ذكريات وشخصيات
صديقي المازني أحوج الأدباء إلى التعريف بحقيقة فضله؛ لأني ما رأيت أحدًا من المعجبين به إلا وهو يجهل بعض مزاياه … وليس ذلك لخمول في الذكر، فقد بلغ — رحمه الله — من الشهرة غاية ما يبلغه الأديب في البلاد العربية.
وليس ذلك لغموض في النفس يباعد ما بين ظواهرها وبواطنها، فما عرفه أحد من طول المعاشرة إلا عرف أنه من أصفى الناس سريرة، وأشبههم ظاهرًا بباطن، وجهرًا بخفاء.
ولكنه لم يعرف بحقيقة فضله — أو بكل حقيقة فضله — لسبب غير الخمول وغير الغموض، وهو قلة الاكتراث والاكتفاء بأيسر ما ينال، وبعضهم يسميها «ملكة السخرية»، ويخيل إليه أنها على مثال السخرية التي اشتهر بها بعض المفكرين الساخرين … ولكنها فيما أعتقد تشبه السخرية وليست هي بها؛ لأنها تخلو في جوهرها من نكاية السخرية التي تلازمها، فلا تنطوي على النكاية بأحد، ولا تدل على حب للنكاية.
وإنما هي على ما عرفتها واختبرتها، شيء آخر غير السخرية، وإن كانت شبيهة بها:
هي حب المعاكسة البريئة، أو هي الدعابة التي لا ضَيْر فيها على أحد، ولا فرق بين الدعابة على النفس والدعابة على الآخرين.
لم يكن يبالي أن يبرز خير ما عنده، ولم يكن يبالي أن يقدح في أدبه وفنه بقلمه ولسانه، فيسبق المنكر والحاسد إلى القدح والإنكار، وبذل الجهد والعناء …
لقد كان يرى أن حقائق الدنيا كالخيال؛ لأن غايتها إلى أمل أو ذكرى، وكلاهما خيال … فليكن متاعه بها ونصيبه منها خيالًا بغير عناء …!
وكان يرى أن الناس يضنون بثنائهم كأنه شيء لا غنى عنه، فكان يريهم أنه في غنى عنه فعلًا، وكأنه يقول لهم: «إن استطعتم فقولوا في أدبي وفني، وفي شخصي وسيرتي أكثر مما أقول.»
ويحسب بعضهم أنها فلسفة حياة، ويحسب الآخرون أنها «مظهرٌ» من مظاهر التحدي التي يواجه بها الناس.
وليست هي بفلسفة وليست هي بمظهر، هي طبيعة فيه عهدتها منه في غير عالم الكتابة، ولم تفارقه منذ صباه، كاتبًا أو غير كاتب، وغاية ما هنالك أنه كان يطاوعها حينًا فيسترسل فيها، وأنه كان يكفها حينًا فلا تظهر كل الظهور … كان ولعه «بالمعاكسة البريئة» تسليته الكبرى.
ولست أحصي ضروب هذه المعاكسات التي كان يرتجلها ارتجالًا في أكثر الحالات، ولكنني أذكر حادثًا منها له اتصال بجانب نفسي في تاريخ حياته، وهو من قبيل الوقائع التي تفسر الأقوال، أو تفسر مذاهب الكتابة التي يسميها بعضهم فلسفة حياة.
قلَّ من يذكر أن المازني شغل بالموسيقى في عنفوان شبابه، وأنه تعلم العزف على «الكمان»، وتلقى دروسًا كثيرة فيه، واستطاع أن يوقع بعض البشارف، وأوشك أن يحسب فيه من مهرة العازفين.
وكنا نقضي السهرة ذات ليلة في ناد كبير من أندية الموسيقى والغناء، وطابت السهرة إلى ما بعد منتصف الليل، وكان يبيت يومئذ بمنزله على مقربة من الإمام، ولم يكن خط الترام قد وصل بعد إلى الإمام، وقد كان الترام الذي يذهب إلى تلك الجهة ينقطع قبل ذلك الموعد على كل حال.
وودعته وهو يتفق مع حوذي ليوصله في مركبته، مركبة خيل؛ لأن السيارة لم تكن شائعة في تلك الأيام.
وكان الجو ليلتها رائقًا والقمراء في أوانها، وسكون الهزيع الثاني من الليل يغري بالغناء.
ويظهر أن الحوذي — حين رآنا نخرج من النادي الغنائي — قد بدا له أننا من هواة السمع، فلا حرج عليه إذا طرب وأطرب، وراح يتغنى بما شاء من «الطقاطيق» التي يهواها، ولم ينس أن يعتذر إلى «زبونه» بعد أن رفع عقيرته بالغناء: لا مؤاخذة يا سيدنا البيه، إن محسوبك من هواة السمع، وإني … وقبل أن يمعن في الاعتذار، بادره «الزبون» قائلًا: خذ راحتك … «أنا والله أحب أسايرك!»
فلم يملك الحوذي نفسه من الطرب والارتياح؛ لأن الجواب الذي سمعه جزء من «الطقطوقة» التي كان يغنيها، وراح يغني تارة ويردد قصته التي بدأ فيها تارة أخرى، وخلاصتها أنه كان — لهوايته السماع — يختار موقفه إلى جانب «تخوت الآلاتية»، ويسترق السمع بين لحظة وأخرى كلما استطاع الإفلات من رقابة البوليس.
وانجلى الحوذي، وخلا له الجو بعد باب السيدة عائشة، ونسي البوليس والزبون، ومضى كأنه في ليلته يود ألا تنقضي به الطريق.
وتدرك أخانا المازني تلك الشنشنة التي لا تفارقه، ويوحي إليه الموقف بالخاتمة الصالحة لهذا «الفصل الغنائي»، الذي أقحمه الحوذي عليه، فأفسد عليه في آخر الليل ما سمعه في أوله: إن المطرب المقتحم قضى ساعة، وهو يقول في الطقطوقة التي يغنيها: «لما أشوف آخرتها معاك …»
فماذا لو كانت آخرتها أن يلتفت عند خاتمة المطاف فلا يجد الزبون؟
خطر الخاطر فلحق به التنفيذ، وخلت المركبة والمطرب المشغول بغنائه لا يدري؛ لأن خلو المركبة وإخلاءها بذلك الحمل الذي كان فيها يستويان …!
والتفت الحوذي بعد أن طالت الرحلة، ولم يستمع من الزبون صوتًا ولا أمرًا بالوقوف … فطار ما في دماغه من الغناء، وامتلأ بكل ما وعاه في حياته من البذاء.
ولا حاجة بالقارئ إلى ترديد ما ألقاه من لسانه في ذلك الخلاء، وليس من حوله أحد يجيبه إذا استدل به، وغريمه الباحث عنه هو دليله الوحيد.
ويزورني الصديق في اليوم التالي فيسألني: «أتذكر شكل الحوذي الذي ركبت معه بالأمس؟»
قلت: «لا أظن أنني أحقق شبهه، فلماذا تسأل عنه؟ هل فقدت شيئًا عنده؟»
قال ضاحكًا: «كلا ولكنه هو الذي فقد!»
فلم أفهم ما يقوله وسألته: «وماذا فقد؟»
قال: «فقدني أنا …» وقص عليَّ تفصيل تلك القصة التي أجملتها هنا بعض الإجمال!
•••
انقضى أربه من المعاكسة، وجاء دور الرحمة بذلك المسكين، فإذا هو مهموم بالبحث عنه لإعطائه أجره الذي خيل إليه أنه قد ضاع بغير أمل، فقلت له: إن حوذيًّا بهذه الصفة لا بد أن يكون معروفًا بين زملائه في موقفه وغير موقفه، فهلم إلى الموقف نبحث عنه هناك!
ولم يخطئ ظننا في جدوى البحث هناك؛ لأن القصة كانت حديث زملائه جميعًا، وإن لم يكن هو في الموقف تلك اللحظة، فأخبرناهم أين يجدنا إذا عاد، ولم نلبث طويلًا حتى أقبل الرجل يهرول، وهو لا يصدق أن زملاءه قد صدقوه الخبر، فلما رأى صاحبه بالأمس أقبل عليه متهللًا، وتناول منه ضعف أجره الذي كان يطمع فيه …!
وانصرف وهو يدعو له ويقسم نادمًا: «لا عدت إلى الغناء أبدًا وأنا مركب» …
وإلا «فعلى روحي أنا الجاني!»
قال الصديق العزيز: «بل تغني ما شئت، ولكن تعطي وجهك للسميع!» … هذه هي «المعاكسة البريئة» التي لزمت صديقنا على صور شتى من صباه إلى أخريات أيامه، وتزداد بها الفجيعة أن نذكرها، فنذكر أي نفسٍ طفلة — أي طفولة من طفولة العبقرية الخالدة — قد عاجلها الحمام.
بهذه الدعابة البريئة — التي لا ضرر فيها على أحد — كان المازني يستقبل الدنيا، ويحتمل نقائضها ومفارقاتها، ويعفي نفسه من الجهد الذي يبرز للدنيا خير ملكاته، بل يحاول أن يستر هذه الملكات بيديه غير آسف على شيء!
قادر على نفسه
على أن المازني يصحح في هذا الباب خطأً يقع فيه أولئك الذين يحكمون على الأطوار النفسية بظواهرها وعناوينها، فيحسبون أن طبيعة الاستخفاف تقترن دائمًا بالعجز عن الجد، وصرامة الأخلاق.
والواقع أن الذين عاشروا المازني وخبروه يعلمون أنه من أقدر الناس على نفسه، وأصبرهم على رياضة طبعه، وأشدهم جلدًا على مواقف الشدة والصرامة، وقد عانى من شدائد الأيام ما يقصم الظهر ويغشي آفاق الحياة بالظلام، فلم يكن يتغير لمن يلقاهم ويلقونه في هذه الأحوال إلا بالإكثار من المرح والتبسط … فلا يعرف جليسه أنه في شدة إلا إذا تحول مزاجه إلى التكلف المحسوس.
وأنا أعلم من عاداته أنه كان مفرط الحس بالشم في مطلع شبابه على الخصوص، وكنا نمشي مسافات طويلة لتجنب المرور ببعض الأماكن التي تنبعث منها روائح الحانات والنفايات، ولكنه راضَ نفسه نحو ساعة على احتمال رائحة من أبغض الروائح إلى الأنوف؛ لأنه أراد أن يلقي درسًا حاسمًا على محبي «الشيطنة» من التلاميذ.
وكان أولئك التلاميذ يجهلونه، ويجهلون أنهم يحاربونه في ميدانه حين يعمدون إلى ضروب المعاكسات المدرسية التي يغيظون بها طائفة من المعلمين، فانتظروا حصته ووضعوا في المخابر حمضًا كريه الرائحة لا يطاق في مكان محصور، وسبق إلى وهمهم أن الحصة ستضيع في السؤال والجواب عن هذه الرائحة وعن مصدرها وعن واضعها، وعن المكان الذي جاء به منها — وهو بطبيعة الحال معمل الكيمياء في المدرسة — ولكنهم لم يلبثوا هنيهة بعد دخوله إلى الفصل حتى أدركوا أنهم في وهم بعيد؛ لأنه لم يسأل ولم يغضب ولم يبد عليه أنه فطن لشيء غريب، ولم يزد على أنه مضى بنفسه إلى النوافذ، فأغلقها وإلى الباب فأغلقه، وأخذ في الدرس وهو على أتم راحة ونشاط، وكلما اشتد الضيق بالشياطين الذين انقلبت عليهم فعلتهم تصايحوا يسألونه فتح النوافذ والأبواب، وهو يزعم لهم في جد وسكون أن الحجرة المغلقة أصح من تيار الهواء، وكان ذلك هو الامتحان الأول والأخير!
ملكة نادرة …!
