نهاية الأسرة العشرين
وهكذا نرى أن «حريحور» على الرغم من أنه قام بهذا الانقلاب السياسي العظيم في البلاد خطوة فخطوة، فإن أساس فلاحه يرجع إلى أنه كان قائدًا حربيًّا مهدت له الأحوال الداخلية في البلاد الاستيلاء على زمام الأمور جملة، وتولِّي العرش في النهاية. وتدل سياسته على أنه كان رجلًا محنكًا ذا خبرة عظيمة، يحسب لكل موقف حسابه، ولا أدل على ذلك من أنه كان يعلم تمام العلم أن طائفة الكهنة في طول البلاد وعرضها كانوا أصحاب الشوكة والسلطان، وأن الأحوال كانت مُهَيَّأَةً لهم للقبض على زمام الأمور في البلاد جملة؛ وبخاصة لأنه كان يعلم أن «أمنحتب» كاد يسيطر على الفرعون، وينتزع منه كل سلطاته الشرعية، وقد وصلت به الجرأة إلى أن رسم صورته على جدران المعابد بحجم مساوٍ حجم الفرعون؛ ومن أجل ذلك سعى لأن يخلفه في وظيفة «الكاهن الأكبر لآمون»؛ ليرضي أتباع هذا الإله، وبذلك ضرب ضربته على الرغم منهم بوصفه ممثلهم، فكان مثله في ذلك كمثل الملك «آي»، الذي جمع بين الجندية والكهانة، وإن كان الانقلاب الذي قام به في الواقع انقلابًا حربيًّا محضًا (راجع مصر القديمة ج٥).
وقد أراد «حريحور» أن يوطِّد سلطانه في أسرته فيما بعد، فعين ابنه قائدًا للجيش، وكاهنًا أكبر «لآمون» مدة حياته؛ ليضمن له تولي العرش من بعده، غير أن الطابع العسكري كان ظاهرًا في كل تصرفات «حريحور»، يدل على ذلك أن ابنه «بيعنخي» قد لقب «قائدًا للجيش» قبل أن يلقب «كاهنًا أكبر»، بل كان يخاطب الوحي بوصفه قائدًا للجيش لا بوصفه الكاهن الأكبر «لآمون»، كما ذكرنا ذلك آنفًا.
ولا نزاع في أن «عصر النهضة» إذن كان البادئ له هو «حريحور»، وأنه لم يكن في مقدوره أن يحرز النصر النهائي الذي ناله بتولي الملك إلا بالجمع بين السلطتين الدينية والإدارية. ولما تم له كل ما أراد أصبح الفرعون في حالة من الضعف تشبه حالة خليفة المسلمين إبان سقوط الدولة العباسية في «بغداد»، والمطلع على تاريخ آخر خلفاء العباسيين يجد بينه وبين تاريخ مصر في أواخر عهد «رعمسيس الحادي عشر» أوجه شبه كثيرة — وبخاصة من الوجهة الحربية والدينية — فنرى أنه في كلٍّ قد فاز رجال الجندية على رجل الدين، مع المحافظة على هيبة رجال الدين ظاهرًا، وسلبهم سلطتهم فعلًا.
غير أن الانقلاب الذي حدث قد أدى إلى تقسيم البلاد مملكتين — كما كانت قبل توحيدها مباشرة على يد «مينا» حوالي سنة ٣٤٠٠ق.م — المملكة الجنوبية وعاصمتها «طيبة»، وكانت صبغتها — ظاهرًا — دينية، والثانية في «الدلتا» وعاصمتها «تانيس».
وهكذا خُتِمَ تاريخ الدولة الحديثة التي وضع أساسها «أحمس الأول»، وانتقض بنيانها بموت «رعمسيس الحادي عشر»، وعادت مصر إلى سيرتها الأولى من الانقسام.
