الصحافة قبل خمسين سنة
بعد شهرين من العمل في داخل الصحافة المصرية، أمكنني أن ألخص حياتها عند أوائل القرن العشرين في كلمة واحدة: تلفيق!
فلولا ضرورة قضت بوجود الصحافة يومئذ على صورة من الصور، لكان من أعجب العجائب حقًّا أن توجد صحيفة واحدة، وأن تعيش — إذا وجدت — أكثر من بضعة شهور.
كانت موارد الصحف كلها من الاشتراكات، وثمن النسخ الموزعة، وأجور الإعلانات … وكانت هذه الموارد لا تكفي كل الكفاية للإنفاق على الصحيفة إلى أمد طويل، ولكنها مع ذلك لم تكن خالية من عقباتها وموانعها، ولا من جرائر الخلل الدائم في وسائلها ومواعيدها.
فلم يكن للصحيفة المنتظمة بد من مورد آخر غير الاشتراكات، وغير البيع وغير الإعلانات، وهو كذلك مورد مضطرب معرض بطبيعته للفوضى وتبدل الأحوال، ونعني به مورد «الإعانات» السرية من أصحاب الدعايات، ومعظمها دعايات تصدر من قصور الملوك والأمراء، أو من دواوين وزارات الخارجية والسفارات.
فالاشتراكات الصحفية قبل خمسين سنة كانت من الموارد الثابتة المنتظمة بالقياس إلى موارد الصحف في العصر الحاضر؛ لأن الصحف في العصر الحاضر تعتمد على البيع في الأقاليم، ولا تعول كثيرًا على الاشتراكات، ولم تكن وسائل البيع في الأقاليم ميسورة للصحف اليومية، فضلًا عن الأسبوعية أو الشهرية إلى زمن قريب …
وكانت الاشتراكات خليقة أن تمد الصحف بمورد نافع لو خلت من موانعها وعثراتها، ولكنها كانت في الواقع مولودة بموانعها وعثراتها، إن صح هذا التعبير …
كان أعيان الريف يحبون أن يشتركوا في الصحف اليومية؛ لأنها مظهر من مظاهر الوجاهة و«الأهمية» في القرية أو البلدة الصغيرة … ولم يكن بالقليل من مظاهر الوجاهة اليومية أن يحضر ساعي البريد إلى الدار يوميًّا؛ ليدق الباب على مسمع من الجيران، وينادي بصوت يشبه صوت المنادي باسم «المحكمة» في ساحة القضاء: بوسطة!
فإذا بالحي كله يترقب «سماعًا» جديدًا بعد هذا النداء، يحيط بأنباء الأرض والسماء، ويتحدث عن المسكوف و«الإنجلاطيرا» وملك «الفرنسا»، أو الجمهور كما كانوا يسمعون عنه منذ أيام حملة نابليون، ويتخللها بالأسطورة الطريفة التي تسمى بالترنسفال … وبينها وبين السودان في الجنوب ألوف الأميال، ويا له من «واقع» وراء الخيال!
ولم يكن الوجيه الريفي يبخل بثمن هذا المظهر، أو يماطل الصحيفة بقيمة الاشتراك حبًّا للمطال … ولكنه يجود به عن طيب خاطر لو وجد أمامه من يقبضه منه لحساب الصحيفة، وأين هذا الذي يقبضه لحساب الصحيفة، ويؤديه بالأمانة والوفاء؟
لقد كانت الصحف تنشر بين آونة وأخرى خبرًا مكررًا عن الوكيل «فلان»، الذي أُلغي توكيله وأصبح غير معتمد في تحصيل الاشتراكات … وكانت هذه الصحف تنشر قبل ذلك إعلانًا موجهًا إلى وكيلها في هذا الإقليم أو ذاك تنبهه إلى موعد السداد، وتلوح له بالتهديد والإنذار، وقد ينفع التهديد مرة ولا ينفع مرات، ولكنه يعاد ثم يعاد، ويتجدد مع الوكيل الجديد تارة ومع الوكيل القديم تارات، ولا تستغني الصحيفة عن مراجعة الوكيل القديم لقلة الوكلاء المتخصصين لهذه الصناعة، أو المدربين عليها في معاملة الصحف والمشتركين والموظفين، وأفراد «الجمهور الصحفي» على التعميم …
«حق» الصحيفة
وكانت للوكيل فنون في معاملة الموظفين وإغرائهم بالثناء، أو تهديدهم بالتشهير والانتقاد … ولا غنى له عن هذه الفنون؛ لأنه كان يستعين على الدوام بالموظف الكبير والموظف الصغير في تحصيل «حق» الصحيفة و«حقه» هو في سوقه السوداء … من وراء الستار …
ولا مناص من الوكيل لتحصيل الاشتراكات …
ولا حيلة في قبول الوكيل على علاته؛ لأن معاملات الصحف لم تكن في ذلك العهد قد ثبتت ذلك الثبات الذي يسمح «بتكوين» طائفة من الأعوان المدربين ينقطعون لها، ويثابرون عليها، فإذا نجح من الوكلاء واحد من عشرات، فإنما ينجح بعد ابتلاء الصحيفة بخسائر هؤلاء العشرات، على دفعات!
ولنذكر أن الوكيل — على عيبه هذا — لا يستطيع أن يعمل في بلاد يجهلها ولا يقيم بين ظهرانيها … فلا بد له من موطن في إقليم يعرفه، ولا يتسع هذا الإقليم المحدود لأكثر من مائتي مشترك على أكبر تقدير …
وكم يصل من هذا المحصول إلى خزانة الصحيفة بعد المطال والعمولة، والسوق السوداء؟
قليل، جد قليل!
وكل صحيفة احتاجت إلى هذا القليل، فقد كان عليها أن تقبل وسائله وتتجرع غصصه، وتغضي عما تعلمه من عيوبه ومحظوراته …
عدة الشغل
ومنها — بل في مقدمتها — أن تنشر الصحيفة كل ما يصل إليها من رسائل الوكيل، أو من مدائحه وأهاجيه في الواقع؛ لأنها «عدة الشغل» التي يعمل بها، ولا عمل له بغيرها، بين الأعيان والموظفين … فمن تصدى لتحصيل الاشتراكات — وتحصيل غيرها في السوق السوداء — فلا أمل له في محصول ينفعه وينفع الصحيفة بعد تخويف وإغراء، ولا ضير بالتخويف والإغراء في سبيل الخدمة العامة والمصلحة القومية … ولكنه الضير كل الضير على الوكيل «الأريب» الذي يستطيع أن يجمع المئات من لذعة هنا وأكذوبة هناك، ثم يتركها ليقنع بالعشرات وما دون العشرات!
وأحسب — بعد هذا كله — أن التفاؤل فريضة على الناس يضطرهم إليها الصدق الواقع، إن لم يضطرهم إليها شعورهم بالحاجة إلى الأمل والعزاء.
إن الأمور لا تقاس بأسوأ الظروف في جميع الأوقات، فكثيرًا ما تتمخض الظروف السيئة عن حسنات لم تكن في الحسبان، ولقد رأينا في ذلك العهد أناسًا عملوا في وكالة الصحف يدينون أنفسهم بنزاهة القاضي وأمانة الطبيب، ويشتغلون بهذه الصناعة؛ لأنها «هواية» تملأ الفراغ بالرحلات والمقابلات في غير عنت ولا اضطرار، ولكنهم شذوذ القاعدة الذي يبعث فينا التفاؤل كلما أطبقت علينا ظلمات الشؤم والقنوط.