وليس أعلم من المؤلفين بالمشقة التي يعانيها الكاتب إذا حاول أن يعيد الكتابة في موضوع من جديد، فإنها مشقة جهد ومشقة ملل في وقت واحد، ولكنني رأيت المازني يعيد كتابة المقرر في التاريخ لبعض الفرق الثانوية تأديبًا لرجل من الناشرين خدعه في طبع الكتاب المقرر لتلك الفرق، فأعلن أنه غير راضٍ عن النسخة المطبوعة، وأنه سيطبع المذكرات على التوالي بعد إعادة تحضيرها، وصبر على هذا الجهد الممل ليملي على إخوان الأمانة درسًا في عاقبة الخيانة والخداع.
إلا أنني أظلم ملكات المازني كلها إذا رجعت باحتماله لهذه المشقة المملة إلى الإرادة دون غيرها.
فإن الذكاء المفرط في الحقيقة هو صاحب الفضل الأول في صبره على جهد الإعادة ومللها؛ لأنه كان يستطيع أن يفتح المرجع التاريخي الضخم في اللغة الإنجليزية، وأن يلخصه وهو يقرءه، وأن يترجمه وهو يلخصه، وأن يكتبه على ورق الآلة الناسخة في وقت واحد، وهي أربعة جهود يجمعها ذكاء المعلم النابغة في لحظة واحدة: جهد القراءة، وجهد التلخيص، وجهد الترجمة، وجهد التحضير، إلا أن السرعة في الفهم والترجمة الصحيحة أهون ما في هذه الملكة النادرة …
وأقول: النادرة، وينبغي أن أقول الوحيدة، في تاريخ الآداب العالمية، فإنني لا أعرف في آداب المشرق أو المغرب نظيرًا للمازني في هذه الملكة التي أسميها بعبقرية الترجمة.
إنه يترجم النثر في أسلوب كأسلوب الجاحظ وخالد بن صفوان، ويترجم الشعر في أسلوب كأسلوب البحتري والشريف، ثم لا يخرم في ترجمته حرفًا من اللفظ، ولا لمحة من المعنى … بل يأتي بالمقالة المترجمة أو القصيدة المترجمة في طبقة التأليف أو أعلى وأبلغ، ويعرض لك قصيدة الشاعر الأوروبي — العالمي — بلغة عربية لا يزيد عليها صاحب القصيدة شيئًا لو أنه نظمها في لغة الضاد.
ولا يقل شعره المطبوع عن شعره المترجم في مزايا البلاغة والصقل والسلاسة، ومن دواعي الأسف الشديد أنه هدر وأنكر على نفسه الشاعرية، ومن دواعي الأسف الشديد أن عبقرية الترجمة التي انفرد بها لم تجد من ينفع بها العالم العربي، ويغني الفقيد بعمل من أعمالها الخالدة عن كتابة الضرورة أو كتابة الظروف …
ولا تقل عن ملكة الترجمة فيه ملكة أخرى من أنفس الملكات التي يرزقها الأديب والفنان، وهي ملكة الملاحظة الدقيقة، والتعبير السهل القريب عما يلاحظه من المشاهدات والمناظر عن عرض أو روية.
كنز زاخر
ونعود فنقول: إننا نأسف أشد الأسف؛ لأن الفرص لم تهيئ له أسباب النفع بهذه الملكة في غير الأعمال الصحفية العاجلة، ولو تيسرت له موارد العيش، واستطاع أن يتفرغ للتأليف الذي يريده لأمتع الناس بالعجب العجاب في هذا الباب، ولظفر العالم العربي بثروة المازني كلها، وما أنفسها وما أجلها إذا كان هذا الذي اتسع له وقته وتهيأت له أسبابه جد نفيس جليل.
كنز زاخر ضيعنا منه ما ضيعنا وهو فيما بيننا، فإن تعلمنا شيئًا من العبر فلنتعلم كيف نصون ما أبقاه، فإنه لخليق أن يبقى بقاء العربية في حرز أمين، وحسب العربية من فضله على أدبها أنه أثبت لها القدرة على مجاراة أحدث الآداب بأسلوبها الصحيح السليم.
ذكريات مع الذكريات
وأي ذكريات؟ وكم من ذكريات؟ وما أكرمها ذكريات …!
إنها ذكريات الصبا في بواكيره …
إنها ذكريات الأخوة في حماسة الدعوة الأولى إلى الرأي والمذهب.
إنها ذكريات المشاركة في الجهاد الوطني على خلاف أو على لقاء.
إنها ذكريات العطف المتبادل والفكرة المتجاوبة في جميع الحالات.
ومهما يكن من معرفة عامة يعرفها القراء عن أديبهم المازني، ففي مجال تلك الذكريات أحاديث لا تحصى …
لكن هذه «الشخصية» المحبوبة: شخصية إبراهيم الكاتب وشخصية أبي خليل الصديق، تعفيني من كل حيرة في موقف الاختيار بين تلك الذكريات، ولا فرق فيها بين ما يقال: أنه شخصي خاص، وبين ما يقال: إنه ترجمة من حق النقد وحق التاريخ. وهكذا تكون «الشخصيات» التي يقول النقاد: إنها «مطبوعة في الصميم»، كل ما تعمله أو تقوله خاصة يعين الناقد والقارئ على فهمها، وتفسيرها في مجالها الفسيح الذي تتصل فيه بعالم القلم، وعالم التاريخ …
لقد كان المازني الذي يسخر من كل شيء، ويخرج لسانه لعابري الطريق هو المازني الذي يسمي كتبه في أخريات حياته ﺑ «قبض الريح» و«صندوق الدنيا» و«عالماشي» و«حصاد الهشيم»، وهو المازني الذي أعجبه ذلك الشاعر الذي أوصى أن يكتب على قبره هذان البيتان:
كأنه يخرج لسانه من تحت التراب لزائر القبر الذي يقرأ — وهو غافل — ما يحدثه به الدفين المزور.
في كل ذكرى من تلك الذكريات الشخصية صورة من صور الدعابة، التي لا يفوتها الاحترام والاستخفاف الذي يعرف مواطن الإعجاب والتقديس.
وكان موضع العجب من أمر صديقنا المحبوب المهيب أنه — على دعابته — لم يكن يفقد احترام عارفيه على أوفاه، وأنه مع استخفافه لم يكن يستخف بمواضع التقديس والإعجاب.
كان — رحمه الله — قصير القامة يظلع في مشيته، وكان يدرس التاريخ والترجمة في مدرسة ثانوية اشتهرت بتلاميذها المتمردين؛ لأنها كانت مدرسة أهلية تجمع الذين تجاوزوا السن في المدارس الأميرية، أو طردوا منها لسوء السلوك، ولم يكن أيسر من اجتراء هؤلاء على مدرس شاب قصير القامة يظلع في مشيته ولا يبالي كثيرًا بزيه، ولكنه كان على نقيض ذلك مهيبًا عندهم إلى حد المخافة، وكان لقب «تيمورلنك» هو اللقب الذي اختاروه له من دروسه في التاريخ!
ولعله كسب منهم هذا اللقب بعد امتحان أو امتحانين، ففهموا بعد الامتحان أي رجل هذا الهزيل الضئيل الذي حاولوا — على غير معرفة به — أن يجترئوا عليه؛ لأنهم فهموا أنه رجل يملك زمام نفسه، فلا يستعصي عليه أن يمتلك زمام الآخرين، وأنه رجل كفء لعمله على مثال لم يعهدوه بين عشرات المدرسين.
وبهذه الكفاءة، وتلك الإرادة، أصبح مدرسهم الهزيل «تيمورلنك» زمانه المخيف، والمحبوب.
•••
ولم تكن المدرسة هي الساحة الوحيدة المختارة لهذه الدعابات، بل كانت كل مفارقة يلقاها على ثقة بالجواب السريع لفصل من هذه الفصول.
دخل إلى صيدلية يشتري حامضًا من الحوامض السامة التي تستخدم في المنازل للتطهير، وتقضي التعليمات على الصيادلة أن يسألوا من يشتري المادة السامة عما يستعملها فيه، فسأله الصيدلي حسب التعليمات: لماذا تريدها يا أستاذ؟
فلم يجب الأستاذ، بل نظر إلى الصيدلي ورفع إبهامه إلى فمه متلمظًا كأنه يقول: أشربها.
وكان الصيدلي الظريف كفؤًا لزبونه الساخر، فناوله القارورة وهو يقول: قدحان مرة واحدة كفاية يا أستاذ!
•••
وقد كانت دعابة صديقنا الودود سلاحًا ماضيًا يدفع به الأذى، كما كانت سلاحًا حاضرًا يطرف به الأصدقاء، وكنا جميعًا «المازني وشكري وأنا» عرضة للإساءات السخيفة نتلقاها ممن هب ودب من أنصار القديم، ومنهم من كان يتميز غيظًا من دعوتنا، ويتحرق شوقًا إلى الفرصة التي تهيئ له سببًا من الأسباب للغض من هؤلاء «الطالعين فيها»، كما كانوا يصفوننا في لغو الحديث.
ولقد ثقلت هذه الإساءات على مزاج أحدنا — شكري — فسئم لقاء الناس، وانطوى على نفسه بعيدًا عن المجامع والمجالس، إلا من تدعوه ضرورة العمل إلى لقائه …
أما «أبو خليل» فقد كان بدعابته الحاضرة أمضى سلاحًا من أن يتراجع أمام المسيئين أو أمام الإساءات، ولم يكن أخبر منه بأساليب الانتقام العاجل ممن يخيل إليه أنه سيخنقه بالفصول الباردة: الفصول التي تحرج المقصود بها؛ لأنه لا يدري كيف يحتج عليها ولا كيف يسكت عنها.
•••
خرجنا ذات مساء إلى ضاحية القبة نتنسم هواء الربيع، وكان لنا صديق يسكن في تلك الضاحية، فلما مررنا به وجدناه بين فئة من صحبه وجيرانه على باب داره، فلبينا دعوته، ولما يكد يستقر بنا الجلوس وإذا بواحد من الحاضرين يتصدى لتوزيع السجائر، ويتخطاني ويتخطى المازني عمدًا ليسيء إلينا بهذا الإهمال … وقبل أن أفرغ من سؤال نفسي: ماذا عسى أن يصنع أبو خليل مع هذا الذي خيل إليه أنه يفحمنا بإساءته، وأنه حر في إفحامنا بها؛ لأنه حر في سجائره يحيي بها من يشاء ويهمل من يشاء … إذا بالدعابة الحاضرة — تحت الطلب — تسعف أبا خليل، فيمد يده إلى علبة السجائر، ويذهل صاحبها فيسلمها إليه، ويأخذها أبو خليل فيناولني سيجارة ويتناول أخرى، ويضع اثنتين على المنضدة، ويقول لذلك المخلوق المذهول: هاتان السيجارتان للدورة الآتية … لأننا لا نريد أن نراك مرة أخرى …
ثم يرفع رأسه كأنه تنبه من سهوة عارضة، ويقول في غير اكتراث: لا مؤاخذة! حسبتك خادم الدار، ولولا ذلك لطردك صديقنا الكريم.
•••
ولقد شهد هذه الفصول المازنية كثيرون من صحبه الأقربين، وممن لا يعرفهم بغير تحية المزاملة في العمل أو تحية الطريق، فلم يعرضه فصل من هذه الفصول قط لفقدان الاحترام، ولم يعرضه هو — بينه وبين نفسه — لفقدان الشعور بالاحترام، وكان له قدره المرعي في كل بيئة نزل فيها، ولو نزول الطارئ الراحل، وقد كانت لهذا المستخف الساخر غضبته التي لا يغضبها الكثيرون من الجادين الذين لا يعرفون السخرية والاستخفاف، فإذا مست كرامته فلا مزاح ولا هوادة، وقد استقال من وظيفته الحكومية يوم كانت الاستقالة من «خدمة الميري» شبيهة بالانتحار؛ لأنه لم يعط حقه من التقدير بين قرنائه في الديوان.
