المدرسة الرمزية
(١) حب الأزياء
كانت باريس فيما بعد القرون الوسطى عاصمة الحضارة الأوروبية، وكان بلاطها الفخم مصدر المراسم والتقاليد في أرجاء الغرب كله، تصدر عنه الأزياء والآداب والعرف المتبع في مجالس الطبقات العليا، وكان لها الشأن — كل الشأن — يومئذ في جميع البلدان، فلا تنقضي فترة يسيرة من الزمن دون أن يسفر التنافس بين فرسان البلاط وحسانه عن شارة جديدة وزي جديد، ولم يكن لهم يد من طرافة يتحدثون بها في عالم الأدب والفن كما يتنافسون بالطرائف في عالم الشارات والأزياء، فلما بدأت نهضة الأحياء الحديثة باستحياء الأساليب اللاتينية واليونانية رحب بها طلاب الجديد ريثما طال عليها العهد، فبرموا بها وتطلعوا إلى نمط جديد، فتوالت الأنماط بين أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن العشرين من المدرسة المجازية إلى المدرسة الواقعية إلى المدرسة البرناسية إلى المدرسة الرمزية، إلى هذه المدارس التي تسمى بالمستقبلية تارة وبما وراء الواقعية تارة أخرى، ولا تستقر طويلًا على حال.
ولم يكن التفات الناس إلى عاصمة الأزياء، وانتظارهم منها الجديد بعد الجديد هو الباعث الوحيد إلى تعاقب هذه المدارس بمختلف الأسماء والآراء، وإنما صادفت هذه الحالة معينًا لها من حب الاندفاع في السليقة الفرنسية، فأصبح حب التغيير نتيجة لازمة لكل اندفاع بلغ مداه واستنفد قواه.
فلا تجد في غير فرنسا ولعًا كهذا الولع بالمدارس الأدبية المتلاحقة، ولا سأمًا كهذا السأم من أسلوب بعد أسلوب، وصبغة بعد صبغة.
وفي فرنسا نفسها لا تجد هذه المدارس في القمم العالية، أو الأعلام البارزة من أفذاذ الأدب المعدودين، وإنما تجدها في بيئات الأوساط وأشباه الأوساط الذين يخضعون لموجات التقلب وحركات التكلف والاصطناع.
أما أعلام الأدب الفرنسي من أمثال موليير وراسين وفولتير وشاتوبريان ولامرتين، وهوجو ومسيه وأناتول فرانس وبروست، فأنت لا تجدهم تحت راية من هذه الرايات، ولا على شارة من الشارات، وإذا بدت على أحدهم مسحة من هذه الصبغة أو تلك، فهي مسحة لا تنحرف به قط عن اللونين الخالدين اللذين يرجع الانقسام بينهما إلى طبيعة الإنسان لا إلى تقلب الأزياء بين جيل وجيل، وهما لون الواقعية ولون المجازية، أو لون البساطة ولون التنميق، وسمهما بعد ذلك بما تشاء من الأسماء.
(٢) ظهور الرمزية
وكان الصف الأول من صفوف الطليعة في هذه المدارس هو صف الأحياء، أو صف الأساليب اللاتينية واليونانية القديمة، ولا يخلو من دعوة إلى بساطة «الطبيعة» على ألسنة الفلاسفة والشعراء.
ثم تفنن الأدباء في المجاز على أنماط شتى من الأساليب المجازية، التي توشك أن تتعدد بتعدد الآحاد … فأسلوب هوجو مجازي، ولكنه مجاز يريك الدنيا كأنها في موكب دائم من الطبول والأبواق، ومن الغنائم والأسلاب، وأسلوب لامرتين مجازي ولكنه يريك الدنيا كأنك تعيش منها أبدًا في عالم مسحور تتهامس فيه الأرواح، وتتخافت فيه الأصداء.