أما القاعدة المطردة يومئذ، فقد كانت صفحة من صفحات الصحافة الحالكة في تطورها الأخير … وكانت «تصنيفة» الوكلاء الصحفيين في القرن العشرين تدل على المورد الذي تتسرب منه اشتراكات الأقاليم، فهي «تصنيفة» يتلاقى فيها الكاتب العمومي المتجول، وقارئ الأعراس والمآتم، ومأذون الشرع المفصول، وصاحب الصناعات التي لا تحصى؛ لأنه «متشرد» عام يشتغل بجميع الصناعات!
التوزيع
أما التوزيع بأيدي الباعة فقد كان موردًا للصحف اليومية أهم من مورد الاشتراكات، وأيسر منه في متاعب التحصيل، ولكنه لو اجتمع برمته من جميع الصحف الكبرى التي كانت تصدر في القاهرة قبل خمسين سنة، لما كان فيه الكفاية لإصدار صحيفة يومية واحدة في هذه الأيام.
وكان أربعة أخماس النسخ المعدة للبيع توزع في القاهرة وضواحيها … ولولا أن الإسكندرية كانت مستعدة بموزعيها المشتغلين ببيع الصحف الأجنبية لما تأتى تدبير مسألة التوزيع فيها …
ومن المناظر المألوفة اليوم في عواصم القطر أن يرى المارة للصحيفة اليومية أربع سيارات، أو خمسًا تتسع الواحدة منها لحمل عشرات الألوف من النسخ، وتتولى نقلها يوميًّا على خطوط الإسكندرية أو بورسعيد أو الأقاليم الوسطى في الوجه البحري أو أقاليم الصعيد …
فقبل خمسين سنة لم تكن في القطر المصري سيارة واحدة من هذا القبيل، ولو وجدت فيه سيارة واحدة لفرغت من عملها في حمل صحف القاهرة جميعًا بعد نصف ساعة.
المعلم عكريشة
وكان المعلم عكريشة يجلس إلى ناحية المكتب، وفي يده الجوزة التي لا تفارقه، وأذناه إلى الكاتب الذي يسأل «أولًا فأولًا» عن عدد الوارد من كل صحيفة، إلى أن يتم الوارد من جميع الصحف اليومية … ثم تبدأ عملية التفريق على المساعدين من المتعهدين، فأنصاف المتعهدين، فالباعة المتفرقين …
ولا يكلفك الأمر أكثر من جولة سريعة بالنظر في هذه الزاوية الضيقة؛ لتحصر كل ما صدر من صحف مصر الكبرى في ذلك النهار: المؤيد، واللواء، والأهرام، والمقطم، والوطن، ومصر، والظاهر، والراوي، والجوائب المصرية، والمحروسة، في بعض الأحايين …
وكانت هذه الصحف تصدر معًا في وقت واحد بين الساعة الثانية والساعة الثالثة في المساء، ويحملها عمال عكريشة، أو عمال الصحف من مطابعها إلى الزاوية المعروفة، فلا تلبث «عملية» النقل والصف والتفريق أكثر من ساعة واحدة بنصف حمولتها …
وما كانت صحف القاهرة الكبرى تحتاج إلى مكان للتوزيع أوسع من «زاوية عكريشة»، على جانب من رصيف المحكمة المختلطة بجوار العتبة الخضراء.
ولم تكن «زاوية عكريشة» هذه مكتبًا ولا شبه مكتب، ولكنها كانت منضدة من مناضد الكتبة العموميين على ذلك الرصيف … وكان المعلم «عكريشة» متعهد بيع الصحف جميعًا يستعيرها في مبدأ الأمر من كاتبها، الذي يستغني عنها بعد الظهر — أي بعد الفراغ من كتابة العرائض للمحكمة وكتابة الرسائل لصندوق البريد — ثم بدا له أن يشتريها وكاتبها جملة واحدة، لاتساع دائرة العمل وزيادة الإقبال على الصحف اليومية بعد قيام الأحزاب السياسية، على أثر قضية دنشواي …
ثم يخلو الرصيف إلا من المعلم عكريشة وكاتبه ومنضدته، وقلمه الذي يحمله وراء أذنه، إلى أن يودعه مكانه في الدواة النحاسية الصفراء … ومتى خلا الرصيف هناك لم يبق مكان في القاهرة خلوًا من صبي من صبيان المعلم الكبير، تكاد تحسبهم أسرع من الترام؛ لأنهم يصلون حيث لا يصل الترام، وتكاد تختلط أصواتهم بأصوات بائعي الخضر والفاكهة، ومنها النداء على «الوطن ومصر العال»!
وليس أمامي إحصاء دقيق لتوزيع الصحف في تلك الأيام، ولكنه على الحد الأقصى لا يزيد على خمسة آلاف للصحيفة الواحدة؛ لأنه الحد الأقصى الذي تبلغه طاقة المكنات الطباعية، قبل وصول مكنات البخار والكهرباء!
الإعلانات
ولا نعرف اليوم صحيفة تستطيع أن تسقط الإعلانات من حسابها، ثم تطمع في البقاء واستيفاء أبواب الأخبار والتعليقات، ولكن صحافة الأمس كانت تستطيع بلا تردد أن تسقط إعلاناتها من عددها الأول، ثم لا تفقد شيئًا يعوقها أسبوعًا عن الصدور.
وكانت التقاليد الموروثة والأمية معًا عائقين طبيعيين لظهور «الإعلان» الصحفي إلى سنوات قليلة مضت … لعلها هي السنوات التي ظهرت فيها أول شركة للإعلان الصحفي في هذه البلاد …
كان من التقاليد الموروثة أن يشتري الإنسان لوازمه «المهمة»، من حيث اشتراها أبوه وجده.
وكان الريفي ينزل القاهرة لشراء لوازم الفرح، أو لوازم البناء والأثاث، فيذهب إلى أمكنة معروفة بأسمائها لا تتغير من جيل إلى جيل، وكلهم يعرف عناوين مدكور والماوردي والجمال والحمصاني، ومخازن الحدائد والأخشاب في ناحية القلعة وسوق السلاح، ولا نظن أن متجرًا من متاجر القاهرة المشهورة نشر إعلانًا واحدًا ليكسب به «زبونًا» لم يكن يعرفه قبل ذلك الإعلان …
أما المتاجر الصغيرة التي تباع فيها لوازم البيوت اليومية، فقد كانت معروفة في أحيائها وقراها بغير حاجة إلى إعلان مكتوب …
لهذا بقيت إعلانات الصحف سنوات عدة وهي مقصورة على إعلانات البيوع القضائية وإعلانات الوفيات أو إعلانات «ختمي فقد مني وليست عليَّ ديون ولم أوقع على سندات أو كمبيالات …»
وإعلانات «الأختام» وحدها عنوان صادق لنصيب الصحف من قراء الإعلانات؛ لأنها عنوان للأمية التي تعجز عن كتابة الأسماء، ومع هذه الأمية لا إعلان، ولا قراء للإعلان!
الإعانات السرية
ونحن الآن نكتب ونقدر ونتذكر لا نرجع إلى الصحف التي عاشت في مصر وانطوت بعد حين، ولكننا لا نجازف إذا قلنا: إن مصروفاتها كانت على التحقيق أكبر من مواردها التي يدل عليها حساب البيع والاشتراك والإعلان … ولولا أنها اعتمدت في وقت من الأوقات على مورد الإعانات «السرية» لما طال بها الأجل شهورًا، فضلًا عن سنوات.