وفهم هذا الازدواج المحكم في طبيعته بين فلسفة الاستخفاف وشعور الاحترام ليس بالأمر العسير الذي عرفوه وعاشروه، إن «اللا مبالاة» عنده لم تكن نقصًا في الشعور، ولم تكن وليدة النظرة السلبية إلى الحياة، ولكنها كانت عنده وليدةً للشعور المفرط، وللنظرة الموجبة إلى العاطفة الإنسانية في شعابها التي لا تحصى، كان ملء النفس عطفًا على الأم، وعلى الابن وعلى الأخ، وعلى الزوجة، وعلى الصديق، كان امتلاء نفسه شعورًا بالواقع هو سر هذا الضيق بالجد المتصل في حالة بعد حالة، وإحساس بعد إحساس، وكانت نظرته المثالية إلى غير الواقع المتكرر هي التي جعلته يعطي ما لله لله وما لقيصر لقيصر، كما قال السيد المسيح، أو هي التي جعلته يعطي للواقع ما للواقع، وللمثل الأعلى ما للمثل الأعلى دون أن يمزج بينهما في كل حادث وكل يوم، فإذا جاء دور المقارنة بين الواقع الإنساني وبين الكمال المنشود، فهناك تتفتح الأبواب للسخرية بجميع مصاريعها، ولكنها سخرية عاطفة كسخرية الأب الذي هو أعطف الناس على ضعف وليده، وأوسعهم رجاءً له في الكمال.
بهذه النظرة المطبوعة إلى الواقع وإلى المثل الأعلى استطاع أن يعرف السخرية بالواقع في حينه، وأن يعرف الغضب للقداسة التي نرفعها إلى سماء المثل العليا في كل حين.
فمن غضباته التي نذكرها تلك الغضبة التي أشرت إليها في معرض الكلام على تأليف العبقريات، وأولها «عبقرية محمد» صلوات الله عليه.
•••
كنا نزور ساحة المولد النبوي على مقربة من مسكني بالعباسية، في جولة من جولاتنا التي كنا نسميها بالتفتيش الفني على أحياء المدينة، فذكرنا مقال البطولة النبوية، وكتاب الأبطال للفيلسوف الأيقوسي توماس كارليل، كان يعرف إعجابي بما يكتب ذلك الفيلسوف، فقال: ولم لا تكتب أنت ذلك المقال من جديد، ونحن أولى بهذا الواجب من كتاب الغرب، مهما يكن من إخلاصهم في تقدير البطولة المحمدية؟
وكان في الجماعة فتى متحذلق يحسب أن حرية الفكر إنما تقاس بمقدار التطاول على المقدسات الموقرة، وعلى مقدساتنا نحن دون سائر العالمين … ففاه بكلام هازل يشير به إلى السيف وإلى الزوجات الكثيرات … وما راعنا إلا المازني الوديع الساخر ينتفض غضبًا كأنما لمسته لفحة من وقود مضطرم، وإلا حركة يوشك أن يتبعها عمل وهو يقول تعقيبًا على صيحتي في وجه ذلك الدعي المتحذلق: كلا، كلا، إن هذا الهجر لا يثبت الحاجة إلى الضرب بالسيف في نشر الدعوات، إنه ليثبت الحاجة إلى ما هو أصلح من ذلك لداء البذاءة والقحة … إنه الضرب بالحذاء توفيرًا للسيف عن مثل هذا المقام …!
على أن الزمن قد كان يصنع صنيعه في هذا المزاج الذي وفق هذا التوفيق العجيب بين الجد والقداسة، وبين السخرية و«اللا مبالاة» في عالم الأدب الخالد، وفي عالم المعيشة العارضة من يوم إلى يوم، فكان من صنيع الزمن أنه لم يزل يوسع المسافة بين الواقع والمثل الأعلى عامًا بعد عام، حتى كاد أن ينتهي بها إلى الطرفين المتقابلين، فلم يكن للواقع عنده في أخريات أيامه نصيب غير التحدي والسخرية والاستخفاف، ولم يكن فيه غير باطل الأباطيل، وغير النظرة «عالماشي» وغير التفويت والإغضاء … ولم يكن في أكثر الأحايين أهلًا للمصالحة بينه وبين المثل الأعلى فوق عرشه الرفيع من وراء المنظور والمأمول.
•••
وسكنت في طويته قوة النضال حتى عاد بشيء من الندم إلى نضاله القديم، وحتى استكثر الرد على من ينكرون حقه ويجحدون فضله، حيث هو أحق وأجدر بالاعتراف، وأحق وأجدر بالفضل والتفضيل.
فما كان إنكاره لشعره — فيما أعلم وأعتقد — إلا تحديًا منه للإعجاب والاستحسان، ممن يظنون أنهم ينعمون عليه بإعجابهم واستحسانهم، ويسلبونه نعمة يتكالب عليها بما ينكرونه عليه، أو يبخسونه، مؤمنين ومكابرين متعنتين …
وفي هذه الفترة كان يقول ما يقوله وهو لا يبالي أن يحسب جوابه من الجد، أو يحسب من المزاح: إنني في مصنع النجارة الفني أعطيكم ما تطلبون، وما بالي أعطيكم كرسي الصالون وأنتم تطلبون كرسي المطبخ؟! أو أسومكم ثمن الدولاب وأنتم تبذلون ثمن الصندوق الصغير؟! وخدعته قبل أن تخدع غيره سهولة الكتابة عليه، فنسي أن السهل الممتنع هو الذي يستطيعه مثله بلا مبالاة … ويطلبه سواه، بكل ما في وسعه من مبالاة، فلا يقدر عليه.
•••
كان يجلس إلى المرقم «التايبرايتر» ليكتب القصة أو المقال المطلوب، ساعة الطلب بغير تحضير … وكان يكتبه في جلسة واحدة ويختمه مع ختام الورقة الأخيرة، فيحس القارئ أنه لم يقل كل ما عنده، ولكنه يحس كذلك أن الذي قرأه كافٍ، وافٍ، أو يزيد على الكفاية والوفاء.
وهنا — أيضًا — نعلم الفارق بين «اللا مبالاة» السالبة و«اللا مبالاة» الموجبة التي تغنيها القدرة عن جهد المبالاة …
ربما كانت سهولة الكتابة على المازني تقنعه هو نفسه بأنه غير مكترث بما يكتب، ولكنه ينسى أن هذا الذي يكتبه بغير اكتراث يحاوله المكترثون جهدهم فلا ينتهون إليه، وأحسب أنني قرأت له المقال الذي كان يكتبه في نصف ساعة، وقرأت له من قبل ذلك مقالات كان يكتبها ويعود إليها في ساعات، فكان أجود ما كتبه من ثمرات السرعة البالغة، سرعة الكاتب الذي يقول: إنه «لا يبالي»، ولكنه يبلغ غاية الشوط من «مبالاة» الآخرين …
وهذه هي عبقرية المازني التي لا تجارى، عبقرية تعطي وقائع اليوم حقها، ولا تنسى حقوق المثل العليا في سماواتها، وهي على هذا تعطينا نموذجًا منها في النكتة مع التلميذ والصاحب وعابر الطريق، كما تعطينا نموذجًا منها في ثمرات الفن والأدب، وتشعر وهي تستخف وتسخر كما تشعر وهي تقدس وتجد؛ لأنها فيما «تباليه» وما «لا تباليه» إنما تصدر عن فرط شعور وعن تمييز بين مواطن النقص ومواطن الكمال.
عبد الرحمن شكري
عرفت عبد الرحمن شكري قبل خمس وأربعين سنة، فلم أعرف قبله ولا بعده أحدًا من شعرائنا وكتابنا أوسع منه اطلاعًا على أدب اللغة العربية، وأدب اللغة الإنجليزية وما يترجم إليها من اللغات الأخرى.
ولا أذكر أنني حدثته عن كتاب قرأته إلا وجدت عنده علمًا به وإحاطة بخبر ما فيه، وكان يحدثنا أحيانًا عن كتب لم نقرأها، ولم نلتفت إليها، ولا سيما كتب القصة والتاريخ.
وقد كان مع سعة اطلاعه صادق الملاحظة، نافذ الفطنة، حسن التخيل، سريع التمييز بين ألوان الكلام، فلا جرم أن تهيأت له ملكة النقد على أوفاها؛ لأنه يطلع على الكثير ويميز منه ما يستحسن وما يأباه، فلا يكلفه نقد الأدب غير نظرة في الصفحة والصفحات، يلقى بعدها الكتاب وقد وزنه وزنًا لا يتأتى لغيره في الجلسات الطوال.
وبين تشبيه ابن الرومي للأصلع حيث يقول:
فالأول وهم في خاطر المعري، لا يلتفت إليه أحد غيره لو لم يذكره، والآخر خيال مطبوع يخطر لكل بديهة مصورة تتقن من التشبيه ما يتقنه الشاعر، وقد كان يشمئز من بيت الوأواء الدمشقي:
ويقول: إن نسبته إلى يزيد بن معاوية بلاء فوق طاقته، فلا تجمع عليه «بين قتل الحسين وقول هذا الشعر الذي لا بأس به إذا أريد للفكاهة والعبث لا للغزل.»
وكذلك كان يحسب من المزاج الغث قول الأنباري:
وهو معدود من عيون الرثاء عند من ينظرون إلى اللفظ ولا ينظرون إلى بواعث الرثاء من النفس الإنسانية، فمثل هذا الرثاء يقال للمكايدة أو للعبث، ولا ينم على حزن دخيل، ولا تقدير مفيد.
شكري الشاعر
ولم يكن أمتع من الاستماع إلى شكري وهو يقرأ القصيدة العربية أو الأوروبية، ويعلق عليها بيتًا بيتًا أمثال هذه التعليقات … وما كتبه من النقد في مؤلفاته قطرة من بحر من تلك الآراء النفيسة، التي كان يرسلها عفو الساعة ولا يعنى بتقييدها.
وقد نظم شكري سبعة دواوين من الشعر، غير القصائد التي لم ينشرها وتمتلئ بها كراسة في حجم ديوانين آخرين أو أكثر، فمن تخير من هذه الدواوين المنشورة وغير المنشورة أمكنه أن يجمع منها زبدة من أجمل الشعر تضارع صفوة القول في كلام كبار الشعراء، وقد كانت له قدرة على رياضة النظم كما نرى في ترجماته لبعض رباعيات الخيام، فإن الترجمة أدل على قدرة النظم من التأليف لتقيد الناظم بالمعاني المنقولة التي لا يتصرف فيها، فقد أحسن فيما نقله من الخيام غاية الإحسان حيث يقول:
أو يقول:
أو يقول:
وهذه طبقة من الطلاوة والجزالة قد سلست له في مترجماته، كانت في مبتكراته أسلس وأوفر، وقد توافرت لشكري مقطوعات أبيات في هذه الطبقة من بلاغة الأداء، وكان خليقًا أن تتوافر له في كل ما نظم لولا أن التفاوت طبيعة في أعمال العباقرة والموهوبين، ولولا أنه كان قليل الاحتفاء بالمراجعة والتنقيح يرسل شعره إرسالًا كما قال:
ولكنه — على قلة احتفائه بالتنقيح — قد خلص له من جيد الشعر ما يسلكه في عداد المجددين من نخبة الشعراء.
وله عدا ذلك في ميدان القريض فضل الرائد الذي سبق زمانه في عدة حسنات مأثورات، فهو من أسبق المتقدمين إلى توحيد بنية القصيدة، وإلى التصرف في القافية على أنواع من التصرف المقبول، فنظم القصيدة من وزن واحد ومقطوعات متعددة القوافي، ونظمها مزدوجات وأبياتًا من بحر واحد بغير قافية ملتزمة، وآثر في تجاربه الأخيرة أن يلتزم القافية مع تعديدها في مقطوعات القصيدة الواحدة، وتسنى له في جميع هذه المناهج أن ينظم الكثير من القصص العاطفية والاجتماعية قبل أن يشيع نظم القصص في أدبنا الحديث، وله فيها قصيدة اليتيم التي يقول فيها:
ونذكر هذه القصيدة خاصة لسبب غير دلالتها على نماذج شعره في هذا الباب؛ إذ كانت من أسباب وجومه الذي لزمه من مقتبل شبابه، وكان من دواعي هذا الوجوم أن هذه القصيدة اختارها الأستاذ محمد أمين واصف في كتاب من كتب المطالعة مستحسنًا لها، موصيًا بحفظها، من دون أن يذكر اسم صاحبها، فكان هذا الإغفال مما آلم الشاعر أشد الإيلام؛ لأنه كان يفهم — كما قال لنا — أن يغفل ذكره لاستهجان شعره، فأما أن يكون الإغفال حتمًا عليه مستحسنًا ومستهجنًا، فذلك كنود عجيب.
