركة متساوية … فيقسم الدقيقة الواحدة من الزمن إلى نقرات تتراوح بين أربعين ومائتين وثمان، فيمثل الحد الأدنى النقرات المتناهية في البطء، ويمثل الحد الأعلى النقرات المتناهية في السرعة» … ولم يلجأ الموسيقار إلى وحدات للنغمات غير وحدات الفواصل والأوتاد والأسباب التي يستخدمها العروضيون، ولم يجعل لها أقسامًا غير أقسامهم المعروفة كالسبب الخفيف والسبب الثقيل، والوتد المقرون والوتد المفروق، والفاصلة الصغرى والفاصلة الكبرى، وإنما استخدم الضوابط الموسيقية لبحث الموضوع بمصطلحات فنه، وترك مجال بحثه للعروضيين يتفاهمون فيه بمصطلحاتهم التي لا تحتاج إلى التخصص أو التوسع في فنون الألحان، فخلص من بحوثه الموسيقية والعروضية معًا إلى نتيجة محققة خلاصتها — كما قال — أن أشكال الموازين الشعرية غير محدودة، أو أن حدودها — على ما نرى — أشبه بحدود الكلمات التي تتألف من الحروف الأبجدية، على حين أن الحروف الأبجدية قلما تزيد على الثلاثين.
فإذا نظرنا إلى ما تم من أشكال العروض، وما يتأتى أن يتم منها مع التنويع والتوزين، ثبت لنا أنها قائمة على أساس صالح للبناء عليه وتجديد الأنماط والأشكال فيه، على نحو يتسع لأغراض الشعر ولا يلجئنا إلى نقض ذلك الأساس.
•••
وهذا كله مع التسليم بداهة بالتفرقة بين الكلام المنثور والكلام المنظوم في السهولة أو الصعوبة، فإن التسهيل المطلوب لفن من الفنون — كائنًا ما كان — ينبغي أن ينتهي عند بقاء الفن فنًّا مقرر القواعد والمقاييس، وما جهل الناس قط أن الكلام أسهل من الغناء، وأن المشي أسهل من الرقص، وأن الحركة المرسلة أسهل من الحركة الرياضية، ولم يكن ذلك قط مسوغًا للاستغناء بالكلام عن فن الغناء أو بالمشي عن فن الرقص، أو بتحريك الأعضاء بغير هدى عن أصول الحركة الرياضية أو الحركة في ألعاب الفروسية، فمهما يكن من تيسير الأوزان بالتنويع والتوفيق، فلا مناص في النهاية من التفرقة بينها وبين الكلام المرسل في سهولة الأداء، وإنما المطلوب أن تكون فنًّا سهلًا، وليس المطلوب مجرد السهولة التي تخرجها من عداد الفنون.
ولا بد في هذا السياق من تفرقة أخرى هي التفرقة بين القواعد والقيود في كل فن من الفنون، فلا سبيل إلى الاستغناء عن القواعد في عمل له صفة فنية، ولا ضرر من الاستغناء عن القيود التي تعوق حرية الفن ولا يتوقف عليها قوامه الذي يسلكه في عداد الفنون.
ومن تجاربنا في تاريخ الشعر العربي يتبين لنا أن قواعد النظم عندنا مؤاتية للشاعر في كل تصرف يلجئه إليه تطور المعاني والتعبيرات في مختلف البيئات والأزمنة، فلا موجب للفصل بين قواعد النظم، وأغراض الشعر في تجربة من التجارب العربية التي وعيناها منذ نشأت أوائل الأوزان إلى أن بلغت ما بلغته في منتصف هذا القرن العشرين.
ذلك شأن التجارب العربية، فما بال التجارب في أمم الحضارة التي تتصل بنا ونتصل بها، وتبادلنا ونبادلها مطالب الفنون والآداب كما يحدث الآن بيننا وبين أمم الحضارة الغربية؟ ماذا تفرض علينا هذه الثقافة المتبادلة في ميدان النظم والشعر على اتصال بينهما أو على انفراد؟
أما في النظم فلا خفاء بالأمر من أيسر نظرة إلى آدابنا وآداب الأمم الغربية التي نتصل بها في العصر الحديث.
فمما لا تردد فيه أن هذه الأمم لم تبدع في موازين النظم بدعًا نستفيده منها، ولم نكن قد سبقناها إليه في عصر من عصورنا، فإذا التزموا الأعاريض معتدلين أو مبالغين، فليس عندهم ما هو أدق وأجمل من الموشحة في أوزانها التي تقبل التنويع والتشجير إلى غير نهاية، والتي يعتبر تعدد القافية فيها ندحة وزينة في وقت واحد، فإن إطلاق الحرية للشاعر لتوزيع القوافي حيث شاء يوشك أن يعفيه من قيودها، كما يزيد الإيقاع جمالًا على جمال، ولم يبدع الأوروبيون — حتى في شعر المسرحيات الملحنة — فنًّا من الأناشيد أتم من الموشحة، وأصلح منها للتلحين وحركة الإيقاع.
فإذا ترخص الشاعر الغربي في القواعد، فأسقط القافية واختار الوزن الذي يسمونه النظم الحر أو النظم الأبيض، فجهد ما بلغوا إليه أنهم عادوا إلى الأسطر المتوازية، أو إلى الاكتفاء بالمقاطع التي لا تبلغ في دقتها مبلغ الأسباب والأوتاد والفواصل، وكل أولئك طور من الأطوار التي تخطاها الشعر العربي في الأزمنة الماضية، أو سبقتهم إليه أمة من الأمم الشرقية وتوقف بها التطور عنده؛ لارتباطه بالتقاليد الدينية.
فليس عند الغرب من فنون النظم جديد نأخذه منه في أبواب التوزين والتنويع.