وقد تعلم مبلغ الحاجة إلى هذه الإعانة إذا علمت أن شركات البرق — كشركة روتر، وهافاس — كانت تتلقى إعانة رسمية من الحكومة المصرية، وأن مطبوعات الدواوين والسفارات كانت تحال — علانية — إلى بعض الصحف لطبعها، مع وجود المطبعة الأميرية.
ولم تكن مصادر الإعانة مجهولة بين العاملين في الصحافة والسياسة، وإن لم تبلغ من الصراحة في زمن من الأزمان مبلغ الاعتراف المكتوب.
وربما انقسمت هذه المصادر في جملتها إلى مصدرين اثنين على شيء من الدوام والانتظام، وهما القصور الملكية ودواوين السفارات ووزارات الخارجية، وقصر «يلدز» في الآستانة كان مصدر القسط الأوفر من إعانات الصحافة والصحفيين المتطوعين …
وقصر «عابدين» بمصر كان المصدر الآخر الذي ينافسه يومًا، ويعمل معه يدًا بيد في عامة الأيام …
وكان بخل عباس المشهور يغل يده عن التبرع بالمال من خزانته الخاصة، فكان يحيل أعوانه من الصحفيين تارة إلى ديوان الأوقاف، وتارة إلى ديوان الرتب والنياشين …
أسعار الرتب
وكانت للرتب أسعار مقررة من الباشوية إلى البيكوية من الدرجة الثالثة.
فكانت رتبة الميرمران الرفيعة بألف جنيه، ورتبة البيكوية من الدرجة الأولى تباع بثمن يتراوح بين خمسمائة جنيه وسبعمائة جنيه، وكانت رتبة البيكوية من الدرجة الثانية تباع بأربعمائة جنيه أو ثلاثمائة جنيه، وتقدر أسعار النياشين والأوسمة بمقدار قيمتها من المعدن والجواهر وقيمتها من الأولية في ترتيب التشريفات.
ولقد بيعت رتب كثيرة في القهوات، وبيعت رتب مثلها في مكاتب التحرير والتوكيل … ولكنها لم تهبط في السوق — على ما نعلم — إلى ما دون مكاتب التوكيل في القاهرة والإسكندرية … ولو أن سمسارًا من سماسرتها خانه الحظ أو غلبه الطمع، فباع رتبة من هذه الرتب لرجل محكوم عليه في جريمة شائنة، لبقيت هذه التجارة موردًا للصحافة إلى ختام عهد الخديويين …
والوكالة البريطانية وسفارة فرنسا كانتا في هذا المجال ندين كفأين أو أكثر من كفأين لقصور الملوك والأمراء، ولكن الوكالة البريطانية كانت تكافئ خدامها بالمنافع الجزيلة من الوساطات والشفاعات في دواوين الحكومة، وقد تجود بالمال من مصروفات «الميزانية» ومن مصروفاتها هي إذا اقتضى الحال، ولا تقصر السفارة الفرنسية عن زميلتها في بذل هذه الإعانات على اختلافها، ولكنها كانت تعوض الخدمات الحكومية بالصفقات التجارية، ومساعدات المصارف والشركات، وقل منها ما لم تكن للفرنسيين مساهمة فيه …
ومن الوظائف التي كانت تبدو للنظر بريئة من هذه الشبهات وظيفة المدير العام لدار الكتب المصرية، التي كانت موقوفة — باتفاق العرف — على علماء الألمان، ولكن هذه الوظيفة عملت في الدعاية الخفية أحيانًا ما لم تعمله وظيفة في السفارات السياسية، وكان اتصال المدير العام لدار الكتب بزمرة الصحفيين وحملة الأقلام أمرًا لا غبار عليه؛ لأنهم كانوا يقصدون إلى دار الكتب للمطالعة والمراجعة والنسخ في جميع الأوقات، وماذا يحول دون الاتفاق على حملة منظمة في الصحف خلال مقابلة أو مقابلتين لنسخ هذه الورقة أو استعارة ذلك الكتاب؟
ونعود إلى الدستور
ونعود إلى صحيفتنا التي بدأنا فيها علمنا، نسأل: كيف عاشت من مواردها الصحفية؟ وكيف كانت ترجو أن تعيش كما عاشت الصحف في أيامها؟
نقول اليوم: إن ظهورها بوسائلها التي عهدناها، ولا يخامرنا الشك فيها، كان عجبًا من العجب، وخلاصة ما يقال عنها: إن قلة مصروفاتها كانت هي السند الأكبر لبقائها المزعزع في عمرها القصير.
ضاع الأمل في الاشتراكات بعد شهر أو شهرين، ولم يكن صاحب الصحيفة — على شهرته بالنظريات — مجردًا من الدراية الحسنة في تنظيم الأعمال، فاخترع طريقة الاشتراك الشهري بالأذونات مع خصم رسوم البريد من بعض هذه الأذونات، وأفادت هذه الطريقة قليلًا، ولكنها كانت — على أحسنها — فائدة تأجيل للقضاء المحتوم.
وكسدت سوق البيع بعد الخلاف بين الدستور واللواء، فقصرت الإدارة عدد المطبوع من النسخ على الطلب اليومي، ولم يزل هذا الطلب اليومي يتناقص من أسبوع إلى أسبوع …
ومن لطائف الأستاذ فريد وجدي — وكان يمزح أحيانًا، ولا يقول إلا صدقًا — أن موظف الإدارة فاتحه في نقص أجور الإعلان، فقال له متململًا: ألا تحمد الله لأننا لا نغرم حتى الآن إعلانات في الصحف عن ظهور الدستور؟!
أما الإعانات السرية فقد كان الدستور خليقًا أن يجمع منها الكثير، لولا أن الأستاذ فريد وجدي — رحمه الله — كان يحسب أنه يسخر أصحاب الدعايات لرسالته الدينية، ولا يفهم أنهم يسخرونه لدعايتهم السياسية … وقد يصل الأمر إلى تبرعات الأفراد، فلا يقبل منها الرجل ما يزيد على قيمة الاشتراك المكتوبة على الصحيفة، وحدث من ذلك أن السيد «توفيق البكري» أراد أن يعرب للصحيفة عن شكره لموقفها منه أمام الخديو في مسألة «زفة المحمل»، وحضور الطرق الصوفية فيها، فأرسل إلى الأستاذ وجدي مبلغًا لا أذكره على التحقيق، ولكنه يزيد على قيمة الاشتراك بكثير … فأمر صاحبنا كاتب الحسابات أن يكتب للسيد إيصالًا بقيمة الاشتراك، ويعيد إليه بقية مبلغه مع الإيصال …
وماذا تكون النتيجة؟
تكون على هذا نتيجة مكتوبة قبل المقدمة، ولولا قلة المصروفات — كما أسلفنا — لاتصلت النتيجة بالمقدمة في أيام، أو على الأكثر في أسابيع!