ولقد كان بعض الإنصاف خليقًا أن يلطف من وحشة الشاعر التي لازمته منذ بواكير شبابه، ولكن التواطؤ على نكران فضله بين من يعرفونه ومن يجهلونه محنة لم يكن ليصبر عليها طويلًا، مع ما فطر عليه من الحس المرهف والملل السريع.
ففي نحو العشرين نظم شكري هذه الأبيات:
وقد عاش بقية عمره بهذه الوحشة، وهذا الملل، وهذا التردد بين اليأس والرجاء، لا يدري ما يدافعه من خيبة في حياته الأدبية، ولا من خيبة في حياته الوجدانية، وكلها أثقل وأمض من أن تطاق في حالة السليم الجليد، فلما أطبقت عليه العلة الوبيلة — علة الشلل — ران عليه وجوم الأبد قبل الهرم، وقبل الموت، فترك الدنيا ومن فيها وما فيها، ولم يحفل حتى بأن يقول: إنه تركها غير مأسوف عليها …
شكري الناثر
والشاعر الناقد (شكري) كاتب ناثر على أسلوبه ومنهجه في السهولة والسلاسة، وقلة الاحتفال بالتنقيح والتجميل، لكن نثره شعر، ونقده لا تقرأ مثله لشاعر غير ناقد أو لناقد غير شاعر.
ومن مؤلفاته النثرية كتاب «حديث إبليس» وكتاب «الاعترافات» وكتاب «مذكرات مجنون» عدا فصوله المجموعة في كتاب «الصحائف»، وكتاب «الثمرات»، وطابعها الغالب عليها جميعًا أنها وحي نفسه الذي لا يشبهه فيه كاتب يطرق هذه المعاني والأغراض، فهي «شكرية» في كل صفحة من صفحاتها، وكل فقرة من فقراتها يكاد يميزها اللفظ المسترسل، كما يميزها لون الفكر والوجدان.
إننا إذا أغرينا الناس بأن لا يهابوا الحياة خفنا أن يغريهم ذلك بأن يغالوا في حب الحياة حتى يجبنوا … وإذا نحن أغريناهم بألا يهابوا الموت خفنا أن يدفعهم ذلك إلى كره الحياة، والرغبة في التخلص منها؛ فخليق بنا أن نحثهم على أن يجعلوا بين الرهبتين موازنة كي لا ترجح إحداهما، ولكن الإنسان لا يملك صحة نفسه وسقمها … فإن وراء رغبته في صحة نفسه عوامل لا يملك لها دفعًا مثل الوراثة والتربية والبيئة، فإذا تحالفت هذه الأسباب على أسقام نفسه بأن تجعله جبانًا أمام الحياة، أو جبانًا أمام الموت، كان ضحية لها، ولا تنفعه نصيحة الناصحين شيئًا.
وخذ ما شئت من صفحاته تجد فيها ما تجده في هذه الملاحظة من استيحاء شعوره وفكره، والاستفادة من مراقبته لنفسه ولغيره، ثم إرسال التجربة على الورق كما يرسل الحديث في مجلس السمر عفوًا بلا كلفة، ولا مراجعة بين مصدره من النفس، ومورده من التعبير.
إن «عبد الرحمن شكري» شاعر ناثر نسيج وحده في فنه، ومن توحده في هذا الفن أننا نتلقى تعبيره من «شخصية» فذة لا يحكيها غير صاحبها، وإن جال به الفكر اللماح والاطلاع الواسع في كل مجال.
ولقد عرف شكري الناس معرفة أحزنته أشد من حزنه لجهلهم إياه، فإن عادوا فعرفوه فلعلهم يرضون أنفسهم بإرضائهم لذكراه …
هؤلاء حادثتهم
نشأت وليس أحب إليَّ من الاطلاع على تراجم العظماء، ولكنني على فرط شغفي بالاطلاع على تراجمهم لم أشعر قط نحوهم بذلك الشعور الذي يغلب على كثير من الناس، وهو شعور الميل إلى رؤيتهم والاتصال بهم، إن كانوا من الأحياء، وقد يتفق لي أن أقرأ عن أحدهم، أو أقرأ له كثيرًا من الأوصاف والآراء، ثم يصل إلى مصر وتتاح لي فرصة لقائه، فلا أكره لقاءه ولا أخف إليه، ولكنني أستطيع أن أفرض أنه لا يزال في بلاده، دون أن يكلفني هذا الفرض أقل عناء.
إنني أحب غاندي وأكبره، وقد عبر بمصر في طريقه إلى لندن، وأرادت صحيفة البلاغ أن تندبني للقائه والتحدث إليه، ومصاحبته في السفر من السويس إلى بورسعيد، فلم أنشط لهذه الرحلة، ولم أشعر بأنني أزداد معرفة بالرجل أو إكبارًا لقدره إذا قضيت معه هذه الساعات.
ومرجع ذلك فيما أظن إلى أسباب شتى، منها أنني تعودت أن أرى العظماء والمشهورين في غير «هالتهم» التي تضفي عليهم ما تضفي من الغرابة، وتثير في نفوس الناس نحوهم حب الاستطلاع، أو حب الاستشفاف من وراء الظواهر والمراسم، وقد تعودت ذلك؛ لأنني نشأت في أسوان حيث كنا نرى في كل شتاء زوارًا من الملوك وأولياء العهود والنبلاء، وكبار القادة والساسة ورجال الأعمال، ولكنا نراهم على أبسط ما يكونون من البساطة، فيرتفع عن أبصارنا غشاء الغرابة الذي يحيط بهم، ويغري الأنظار بالتطلع إليهم، ونقدرهم من بعيد كما نقدرهم من قريب.
كانت الصحف والأنباء البرقية تتحدث عن ملنر وكتشنر، وكان أهل أسوان يرون ملنر في قهوة بلدية، أكثر روادها من الحمالين والتراجمة والأكارين، ويرون كتشنر على دكة خشبية أمام بيت من بيوت مشايخ العرب.
وكان علماء الأرض الذين تنقل مجلات العلوم آراءهم وبحوثهم، وتعتمد عليهم الحكومة في بعوث الكشف والتحقيق يفدون إلى أسوان أحيانًا، فيزوروننا في المدرسة ونزورهم، ونألف أن يكون كبار العلماء أناسًا مألوفين.
ذلك سبب من أسباب.
أما الأسباب الأخرى فمنها حب العزلة الذي ورثته وطبعت عليه، ومنها أنني أتطلع إلى معرفة العظمة حقيقة لا صورة، وأحسب أن رؤية لحظة أو لحظات لا تعرفني بالعظيم إن لم تعرفني به قراءة يوم أو أيام.
لهذا لم أنشط كثيرًا إلى لقاء مشاهير العالم الذين تهيأت لي الفرص للقائهم ومحادثتهم، ولم أتوسل بعملي في الصحافة إلى محادثة أحد منهم، إلا لغرض غير حب الاستطلاع أو حب التقرب من ذوي الأخطار.
فحادثت أحمد مختار الغازي، وحادثت سعد زغلول، وحادثت إميل لودفيج، وكان باعث الحديث في كل مرة سببًا غير حب الاستطلاع من جانبي، أو إرضاء المستطلعين من جمهرة القراء.
أحمد مختار باشا الغازي
ومختار الغازي كما يعلم قراء التاريخ القريب بطل من الأبطال العسكريين الذين اشتهروا في حروب روسيا والدولة العثمانية.
كانت له شهرة عالمية ومكانة موقرة، وأرادت الدولة العثمانية أن تنيب عنها في مصر مندوبًا ساميًا ملحوظ المكانة؛ ليستطيع بمكانته — فقط — أن يوازن مركز المندوب البريطاني بما في يديه من السيطرة والنفوذ، فاختارت مختارًا لهذا المنصب، وعرف في مصر باسم القوميسير.
ولم يكن له عمل في السياسة المصرية، بل كانت كل أعماله من قبيل التشريفات، وحضور الصلاة في يوم الجمعة مع أمير البلاد.
ولكنه كان يسأل: «ماذا تعمل في مصر؟» فكان يقول: «إنني احتجاج حي على وجود الاحتلال.»
ولما خطر لي أن أحادثه كان هذا الخاطر في الواقع «شيطنة شباب» … لأنني أردت أن أنقل باسم هذا الرجل الجريء كلامًا يسمع منه ولا يسمع من غيره، وكان المحمل المصري قد تعرض يومئذ لهجمة من هجمات الأعراب في طريقه إلى مكة، وكانت الجزيرة العربية ولاية عثمانية، فليس أجدر من القوميسير العثماني بأن يسأل عما جرى فيها، وبخاصة حين يجري لأناس من الحجاج المصريين في حماية فرقة مصرية.
كان مختار الغازي ضئيل الجسم قصير القامة، ولكنه كان مهيب الطلعة كأنما تشتعل في عينيه نار موقدة، فلما تحدثت إليه لم يتحفظ ولم يبال أن يقول كل ما عَنَّ له أن يقوله عن إهمال الإنجليز للقوة العسكرية المصرية، ولا أذكر تفصيلات حديثه اليوم ولا يتيسر لي أن أبحث عنه في مراجعه لنقله بنصه، ولكنني أذكر أنه قال: «إن الإنجليز أهملوا جيش مصر، وإنني بقوة كقوة المحمل أفتح الجزيرة العربية!»
وكنت أكتب يومئذ في صحيفة الدستور لصاحبها الأستاذ الجليل محمد فريد وجدي بك، فلما رويت له ما سمعت من الغازي ابتسم وقال: «إنك لا تذكر حادثة الحدود … فإن كلامًا أقل من هذا الكلام قد أثار الإنجليز على أمير البلاد، فكيف تظنهم يتلقون مثل هذا الحديث من رجل يتبرمون به وبمركزه في الديار المصرية؟»
ونشرنا ما تيسر نشره يومذاك، ولكنه على خفته بالقياس إلى ما قيل قد أقام الدنيا وأقعدها في الدوائر الإنجليزية، وأحسبه كان من أسباب سعيهم الحثيث في نقل الغازي، والمساومة على مركزه في الآستانة.
سعد زغلول
وحديثي مع سعد زغلول خليق أن يشار إليه؛ لأنه فيما أعتقد كان أول حديث لصحفي مصري مع أحد الوزراء المصريين.
ونحن في العصر الحاضر نفتح الصحف اليومية والأسبوعية، فلا يفوتنا حديث وزاري في عدد من أعدادها المتلاحقة.
لقد أصبحت محادثة الصحفيين المصريين لوزراء هذا البلد مادة صحفية دائمة، وموردًا ميسورًا لكل قاصد.
ولكن صحف مصر قد عبرت في الجيل الماضي سنوات بعد سنوات، دون أن يسمع فيها صوت «ناظر» من النظار، كما كان الوزراء يسمون في ذلك الحين.
لأن النظار كانوا في عزلة عن الرأي العام، وكان الرأي العام في عزلة عنهم، فلا يجسر أحد منهم على الإفضاء بحديث عن سياسة «نظارته» إلى جمهور المصريين.
•••
وعلمت أن سعدًا — رحمه الله — ناظر ولا كالنظار، وأنه لا يبالي ما يباليه زملاؤه من غضب قصر الدوبارة أو غضب المستشار.