ليس في فن النظم جديد نأخذه من الأعاريض الغربية لم تكن عندنا أسسه العريقة، ولم تكن عندنا أصوله وفروعه أو جذوره وأغصانه على حد تعبير «الموشحين».
لكن الأمر يختلف كثيرًا في الكلام على «الشعر»، أو الكلام على الأدب ومدارسه ومذاهبه، ودعواته التي تجيش بها الحياة الغربية في كل حقبة، ولا تتميز منها دعوة واحدة دون أن يتميز لها حكم خاص بالشعر يتناوله قبل أن يتناول غيره من الفنون الجميلة، ولا سيما فنون التعبير.
هذه المذاهب الشعرية تعنينا كما تعنيهم، وتمتد بآثارها إلى أقوالهم وأفعالهم كما تمتد إلى أقوالنا وأفعالنا.
لأنها من أطوار الحياة التي لا تنحصر في دوائر الفن، ولا في أدوار الثقافة على إطلاقها، وإن يكن مظهرها الثقافي هو الجانب الذي يشتغل به النقاد والمؤرخون في ميادين الفنون.
هذه الدعوات أوسع نطاقًا من أن يحاط بها في مقال، ولكنها تقترب من الحصر المستطاع إذا جمعناها في أدوارها الإنسانية العامة التي توشك أن تكون أمواجًا دورية في هذا المحيط الزاخر؛ إذ هي عالقة بطبيعة الإنسان في جملتها، وطبيعة الإنسان واحدة كما قيل في كل زمان ومكان …
ونحن نعلم أن أبقراط حصر الطبائع الجسدية في أربعة أمزجة، وهي المزاج الدموي، والمزاج الصفراوي، والمزاج البلغمي، والمزاج السوداوي، ثم جاء العلامة بافلوف — بعد تقسيم خصائص الأجسام بين الهرمونات وعائلات الدم وودائع الوعي الباطن والوعي الظاهر أقسامًا لا تنفد ولا تحصى — فعاد إلى الأمزجة الأبقراطية تيسيرًا للفوارق العامة، وجعلها أساسًا لتجاربه النفسية التي تعد إلى هذه الساعة من أحدث تجارب العلماء.
فنحن على هذه الوتيرة نقسم الذوق الفني في الإنسان إلى أقسامه الخالدة حين نقول: إن الناس كانوا منذ فطروا واقعيين وخياليين، ومحافظين على القديم وطلابًا للجديد، أو إنهم كانوا إذا اكتفينا بقسمتهم إلى قسمين اثنين: صنفًا يمشي في وسط القطيع وصنفًا ينزع إلى الأطراف، أمام ووراء وعلى كلا الجناحين من اليمين واليسار، وقد تفكه بعض الجادين فأطلق على الصنف الأول اسم فريق الضأن، وعلى الصنف الثاني اسم فريق المعيز …
ونرى من تاريخ الأمم الغربية منذ ملكت حرية التفكير أنها دارت دورتها بين مذاهب الآداب خلال القرون الثلاثة الأخيرة، وأنها نزعت في دعواتها المتعاقبة كل نزعة طبيعية تستلزمها أطوار الحياة بعد عصر الجمود والتقليد.
ونقول: إن الواقعيين والطبيعيين متقاربون؛ لأنهم جميعًا من أنصار الواقع، وإنما ينفرد الواقعيون بمحاربة النزعات الخيالية، وينفرد الطبيعيون بمحاربة النزعات الصناعية: نزعات الإغراق في التزويق والتنسيق، وإذا اقترنت هذه المذاهب جميعًا في عصر من عصور النهضة العلمية، فالانقسام بينها يئول في هذه الحالة إلى قسمين: قسم تغلب عليه الصبغة العلمية، وقسم تغلب عليه الصبغة الفنية، ويتسع كل قسم منها لكثير من الآراء وأشتات من الأساليب.
وعلى تعدد المذاهب والعناوين في الغرب لا نرى هنالك لبسًا على الإطلاق بين المذاهب التي أشرنا إليها، وبين عشرات المذاهب التي ينتحلها الدعاة على عجل منذ الحرب العالمية الأولى، ويندر أن يعيش أحدها أو يستقل عن سواه بصفة من الصفات التي يتناولها التطبيق والتمييز.
وقد عقب صاحب تاريخ الأدب الإيطالي على إمام هذه المدرسة فقال: إنه لم يجاوز حدود السخف في شعره … ولم يخل كلام المؤرخ من مجاملة؛ لأن السخف معنى يوصف بالرداءة … ولا معنى هنا ولا وصف لرديء أو غير رديء.
ولا بد من وضع هذه الدعوات في موضعها من تاريخ الآداب الإنسانية والآداب الأوروبية التي تظهر بينها، فما هو موضعها الصحيح؟
موضعها الصحيح أنها تمثل جانب السخافة الذي لا بد أن يتمثل في بيئة يباح فيها القول لكل قائل والقراءة لكل قارئ، ولا يخجل فيها العاجز من عجزه، ولا صاحب اللجاجة من لجاجته، وهم جميعًا في غمرة من محن الحروب والفتن والقلاقل والآفات، فهل تخلو هذه البيئة من جانب سخافة في الأذواق والدعوات؟ وأين هو هذا الجانب إن لم يكن هذا مظهره الذي يتمثل في صوت القنوت؟
ولسنا نقول: إن هذه السخافة جانب يهمل ولا يلتفت إليه، فإنها خليقة أن تدرس كما تدرس عوارض الأمراض والعلل والنكبات، ولكن البون بعيد جدًّا بين دراستها لهذا الغرض ودراستها للاقتداء بها واعتبارها من مدارس الفن والأدب، ونماذج الذوق والجمال.