ستة جنيهات
كانت المصروفات القليلة سببًا من أسباب بقاء الصحف المصرية في سنواتها الأولى …
وتظهر قلة المصروفات من تكاليف التحرير في الصحف اليومية الكبرى، فقد كان قلم التحرير في أكبر الصحف لا يزيد على خمسة من المحررين والمترجمين والمخبرين، وملخصي الأخبار من الأقاليم، يبدأ مرتبهم من خمسة جنيهات في الشهر، ويندر جدًّا أن يجاوز العشرين …
وكان قلم التحرير في صحيفة الدستور يشتمل على محرر واحد غير صاحب الصحيفة …
وهذا المحرر الواحد هو كاتب هذه السطور، يشترك في التحرير والترجمة، وتلخيص الأخبار، ويتناول في الشهر مرتبًا لا يقنع به الآن أحد يعمل في الصحف من البوابة إلى السعاية، ونقل الأوراق بين المكاتب، ودع عنك التحرير والترجمة وجلب الأخبار …
ذلك المرتب «مبلغ قدره» ستة جنيهات، ولم يكن يزيد على مرتبي من وظيفة الحكومة بأكثر من جنيه واحد … فلم تكن زيادة المرتب أحد المغريات لي على ترك الوظائف الحكومية للاشتغال بالصحافة؛ لأن المرتبين متقاربان مع الفارق في الضمان والترقية، ومستقبل المعاش …
إلا أن القيمة في هذه المرتبات لا تحسب بحساب الأرقام، فإن الستة ربما ساوت ثلاثين في الوقت الحاضر، أو أربت على الثلاثين …
كانت خمسة مليمات في ذلك الحين تعطيك مائدة إفطار حسنة في الصباح، وقد ترضيك هذه المائدة عند الضرورة في طعام الغداء أو العشاء …
مليم ثمن نصف رغيف (شقة من الخبز) يساوي وزن الرغيف في منتصف القرن العشرين …
ومليمان ثمن الفول والزيت.
ومليم ثمن صفحة من السلطة.
ومليم ثمن برتقالة أو يوسفية أو أصبع موز أو أربع بلحات …
فإن أردت التنويع أمكنك أن تغير هذه الأصناف بالحلاوة الطحينية، أو العسل والطحينة أو الجبن أو البيض، ومن هذه الأصناف ما يغنيك عن الفاكهة والحلويات!
ولك أن تتوسع في طعام الغداء، فلا تقنع بالأصناف التي تقدم على مائدة الإفطار … ولكنك لا تحتاج إلى أكثر من عشرة مليمات للصفحة من الخضر المطبوخة، وعشر مليمات للصفحة من الأرز، وعشرين مليمًا للصفحة من الخضر، وفيها قطعة من لحم البقر أو الضأن.
وقس على ذلك سائر المأكولات.
دروس التلغراف
وكانت مشكلة السكن يومئذ أيسر من مشكلة الطعام.
فكنت أنا من سكان الضواحي الخلوية، لا يكلفني السكن في الشهر أكثر من ثلاثين قرشًا لحجرة ذات نوافذ مطلة على الطريق ومروج الخلاء، ولم يقع اختياري على الضاحية التي سكنتها — بجوار حدائق القبة — لأنني كنت من طلاب الترف وسكان المنازل الخلوية، ولكنني كنت أتعلم دروس التلغراف بمدرسته في ضاحية الدمرداش، فاخترت السكن إلى جوارها، وضمنت أجور المواصلات باشتراكات «مجانية» على حساب مصلحة السكك الحديدية، فلما اشتغلت بالصحافة خسرت أجور المواصلات، ولم أعوضها بتذاكر الاشتراك في الترام أو قطار كبري الليمون؛ إذ كان طلب هذه التذاكر مخالفًا لمبدأ صحيفتنا «الحنبلية»، فعوضتها بخمسة مليمات في الترام، أو بمشوار على الأقدام، وقد كنت من الفلاسفة المشائين قبل أن أسمع باسمهم بين الفلاسفة الأقدمين، وكنت لا أعجز عن مشوار بين أسوان والخزان، أو بين أسوان وأبي الريش، فلماذا أعجز عن مشوار بين القاهرة وحدائق القبة أو الدمرداش؟
لا موجب لهذا العجز على التحقيق، وبخاصة بعد العلم بمدرسة الفلاسفة المشائين، وبعد ترشيحي بهذه الصفة للتلمذة على أستاذ الأساتذة، ومعلم المعلمين: سيدنا أرسطو كما كان يقول أستاذ الجيل «أحمد لطفي السيد».
ديوان زهير … بقرش
هذه ضرورات المعيشة المادية، فما القول في ضروراتها النفسية أو الأدبية؟
لقد كانت أيسر من ذلك فيما أعرفه من شئوني الخاصة، ولعلها أيسر من ذلك في شئون الكثيرين …
ففيما عدا شهود التمثيل مرة أو مرتين عند عرض الروايات الجديدة لم يكن لي مطلب عزيز غير شراء الكتب العربية والإفرنجية.
فهل تراني أعجز عن «قرش صاغ» ثمنًا لديوان البهاء زهير؟ أو عشرة قروش ثمنًا لديوان المتنبي؟ أو قرشين ثمنًا لكتاب المستطرف في كل فن مستظرف، وعلى هامشه، أو في ذيله كتابان آخران؟
وإذا زادت الحسبة إلى الجنيهات، فهل تراني أعجز عن رحلة إلى دار الكتب المصرية لمراجعة المجلدات أو للنقل منها «عند اللزوم»؟
أما الكتب الإفرنجية فقد كانت لها طبعات يباع فيها الكتاب بشلن واحد، وكانت هذه الطبعات تحيط بالنخبة المختارة من كتب المنظوم والمنثور، وما يصعب الحصول عليه في طبعة منها؛ لأنها مخصصة لصنف من الكتب تنتقيه، ولا تعنى بغيره، فليس من الصعب أن تحصل عليه في طبعة مثلها في الثمن، وفي جودة الورق والتغليف … وعلى هذا أمكنني في خلال ستة أشهر أن أجمع مائتي كتاب من عيون الأدب الغربي في جميع اللغات، مترجمة إلى اللغة الإنجليزية …
بارك الله في مصطلحات السياسة، وفوارق الأشكال والعناوين في العلاقات الدولية.
فما زلت من ذلك الحين أومن بأنها شيء صحيح ملموس الأثر، وليست حروفًا على الورق، ولا ألفاظًا تطير مع الهواء.
فالبلاد المصرية كانت — في الواقع — تابعة للدولة البريطانية في سياستها الخارجية وحكومتها الداخلية …
ولكنها لم تكن كذلك في مصطلحات السياسة، ولا في أشكال العناوين.
ولهذا استطعت أن أشتري كتابًا يباع في إنجلترا بثلاثة جنيهات، ولا أبذل فيه أكثر من أربعين قرشًا في مكتبات القاهرة؛ لأنه صادر من مطبعة ألمانية حصلت على حقوق طبع الكتب وبيعها في كل مكان غير «الأملاك البريطانية».
ولم تكن مصر قط من الأملاك البريطانية بحكم القانون، فليس في العرف الدولي ما يمنع المطبعة الألمانية أن ترسل إلى مصر جميع مطبوعاتها؛ لتبيع الكتاب منها بمارك واحد، أو بشلن واحد على وجه التقريب … فاستغنينا بهذه الطبعة زمنًا عن الكتب الإنجليزية في طبعاتها الغالية، وهانت مشكلة الكتاب بعد مشكلة الغذاء.
ولم تبق إلا مشكلة الكساء!
وقد كانت حقًّا مشكلة المشاكل لا مراء!
لأنها تحتاج إلى مبلغ متجمع لا يوجد في اليد ساعة الطلب، ولا تحلها عندي حيلة التقسيط؛ لأنه — على ندرته في ذلك الحين — لم يكن مريحًا لمن يبيع الكساء ولا لمن يلبس الكساء.
ومرة واحدة حللت هذه المشكلة بشراء بذلتين قديمتين، ولكن الجوار الصالح هداني إلى حيلة أصلح من هذه الحيلة لتدبير هذه المشكلة، وهي درس خصوصي لتاجر أقمشة يتولى تفصيل القماش وتسليمه كسوة كاملة، ويوفيني الأجر — بذلك — كسوة كل ثلاثة أشهر … ولم تزد مدة التعليم كله على كسوتين، لنشاط التلميذ أو لبراعة الأستاذ، أو لرغبة الفريقين معًا في «فسخ» العقد بسلام!