فأردت أن أحطم هذا السد بين الوزارة المصرية والأمة المصرية، وهمني أن أحادث سعدًا على الخصوص؛ لأنني كنت أعجب به وأترقب لمصر نهضة وزارية على يديه، وكان في تلك الأيام عرضة لحملة جائرة من بعض خصومه، وكنت أعلم أنها جائرة؛ لأنهم زعموا أنه حارب الجامعة وهو الذي رصد لها عشرة آلاف جنيه في ميزانية الدولة، وزعموا أنه حارب التعليم باللغة العربية وهو الذي دفع الطلاب دفعًا إلى مدرسة المعلمين، وجعل لهم مرتبات شهرية وهم في سلك الدراسة؛ ليخرج منهم أساتذة يعلمون الدروس باللغة العربية، وزعموا أنه مالأ الإنجليز على تقييد التعليم، وهو الذي كان يطوف البلاد من أسوان إلى رشيد لمحاربة الأمية بتعميم المكاتب الأولية.
فاتخذت من حديثي معه وسيلة لدفع الشبهات بالأسانيد الرسمية، وحصلت فعلًا على تلك الأسانيد، ورأيت بعيني ما يثبت لي صدق ما ظننته في عزيمة سعد واحتفاظه بكرامته وكرامة منصبه؛ لأن المستشار العنيد — دانلوب — جاء يستأذن في عرض أوراق عليه، ولم يكن مستشار إنجليزي يستأذن في عرض أوراق، بل كان ينظر في كل مسألة بنفسه، ويعرض ما يشاء من ذلك على الوزير للتوقيع.
نشرت حديثي مع سعد في شهر مايو سنة ١٩٠٨ بصحيفة الدستور، ولم أحادث سعدًا باقتراح من الأستاذ الجليل صاحب الصحيفة، ولكن الأستاذ الجليل من كتابنا القلائل الذين يعرفون حرية النشر، وكثيرًا ما خالفته فيما أكتب وأنا يومئذ في مطلع حياتي الصحفية، وربما ذهب في مسألة من المسائل إلى رأي وذهبت إلى غيره، فلا يرى حرجًا في نشر ما أكتب كما أراه.
إميل لودفيج
أما إميل لودفيج فلم يكن لقائي له عملًا صحفيًّا، ولا أنا أردت أن ألقاه لأنشر ما يجري بيني وبينه من الأحاديث، ولكنه حضر إلى القاهرة فأقامت له المفوضية الألمانية حفلة استقبال في دار وزيرها، وأحب أن يتعرف لهذه المناسبة إلى أناس من المشتغلين بالأدب والدعوة الفكرية من المصريين، فكنت أحد المدعوين.
وتصافحنا في مزدحم من الأجانب والمصريين والرجال والسيدات، فقال لي: إنه يود لو تلاقينا في فرصة أخرى.
وكان صديقي الأستاذ محمود الدسوقي سكرتيرًا شرقيًّا للمفوضية الألمانية، فدعانا معًا إلى اللقاء في حجرة من حجرات المفوضية وآثر لودفيج أن نتحدث على انفراد.
وأحسست من أسئلته الأولى أنه ينزع في مسائل المجتمع والسياسة نزعة اشتراكية معتدلة، فقلت: إنني أوافق الاشتراكيين في كل ما يؤدي إلى تحسين أحوال الفقراء والأجراء، وأخالفهم في كل ما يؤدي إلى حرمان الفرد حريته الفكرية والشخصية.
فقال: «حسن. حسن.» وكررها مرات.
ثم أحسست أنه قد اطمأن إلي بعد لحظات من الحديث وتبادل وجهات النظر؛ لأنه أفضى إليَّ بأصرح ما دار بينه وبين المصريين والأجانب من الأحاديث العامة في المسائل الوطنية والعالمية.
ثم سألني: «عندكم في مصر قوة تقدم، وقوة محافظة وجمود، وقوة بريطانيا العظمى، فأيها يكون له التغلب فيما تظن؟»
قلت: «أتسأل عن المدى الطويل أم المدى القصير؟»
قال: «بل عن المدى الطويل.»
قلت: «سيكون الغلب لا محالة لقوة التقدم.»
قال: «يسرني أن أسمع منك ذلك.»
•••
واستطردنا إلى الكلام عن مؤلفاته فوجدته أقل ما يكون رضًا عن قصصه، وأكثر ما يكون رضًا عن تراجمه، ولا سيما ترجمة نابليون فيما أذكر، فقلت له أيضًا: «يسرني أن أسمع منك ذلك؛ لأنه هو الصواب فيما أراه.»
وتركته وفي نفسي أثر من لقائه يقارب الأثر الذي استخلصته من قراءة كتبه، وهو أنه صحفي راق، وأن تواريخه وأدبياته أقرب إلى تبليغات المجلات أو تعليقاتها، وإن كانت تفوق بعض ما يكتبه المتخصصون من البحوث والدراسات؛ لأنه يكسوها طلاوة لا نجدها كثيرًا في تلك البحوث والدراسات.
برنارد شو في أسوان
شمس ربيعية لم تعترف قط بالشتاء، وأرض تحمل في كل بقعة من بقاعها سمات التاريخ الذي يطوي الفصول والسنين، ونيل خالد وقور يوحي إليك أن تقيسه بألوف العهود والأجيال، ولا تقيسه بألوف الفراسخ والأميال، وجبال من حولك كأنها أسوار تدور على صومعة ناسك لا تراه بالعينين، أو كأنك تسمعه بأذنيك يقول في سكينته الأبدية: «ها أنا ذا لم أحفل بشيء في دنياك، فماذا أصابني على مر الزمن؟ لا شيء … فلا تحفل يا بني بشيء!»
تلك هي أسوان في هذا الشتاء، وفي كل شتاء، وتلك هي أسوان التي أقضي فيها بضعة أيام — وفي وسعي أن أقول: بضعة قرون — حين تغمرني بتلك الآفاق التي لا تعرف حساب الزمن.
إجازة من عالم السياسة، ومن عالمنا الصاخب في غير طائل …
وهل في العالم من يستغني عن هذه الإجازة من سنة إلى سنة، أو من حين إلى حين؟
ساء حظه إن استغنى عنها؛ لأنه لن يستغني عنها إلا إذا أضاع نفسه فيها.
ولقد سن لنا الله سنة الإجازة من الحياة كلها في كل يوم، فهل نستغني عنها في هذا الشغل الشاغل الذي يبغض الحياة إلى نفوس الأحياء؟
معاذ الله خالق النوم لنا «إجازة يومية» من الحياة، وليته خلق للحيوان «السياسي» بالطبع — كما يقول أرسطو — إجازة قهرية ينام فيها عن سياسته … فإن غفلة النوم أروح له من هذه الغفلة الدائمة وهو سهران!
وبحمد الله لا أزال أعرف هذه الإجازات، وإن لم أكن في بطالة.
ألا يقدر أناس على الغفوة بعد الغفوة، وهم في وسط الحركة والضجيج؟ بلى يقدرون …
•••
وفي وسط الحركة والضجيج، بل في وسط المعمعة كما كان يفعل نابليون على ظهر جواده، أستطيع أن أغمض عيني في عالم الأحلام، فأذهب في إجازة اليوم أو الشهر أو العام.
وإنني في تلك الغفوة لأيقظ ما أكون …
لأنني في تلك الغفوة أهيم في أحلام الشعر والفن والأدب، فلا تقوى معركة «المارن» نفسها على إخراجي من ديوان شعر، أو صفحات كتاب أغلق «أبوابه» عليَّ!
وقلت: هي إجازة في كتاب، حين قلت لنفسي: «إلى أسوان … إلى أسوان.»
لقد كان كتابًا حسنًا من وجوه كثيرة، وأحسن ما فيه أن كاتبه هو الفيلسوف «جود»، وموضوعه هو الداعية المشهور «برنارد شو» …
فالكاتب أعظم من المكتوب عنه في أكثر من ناحية واحدة، وهي على الأقل ناحية الفلسفة، وناحية الآراء الاجتماعية …
وإن شئت فقل أيضًا: من ناحية الآراء السياسية والمبادئ الدستورية، وهي اليوم شغل شاغل للصحافة والقراء!
•••
بين دوي العجلات، ودوي الدعوات، فتحت الكتاب أطوي صفحاته، والقطار يطوي الأرض «كطي السجل للكتب»، كما جاء في القرآن الكريم …
ولم تمض أربعون صفحة حتى وجدت نفسي على أبواب البرلمان من طريق آخر: طريق الآراء والنظريات، لا طريق المعارك والأزمات!
صاحبنا الفيلسوف «جود» ينظر إلى «برنارد شو» نظرة التلميذ إلى الأستاذ؛ لأن شو كان شيخًا يقود الحركة الفكرية يوم كان «جود» طالبًا ناشئًا يتلمس طريقه في مضطرب المذاهب والمعتقدات …
وصاحبنا «جود» يرشح نفسه للنيابة عضوًا اشتراكيًّا مع حزب العمال، فيكتب إلى «برنارد شو» مستشيرًا قبل الإقدام على هذه التجربة؛ لأنه أستاذه في هذا الميدان؛ ولأنه زعيمه في النزعة الاشتراكية قبل عدة سنين …
وأحسب أنني لو كنت في موضع «جود» لما استشرت الداعية الكبير في أمر من الأمور؛ لأنني على ثقة أنه يخالف كل ما تقترحه عليه، فلو كنت عضوًا في البرلمان، واستشرته في الخروج منه لسخر من إقدامك على هذه الخطوة التي لا معنى لها!
ولو كنت كاتبًا واستشرته في دخول البرلمان لسخر من إقدامك على هذه الخطوة التي لا معنى لها كذلك …
لأن كل اقتراح تعرضه على الداعية الساخر لا معنى له على الإطلاق!
فلا معنى إذن لأن تعرض عليه أي اقتراح!
ولكن «جود» قد أراد أن «يسأل» على ما يظهر مجرد سؤال، ثم لا يعول على الجواب …
وهكذا سأل، وهكذا جاءه الجواب الذي لا شك فيه …
قال له «شو»: إن الفلاسفة الذين دخلوا البرلمان غير قليلين، ومنهم «ميل» و«برادلو» و«وب» الذي كان عضوًا في الوزارة … فهل صنعوا شيئًا هناك؟
وقال له: إن «تشرشل» لم يكن عضوًا في البرلمان حتى الحرب العالمية، ثم ساقوه إلى دائرة انتخابية أخلوها له؛ لأنهم في حاجة إليه، فقد كان شيئًا مهمًّا قبل أن يرشح نفسه للنيابة البرلمانية.
وقال له: إنه هو نفسه قد رفض النيابة يوم عرضوها عليه وكرروا العرض مرات، ثم لم يندم قط على الرفض والإصرار …
وقال له أخيرًا: «إن ورق اللعب لا يزال أمامك على المائدة، فإن شئت فجرب حظك والعب ورقك …» ثم تواضع «شو» في ختام خطابه؛ لأن التواضع من مثله رياضة محبوبة بين «الادعاءات الكثيرة» … فقال في شيء من الملل: «وهذه على كل حال آراء رجل كان ينبغي الآن أن يكون ميتًا؛ لأنه قد بلغ من الهرم أقصاه!»
ولم ينثن «جود» عن عزمه بهذه النصيحة، بل كتب إلى أستاذه يبلغه أنه ماضٍ في ترشيح نفسه، فجاءته منه تذكرة بريدية يقول فيها: «حسنًا … إنك سوف تتعلم على الأقل شيئًا واحدًا، وهو أن تعرف كيف لا تعمل!»
ثم شفعها بتذكرة أخرى قال فيها: «امض في عزمك بكل وسيلة، فقد تحصل على تجربة مباشرة لا تخلو من فائدة للفلاسفة السياسيين.»
وبعد هذه النصائح المختلفة عدل «جود» عن ترشيح نفسه؛ لا لأنه لم يرض عن أساليب الأحزاب في الترشيح؛ لا لأنه عمل برأي الداعية الكبير!
•••
تلك هي إجازتي في هذا الكتاب …
إجازة، ولا إجازة …!