ولا تفوتنا في معرض الكلام على الشطط الفني ملاحظة وثيقة الصلة بموضوع الخلط الذي يقال عنه: إنه هو الفن الصحيح أو إنه هو التعبير الصادق دون غيره من الوعي الباطن والسريرة الإنسانية في أعماقها «اللامنطقية» على حد تعبيرهم المأثور.
فالخلط الهاذر مذهب لم يخلقه دعاة «اللامنطقية» في القرن العشرين، ولكنهم خلقوا شيئًا واحدًا فيه لم يسبقهم أحد إليه، وهو إطلاق العناوين العلمية عليه، واستعارتها من دراسات التحليل النفساني أو من دراسات العلوم الطبيعية، وقديمًا وُجد في الشعراء والفنانين من يجنح به هواه أحيانًا إلى رفع الكلفة واطِّراح الحشمة والابتذال في اللفظ أو المعنى أو في كليهما، فيسترسل في الهذر واللفظ كأنه في إجازة من «نفسه الفضلى» كما يقولون، وينسب إلى هذه النزوات شعر المجانة والهزل وشعر الإباحة والجموح، وينسب إليه كذلك ضرب من الشعر الذي يخيل إلى الناس أنه محدثهم بالحكم والأمثال، وهو في أسلوبه الهازل ساخر بضروب الحكمة والمثل، كما صنع ابن سودون اليشبغاوي (٨٠١–٨٦٨ﻫ) في قصيدته البائية التي يقول فيها:
وأدخل من هذا في باب «اللامنطقية» مذهب من مذاهب الزجل في اللغة الدارجة يعاقبون بينه وبين الأدوار المقصودة، فيبدءون بالدور العاقل، ويتبعونه بالدور المجنون إلى نهاية الزجل، ويحفظ من هذه الأزجال كثير في مجموعات هذا الجيل والأجيال القريبة، من أمثلتها في كتاب ترويح النفوس لحسن الآلاتي زجل يقول فيه:
وأحيانًا يقسمون الأدوار إلى دور صاح ودور سكران، أو يصوغون فيها المفارقات على ألسنة الصبيان كما يجري على ألسنة العامة:
إلى أشباه هذه «اللامنطقيات» المتواضعة التي يضعها أصحابها في مواضعها، ويسمونها بأسمائها، ولا تعدو عندهم أن تكون «منفسًا» يستبيحونه إلى حين، ويعرضون به «اللامنطقية» في صورة فنية، ويعلمون ويعلم الناظرون إليها أنها من قبيل الصور الهزلية أو «الكاريكاتور»، ولا يطلبون من الإنسانية أن تحلها في محل فنونها، وأن تنبذ المنطق في سبيلها.
فإذا كان لا بد من هذه اللامنطقية في الآداب العربية، فعندها منها ما يغنيها، ولها فيها مجال لا يخرج بالعقل من دائرة العقل، ولا بالجنون من دائرة الجنون.
الشعر أسبق أم النثر؟
السيد جوردان شخصية مشهورة من الشخصيات المضحكة في إحدى روايات «موليير»، التي استوى بها على عرش الفكاهة المسرحية في الآداب الفرنسية …
ومدار الفكاهة في شخصية جوردان أنه غني من محدثي النعمة أراد أن يتشبه بالنبلاء؛ فاتخذ له معلمين يعلمونه الرقص والمسايفة والبلاغة، وجاء بالطرائف التي لا تخطر على البال وهو يحاول أن يفهم دروسهم ويعقب على شروحهم وأقوالهم، فإذا هو كما قال يتكلم «النثر» طوال حياته، ولا يعرف ذلك حتى عرفه من كلام معلم البلاغة!
لقد أفهمه معلمه معنى الشعر ومعنى النثر، فخيل إليه أن النثر هو ما ليس بكلام موزون منظوم، وتخيل إذن أن كلامه طول حياته داخل في ذلك التعريف، وأنه كاد أن يقضي بقية حياته وهو يجهل هذه المعجزة … لولا أنه تلقى الخبر أخيرًا من الأستاذ.
أراد موليير أن يجعل السيد «جوردان» مضحكًا بهذه العبارة، فأفلح فيما أراد وضحك الناس مما قال؛ لأنهم أدركوا على البديهة من غير تطويل في البحث والاستقصاء أن السيد «جوردان» مخطئ في تصوره الساذج، وأن النثر شيء غير مجرد الكلام الذي لا ينطبق عليه تعريف الشعر، وهو الكلام الموزون المنظوم.
فإذا لم يكن الكلام شعرًا، فليس من الضروري اللازم في هذه الحالة أن يكون نثرًا لا محالة، قد يكون كلامًا وليس بشعر وليس بنثر؛ لأن المقصود بالنثر هو التعبير الأدبي في غير نظم أو وزن من أوزان البحور الشعرية، وقد يتكلم الإنسان طول حياته، وهو لا ينظم ولا ينثر، إذ كان كلامه خلوًا من التعبير الأدبي في المنظوم والمنثور.
وإذا سأل السائل: أيهما أسبق، الكلام أم الشعر؟ فلا محل للخلاف ولا لإطالة الروية قبل الجواب، فإن اللغة سابقة للكلام المنظوم والكلام المنثور على السواء، ولكن السؤال الذي يقع عليه الخلاف هو: أيهما أسبق، الشعر أم النثر؟ ونعتقد نحن أن الشعر أسبق من النثر بزمن طويل، نعتقد هذا ولا نحسب أن الدليل القاطع في تقرير هذا الرأي مستطاع، ولكنه رأي يقوم على القرائن التاريخية والقرائن النظرية، ولا ينقضه من الواقع شيء معلوم حتى الآن.
فمن القرائن التاريخية أن الشعراء أقدم من الكتاب ومن الناثرين على العموم، إذا صرفنا النظر عن الكلام المكتوب أو المحفوظ في الأوراق.