واتفق في الأيام الأخيرة من هذه المدرسة المجازية أن شاعت مباحث العلم، ومقررات العلماء المحدثين، فظهرت المدرسة الواقعية والمدرسة البرناسية، ونزعت كلتاهما إلى الأسلوب المدرسي البسيط — أسلوب اللاتين واليونان — ممزوجًا بلون الدراسات العلمية التي اشتغل بها كل عقل مثقف في عهد المدرسة البرناسية على التخصيص.
ويدل اسم المدرسة البرناسية على مذهبها بعض الدلالة؛ لأن أصحابها يسمون أنفسهم بالبرناسيين المعاصرين منتسبين إلى البرناس، وهو جبل أبولون وعرائس الفن في اليونان القديمة، فالبرناسيون المعاصرون مدرسيون من ناحية الاقتداء بأعلام الأدب اليوناني القديم، ومحدثون علميون من ناحية التجديد العصري على نمط لم يعرفه قدماء اليونان.
وكان شعارهم «الكلمة المحكمة»؛ أي الكلمة في موضعها الذي لا تتجاوزه للتنميق أو للتهويل، وعقيدتهم «أن الفن للفن» بغير قصد آخر غير إحكام التعبير وحسن الأداء.
وأفرط البرناسيون كما يفرط الدعاة إلى المدارس الخاصة فيندفعون فيها إلى الطرف الأخير، أو إلى حيث يحسن الارتداد والرجوع، وكان إفراطهم هذا مسوغًا بعض التسويغ لظهور الرمزيين.
(٣) مسوغات الرمزية
والتعبير بالرموز عادة قديمة في تعبير الإنسان، بل عادة قديمة في بديهة الإنسان.
فالحالم مثلًا يعبر في منامه عن شعور الضيق أو الخوف بقصة رمزية يتمثل فيها شيئًا مخيفًا في صورة وحش أو مارد مرهوب.
والكاتب الذي لم يعرف الحروف الأبجدية يرمز إلى المعاني بالشخوص والرسوم، ويعبر لك عن الكتابة بصورة الكاتب أو صورة القلم أو صورة المكتوب، وقد يلجأ إلى الاستعارة بعد عرفان الحروف؛ لأنها نوع من التصوير الذي يساعد على اختصار التعبير.
وكهان الديانات يرمزون، ويعمدون كثيرًا إلى الكنايات والألغاز؛ لأنهم يجعلون لغة الدين لغة سرية ينفردون بها، ولا يطلعون سواد الناس على دخائلها، فيختارون الرمز في التعبير، وإن قدروا على الإفصاح والتصريح.
والنساك المتصوفون يرمزون؛ لأنهم لا يستوضحون المعاني الغامضة التي تجيش بها نفوسهم في حالة كحالة الغيبوبة أو نشوة من نشوات الذهول، فيؤثرون التشبيه؛ لأنهم عاجزون عن التوضيح، ويخاطبون من يعرف حالهم برمز من هنا وتورية من هناك، فلا يحتاج منهم إلى زيادة إيضاح.
وكان بعض الدول يقهر الرعية على عقيدة لا يدينون بها، وقد يدينون بغيرها؛ فيشيرون إلى عقائدهم برموز يفهمونها ويجعلون للألفاظ الشائعة معاني غير معانيها المتفق عليها في اللغة المتداولة، ثم ينبذون تلك الرموز إذا ارتفع عنهم الضغط والإكراه.
وقد يكون الرمز اختصارًا لعبارة مفهومة أو صورة ظاهرة كرمز الرياضيين والكيميائيين بالخطوط والنقط إلى الأفلاك أو العناصر أو المقادير.
فالرمز شيء مألوف في تعبير الإنسان، وفي طبيعة الإنسان، ولكنه مألوف على حالة واحدة لا يخلو منها معرض الرمز والكتابة، وهي حالة الاضطرار والعجز عن الإفصاح، فلم يرمز الإنسان قط وهو قادر على التصريح والتوضيح، ولم يجد كلمة واضحة لمعنى واضح ثم آثر عليها الالتواء شغفًا بالالتواء.