خصلة مشتركة
وإخال، بعد هذه القصة عن الكفاية، أنني نسيت أن أقول: إن قلة المصروفات كانت خصلة مشتركة بيني وبين الصحافة التي عملت فيها، فقد كنت في سن الحاجة إلى المصروفات قليل الحاجة إلى المصروفات، وأصح من ذلك أن أقول: إن مطالبي في حياتي ليست بالقليلة، ولكنها ليست كذلك من النوع الذي يتوقف على المال.
وكفاية المرتب، على أية حال، مهمة جدًّا في كل عمل نعمله لنعيش من رزقه.
هي شيء مهم جدًّا ولا كلام …
ولكن هل ترانا نفهم أنها هي الشيء المهم الوحيد، أو أن شيئًا آخر لا يهمنا مثلها على تفاوت المرتبات والأجور؟
من يفهم ذلك ففي تجاربه نقص يتعبه في عمله ويتعبه في معيشته، فالرغبة في العمل الذي نتوفر عليه مهمة جدًّا كالمرتب الذي نتقاضاه منه، ونحن نستريح بستة جنيهات نتناولها من عمل نرغب فيه، ولا نستريح باثني عشر نتناولها من عمل نبغضه ونساق إليه، ولا نود أن ننجزه محسنين أو غير محسنين!
وقد بدأت عملي في الصحافة راغبًا فيه مقبلًا عليه.
ووجدت من اللحظة الأولى أنني أريد أن أفرغ فيه جعبة المعرفة التي حصلتها من مطالعاتي الصحفية، ومن مطالعاتي في الكتب، وفي الحياة …
وبعض هذه المعرفة صبيانيات مضحكة لا تقدم ولا تؤخر في الموضوع، ولكنها تدل على حكم العادة وتواتر النظر والسماع …
«عم» العقاد
كيف أوقع مقالتي الأولى؟ وكيف يكون توقيعي الملتزم في جميع المقالات؟
وقعتها كما توقع المقالات التي أقرؤها في المجلات الأجنبية، فكان توقيعي باللقب والحرفين الأولين من الاسمين «ع. م. العقاد».
ومثل هذا التوقيع لا ينجو من ألسنة الزملاء الهازلين في بلد «القفش» والقافية؛ فسرعان ما ظهر لي مقالان أو ثلاثة حتى دغموا الحرفين في اسم واحد، وراحوا يتحدثون عن مقالات «عم العقاد …»!
وماذا قال عمك؟ وماذا تقول يا عم؟ واكتب لنا يا عمنا بما تراه … وقس على ذلك بقية القافية في مختلف الأوضاع والنداءات …
ويأبى العناد أن أرجع عن «عم العقاد».
أو لعله لم يكن عنادًا محضًا ولا صبرًا على السخرية بغير مبالاة، فليس من الكسب الرخيص للكاتب الناشئ أن يذكر وأن يكون في توقيعه إغراء بذكره … وأما السخرية فهي شهرة نابية في جميع الأسماع، ولكنها تهون إذا أصابت الفطاحل النابهين، كما تصيب الناشئين المبتدئين …
وهكذا مضى «عم العقاد» يكتب بهذا التوقيع من العدد الأول إلى آخر الأعداد!
أما الموضوع فقد كان «المقالة الأدبية» في المرتبة الأولى، ثم تليه المقالة على الإجمال في مختلف الشئون …
وكان أدب المقالة في تلك الآونة يستوعب مطالعاتي الحديثة أو يكاد …
كنت أدمن القراءة في كارليل، وماكولي، وهازلت، ولي هنت، وأرنولد، وغيرهم من أئمة فن المقالة في القرن التاسع عشر … وكان بعض هذه المقالات مما ينشر في الصحف اليومية؛ لأنها تمتد حتى تبلغ في المجلة ثلاثين أو أربعين صفحة، وبعضها مما يصلح للنشر في الصحافة الأسبوعية كما يصلح للنشر في الصحافة اليومية، ومن هذه المقالات كنت أترجم ما يصلح للنشر في الصحيفة السيارة، وعلى غرارها كنت أكتب ما أكتب عن أدباء العرب والفرس، ومسائل النقد والتعليق …
فن المقالة
على أنني أحمد الله؛ لأن المتقدمين عليَّ في الصحافة لم يغلقوا عليَّ جميع الأبواب، فبقي لي في الصحافة المصرية باب واحد أستطيع أن أقول: إني كنت أول السابقين إليه …
وذلك هو باب الأحاديث مع الوزراء والساسة، فلا أعلم أن أحدًا من الصحفيين المصريين سبقني إلى إجراء حديث عام مع وزير مصري، أو رئيس شرقي يسمع له قول في السياسة، وإخالهم معذورين بعض العذر في هذا التأخير، وإخالني محظوظًا بعض الحظ في هذا السبق المقدور؛ لأن الأحاديث أمر مرهون بأوانه لا يدركه أحد قبل موعده ولا بعده، ولا هو بالمعقول في صحافة مصر على عهد الاحتلال قبل حادث دنشواي وقيام الأحزاب …
من كان يحادث الوزراء المصريين في شئون السياسة العامة؟ وماذا يقول الوزير للرأي العام إذا أراد المقال؟ وأي برنامج له يعرضه على الناس؟ وأي رأي كان له بعد رأي المستشار، ورأي قيصر قصر الدوبارة من وراء المستشار؟
أحاديث الوزراء
إن حديثًا يجري مع وزير لا يملك من أعمال وزارته غير التوقيع والسكوت لهو اللغو بعينه، فلا حرج على الصحفيين المصريين إذا تجنبوه … وقد تجنبوه معذورين حتى خطر لي أن أقتحم هذا الباب لأول مرة، فكان اقتحامي إياه في الحق عنوانًا لصفحة جديدة في تاريخ الوطنية المصرية، ولم يكن مجرد سبق في الصحافة يتكرر كل يوم …
وجرى الحديث الأول مع سعد زغلول في وزارة المعارف، وجرى غيره من الأحاديث مع الغازي أحمد مختار «قوميسير» الدولة العثمانية كما كانوا يسمونه في زمانه، وكان على ضآلة نفوذه في مركزه شخصية من أقوى الشخصيات العسكرية والسياسية التي عاشت في ذلك الزمان …
وكنت أعلم أن حديثًا يتطرق إلى نظام الجيش في عهد الاحتلال، ويفوه به أكبر القادة العثمانيين في مركزه الرسمي بالديار المصرية — لن يخلو من ضربة تقضُّ مضاجع المحتلين …
ولقد كان ما قدرت، فإن الرجل خبطها خبطة عنيفة، وقال لي لما سألته عن العدوان على المحمل المصري في جزيرة العرب: إن الذنب ذنب النظام لا ذنب الأمن في الجزيرة العربية، وإنه كان يستطيع أن يفتح الجزيرة كلها بفرقة كالفرقة التي تحرس المحمل في كل عام!
يا خَبَر!