فشعراء العرب في الجاهلية لا يسبقهم ناثر، ولا يحفظ العرب كلامًا منثورًا يقترن تاريخه بالتاريخ الذي نظموا فيه قصائدهم المروية، وما بقي من كلام الكهان المسجوع، فهو — إن صح — أدل على قدم الشعر والقافية؛ لأن الكلام المقفى محاكاة للشعر الذي تلتزم فيه الأوزان والقوافي، ودليل على سبق الكلام المنظوم للكلام المنثور، ولم يثبت قط أن الشعر هو سجع متطور؛ لأن التاريخ لم يحفظ لنا قط كلامًا مسجوعًا عن عصر من العصور ليس فيه شعر، ولم نعرف عن الشعراء في أقدم العصور أنهم سجعوا ثم تطوروا فنظموا، ولم تزل أسجاع الكهانة غير أوزان «الشاعرية» في طبيعتها وموضوعها، فالكاهن لا يتدرج من السجع إلى النظم، والشاعر لا يتعلم الكلام الموزون من المرانة على الكلام المسجوع.
أما الأدب اللاتيني فقد كان من الواجب أن تنعكس فيه هذه القاعدة؛ لأنه الأدب القديم الذي امتاز بالرسائل المأثورة لسعة أطراف الدولة، وتجدد الحاجة إلى المراسلة بين سكان تلك الأطراف المترامية، ومنهم الأدباء والبلغاء.
ولكن الثابت مع هذا أن الأغاني اللاتينية سابقة للملاحم والقصائد في لغة اللاتين بعد تطورها، وأن مشاهير الشعراء سابقون لمشاهير البلغاء والكتاب، وأصحاب الرسائل المنتقاة، ومنهم شيشرون الناقد الأديب الخطيب.
وما يؤثر عن قدم الشعر في الآداب العربية والأوروبية شبيه بالمأثور عن آداب الأمم الشرقية في جملتها، فليس في آدابها نثر أقدم من قصائدها المقدسة، وأغانيها الشعبية الأولى، وكل محفوظاتها المسجوعة لاحقة بمحفوظاتها من الشعر الموزون.
وقد يخطر على البال أن السبب راجع إلى الحفظ لا إلى القدم، وأن النثر قد سبق الشعر ولكنه لم يبق كما بقي الشعر؛ لأن الكلام الموزون أيسر حفظًا من الكلام المنثور، ولكنه خاطر مردود يسهل نقضه بقليل من الروية فيه، فإن سهولة الحفظ نفسها تحتاج إلى التعليل، وليس لها علة إلا أن يكون الكلام المحفوظ أقرب إلى الطباع، وأدنى إلى الفطرة وأغنى عن الصناعة، وأن الكلام الذي يصعب حفظه بغير التسجيل في الورق يعتمد على صناعات كثيرة ولا يكفي فيه الاعتماد على الفطرة، فهو معلق بمعرفة الحروف ومعرفة الأدوات الكتابية، وتطور المجتمع مع تطور الحاجة فيه إلى التدوين بغير الوسائل الفطرية، وهي وسائل الحفظ والتعويل على الذاكرة.
وقد يبدو للسيد «جوردان» أن تأخر النثر عن النظم شيء غريب؛ لأنه يخلط بين ظهور النثر وظهور اللغة، وهي ولا شك سابقة لظهور الشعراء والبلغاء.
لكن السيد جوردان مضحك كما أراده موليير، ومضحك كما رأينا من فهمه لكل شيء، فالواقع أن تأخر النثر عن النظم ترتيب طبيعي لا غرابة فيه، إذ كانت شروط الشعر تتوافر قبل توافر الشروط المطلوبة للكلام المنثور، ويكفي لظهور الشعر أن تظهر في إنسان من الناس ملكة غنائية، وهي من أقدم الملكات في الأحياء، أما الكلام المنثور فما الحاجة إليه في المجتمعات الأولى؟ وما أكثر الشروط الصناعية التي ينبغي أن تتوافر في المجتمع قبل شعوره بالحاجة إليه!
ولا نخلط بين الخطيب والناثر فهما شيئان مختلفان، فإن الخطابة في المجتمعات الأولى صفة من صفات الزعامة، وليس كذلك صفة الناثر البليغ، ولكننا — على فرض التشابه بين الخطابة والنثر — قد نتصور ظهور الشاعر قبل ظهور الخطيب والناثر؛ لأن ملكة الشعر لا تتوقف على نشوء «القبيلة السياسية» التي تستمع إلى الخطباء في شئونها العامة، بل لعلها توجد مع الدوافع الحيوية التي تهم كل فرد على حدة، ولا تتوقف على سياسة الجماعات.
والغالب أن الشعر فطرة، وأن النثر تعليم، وأن الباعث إلى الكلام البليغ يأتي بعد الباعث إلى الغناء، فقد تغنى الحي الذي لا يتكلم، وليس بالمعقول أن يصل الحيوان الناطق إلى الكلام وهو عاجز عن الغناء وعن صوغ كلامه في النغم الموزون.
•••
في حديث مروي عن أستاذ المدرسة الموسيقية القديمة مصطفى رضا بك — رحمه الله — أنه كان يعجب للذين يعرضون أنفسهم بين المقامات الموسيقية وعناوين النغمات، وأنه كان يشبههم بمن يتصدى لكتابة خطاب قبل أن يميز بين الحروف، وأنواع الخطوط، وهذا قياس مع الفارق كما هو ظاهر، فإن الأحرى أن يقال: إن المغني الذي لا يعرف أسماء المقامات والأنغام، كالشاعر الذي لا يعرف أسماء البحور والأعاريض.