إجازة لأنها رحلة في عالم الفكر والنظر؛ ولا إجازة لأنها تعود بنا إلى السياسة في بعض الطريق …
وهي من هنا خبرة حسنة؛ لأنني قد أكون في إجازة والقراء «عاملون»!
وما الرأي بعد هذا في نصائح «برنارد شو» لتلميذه الفيلسوف؟
ما الرأي في تقديره لعمل الأديب، وعمل العضو في البرلمان؟
الرأي الذي لا يتسع فيه الخلاف أن الفيلسوف قد يصنع شيئًا في المجالس النيابية، ولكنه ليس بخير ما يصنع، وأنه إذا جرب مهنة الترشيح مرة بعد مرة خليق أن ينبذها بعد ذلك لا محالة؛ لأنها تهبط به إلى المساومة الرخيصة والوعود الكاذبة، ولا ترتفع به قيراطًا واحدًا فوق مستواه …
وما لنا الآن ولهذه الظلمات؟
إن الشمس ساطعة باسمة، وإن مشاهد التاريخ ومعالم الخلود من حولنا قائمة دائمة …
فهلم إلى النور …!
لسان الهلباوي
كان في مصر قبل الثورة العرابية حزبان سياسيان: أحدهما حزب محمد شريف باشا، والآخر حزب أحمد رياض باشا …
وقد يخطر للقارئ العصري أن تعريف الأحزاب بالأشخاص دليل على أن الحركة كلها شخصية لا علاقة لها بالبرامج السياسية.
ولكن الواقع أن تعريف الأحزاب بالأشخاص كان سنة معروفة في ذلك العصر حتى في أعرق الأمم البرلمانية … فكان الحزبان المتناظران في إنجلترا يعرفان يومئذ باسم حزب غلادستون وحزب بيكنسفيلد، ولم يكن ذلك دليلًا على وحدة البرامج بين الحزبين …
وقد كان الحزبان المصريان كذلك مختلفين في البرامج، ولم يكن الخلاف بينهما مقصورًا على الانتماء إلى هذا الوزير أو ذاك الوزير …
كان حزب «شريف» أقرب إلى التجديد السريع …
وكان حزب «رياض» أقرب إلى المحافظة مع التقدم في رفق وأناة …
وكان الهلباوي بك ناقمًا على رياض باشا لسبب من الأسباب، فكان يطلق فيه لسانه ويكتب عنه ما لا يرضيه.
فأمر عالمًا من رجال الدين أن يستجوب «الشيخ إبراهيم الهلباوي» تمهيدًا لمعاقبته … فبدأ العالم المحقق كلامه بتهديد الشيخ الناشئ، واستطرد قائلًا: إن ناظر النظار سيخرب بيتك إن لم تكُفَّ عن الحملة عليه …
فضحك الشيخ إبراهيم وأجابه ساخرًا: إنه لا يستطيع …
فعجب العالم المحقق: كيف لا يستطيع وهو ناظر النظار، والحكومة كلها في يديه؟
وقال الشيخ إبراهيم: وليكن ناظر النظار أو أكبر من ناظر النظار، ليكن أمير البلاد … ليكن خاقان البرين والبحرين، بل ليكن «الله» — جلال جلاله — فإنه لا يستطيع أن يخرب لي بيتًا …
ففزع العالم المحقق، وخيل إليه أن المسألة تنتقل من التمرد والعصيان إلى الكفر بالله، والعياذ بالله!
فصاح بالشيخ الناشئ حنقًا: أهذا الذي تعلمتموه من جمال الدين؟
وكان جمال الدين مظنة «الزندقة» عند بعض العلماء في ذلك الحين، فطاب للعالم المحقق أن يجد في كلام التلميذ برهانًا على زندقة الأستاذ …
وكان الشيخ إبراهيم الهلباوي من تلاميذ جمال الدين؛ فلم يكن أسرع منه إلى رد التهمة إلى المتهم، وقال لصاحبنا: «بل هذا الذي تعلمناه منكم قبل أن نتعلمه من جمال الدين!» …
قال الرجل: أعلمناكم الكفر … نحن؟!
قال الفتى المتحذلق: بل علمتمونا أن قدرة الله لا تتعلق بالمستحيل … وخراب بيتي مستحيل لسبب واحد، وهو أنه ليس لي بيت!
على أن تلمذة الهلباوي لجمال الدين لم تكن تمنعه أن يستطيل عليه بمثل هذه الحذلقة إذا «حكمت القافية» كما يقولون، فلعله هو التلميذ الوحيد الذي كان يجترئ على السيد بالدعابة في مجالس الدرس، أو مجالس الحديث …
قال لي عظيم من عظماء هذا العصر الذين حضروا كثيرًا من تلك الأحاديث، أو تلك الدروس — وكانت كل أحاديث جمال الدين من قبيل الدروس: إن السيد كان يتكلم يومًا عن بعض الرذائل التي تصيب الجسد والنفس الناطقة، وبعض الرذائل التي تصيب الجسد، ولا تمس النفس الناطقة …
فقاطعه الهلباوي قائلًا: يا خبر! وهل السيد من هؤلاء؟ فانتفض السيد مغضبًا وصاح به: اغرب عني أيها الخبيث … لعنة الله عليك!
والهلباوي الذي تدل عليه هاتان النادرتان هو الهلباوي الذي عرفه الناس طوال حياته، ويمكنك أن تلخصه في عبارة واحدة، وهي أنه — رحمه الله — كان «ذلاقة لسان لا تطيق نفسها، ولا تريح صاحبها.»
ومن هذه الذلاقة المتعجلة كان يؤخذ الهلباوي في كل ما هو مأخوذ عليه …
سمعنا عنه قبل أن نراه، أو نستمع عنه ممن رآه …
كان أشهر المحامين بين الفلاحين بلا استثناء، وكان من آيات شهرته أنها دخلت في «النكتة المصرية» … فكان الذين يساومون القصابين في شراء لسان الذبيحة يقولون إذا اشتط عليهم القصاب في الثمن: والله ولا لسان الهلباوي.
وسمعنا بشهرته كاتبًا كما سمعنا بشهرته محاميًا، فكان عنوان مقالاته «إلى أي طريق نحن مسوقون؟» يتردد على كل لسان، وكنا نسمع به وإن لم نقرأ تلك المقالات …
ثم أدركته آفة التعجل وقلة الاستقرار، فتحول في الوطنية إلى خطة «الاعتدال»، وفسر الاعتدال بمصانعة الاحتلال …
ثم كانت الطامة الكبرى، ونعني بها «قضية دنشواي» التي وقف فيها موقفًا ظل نادمًا عليه طول حياته …
وعن قضية دنشواي قلت في كتابي سعد زغلول: «لقد كنا أربعة نقرأ وصف التنفيذ في أسوان، فأغمي على واحد منا، ولم نستطع إتمام القراءة إلا بصوت متهدج تخنقه العبرات.»
ويستطيع القارئ إذن أن يتخيل مبلغ السخط الذي أثارته في نفوسنا رؤية الهلباوي أمامنا وجهًا لوجه في دار الجريدة، يوم ألقى الأستاذ لطفي السيد بك خطابه الذي أشرنا إليه في الكلام على صاحب «المؤيد».
لقد كان اغتباطي شديدًا بما أصابه من الأذى في ذلك اليوم، ولكني أقول إنصافًا له: إننا رأينا في الرجل شجاعة لم نرها في غيره من المقصودين بالهتاف العدائي ذلك المساء … فقد أوى بعضهم إلى حجرات الدار حتى اطمأن إلى انصراف الجمهور الغاضب، وأبى الهلباوي إلا أن يقتحم الجمع خارجًا من الدار في إبان الهياج، ولم يحفل بما تعرض له في طريقه من اللكم والإيذاء.
وغاب الهلباوي زمنًا عن ميدان السياسة، ثم ظهر بعد الثورة الوطنية معارضًا لسعد زغلول، وكانت المساجلات بين الأحزاب يومئذ على أعنفها … ولكني أشهد القارئ أنني ما وجدت القلم ينبعث في يدي انبعاثًا إلى القول القارص العنيف، كما كان ينبعث في الرد على خطب الهلباوي وأحاديثه، فردودي عليه فيما أعتقد كانت أعنف ما كتبت على الإطلاق …
ثم مضت الأيام، وشاء القدر أن يكون للهلباوي شأن في موقف من أهم المواقف في حياتي السياسية؛ لأنه الموقف الذي اعتزمت فيه جديًّا أن أترك الهيئة الوفدية مستقلًّا عن جميع الأحزاب …
كان الوفد والأحرار الدستوريون مؤتلفين على عهد الوزارة الصدقية التي عدلت الدستور …
وجاء اليوم الثالث عشر من شهر نوفمبر، فعقد الأحرار الدستوريون اجتماعًا في دار حزبهم، وذهبنا إليهم تأييدًا لمظهر الائتلاف …
وإذا بالهلباوي هو خطيب الاجتماع …
وإذا بي جالس أمامه على قيد خطوة واحدة، وإذا به يحتال في كلامه ليهملني عند مناسبة ذكري، ويتجاوز الإهمال إلى التعريض …
وعلقت على الخطبة في اليوم التالي، ورآها فرصة سانحة لإرغامي باسم الائتلاف …
وجاءتني دعوة إلى بيت الأمة حيث يجتمع طائفة من أعضاء الوفد على رأسهم مصطفى النحاس (باشا).
ما الخبر؟
الخبر — كما قالوا — أن مصير الائتلاف معلق على بيان مطلوب منا، ونحب أن نتلوه عليك …
قلت: وما شأني في هذا البيان؟
قالوا: بل الشأن شأنك؛ لأن فحوى البيان أن الوفد لا يقر ما كتبت عن الهلباوي بك …
قلت: إنكم أحرار فيما تكتبون، ولكنني سأرد لا محالة على هذا البيان، وأقول لكم سلفًا: إنني أنا المسئول عما أكتب، ولم يعلم الناس قط أنني أكتب بإشارة من أحد …
ثم ذكرت لهم سابقة سعد مع اللورد جورج لويد حين حملت على اللورد من أجل زياراته للأقاليم، وثار اللورد ثورته التي أوشكت أن تعصف بالبرلمان، وأرسل إلى سعد من يقول له: إن اللورد يعتقد أنه هو الموعز بتلك الحملة، فقال سعد كلمته المأثورة: «إنها تهمة لا أدفعها أو شرف لا أدعيه.» ولم يفاتحني في الأمر حتى انقضت الأزمة؛ لكي لا أفهم أنه يقترح عليَّ الكف عن الكتابة في هذا الموضوع …
ولكنهم لم يقتنعوا وقالوا: إن صدور البيان من الوفد أمر لا محيص عنه، فإن شئت فاسمعه لتقترح تغييره أو تعديله فيما لا يرضيك …
قلت: لن أسمعه، ولن أسكت عن الرد عليه …
في ذلك المساء زارني مكرم عبيد (باشا) والمرحوم صبري أبو علم (باشا)، وسألاني: «ماذا صنعت؟»
قلت: كتبت ردًّا على البيان سينشر في عدد الغد من جريدة «مصر» — وكانت من الصحف الصباحية — وفيها كنت أكتب مقالاتي كل يوم …
فحاولا وقف المقال …
فقلت لهما: إذا كنت لم أستطع أن أقنعكم بوقف بيانكم، فلن تستطيعوا إقناعي بوقف هذا المقال …
ثم قلت لهما: إنني أملك أن أنشره في غير الصحيفة الوفدية إذا حيل بيني وبين نشره فيها …
وكان قد جاءني فعلًا من يعرض عليَّ العروض الطوال العراض لأعطيه المقال وينشره حيث يشاء …
وبعد مناقشة طويلة، قال مكرم باشا: إننا كنا نود لو قبلت رجاءنا، وعدلت عن نشر مقالك … أما وأنت مصر على نشره فاقبل منا رجاءً آخر …
قلت: ما هو؟
قالا: أن يخلو المقال من الملام الشديد.