إن كلمة دون هذه الكلمة في المساس بنظام الاحتلال العسكري قد أوشكت أن تطيح بعرش عباس الثاني، وقد حركت الدولة البريطانية بحذافيرها لتهديده وإرغامه على الاعتذار …
فكيف تراهم يصبرون على تلك الضربة من قائد عسكري يمثل الدولة العثمانية؟
إلا أنهم مكروا ولم يجهروا، وبدأت بينهم وبين القائد الكبير أزمة متواترة متوترة … نصرهم فيها عليه سماسرة الخذلان في الآستانة، فكان الغازي مختار خاتم «القوميسيريين» في هذه الديار …
ثورة على الخديو
إذا كنت قد خرجت من صحيفة الدستور بأولية من أوليات الصحافة المصرية، فهذه هي «أوليتي» التي خرجت بها من أول عملي في صحيفة يومية: أول صحفي مصري حصل على حديث من وزير عامل في الوزارة، أو من رئيس شرقي كبير يسمع له رأي في السياسة …
وقد كدت أن أضيف إليها «أولية» أخرى ذهبت غير محسوس بها، قبل أن تحبو من مهدها …
كدت أكون أول كاتب يحاكم على حملة صحفية موجهة إلى سياسة الأمير في شئون مصر، وفي شئون الإصلاح الأزهري على التخصيص …
كانت سياسة الوفاق يومئذ في عنفوانها؛ وكان مدار هذه السياسة على التعاون بين السلطة الفعلية — سلطة الاحتلال — وبين السلطة الشرعية — سلطة الأمير … وقامت السياسة فعلًا — بعد عزل اللورد كرومر — على إطلاق يد الخديو في مسائل الحكم التي تعنيه، ومنها مسألة الأزهر والأوقاف ومسألة الرتب والنياشين …
وفي هذه الفترة تنمَّر الخديو للحركة الوطنية، وأدار ظهره لطلاب الدستور، وعمل جهده على استئصال نهضة الإصلاح في الأزهر بعد وفاة الأستاذ الإمام، وأعلن عداءه لمدرسة القضاء الشرعي، وكاد يقضي عليها …
وثارت الثائرة على الخديو من داخل الأزهر وخارجه، فتكلم مرة عن نهضة الإصلاح الأزهري، وأقسم أنه يغار على الإصلاح غيرة أصدق من دعوى المدعين للغيرة عليه …
وكتبت يومئذ مقالًا مطولًا استغرق الصفحة الأولى من صحيفة «الأخبار» التي كان يصدرها الشيخ يوسف الخازن، ويحررها الأستاذ توفيق حبيب، قلت فيه ما فحواه: إن الملوك لا يحتاجون إلى القسم؛ لأنهم يثبتون نياتهم بالأعمال، لا بالأقوال!
براءة المشايخ
وكان في وسعي أن أكتب هذا المقال في صحيفة الدستور؛ لأن صاحبها — الأستاذ فريد وجدي — كان كما أسلفت من أرحب خلق الله صدرًا لحرية الرأي وحرية المناقشة، ولكنني قدرت له حريته هذه، فلم أشأ أن أحرجه في مسألة ترتبط بالأزهر والإصلاح الديني، وقد كانت له في العالم الإسلامي مكانة تشبه مكانة الأقطاب الدينيين …
فلما ظهر المقال في صحيفة الأخبار بتوقيع «ع الأسواني» قلقت له الحاشية الخديوية، وظنوا أنه من إيحاء بعض المشايخ الأزهريين … فأكبروا هذا «التمرد» من معقل الخديو الأمين في أيامه، فاستدعت النيابة صاحب الأخبار، وسألته عن اسم صاحب المقال، فأذنت له أن يطلعهم عليه، ولعلهم اطمأنوا إلى هذه النتيجة بعد أن علموا ببراءة المشايخ من الشبهة، فانطوت المسألة ووقفت عند هذا الحد، إشفاقًا من إثارة القضية الأزهرية في أطوار التحقيق والمحاكاة والدفاع، وتعليقات الصحف وأحاديث المتحدثين.
ولولا ذلك لسبقت نفسي بثلاث وعشرين سنة، فكنت أول من حوكم على تلك العيوب الملكية التي يحملها أصحاب العروش، ويحاسب عليها أصحاب الأقلام.
يومية وغير يومية
كانت الصحف المصرية عند أوائل هذا القرن تنقسم إلى يومية وغير يومية، ولم تكن هناك صحف أسبوعية بالمعنى الذي نفهمه من الصحافة التي تصدر مرة كل أسبوع، فإن لم تكن الصحيفة يومية، فالصحف التي يقال عنها: إنها أسبوعية قد تصدر مرة كل شهر أو مرة كل شهرين، أو تنتظم على الصدور يومًا في كل أسبوع إلى أمد محدد، ثم تنقطع دفعة واحدة، أو تعود إلى الانقطاع على دفعات …
وكانت مواعيد الانقطاع على الجملة أصدق من مواعيد الصدور … لأنه كان يتكرر على التحقيق حيث يتعذر التحقيق من موعد للصدور …
وربما انتظمت الصحيفة «الأسبوعية» خمسة أسابيع أو ستة أسابيع متوالية، ولكنك تنتظرها عبثًا إذا انتظرتها في يوم معلوم من أيام الأسبوع، فإذا ظهر هذا العدد منها يوم الأحد، فلا مانع أن يظهر العدد التالي يوم الخميس أو يوم الجمعة، أو بعد يومين اثنين فقط من ظهور العدد الذي سبقه، ولا معول في ميعاد من هذه المواعيد على شيء غير «توافر المادة اللازمة للتحصيل …»
شيء لزوم الشيء
وما هي المادة اللازمة للتحصيل؟
حملة على مشهور أو فضيحة في أسرة تخاف التشهير، أو تهديد مقدور على حسب المناسبات، ومصالح الضحايا المعرضين للتهديد، أو ضجة سياسية أو اجتماعية تشتبك فيها المطامع والدعايات، وتتعدد فيها الفرص للمنتهزين من هنا ومن هناك …
وكان أفضل هذه الصحف «الأسبوعية» الذي يسرع إلى الاحتجاب، وتمتنع عليه وسائل الثبات والاستمرار.
وقد ظهر من هذه الصحف الفضلى كثير لم يبق منها بعد حين كثير ولا قليل، ولم يقل أحد من الصحفيين الأفاضل أو غير الأفاضل: إنه يصدر صحيفته لمصلحة خاصة أو يصدرها لمحض التشهير والتهديد، ولكنك تراجع الأسماء فلا ترى بها من خفاء … وماذا يبقى من الخفايا وراء اسم كاسم «الكرباج» أو «البعبع» أو «الجاسوس» أو «اللجام» أو «الصاعقة» أو «المرصاد» أو «العفريت» أو «عفريت المقاولين» على التخصيص؟
هذا إلى أسماء أخرى كالخلاعة والصبوة والغندرة والمرستان والفوضى، وما أشبهها من أسماء يختارها أصحابها، وهم في سعة من الاختيار، وفي سعة من الادعاء كما يشاءون بما اختاروه من كلمات!
ولم يمض غير يسير حتى افترقت الكفايات اللازمة لإصدار الصحيفة الأسبوعية على هذا المنوال …
فقد يكون الرجل من أجهل الجهلاء، ولكنه من أقدر الناس على التشهير والتهديد، واستغلال الفضائح والإشاعات.