وقد وجد الغناء قبل أن توجد أسماء مقاماته وأنغامه، ووجد الشعر قبل أن توجد أسماء بحوره وأعاريضه …
لكن العجيب حقًّا هو أن يوجد ناثر قبل أن توجد الحاجة إلى التدوين، فحيثما وجد النثر فهناك جماعة تحتاج إلى تدوين الكلام، ولو لم يكن صاحب النثر نفسه هو الذي يدون ما يقول بالحروف أو بغير الحروف.
ولهذا نرى أن سبق الشعر لا عجب فيه، وأن سبق النثر فيه شيء من العجب، وأن أولاهما بالسبق هو أغناهما عن الصناعة وتطور الجماعة، وأقدرهما على الاكتفاء بالفطرة على أبسط ما تكون.
الشعر لازم
الشعر لازم في عامنا هذا كما كان لازمًا فيما سلف من ألوف السنين ومئات العصور.
لا ينقص من لزومه شيوع الصاروخ كما قيل …
بل هو ألزم ما يكون حين تشيع الصواريخ، وتشيع معها أخواتها من صفائح الحديد والخشب، وآلات النار والكهرباء.
وكلما غلبت المادة وصفائحها وآلاتها تحسس الإنسان مكان روحه، وارتد إلى قرارة عواطفه ووجدانه، ويطمئن على نفسه: ألا يزال إنسانًا بعد، أو هو قد فقد الإنسانية في كيانه وصار مع الصاروخ وأخواته آلة من الآلات، وقطعة من الخشب والحديد، وشواظًا من النار والكهرباء؟
وما كانت بالإنسان حاجة إلى أن يتلمس دخيلة حياته بين جنبيه، يوم كانت عشرته من الأحياء، وطعامه من خيرات الأحياء، ومقامه بين صنوف الأحياء، ورحلته على متون الأحياء.
ولكنه في عصر الصاروخ، أحوج ما يكون أن يتلمس موطن تلك الحياة، وأن يستمع إلى نجوى فؤاده بلسان الحياة، وأن ينظم الشعر ويحن إلى النغم، ويشهد صور الجمال والعطف في كل منظور ومسموع.
وما كان الصاروخ ليحل محل الشعر وأخواته من فنون الجمال؛ إذ كان الناس لم ينظموا الشعر؛ لأنهم بحثوا عن الصاروخ فلم يجدوه؛ وإنما نظموه لأنهم يحسون وينطقون؛ ولأنهم يترقون مع الزمن فيزدان النطق عندهم بالجمال، ويحسن الإنسان من التعبير الجميل ما لم يحسنه الحيوان، ويستطيع من النظم ما ليس يستطيعه الطير بالتغريد، ولا الخيل بالصهيل، ولا سباع الغاب بالزئير.
ولئن سبق الصاروخ الطيارة لن يسبق الصاروخ سبحات الخيال …
لقد سبقه الخيال يوم تحدث للإنسان عن حصان الأبنوس، وعن أجنحة واق الواق، وسبق الخيال فأملى على الصناع كيف يكون الطيران بالقوة، وكيف يكون الطيران بالخفة، وقد كان العلماء يجزمون جزم اليقين ألا طيران في الهواء بغير أداة أخف من الهواء، عجزًا منهم عن فهم الطير كيف يطير حين لم يعجز الخيال، وإنما هي القوة يطير بها ذو الجناح كما يطير بها الحصان الطيار.
إن الشعر لازم للإنسان الناطق، ما دام ينطق ويعقل، ويترقى بالنطق في معارج الكمال ومعارج الجمال.
إن الشعر ألزم ما يكون للإنسان في عصر الصواريخ …
وإن حفاوتنا به في هذا العصر شهادة لعصر الصاروخ تشرفه وتعليه؛ لأنه لم يتخلف عن عصور تعلم فيها الإنسان كيف يكون إنسانًا بالمنطق الساحر واللسان المبين.
وفي الغرب الذي يدين بالصاروخ علامات كهذه العلامة، وآيات كهذه الآية تنويهًا بلزوم الشعر عنوانًا على اللهج به والحرص عليه.
في السنوات الست الأخيرات — سنوات الصاروخ — صارت الجائزة العالمية للأدب إلى ستة من الأدباء: خمسة منهم شعراء، وهم خيمينيز الإسباني، وباسترناك الروسي وكوسيميدو الإيطالي وبيرس الفرنسي وسيفريس اليوناني.
ومهما يكن من الرأي في إنصاف جائزة نوبل العالمية، أو في نظرتها الناقدة إلى الآداب والفنون، فلا نكران عليها أنها علامة من علامات الزمن بصوابه وخطئه، وبما يراه من لزوم وما لا يراه.
ولا علامة للشعر اللازم في هذا الزمن أصدق من العلامة التي تدل على أمم خمس، بينها من المشابهات والفوارق ما بين الإسبان والروس والطليان والفرنسيين واليونان.
إذا لزم الشعر في لغة من اللغات، فإنما يلزم لألزم ما فيه، وألزم ما في الشعر أنه فن من الفنون.
وألزم ما في الفن أنه ذو قواعد وأصول، توائم في كل لغة ما طبعت عليه تلك اللغة، وتوائمه في اللغة العربية، خاصة أنها لغة الوزن في كل كلمة وفي كل صيغة، فليست فيها كلمة واحدة تنعزل من وزن اشتقاق أو وزن سماع … لا شعر بغير فن … ولا فن بغير قاعدة.
والذين يقولون بغير ذلك يقولون عجبًا يستغربه السامع، ويستغرب الذي يسمع ويفقه ما يقال كيف يصغي إليه السمع وكيف يستجيب له الفهم، وكيف يتكرر بعد تكرار اللسان فيه!
يقولون: إن قواعد الوزن تدعو الإنسان أن يقول ما لا يلزم، تكملة للوزن حيث لا محل له من الكلام.