قلت: إنني إذا ذكرت الحقائق كما حصلت فلا حاجة لي إلى ملام شديد …
ومضت سنوات ثلاث أو نحوها والهلباوي بك لا يقع لي في طريق …
وحدثت في خلال ذلك جفوة بيني وبين المرحوم عبد القادر حمزة لمناقشة دارت بيني وبينه، حين كنت أكتب في صحيفة «الجهاد» …
ثم زارني يومًا بعد طول القطيعة، وهو يقول لي: لقد مررت بدارك وأنا في مصر الجديدة، فحمدت هذه الفرصة وقلت لنفسي: فلنزره إن كان هو لا يزورنا … فما رأيك؟
قلت: إنه فضل لك سبقتني به، وعليَّ أن أشاركك فيه …
وزرته في دار البلاغ بعد يوم أو يومين، فإذا بالهلباوي بك هناك …
فكدت أهم بالرجوع …
بيد أن الهلباوي كعادته هجام لا يتردد، فجذب يدي وبدأني بالحديث.
ولقد خطر لي في تلك اللحظة أن واقعتي معه آخر ما يذكره في تلك المقابلة، ولكنها على عكس ذلك كانت أول ما ذكره وأسهب فيه، وجعل يقول وهو يضحك: «كنت والله يا رجل أحب أن يكتب الله لي ثواب إخراجك من تلك الجماعة … ولكنه فاتني، وأراك خارجًا منها على التسعين …!»
وبعد حديث متشعب دعاني والأستاذ عبد القادر إلى قضاء سهرة في منزله … فاعتذرت، وخرج معي حين انصرفت حتى افترقنا عند دار محمد محمود (باشا) رحمه الله …
ويظهر أن رغبته في زيارتي له بقيت تساوره زمنًا حتى صدرت صحيفة «روز اليوسف» اليومية وواليت الكتابة فيها، فدعانا جميعًا إلى قضاء السهرة عنده، وذهبنا إليه مع السيدة روز اليوسف والدكتور محمود عزمي، وكانت في الحق من أمتع السهرات؛ لأن الرجل محدث ظريف لا يمله المستمع إليه …
ولقد كانت أحاديثه في تلك الليلة أكثر من أن تذكر … إلا أنني أذكر من طرائف السهرة أن السيدة روز اليوسف كانت تخاطب قرينته وهي تظن أنها زوجة ابنه، لبعد الفارق بينها وبين زوجها في السن … ولم تزل على ظنها حتى نبهها إلى خطئها بنكتة من نكاته التي تناسب المقام!
نابغة من نوابغ عصره لا مراء … كان يسلم من كثير مما يؤخذ عليه لولا تلك الحيوية التي أقلقته، وباعدت بينه وبين الصبر والاستقرار.
طه حسين
للقدماء ضروب من التوقير يستخف بها المحدثون، ولا يحفلون بها، وحق لهم أن يستخفوا ولا يحفلوا؛ لأنها ترجع إلى أسباب خاطئة في زمانها فضلًا عن الأزمنة الحديثة، وليس أدل على قلة الحياء من كثرة البحث فيما يجوز وما لا يجوز؛ لأنه دليل على كثرة القيود.
وأول ضروب التوقير التي يحق للمحدثين أن يستخفوا بها اجتناب الكتابة عن الأحياء، وقصر التاريخ والتقدير على من فارقوا الحياة، فربما كان مصدر هذا العرف عند القدماء أنهم كانوا يكبرون السلف، ويحصرون فيه العلم والمعرفة والأدب والخلق والشهرة، وكأنهم كانوا يستكثرون الجمع بين العلم والحياة أو بين الشهرة والحياة في وقت واحد: فإما حياة وخمول وإما موت وشهرة، ولا توسط بين الأمرين في تاريخ العلماء والأدباء، وتقدير حظوظ العلم والأدب.
وقد جرف العصر الحديث ذلك العرف جرف السيل، فكثرت تراجم الأحياء، بل كثرت تراجم الأدباء لأنفسهم بأقلامهم ونشرها في إبان حياتهم، وتلك علامة خير وصلاح؛ لأن ما خف من جانب التوقير إنما يزيد الحياة؛ لأن إساغة التاريخ للأحياء تدل على رحابة الصدر والتفاهم على الطبيعة الإنسانية في جوانب كمالها ونقصها وإطرائها وعيبها؛ ولأن العصر الذي يساغ فيه الاعتراف ببعض العيوب هو العصر الذي تتوافر فيه المزايا والمحاسن، فلا يضار المرء بالنقد؛ لأنه يعرف حدود الطبيعة الإنسانية، وما يبقى له بعد النقد من وجوه التحبيذ والترجيح.
ولست أنا من أعداء القديم حبًّا لعداوة القديم، ولكنني أكره التحرج الكثير في غير طائل، وأشايع زمني في هذه العادة خاصة، فلا أرى حرجًا في الثناء على الدكتور طه حسين، أو اغتيابه على ملأ من الناس … ولهذا أجبت دعوة «الهلال» حين دعاني إلى إجمال رأيي في الصديق العالم الأديب، وهو يعدني أو ينذرني بمثل هذا النصيب، وقبلت الكتابة وأنا أرجو ألا أكون مغلوبًا حين تنكشف الورقتان المطويتان؛ إذ الكلام في كلينا سر مكتوم عن صاحبه حتى يطلع الهلال، وعندئذ تشيع الغيبة وينجلي السر عمن أحسن الحيطة والتخمين.
أنا ضامن أن الدكتور طه حسين سيقول: إنني شاعر، فليضمن الدكتور طه حسين إذن أن أقول فيه: إنه كاتب ناتج في الأدب، وخير ما نتجه كتابه «الأيام» وكتابه «في الصيف»، وهما الكتابان اللذان سرد فيهما بعض ما جرى له في حياته، فكان فيهما مثلًا في البساطة والثقة التي تعزف بصاحبها عن التماس التأثير المصطنع بالتعمُّل، والتجمل، والطلاء، والتزويق، فالموصوف في هذين الكتابين صادق بسيط، والوصف كذلك على مثل هذه الحال من الصدق والبساطة، ولكني لم أطلع على شيء يصف به الدكتور ما لم يجر له، أو يصف ما يخلقه من الشخوص والحوادث في عالم الرواية، فما علة ذلك يا ترى؟
أنا ضامن أن الصديق الأديب سيجد عيبًا أو عيوبًا في شعري يقيسها بمقياسه ويقدرها بمعياره، فإذا ضمنت هذا فليضمن الصديق الأديب أن أعلل قلة الوصف المخلوق في كتاباته القصصية لعيب فيه، هو قلة الخيال … فهو يصف ما يعالجه من المحسوسات، ولا يتخيل ما عداه من نقائضه أو مشابهاته، والعوض من ذلك عنده أنه يحسن البساطة التي يندر من يحسنها، ويشعر بالكفاية التي تأتي من الثقة والاطمئنان إلى صدق الشعور، وهو عوض فيه غنى لمن يحسن الاستغناء.
•••
أما طه حسين الناقد فماذا أقول له؟
أقول: إنه اطلع على الأدب العربي القديم اطلاعه الواسع الذي لا جدال فيه، واطلع على نفائس من أدب الإغريق واللاتين الأقدمين، واطلع على آثار رهط من كبار الأدباء الأوروبيين ولا سيما الفرنسيين، كل أولئك خليق أن يحبب إليه الصحة والمتانة والقوة، ويبغض إليه الزيف والسخف والركاكة، فهو يختار ما يعلو على مقاييس المقلدين المصطنعين، وينبذ ما يستطيبه المحدودون من أصحاب الاطلاع القليل أو أصحاب الذوق السقيم، وله في ذلك قواعد صحيحة ومراجع وثيقة، واعتماد على فكر لا يتقيد إلا بما يرضاه.
وإلى هنا لا أظن أن الدكتور سيعترف لي بأقل من هذا القدر في ميزان الكتابة المنثورة، فأنا رابح على هذا التقدير.
ولا أظن كذلك أنه سيعترف لي في هذا الميزان بلا تعقيب ولا استدراك، فلنسرع إذن إلى التعقيب والاستدراك، ولا لوم ولا إجحاف.
فالدكتور صحيح الأصول في النقد، ولكنه لا يوفق بين أصوله وطبيعته في كثير من الموضوعات، وهو حين يقرر المبدأ على صواب غالب، ولكنه حين يطبق المبدأ ينحرف أحيانًا عن الصواب.
وعلة ذلك كما أسلفنا أن القاعدة والطبيعة عنده لا تتفقان، فالطبيعة عنده لا تحتكم إلى الخيال والتصوير الخالق، ولكنها تحتكم إلى الرأي والاطلاع، فيقع من هنا التباين والاختلاف.
أليس الدكتور يوصي بمبدأ «الشك» أو مذهب ديكارت؟
بلى! ولكنك حين تقرءه ترى له عبارات من التوكيد واليقين قلما تراها في عبارات الشاكين المترددين، فلا يعجب — أكثر ما يعجب — إلا أشد الإعجاب، أو إعجابًا لا حد له، ولا يقنع بما دون الإسراف وترديد كلمة الإسراف، ولا يغضب الذين يتحدث عنهم إلا غضبًا شديدًا، ولا يضيقون إلا أشد الضيق، ولا يتكلمون إلا بصيغة المبالغة في معظم الأشياء … ثم تنتقل من هذا إلى تشكيك يذكرك ﺑ «إن شاء الله» التي قالها جحا حين ضاع المال … فقال: ضاع المال إن شاء الله …
كأن الدكتور يخاف من نسيان الشك خوف جحا من تلك الكلمة التي نسيها فضاع ماله، فأنت تسمع منه: «أزعم أنني ضحكت … وقد أزعم … وقد أتردد … وقد أقول … وقد لا أقول.» مع أن المرء لو أقسم جاهدًا: «والله لأزعمن، وتالله لأترددن، وبالله لأقولن.» لما خرج بالقسم مع الزعم، من دائرة الشكوك.
والقاعدة تستقر على اطراد إذا كانت هي والطبع على وفاق، غير أنهما عرضة للاختلاف إذا وقع بينهما الخلاف، ومن هنا نرى الدكتور يقول مرة: إن أصول النقد الغربي واحدة قد وضعها اليونان قديمًا وفرغوا منها، وتلقاها منهم الإنجليز، كما تلقاها منهم الفرنسيون فهم لا يختلفون.
ثم نراه يقول بعد أشهر قليلة: إن النقد ليست له أصول مقررة عند الناقد الفرد فضلًا عن الأمم الكبيرة، والعصور الكثيرة، وإن الناقد يستحسن أو يستهجن، والمرجع إلى ذوقه وحده في استحسانه واستهجانه.
ولعل هذا التباين بين القاعدة والطبع هو الذي جعل الدكتور ينكر الجديد إذا جاءه في زي القديم، أو هو الذي جعله يطالب الشعر الحديث بأمور لا يطالب بها في حكم الطبيعة؛ لأنه يجري في مطالبته على القياس.
وأقول للقلم: على رسلك! إلى أين؟ ما أحسبك إلا متوقعًا الكثير من تعقيب الدكتور واستدراكه، فأنت تستوفي المثل وتأمن أن تزيد.
ويقول القلم: ما أحسبني والدكتور مغلوبين على كل حال في هذه الصفقة، وليس الحق فيها بمغلوب.
نعم، وحساب الدكتور أو «رصيده» كما يقول في لغة المصارف كثير، ففيه بقية وافرة بعد كل تعقيب واستدراك.
وإذا قلت: إن الدكتور أمن استحسان السخيف من الأدب، فاختلافك بعد ذلك في زيادة القيمة التي يقوم بها الجيد أو نقصها إنما يغير الثمن، ولا يغير جودة الشيء الثمين.