وقد يكون الرجل عاجزًا عن كسب مليم من هذه الصناعة، ولكنه قادر على تسويد الصفحات وتلفيق الأقاويل والأباطيل …
ولا بد من الكفايتين لإصدار الصحيفة في موعدها الملائم، فإن لم توجد الكفايتان في رجل واحد، فقد توجدان في رجلين، وقد يهتدي أحدهما إلى الآخر بحكم المصادفة إن لم يهتد إليه بحكم الضرورة …
وهكذا كان …
بين العتبة والفجالة
فقد جدَّت في القاهرة ثلاثة مكاتب أو أربعة لتحرير المقالات حسب الطلب والاقتراح مقرها حانات وقهوات موزعة بين باب الخلق والعتبة الخضراء والفجالة وحي الحسين، وهي الأماكن التي كثرت فيها المطابع الصالحة لطبع الصحف الصغيرة؛ لأنها تكلف القليل من الأجور، وتتقبل المقالات …
ورأينا من هذه «المكاتب» قهوة في العتبة الخضراء يجلس إليها محرر مشهور يكاد يرتجل المقالة في دقائق معدودات، وقد يكتب المقالات قبل اقتراحها على وجهين متناقضين، أحدهما للمدح والتأييد والآخر للقدح والتهديد … ويجلس بهذه المقالات على ثقة من الطلب في حينه، وقد يأتيه الطلب على النقيضين من طالب واحد في ساعة واحدة، ولا يعجزه في اللحظة الأخيرة أن يدخل التعديل المطلوب في القياس والتفصيل، إن كان لا بد من تعديل!
كان المكتب العام من «مكاتب التحرير تحت الطلب» في قهوة على مفترق شارع محمد علي وميدان العتبة الخضراء، وكان المطعم الذي تعودت أن أتناول فيه الغداء إلى جوار تلك القهوة … فكنت أجلس فيها هنيهة قبل الغداء أو بعده، وكنت ألقى فيها بعض الصحفيين والأدباء، وأحضر مجالسهم ومحاوراتهم، وأستمع إلى أحاديث غزواتهم وأحابيلهم في تحصيل إتاواتهم، فرأيت صاحب صحيفة من أشهر الصحف الأسبوعية في أيامها يجلس إلى مائدة «الشيخ المحرر»، ويبادره بطلب من «البار» على حسابه، ويفاتحه قبل حضور الطلب في موضوع مقالين مستعجلين، يثني في أحدهما على سري معروف من أصحاب القصور الباذخة على مقربة من حي عابدين؛ لأنه يثابر على عمل البر وإسداء المعونة إلى الجماعات الخيرية، وإصلاح المساجد التي تجاور قصره، وإطعام الفقراء الذين يترددون على تلك المساجد لوجه الله الكريم، وينحى في المقال الثاني على ذلك السري بعينه؛ لأنه مبتذل العرض والكرامة يغرر بالأبرياء، فيسوقونه إلى ساحة القضاء، ويطالبونه بالتعويض عما أصابهم به من الأدواء …
ثمن الفخر والثناء
وخرجت من القهوة إلى المطعم والمقالان يكتبان، ولعلهما عرضا في ساعة واحدة على السري المصلح المفسد، النافع الضار، المحمود المذموم … ولعله قد بذل الثمن ضعفين: ثمن الفخر وثمن السلامة من الخزي والبذاء.
ومجمل ما يقال في هذه الصحافة: أنها كانت في مجموعها على هذه الوتيرة … بين صحافة صالحة تسرع إلى الاحتجاب، أو صحافة فاسدة تعيش متقطعة متسكعة، وينقطع لها الحثالة من نفايات البلد، وقل أن تعتمد على بضاعة غير بضاعة الجهل والاحتيال …
ولنا أن نقول في كلمتين: إنها صناعة مرذولة ولا حرج، وعلينا أن نذكر أننا نتكلم عن الصحافة، وأن الصحافة يومئذ كانت ظاهرة اجتماعية تبحث عن مكانها … ومن أعجل الأحكام أن تدان الظواهر الاجتماعية بحكم واحد في فترات النشوء والانتقال على نحو خاص، فلا بد من استثناء في هذه الفترات، بل لا بد من حكم متئد يقابل الحكم العاجل، ويلغيه أو يكاد …
صناعة مرذولة محتقرة
هذا هو الرأي المجمل في صحافة مصر غير اليومية منذ خمسين سنة … ولكنك لا تستطيع أن تبخل بوصف الاحترام على صناعة الصحافة يومئذ في مصر إذا التفت من ناحية الصحافة «غير اليومية» إلى ناحية الصحافة اليومية، لما كان في مصر يومئذ من صناعة تضم بين أبنائها أناسًا أحق بالاحترام؛ من علي يوسف مدير المؤيد، ومصطفى كامل مدير اللواء، وأحمد لطفي السيد مدير الجريدة، كائنًا ما كان المقياس الاجتماعي الذي تقاس به الصناعات.
طبقة من المجاورين
ولا استثناء في ذلك لمقياس الدولة والحكومة، فإن الرتب والألقاب التي حصل عليها أقطاب الصحافة المصرية من الدولة لم تكن تقل في قيمتها الرسمية عن ألقاب الوزراء … ومن حصل منهم على «البيكوية»، فإنما كان يحصل عليها من الصنف الذي ينادى صاحبه بلقب الباشوية، ولولا أن الأستاذ «أحمد لطفي السيد» كان من المعارضين للسيادة العثمانية لجاءته الرتبة التي أنعمت بها الدولة على صاحبي المؤيد واللواء.
ومن الملاحظات التي لا تهمل في هذا الصدد مسائل الزوجية التي تعرض لها كبار الصحفيين في تلك الآونة، فإنها تدل على إحساس عميق داخل أصحاب هذه الصناعة، أودع في نفوسهم الثقة بمكانتهم الاجتماعية في شئون يتغلب فيها العرف التليد على كل اعتبار جديد، فلولا «الاحترام الاجتماعي» الذي كان يحسه الزعيم النابه في الصحافة اليومية، لما خطر لمصطفى كامل أن يخطب «الأميرة شويكار»، ولا خطر لعلي يوسف أن يتزوج بسليلة بيت السادات، وهو طموح أبعد من الطموح إلى مصاهرة بيت الإمارة؛ لأن اعتداد بيت السادات بشرفه الديني كان في ذلك العهد أقوى من اعتداد الأمراء بمراتبهم الدنيوية.