هل يقال هذا في الشعر وحده، أو يقال في شتى الفنون عندنا وعند غيرنا من العالمين؟
ماذا يصنع منشد الغناء؟
ماذا يصنع الراقص في حركات يديه وقدميه؟
ماذا يصنع الموسيقار في صوته المرسل بغير كلام؟
ألا يزيد المغني في غنائه ليطابق فيه بين الألفاظ والألحان؟
أنبطل الألحان لأنها تسومنا المد في الصوت وراء ما يلزم كما يقال! أم لأنها تسومنا الزيادة في الحروف والكلمات وراء ما تتم به جملة المبتدأ والخبر أو جملة الفعل والفاعل، أو جملة المحمول والموضوع؟
أنبطل الرقصة التي تسوم الماشي أن يخطو فوق خطوه أو يقصر عنه باختياره؟
إن الفنان لا يضع في مده أو زيادته غير ما يلزم، بل غير اللازم قبل كل لزوم، وهو رعاية الفن والقاعدة في الفنون، وليس الوزن زيادة في المقال بل هو قوام المقال كله، إلا أن يكون من غير الفنون، وإنما الشعر تفاعل كامل بين اللفظ والمعنى وقاعدة القواعد الفنية في وزن أو نظام مقدور.
وملكة الشعر هي الملكة التي تقدر على هذا التفاعل بغير حشو أو فضول، أو يكون الحشو والفضول — إن كانا — زيادة للمعنى وتوكيدًا للأثر، لا وقرًا محملًا عليه، ولا فضولًا ملصقًا به، ولا لغوًا مضافًا إليه.
وكل بيت في الشعر المطبوع آية على صدق هذا التفاعل التام بين الألفاظ والمعاني والأوزان، وآية على لزوم الوزن كلزوم لفظ الشعر ومعناه.
أمامنا مثل من أبيات لامرئ القيس وصفًا للفرس:
لا شك أن كلمات «الهيكل» و«من عل» و«المتنزل» قد جاءت لوزن القافية اللامية.
ولكن هل هي زائدة؟ كلا … ونجرب حذف الهيكل لنرى كيف ينقص المعنى والأثر، ولو كان من الكلام المنثور.
نقول مثلًا: «إننا نغدو مبكرين قبل نهوض الطير بمنجرد قيد الأوابد …»
فنسمع وصفًا للسرعة ولا نسمع وصفًا للشكل والحجم والمنظر، وإنما يتم ذلك كله حين نقول: إنه قيد الأوابد هيكل؛ أي إنه ضخم جسيم.
ولقد يقال: إن كلمة أخرى تحل محل «هيكل» حين نقول «ضخم أو جسيم أو مكين.»
فهل ترانا نشعر بأثر لهذه الكلمة كما شعرنا بأثر الهيكل فيما حققته الكلمة من وصف الجسامة والصورة والمثال؟
جواب ذلك عند من يتهمون القافية بزيادة الفضول، إن لم يكن جوابهم هنا من فضول المقال.
ونأتي بعد ذلك إلى كلمة «من عل» وهي التي تتمم وصف الجلمود، وهو ينحط مع السيل، فهل يتم الأثر بحذف هذه الكلمة؟ هل التذكير بانحطاط الحجر من الأعلى فضول وزيادة بغير مدلول؟
وهل ذكر المطر دون وصفه بالمتنزل تنزيه للبيت من اللغو، أو هو مما يتمم هذا الوصف للمطر بالتنزل، والزلل عن متن الصفواء في هذه الحال؟
وأبيات غير هذه الأبيات من كلام المعري يقول فيها مفتخرًا:
فمما لا شك فيه أن النائل والسائل والفضائل قد جاءت في مواضعها هنا لأن القافية لامية.
ولكن لماذا نغيرها لضرورة المعنى؟
ولماذا نقول معنى غير هذه المعاني التي تؤدى بهذا النظم وهذه القافية؟
ولماذا نعدد فضائل أخرى تزيد على هذا العدد أو تنقص منه، بعد ذكر العفاف والإقدام والحزن والنائل؟ وإذا كانت كلمة العطاء مثلًا تؤدي معنى كلمة النائل، فلماذا نفضلها عليها؟
ويقول ابن الرومي في وصف مُغَنٍّ كريه الصوت والغناء:
فمما لا شك فيه أن خراسان جاءت هنا وزانًا لصبيان، بل لا شك أن «محتفلًا» في الشطر الأول كلمة لازمة لتمام البيت …
لكن الشاعر يقول بدلًا من الشطر الثاني:
إذا كانت القافية دالية … فما الذي يختلف بين هذين الاسمين؟
وقد يحذف الناثر كلمة «محتفلًا» بعد الطنبور، فيقول له: إذا تناول الطنبور صوت هنا وضرب هناك … فهل يكسب البيت بحذف هذه الكلمة ويقوى؟ أو يخسر ويضعف؟
إن كلمة «محتفلًا» تصور لنا اجتهاد المغني وتأهبه بجلسته وإيماءه، واستعداد السامعين للإصغاء إلى شيء حسن، فإذا بهم يفاجئون بالصوت الرديء، فلا يكون أثره في نفوسهم كأثره فيها، وهم لا يرون ذلك الاحتفال ولا ينتظرون بعده الإتقان والكمال … فما جاءت «محتفلًا» هنا فضولًا لأجل الوزن، بل كان تفاعل الكلمة مع الوزن سببًا لاستدراك نقص واستكمال أثر، لم يكن لهما في النثر من داعٍ منبه لهذا الاستدراك.