فإذا لوحظت هذه الحالة، فالرمز أسلوب متفق عليه لا يحتاج إلى مدرسة تنبه الأذهان إليه، فالخيال لا يستشير مدرسة من المدارس لتشير عليه أن يحلم بالصور والتشبيهات، أو يحلم بقواعد التحليل والتركيب في معامل الكيمياء، والشاعر لا يعاب إذا مثل لنا الكواكب والأزهار، فألبسها ثياب الأحياء، ومن ضاق به اللفظ فعمد إلى التخييل والتشبيه فالناس لا يحسبونه من هذه المدرسة أو تلك؛ لأن المدرسة التي يصدر عنها في هذه الحالة هي مدرسة البديهة الإنسانية حيث كان الإنسان، وبأي لغة من اللغات، ألغز أو أبان.
وفحوى ذلك أنه لا حاجة إلى مدرسة لتعليم الناس كيف يرمزون ويكنون حين ينبغي الرمز وتنبغي الكناية، ولكنهم قد يحتاجون إلى مدرسة لتذكيرهم بحقيقة واحدة قد ينسونها في دفعة الإفراط والمغالاة، وهي أن الحياة تنطوي على كثير من الأسرار، وأن العالم نور وظلام وجهر وخفاء، وأنه يفاجئنا أحيانًا بمعانٍ لا تترجم عنها الألفاظ، ولا غنى فيها عن الإشارة والاستعارة، أو عن تمثيل الظل بالظل، والحجاب بالحجاب.
وقد كانت الآداب الفرنسية بحاجة إلى هذا التذكير في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، ولم تكن هذه الحاجة مقصورة على الآداب الفرنسية في الواقع؛ لأنها كانت حاجة من حاجات التطور العقلي في العالم بأسره، ولكنها أظهر ما تكون حين يكون الاندفاع من الأطراف إلى الأطراف.
فالعالم الأوروبي قد تنقل في ثلاثة أطوار عقلية منذ عصر الإصلاح:
طور لم يكن فيه سلطان للعقل في تفسير الوجود، وطور ثار فيه العقل لحقوقه المشروعة، ثم بالغ في الثورة حتى أوشك أن يستبد بكل سلطان، وطور ثارت فيه البديهة الإنسانية لتذكر العقل بالحقيقة التي نسيها في شططه وغلوائه، وهي أن البديهة الإنسانية تشاطر العقل حقوقه في تفسير العالم والاتصال بخفايا الوجود.
ففي الطور الأول كان السلطان للكهنة ورجال الدين، وكانت النصوص التي يساء فهمها ويساء العمل بها هي مرجع المراجع كلها في العلم والحكمة والفنون والآداب.
وفي الطور الثاني تفرد العقل بتفسير كل شيء، وزعم أن العلوم التجريبية وحدها كفيلة بالكشف عن جميع الحقوق وجميع الأسرار.
في هذه الفترة ظهر الرمزيون في الآداب الفرنسية، وكان لهم حق في الظهور.
بل ظهروا «متأخرين» عن رواد هذا المذهب في الآداب الأوروبية الأخرى، وفي عالم الفنون التي لها تأثير بين في الآداب …
فكانت موسيقى «فاجنر» تدوي في أرجاء القارة الأوروبية قبل أن تتحول الموسيقى الفرنسية من لغة الطرب والمشاهد الواقعية إلى لغة الأغوار والكنايات، وكان كولردج وبروننج وسوينبرن وتنيسون من أعلام الشعر الإنجليزي يتناولون المعاني الغامضة تارة بالرمز والكناية، وتارة بالكلمات التي تماثلها في الغموض، ويكفي أن يذكر القراء تأثير دافيد هيوم في روسو وفولتير، وتأثير بيرون في لامرتين؛ ليذكروا أن المدرسة الرمزية في الآداب الفرنسية لم تكن فريدة في الآداب الأوروبية حين ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر، وراجت إلى أوائل القرن العشرين.