•••
ومن حساب الدكتور طه حسين أنه رجل جريء العقل قويُّه، مفطور على المناجزة والتحدي، يستفيد مما يقتنع بصحته ومما يعينه على التحدي والتفرد فلا يحجم عن اتخاذه؛ ولهذا تغير أسلوبه الكتابي بعد دراسته للأساليب الأوروبية، فاتخذ له نمطًا يوافق علمه بالعربية الفصيحة وعلمه بتقسيم المقاطع والفواصل في الكلام الأوروبي، كما يتكلمه من يجمع بين الحديث والكتابة في وقت واحد، فهو يتحدث ولا ينسى أنه يكتب، ويكتب ولا ينسى أنه يتحدث، وأسلوبه الذي اختاره أوفق الأساليب لذلك جميعًا، وأولها من نوعه في اللغة العربية، وليس فيه محاكاة لأسلوب آخر في اللغات الأوروبية.
ولو كانت كتابته حديثًا محضًا لاسترسلت بلا توكيد ولا تكرير، ولو كانت تقريرًا محضًا أو درسًا محضًا لما انحرفت عن أسلوب الكتابة الذي لا يتحدث به القائل، ولو كانت تقريرًا أو درسًا على الطريقة الشرقية لما ظهرت فيها المقاطع والفواصل الأوروبية، ولجرت على سياق قريب من سياق الدروس الأزهرية، ولكن كتابته حديث فيه محاضرة ومراجعة وتنظيم، فلا يوافقها إلا ذلك الأسلوب الذي استقل بابتداعه طه حسين ولو غضب المنكرون، وقد يكون غضب المنكرين من أسباب ذلك الابتداع؛ ولأجل هذا الابتداع يغتفر ما في كتابة الدكتور من إسهاب وتكرار.
ولقد أفاد بأسلوبه هذا عملًا من لم يفدهم الرأي ولم تقنعهم المناقشة، فرأوا أن العربية قد تكتب صحيحة فصيحة على أسلوب غير أسلوب الجاحظ وعبد الحميد وبديع الزمان وابن المقفع، ورأوا كاتبًا كبيرًا يكتبها كما يشاء هو لا كما يشاء القدماء «فتنكتب»، وتلذ وتفيد، فاستعدوا لاستحسان الفصاحة في غير قيودها القديمة، وألفوا تعديد الأساليب وطرائق التعبير إلى غير انتهاء، وذلك وحده فتح قدير.
وقد جار نصيب القوة في الدكتور طه حسين على نصيب العمق، كما أشرت إلى ذلك في نقدي لكتابه «في الصيف».
وليس بالقليل بين أكبر الأدباء العالميين من هو قوي لا يتعمق، فإني لأكتب هذا المقال بعد أن فرغت من قراءة مقال للشاعر الإسباني ميجويل دي أنامينو كتبه ليمثل به رأي الإسبان بين سائر الآراء، التي نشرتها مجلة «الشهر» الفرنسية عن فكتور هوجو لمضي خمسين سنة على وفاته، فإذا هو يقول: إن عمله في إسبانيا على الأقل كان واسعًا أكثر مما هو عميق، وأرجو ألا يحسب الدكتور أنني أعود به إلى التفرقة بين السكسون واللاتين إذا أضفت إلى هذا أن شاعر الأمة الإسبانية اللاتينية يقرر أن «بيرون» والشعراء الإنجليز هم الذين وجهوا أدب تلك البلاد، وليس فكتور هوجو ولا الشعراء الفرنسيون، وإنه ليقرر ذلك في مجلة فرنسية تحتفل بهوجو في عام ذكراه!
•••
والآن وقد أبرأت ذمتي وأفضيت بمجمل الرأي مع الحيطة والمعادلة والتربص، فإني على ما أرجح كاسب ولست بخاسر، فإن اختلف تقديري فسأتهم محرر الهلال بإفشاء السر، وإطلاع مناجزي على ما أعددت له قبل أن يتأهب لي بسلاحه، والمناجزة يومئذ بيني وبين محرر الهلال.
من وحي أسوان
هبطت أسوان في هذا الشتاء، وأنا أذكر قول دعبل الخزاعي:
وذكرت كلام دعبل في هذه الرحلة خاصة؛ لأننا قضينا ساعة من الوقت في القطار، نتحدث عن السفر إلى الصعيد بطريق الهواء، ومسافته لا تزيد في هذا الطريق على أربع ساعات، وقد تنقص غدًا إلى ساعتين، ومسافة السفر بسكة الحديد تنقضي ما بين عشية اليوم وضحى الغد … ثم ينتهي إلى حيث يستمع السامع إذا شاء إلى صوت المتحدث إليه من القاهرة والإسكندرية، كما يتبادل الحديث مع جليسه في ناديه، يدير المفتاح في المذياع فيصغي إلى لندن وواشنطن، ولا يقصر مكان في الأرض عن إبلاغ صوته إليه، أما الأطياف فما أكثرها في دور الصور المتحركة الناطقة هناك! إن منها لأطيافًا تنتقل من هوليوود، وأطيافًا تنتقل من الجيزة، ولا تعجز عن التجشم، ولا يبدو عليها أنها تعرف الإعياء كما عرفته أطياف دعبل، يرحمها الله.
تلك أطياف وهذه أطياف، وتلك بروق وهذه بروق، وما أكسل البروق والأطياف فيما مضى، وما أسرع البروق والأطياف في هذا الزمان، فلو عاش دعبل اليوم لتمنى ساعة من تلك الأيام التي كان يتبرم بها قبل ألف عام، ولنظر حوله فرأى أناسًا يتسابقون إلى المكان الذي قصرت عنه أطيافه وبروقه، ويغبطون أنفسهم على الحزم الذي ساقهم إلى هذا المقام في خاتمة المطاف.
وقصة دعبل في هجاء العالم كله معروفة، أما قصته مع أسوان فخلاصتها أنه وفد مع أخيه عبد المطلب بن عبد الله أمير مصر يومئذ فولاه أسوان، ثم بلغ عبد المطلب هجاؤه إياه فأنفذ إليه كتاب العزل مع مولى له، وأوصاه أن ينتظره حتى يصعد المنبر يوم الجمعة فينزله ويصعد مكانه، ففعل كما أوصاه!
من توافق المصادفات أن الشاعر اللاتيني كان كالشاعر العربي لا يسلم أحد من لسانه، وأن هجاءه لفنان العصر «باريس» قذف به من روما إلى جزيرة أسوان؛ لأن هذا الفنان الساحر كان حظيًّا عند العاهل درومسيان!
قدم جوفنال إلى جزيرة أسوان قائدًا للحامية الرومانية في ظاهر الأمر، وأسيرًا منفيًّا في حقيقته، ولم يستطع أن يلعن رومسيان، فلعن الجزيرة ومن فيها ومن حولها، ولم يرض عن شيء رآه في ولايته التي فرضت عليه، فكذب وأقذع في شكواه، وادعى على مصر والمصريين ما لم يدعه أحد سواه.
قال: إن المصريين يعبدون كل حيوان، ولا يدعون شيئًا إلا عبدوه حتى الثوم، وما كان المصريون يعبدون الثوم ولا البصل، ولكنهم عرفوا خصائص هذا وذاك، فانتفعوا بها في الغذاء وفي العلاج، وجاء المحدثون في عصرنا هذا فاتخذوا من الثوم عصيرًا سموه ماء الحياة.
وقال: إن المصريين يأكلون لحم البشر، وقص من أخبار هذه الدعوة أن أناسًا من أهل كوم أمبو الذين يعبدون التمساح هجموا على رجل من أهل دندرة قتل تمساحًا فأكلوه!
والتمساح — واسمه هذا منقول من المصرية القديمة — حيوان مقدس كالذئبة الرومانية، ولكنه كان مقدسًا عند أناس ورجيمًا ملعونًا عند آخرين، أما أن الذين يقدسونه يأكلون لحم قاتليه، فتلك هي الفرية التي اتفق المؤرخون على تكذيبها، وحسبوها «اختراعة» من أفانين الهجاء، جناها السخط على الشاعر الهجاء قبل أن يجنيها بشعره على أبناء كوم أمبو الأقدمين، المظلومين!
ومن عجيب التوافق بين الشاعرين الساخطين أنهما يتفقان في الخاطر كما يتفقان في المزاج، فكان جوفنال يعجب لمن يسأله عن سبب هجائه، كأنما كان الهجاء عنده أصلًا من الأصول التي لا تحتاج إلى سبب، وكان دعبل ينظم القصيدة المقذعة ويسألونه عمن قيلت فيه، فيقول لهم: إنها ستجد صاحبها لا محالة، ويتفلسف فيمضي قائلًا: «إن من يتقيك على عرضه أكثر ممن يرغب إليك في تشريفه، وعيوب الناس أكثر من محاسنهم، وليس كل من شرفته شرف، ولا كل من وصفته بالجود والمجد والشجاعة ولم يكن ذلك فيه انتفع بقولك.»
فهي طبيعة واحدة في الشعراء الهجائين مع تباعد الجنس والزمن، ولا نظلمهم فنحكيهم حين يجنون بالسخط على الحقيقة، فما نحسبهم ظالمين في كل ما تقولوه على الناس، وما نظنهم سخطوا بغير حق في كل مقال، فلعل إصابتهم الناس عن بعض ما أصابهم منهم، ولعلهم شقوا بالعالم كما شقي العالم بهم، ومن دلائل هذا الشقاء أن شاعرًا هجَّاءً في اللاتينية وشاعرًا هجَّاءً في العربية يرددان معنى واحدًا عميقًا في دلالته على شقاوة الرجلين، فيقول جوفنال في الأهجية الخامسة عشرة: «إن الطبيعة خلقت للإنسان الكريم قلبًا رحيمًا، فأودعت فيه ينابيع الدموع، وهي أكرم جانب في طوية الإنسان.»
ويقول ابن الرومي:
وقد تكون الحاجة إلى الهجاء كالحاجة إلى البكاء، في طبائع الشعراء، فلنقل: إن الشعراء الهجائين ظالمون مظلومون، وكلهم في هذه الخلة سواء.
•••
وأعود إلى دعبل فأقول: إن الإعياء الذي ابتليت به أطيافه وبروقه ليست من فعل الزمن وحده، ولكنها من فعل الخيبة التي كانت تلاحقه حيث ذهب، فلا هو استقر في صعيد مصر، ولا هو استقر في صعيد حيث كان.
وقبل أن ينشط العصر الحديث بأصداء الأثير، وأطياف الستار الأبيض نظر الشعراء إلى أسوان بغير هذه العين التي تستعجز البرق، وتتهم الطيف بالقصور، نظروا إليها بعين الرضا، فوجدوا فيها بغية الطلاب على اختلاف المقاصد والآراب، كما قال جعفر بن ثعلب أبو الفضل كمال الدين:
وقد حببت الحياة إلى أبنائها حتى قال فيها أحد هؤلاء الأبناء من الشعراء:
وقائل هذين البيتين هو الأديب إبراهيم بن محمد بن إبراهيم، وهو من أسرة عريقة أمرها في النبوغ عجب، ومن هذه الأسرة خالاه النابغان أحمد بن علي الملقب بالرشيد، والحسن بن علي الملقب بالمهذب، وكلاهما شاعر مشارك في العلوم، يدل كلامه على علمه كما قال الرشيد:
أو كما قال المهذب في وصف ليلة:
أو كما قال:
وكانا لهذا مبلوين بالحساد والأضداد، ولا سيما الرشيد الذي قيل عنه: إنه تطلع إلى الخلافة، وكان يقول عن نفسه: إنه خلق من نار، فقال فيه ابن قادوس:
وقال فيه شاعر يمني، وكان الخليفة قد أوفده إلى اليمن داعيًا وسماه علم المهتدين، فحسده أدباء اليمن وقال فيه أحدهم:
ولكنه كان لا ينظر إلى الحساد نظرة الأقران والأنداد، وقال في أمير رجاه فخيب مناه:
عليهم رحمة الله جميعًا، من ظفر بالإنصاف ومن فاته إنصاف الناس وفاته هو أن ينصف الناس، فقد بقي بعدهم وحي أسوان ووحي الزمان كما كان، وكذلك يبقيان!