إننا نردد اليقين بالشعر اللازم والفن الألزم …
لزومًا يتم فيه المعنى واللفظ بالوزن والقافية، وتؤدي فيه ملكة الشاعر المطبوع عملها «تفاعلًا» حيًّا بين نغماته وحروفه وكلماته، تتزاوج فيه جميعًا لتزداد بلاغة في الأثر وإيناسًا للسمع، وإشباعًا للأداء، ونفيًا للفضول، وتجاوبًا بين الوقع والإيقاع … وعلى ذلك جبلت ملكة الشاعر المطبوع، من رُزِقَهَا قال وتغنَّى وأفهم وأثَّر، ومن لم يرزقها فلا حق له في قول الشعر ولا في القول فيه، ولأن يسكت فلا يقول شعرًا ولا يقول عن شعر خير له وللناس، وخير للشعر والفن وللعقول والأسماع.
التجديد في الشعر
إذا أوجزنا قلنا: إن التجديد هو اجتناب التقليد، فكل شاعر يعبر عن شعوره ويصدق في تعبيره فهو مجدد وإن تناول أقدم الأشياء، هل شيء في هذا العالم الأرضي أقدم من الشمس؟ إن الذي يصفها اليوم صادقًا في وصفه غير مقلد في تصويره مجدد تمام التجديد، وإن لم يأت بكلام جديد.
هكذا تجدد الشمس النهار، وتجدد الأرض الربيع، ويجدد الشباب الأمل والحب جيلًا بعد جيل.
وليست الدنيا عتيقة بالية لأنها تجيئنا كل عام بربيع كالربيع الذي تقدَّمه، وليس الشاعر عتيقًا باليًا لأنه يجيئنا بذلك الربيع كما جاءت به الدنيا في حينه، موصوفًا على الصورة التي عهدها آدم في جنة الفردوس، ثم عهدها أبناؤه في جناتهم على هذه الغبراء! … التجديد — في كلمتين — هو اجتناب التقليد.
أما إذا تعمدنا الإسهاب والتفصيل، وتناولنا عناصر الشعر جميعًا، فهي مختلفة في قبولها للتجديد، أو مختلفة على الأصح في حاجتها إلى التجديد.
هذه العناصر هي اللفظ والوزن والموضوع، وهي على هذا الترتيب في حاجتها إلى التجديد مع الزمن: فاللفظ الذي يتألف منه الشعر يبقى ألف سنة، ولا يطرأ عليه تغيير يذكر، ويصلح في هذه الحالة لشعر امرئ القيس كما يصلح لشعر البارودي، مع قليل من التحوير الذي لا يلتفت إليه إلا المختصون بتسجيل أطوار الكلمات.
ونعني باللفظ هنا المفردات في غير الجمل والأبيات، وهي المفردات التي تطرأ عليها الزيادة القليلة كل بضعة قرون، أو يطرأ عليها اختلاف الاستعمال من فترة إلى فترة في حياة اللغة الواحدة، ولا بد للشاعر من متابعة هذه الأطوار، وقد يكون هو عاملًا من عوامل الزيادة والتصرف في الكلمات.
إلا أن الجهد في تجديد المفردات يظل على الدوام أقل وأهون من الجهد في تجديد الأوزان، وتجديد الموضوعات، فالمعجم الشعري اليوم قريب من المعجم الشعري في عهد أصحاب المعلقات، أما الوزن فقد اختلف في عدد البحور واختلف في عدد القوافي، ولا يزال قابلًا للاختلاف، وفي حاجة إلى الاختلاف.
كانت أوزان الشعر في الجاهلية قليلة البحور، وكانت القصيدة الواحدة قليلة الأبيات، ثم تعددت البحور ومجزوءاتها، وتضاعف عدد الأبيات في القصيدة الواحدة، وطرأ التنويع على القافية في الرجز ثم في التسميط والتوشيح، ثم انتهينا إلى العصر الحديث، فظهر بيننا من دعاة التجديد من يدعو إلى إلغاء القافية ونظم الشعر مرسلًا أو مطلقًا على الطريقة الأوروبية، ولكنها دعوة لم يكتب لها النجاح، ولا نظنها جديرة بالنجاح في المستقبل؛ لأن أعاريض الشعر العربي تستلزم القافية من حيث لا تلزم في الأعاريض الأوروبية، وقد يكون الإطلاق من القافية في الأعاريض الأوروبية نفسها مقصورًا على المطولات والملاحم التي تصلح للقراءة وقلما تصلح للسماع، والشعر قبل كل شيء سماع.
والذي نعتقده أو نشعر به أن تنويع القوافي أوفق للشعر العربي من إرساله بغير قافية، وأنه يقبل التنويع في أوزان المصاريع والمقطوعات على أسلوب الموشحات، فيتسع للمعاني المختلفة والموضوعات المطولة، ولا ينفصل عن الموسيقية التي نشأ فيها ودرج عليها، ولعلنا لا نحتاج إلى تيسير أوسع من هذا التيسير، كائنًا ما كان موضوع القصيد، وإن طال غاية المطال.
تجديد قليل في اللفظ، وتجديد أكثر منه في الوزن، وتجديد أكثر من هذين التجديدين في الموضوع، فكيف يكون هذا التجديد في الموضوع؟
إن صرف الشعر إلى الاجتماعات والأحداث العامة رأي من الآراء في تجديد الموضوعات الشعرية، ويقترن به رأي آخر ينادي بالطابع الإقليمي في الشعر خاصة وفي الأدب عامة، ويقول آخرون بالشعر المسرحي أو شعر القصة المسرحية وغير المسرحية، وكل هذه الآراء مقبولة من ناحية مرفوضة من ناحية؛ لأن العبرة في الشعر بالملكة التي توحي معانيه، وليست العبرة بالعنوان الذي نختاره لموضوعاته، كعنوان المسرحية أو عنوان الشعر الإقليمي، أو عنوان الشئون الاجتماعية والمسائل العالمية.