لكنها ظهرت سائغة مدعوة إلى الظهور بدعوة التطور في التفكير والشعور، ثم استحقت الاحتجاب قبل أن تتمكن من الثبات على الأساس الصحيح … وصدقت عليها الفكاهة التي تحدث بها ظرفاء بغداد عن بهلول المجنون، حين قالوا: إنه كان يغني بدرهم، ويسكت بدرهمين.
وما هو إلا أن تلقفوا من الأفواه كلمة عن مذهب فرويد، وأقوال العلماء النفسانيين عن «الوعي الباطن» و«اللا وعي» المكنون في أطواء النفس، حتى اندفعوا من الرمزية المتطرفة الجامحة إلى رمزية أبعد منها في التطرف والجموح، فنشأت بينهم مدرسة يسمونها بمدرسة ما وراء الواقع، تترجم الرموز بالرموز، والألغاز بالألغاز، وراجت هذه البدعة الجديدة في عالم التصوير؛ لأن رواجها في عالم الكتابة والشعر يستلزم جمهورًا كاملًا من المخبولين والأدعياء، وقلما يجتمع جمهور كامل من هؤلاء، كما يتفق اجتماع الآحاد من طلاب الصور الملفقة بين الأغنياء.
وخلاصة ما وعاه هؤلاء الرمزيون الغلاة من الوعي الباطن أنهم لا يفقهون ما هو الوعي الباطن وما هو الوعي الظاهر على السواء، فإن الوعي الباطن قديم لم تخلقه التسمية الحديثة في كتب العلماء النفسانيين، وقد كان الناس بوعيهم الباطن حين وصفوا ما وصفوه، وصوروا ما صوروه من المناظر والضمائر والوجوه، ومن شأن العقل الباطن أن يظل عقلًا باطنًا حيث خلقه الله، فإن برزت لنا بعض خباياه، فليس معنى بروزها أنها تلغي العقل الظاهر، وتبطل عمل الحواس، وتقلب معالم الأجسام والأشياء، ولا موجب لتمييز المصورين بالقلم أو الريشة بالتخمين والتنجيم عن الوعي الباطن، أو العقل الباطن؛ لأنهم يستعدون لصناعتهم بمزج الألوان ونقل الأشباه لا بالتدرب على الكهانة، ونقش الطلاسم، ووضع الألغاز.
فالرمزية في حدودها المعقولة — ما لم تجعل الدنيا كلها رموزًا وكنايات وأطيافًا — تعيش في الظلام ولا تعيش في الضياء، وهي ضرورية ما شعر الإنسان بضرورتها في تمثيل الدقائق والأسرار، ولكنها تخرج من الضرورة إلى الضرر إذا أصبحت مطلوبة لغير سبب، وأصبح شعارها «الرمز للرمز»، والغموض للغموض، والتلفيق للتلفيق.
وهي على الجملة «خطر» حين تصبح مدرسة قائمة بذاتها؛ لأن الإنسان لا يحتاج إلى مدرسة ليكون إنسانًا يعبر باللفظ الصريح حين يتأتى له التعبير باللفظ الصريح، ويعبر بالكناية حين لا تسعفه وسيلة غير وسيلة الكناية، وقد عرف الناس «الاستعارة» في جميع اللغات، فلم تكن استعارتهم إلا ضربًا من الرمز والتصوير بالكلام، ولم تفسد هذه الاستعارات إلا حين أصبحت فنًّا مصطنعًا، وانقطع ما بينها وبين البداهة الصادقة، والتخيل السليم.
وكذلك أفاد الرمزيون الفرنسيون حين التزموا هذه الحدود المعقولة، ومثلوا ثورة البديهة على غرور العلميين والعقليين، وأطلقوا الشعر الفرنسي والشعر الأوروبي عامة من أوزانه المتحجرة، وقيوده العتيقة، ولكنهم لم يقفوا عند ذلك، فاستحقوا أن يقال فيهم: إنهم غنوا بدرهم وسكتوا بدرهمين.