ولا يرجع شيء من هذا الاحترام الاجتماعي إلى مزية من مزايا الطبقة أو مزايا الثروة، فإن مصطفى كامل كان من طبقة الموظفين الصغار، وعلي يوسف كان من طبقة الفلاحين الفقراء «المجاورين» للجامع الأزهر، ولم يكن لهما من الثروة قسط يذكر بعد أن بلغا في الصحافة قمة النجاح …
•••
إنه كان أحسن الأزمان، وكان أسوأ الأزمان … كان عهد اليقين والإيمان، وكان عهد الحيرة والشكوك، كان أوان النور وكان أوان الظلام … كان ربيع الرجاء، وكان زمهرير القنوط، بين أيدينا كل شيء وليس في أيدينا أي شيء، وسبيلنا جميعًا إلى سماء عليين، وسبيلنا جميعًا إلى قرار الجحيم … تلك أيام كأيامنا هذه التي يوصينا الصاخبون من ثقاتها أن نأخذها على علاتها، وألا نذكرها إلا بصيغة المبالغة فيما اشتملت عليه من طيبات ومن آفات …
فقد قرأت هذه الكلمة فخطر لي يوم قرأتها أنها لعبة من ألعاب المجانسات اللفظية لا تصدق على زمن من الأزمان، ولا على حالة من الحالات، فما برحت منذ قرأتها أعيدها أو تعيدني إلى ذكراها كلما صادفتني مرحلة من مراحل التاريخ الكبرى؛ لأنها وصف يصدق على كل مرحلة من هذه المراحل، ويصدق على كل جديد، ومنها فترة اليقظة المصرية في أوائل هذا القرن العشرين …
حائر بين الاثنين
وطالما حيرتني وحيرت غيري هذه المناقضة بين الصحافة اليومية اليومية المحترمة، والصحافة «غير اليومية» التي لم يكن لها حظ من الاحترام …
وليس مما يدفع الحيرة أن نعلم أن «الفترات الخالقة» بطبيعتها متناقضة مشتملة على المحاولة من طرفيها، إلى النجاح أو إلى الإخفاق …
ولكنني أحسب أن الصحافة في أوائل هذا القرن قد أصبحت «هامة»، ولم تصبح «عامة» إلا بعد حين …
وهذا فيما أحسب هو علة التناقض بين صحافة يومية محترمة — بمقاييس المجتمع — وصحافة أخرى غير محترمة بكل مقياس من هذه المقاييس …
فالصحافة إذا كانت وظيفة هامة، أثبتتها القوة الاجتماعية التي تعرف لها أهميتها، وتحذر من إهمالها، وهذه القوة الاجتماعية تأتي من قمة المجتمع ومركز القيادة فيه …
وأما «الوظيفة العامة» فلا غنى لها عن «رأي عام» يسندها ويراقبها ويتعهدها، ويتكفل لها كما تتكفل له بالحماية والرعاية …
ولم يكن لهذا «الرأي العام» وجود في أوائل القرن العشرين، ولم تكن الصحيفة الأسبوعية قد بلغت من القوة أن تؤدي الوظيفة الهامة التي تؤديها الصحيفة اليومية، وتهتم بها قيادة اجتماعية تعرف لها عملها، وتتقي عواقب الإهمال فيه …
كانت الصحيفة اليومية توجد لأنها لازمة مهمة في اعتبار طائفة تتولى القيادة الاجتماعية …
أما الصحيفة الأسبوعية، فإنما كانت توجد لأنها لازمة لصاحبها ومن يعمل فيها، فإن لم يتكفَّلوا بتدبير أمرها، فما من أحد غيرهم يتكفل بتدبيره …
وعلى كلتا الحالتين كانت الصحافة — يومية وغير يومية — عارضًا غريبًا على المجتمعات المصرية، ولم تكن هناك بيئة خاصة يقصدها الصحفيون لأنهم صحفيون، بل لم تكن للصحافة نفسها كلمة متفق عليها … فربما سمي الكاتب في الصحيفة بالتحريرجي، أو الجورنالجي، أو الغازيتجي، أو المحرر من صناعة التحرير في المطابع والدواوين التي تكتب فيها الرسائل … فأما كلمة «الصحافة» فهي بدعة مستحدثة خلقها اللغويون على وزن «فِعالة» كالنجارة والحدادة والملاحة والتجارة، وكل ما يأتي على هذا الوزن للدلالة على الصناعات.
ولو سئل الصحافي يومئذ: ما عملك؟ لما وجد كلمة مفردة يجيب بها من يسأله، ويفهمها السائل والمسئول.
صناعة بغير عنوان، أو عنوان بغير جهة، ولا فرق في هذا بين جهة المكان وبين «الجهة المعنوية» إذا استعرنا هذه العبارة من لغة القانون …
في «سبلندد بار»
فقد ترى في «سبلندد بار» أناسًا من الصحفيين، ولكنهم لا يقصدونه لأنهم صحفيون مشتغلون بهذه الصناعة … وإنما يقصدونه لأنه ملتقى المهاجرين من سورية ولبنان والعراق وغيرها من الأقطار العثمانية …
وقد ترى أناسًا آخرين في قهوة الشيشة، أو القهوة الوطنية، أو قهوة يلدز أو قهوة متاتيا، أو قهوات الحي الحسيني، وباب الخلق، والفجالة … ولكنك لا تراهم هناك لأنهم يعملون في هذه الصحيفة أو تلك، وإنما تراهم حيث كانوا لأنهم يدخنون الشيشة أو يشجعون القهوات المصرية في أول عهدها بمنافسة القهوات الأجنبية؛ أو لأنهم يلعبون الشطرنج والدومينة؛ أو لأنهم تناقلوا سنة الجلوس في هذا الحي أو ذاك من أيام الطليعة الأولى بين الأدباء رواد الأندية العامة …
وعلى هذا الاختلاط بين البيئات الصحفية، أو البيئات القلمية، تتحقق من أمر واحد لا اختلاط فيه، وهو اتصال تلك البيئة بالحركات العامة في الشرق كله … فلم تعرف حركة عامة في قطر من أقطار الشرق لم تكن لها صلة ببعض الجالسين …
هنالك ترى الباحث في فلسفة النشوء والارتقاء، أو مذاهب الاشتراكية أو تحرير المرأة، ومعهم ترى رئيس جماعة «تركيا الفتاة»، أو صاحب الصحيفة الإيرانية الحرة، أو مؤلف كتاب طبائع الاستبداد، أو عصابة الحملة على فتوى الترنسفال، وهناك رأينا إبراهيم ناصف الورداني بهياجه الدائم، ولهفته الدائمة على أطباق الأرز باللبن، ورأينا مصطفى الصغير الداعية الإسلامي الهندي الذي جازت حيلته في مصر، واعتقله الكماليون في الآستانة فحكموا عليه بالإعدام، ونفذوا الحكم على الرغم من احتجاج الدولة البريطانية …
وهنالك كنا نلقى من نلقاهم من الأدباء الذين لا يشتغلون بالصحافة إلا إذا كتبوا إليها، ومنهم كانت صفوة الصحب والزملاء على قلة ترددهم، وترددنا على القهوة لغير موعد أو مصادفة.
وكانت الصناعة كلها عارضًا غريبًا في بيئات غريبة …
صناعة بغير عنوان
صناعة بغير عنوان أو عنوان بغير جهة … ومن هذا التيه بين البيئات تعرف ما يحيط به من القلق، أو من «التوزع» والبعثرة بين مختلف الشواغل والهموم …
إلا أننا نبرئ الذمة قبل ختام هذه الفاصلة من المذكرات، فنسأل: أكانت الصحافة حقًّا عارضًا غريبًا كل الغربة في المجتمعات المصرية والشرقية؟ أيمكن أن توجد صناعة في مجتمع من المجتمعات دون أن تسبقها صناعة مشابهة لها، قائمة على أساسها؟
أكاد أقول: إن وجود هذه الصناعة مستحيل، فلا بد من صحافة قبل الصحافة على صورة من الصور، ولا بد من صحفيين قبل الصحفيين …
وللصحفي في المجتمع المصري أب أو جد من لحمه ودمه، ومن طبيعته وصناعته، فمن يكون هذا الأب أو هذا الجد الذي ننتمي إليه أجمعين نحن معاشر الصحفيين؟
هو «اللبيب» على أحسنه وأعلاه، وعلى أسوئه وأدناه … اللبيب الذي يعلو حتى يتبوأ مكان الواعظ المسموع والمستشار المعول عليه، والمعلم الذي يصغي إليه المتعلم المستفيد، كما يصغي إليه «الفهيم» المعجب بسحر الكلام وفتنة البلاغة … اللبيب الذي يهبط حتى يصدق عليه وصف «الثرثارة» أو «الأدباتي» الذي يفهم بالإشارة، ولا يتورع عن الحيلة في طلب الرزق المباح والمحظور، ولا يبالي ما يصيبه في سبيله من الزراية والابتذال …
اللبيب هو «جد» الصحفي في المجتمع المصري، على أسوئه وأدناه، وعلى أحسنه وأعلاه.