ونحن إذا نظرنا إلى الشعر من ناحية الملكة التي توحيه وجدنا أن ملكة الشعر الغنائي قد لازمت القصيدة العربية من نشأتها الأولى، فهي تتردد بين نغمات الغزل والفخر والحماسة والرثاء، أو تتردد بين ألوان الشعور الفردي البسيط، ويندر أن تتخطاه إلى الشعور المركب المتوشج، وهو الشعور المتجاوب بين عدة نفوس على عدة أمزجة وفي عدة حالات.
فإذا كان للتجديد في موضوع الشعر وجهة، فهذه هي الوجهة التي أمامنا، ولتكن سبيلها الرواية المسرحية أو الحادثة العالمية، أو الأوصاف الإقليمية، فإنما العبرة بالملكة التي توحي المعاني في جميع الموضوعات، وليست العبرة بالعناوين التي نخلعها على هذه الموضوعات.
والفرق بين الشعر الغنائي والشعر المركب المتجاوب هو الفرق بين الربابة والفرقة الموسيقية التي نسمع منها عشرات المعازف في نغمات متعددة مع التناسق بينها والوحدة في مجموعها، وينبغي أن نذكر هنا أن التنوع والتجاوب هما المقصودان بالتصرف والتجديد، وليس المقصود هو كثرة الآلات التي نعزف عليها في وقت واحد، فإن ألف ربابة توقع لنا لحنًا واحدًا هي أسلوب ساذج بغير تصرف، وقد يكون التصرف كل التصرف في ربابة ومزمار ودف وبيان تختلف وتتجاوب، وتفلح في الارتفاع بالشعور من البساطة والانفراد إلى التجاوب والتركيب.
ولكن الخير أن نبقى كما نحن، وأن نقصر نظمنا على الشعر الغنائي، إذا كنا ننظم في الموضوعات الجديدة تقليدًا للذين سبقونا إلى النظم فيها، فإن التقليد نقيض التجديد، والدرهم الصحيح أنفس من الدينار الزائف يحكي الذهب باللون والصورة، ولا يحكيه بالمعدن والقيمة.
ومن أمثلة الدعوات الزائفة إلى التجديد أن يسمع بعضنا بالشعر الإقليمي في اللغة الإنجليزية — وأكثره من شعر الأمريكيين — فيخطر له أن الشعر الإقليمي اختراع واختيار، وينسى أنه واقع طبيعي لا محل لفرضه على الشعراء، حيث لا تفرضه عليهم طبيعة الحياة، وفي أمريكا أقاليم لا تتشابه في الموقع ولا في المكان ولا في المعيشة، فهم لا يختارون الإقليمية في الشعر ولا في الجغرافية، ونحن هنا لن نستطيع أن نزرع قمحًا في التربة المصرية دون أن يصبح قمحًا إقليميًّا باختيارنا أو بغير اختيارنا، ومن قال لشاعر: كن إقليميًّا فقد قال له: كن مقلدًا، ولكنه إذ كان من طبيعته منتميًا إلى إقليمه فلا حاجة به إلى الأمر والإرشاد.
كذلك يقول بعضهم متعجبًا: هل توحي حرب طروادة إلى هوميروس بالإلياذة، ولا تظهر في العصر الحديث إلياذة أضخم منها بعد الحرب العالمية العظمى؟
ولو كان هؤلاء القائلون يفهمون وحي الابتكار في الشعر لما خطر لهم أن شاعرًا عصريًّا ينبغي أن ينظم إلياذة في الحرب العالمية لأن شاعرًا قديمًا نظم إلياذة في حرب طروادة، من أين لهم مثلًا أن هوميروس كان ينظم في الحرب العالمية إلياذة لو أنه عاش في زماننا؟
من أين لهم أن ضخامة الحرب هي التي توحي بالنظم فيها؟ فقد تكون الحرب بين عشرين فارسًا متقابلين أعنف في إثارة النفس من حرب الملايين بين الخنادق لا يشهد بعضهم بعضًا، ولا يعرفون من الحركة غير ضغط الزناد!
كذلك لا يفقه التجديد من يحسب أن الشعر المسرحي حيث كان أرفع من الشعر الغنائي في كل موضوع، فإن الشاعر المسرحي الذي لا يرسم لك شخصية واحدة صحيحة أقل من الشاعر الغنائي الذي يتحدث لك عن غناء البلبل فيصدقك الحديث والشعور، فكل فضل الشاعر في الملكة التي توحي إليه شعره دون العناوين التي يطلقها على موضوعاته، ونحن لا نفضل الشاعر المسرحي على الشاعر الغنائي؛ إلا لأن الشاعر المسرحي يستطيع شعر الغناء، ويستطيع زيادة عليه، وهذه الزيادة عليه هي الحس المتجاوب في النفوس المتعددة، فإن كان يملك هذا الحس فهو صاحب الفضل بهذه الملكة أيًّا كان الموضوع الذي يختاره لنظمه، وإن لم يملكها فالموضوع لا يعطيه ملكة هو محروم منها.
وإذا كان التجديد هو اجتناب التقليد فالتجديد كذلك هو اجتناب الاختلاق، والمختلق هو كل من يجدد ليخالف وإن لم يكن هناك موجب للخلاف. إن الذي يمشي على يديه يأتي بجديد، ويدل على براعة لا يستطيعها من يمشي على قدميه، ولكننا قد نضع في يده درهمًا، وقد نزج به في مستشفى المجاذيب، ولا نمشي على الأيدي من أجل تلك البراعة وذلك الاختلاف أو الاختلاق.
نجدد فلا نقلد ولا نختلق، ونحن مجددون كما ينبغي — وكأحسن ما ينبغي — إذا خرجنا بالشعر العربي من لحن الربابة إلى لحن الفرقة الموسيقية، شعورًا منا بتعدد النغمات النفسية، لا لمجرد المباهاة بكثرة المعازف وارتفاع الضجيج.