(١) أثر رجال الدين في عهد الدولة الحديثة في نظم الحكم فيها
تحدثنا فيما سبق عن الخطوات التي أدت إلى سقوط الأسرة العشرين، وما كان لرجال الدين في ذلك من يد فعالة ونشاط جم، وكيف جمع «حريحور» في نهاية الأمر في يده السلطات الدينية والحربية والسياسية، مما أدى إلى سلبه عرش ملوك الرعامسة، والقضاء على حكمهم جملة. وتدل شواهد الأحوال على أن رجال الدين على الرغم من انقطاع نسل أسرة الكاهن «رعمسيس نخت» لم يذهب سلطانهم، أو يقل نفوذهم في البلاد، بل حافظوا على مجدهم وأملاكهم في طول البلاد وعرضها مما أدى بعد موت «حريحور» إلى تقسيم البلاد مملكتين: إحداهما في الشمال وعاصمتها في «تانيس»، والأخرى في الجنوب وعاصمتها «طيبة». وقد ميزت كل منهما بطابع خاص؛ فكانت مملكة الشمال ذات طابع سياسي، ومملكة الجنوب ذات طابع ديني، وقد كان كل منهما منفصلًا عن الآخر في إدارة شئونه على حسب مبادئه؛ فكانت مملكة الشمال سياسية محضة تحكم بمقتضى القوانين المشروعة في البلاد، وفي الجنوب كان الإله «آمون» هو الذي يحكم الصعيد بما يوحيه من أحكام تصدر عند الحاجة على يد الكاهن الأكبر «للكرنك». وهكذا نرى أن رجال الدين قد لعبوا دورًا هامًّا في سياسة البلاد وحكومتها على حسب ما يوحي به «آمون» إله الدولة العظيم. وقبل أن نتحدث عن الكهنة العظام في «طيبة»، وعن ملوك الأسرة الواحدة والعشرين في «تانيس» يجب أن نلقي نظرة عامة على تدرُّج السلطة في يد كهنة «آمون» العظام، منذ نشأتها في عهد الدولة الحديثة حتى قيام دولتهم في «طيبة».
إنَّ تولي الكاهن الأكبر «حريحور» عرش الفراعنة، وانتصار السلطة الروحية ظاهرًا على السلطة الدنيوية لم يكن نتيجة لمجهودات منظمة، وسياسة مرسومة مقصودة، وضعت منذ قرون مضت، وهذا ظاهر من الحقائق التي استعرضناها فيما مضى.
فمنذ أزمان بعيدة مضت كان الكهنة العظام يقنعون بأن يكونوا خدَّامًا صالحين مخلصين لإلههم؛ وكانوا بعيدين كل البعد عن عَرَض الدنيا وشئونها لدرجة أن مصالح «آمون» الإدارية كانت حتى عهد «تحتمس الأول» يقوم بها رجال خارجون عن طائفة الكهنة، وقد كانت السياسة هي التي تسعى إليهم. فنجد أن الفراعنة قد حوَّلوهم مباشرة عن شئونهم الدينية ليرموا بهم في أحضان الحياة الدنيوية لحاجة في نفسهم، وبذلك كانوا يجعلونهم يأخذون بنصيب في حكومة البلاد. وقد لعب الاحترام الذي كانوا يتمتعون به، والنفوذ الذي كانوا يكتسبونه من وظيفتهم بوصفهم المترجمين بما يوحي به «آمون» من أحكام، دوره الهام في جعل أولاد الفرعون «تحتمس الأول» يعتمدون على هؤلاء الكهنة في توطيد ادعاءاتهم تاج مصر. ومن ثم نجد أن كهنة «طيبة» قد عاضدوا «تحتمس الثالث» على اعتلاء العرش، وقد كانت مساعدة الكهنة «لتحتمس الثالث» عظيمة بوجه خاص؛ لأنه كان قد تربَّى بينهم في طفولته في المعبد، تربية كان الغرض منها أن يصبح فيما بعد كاهنًا (راجع مصر القديمة ج٤). وقد رأينا بعد ذلك أن الملكة «حتشبسوت» قد وضعت على رأس هؤلاء الكهنة الذين أرادت أن يلتفوا حولها أحد المخلصين لها والموالين لعرشها، وهو الكاهن الأكبر «حبوسنب» (راجع مصر القديمة ج٤).
ولم يلبث أن امتد سلطان الوظائف الدينية التي كان يتمتع بها كهنة «آمون» العظام، وعظم شأنها بدرجة خطيرة، فكان يلقب الواحد منهم رئيس كل كهنة الوجهين القبلي والبحري، فأصبحوا بذلك بمثابة ملوك أحبار للديانة المصرية القديمة، وفي الوقت نفسه أصبحوا هم المشرفين على إدارة أملاك «آمون»، الذي أصبح على أثر الهبات التي أغدقها عليه «تحتمس الثالث»، ومَن بعده من الفراعنة بسخاء صاحب مكانة عظيمة جدًّا، وبذلك صار هؤلاء الكهنة العظام مديرين لضياع «آمون»، ومديرين لحقول «آمون»، ومديرين لبيتي فضة «آمون»، ولبيتي ذهب «آمون»، ومديرين لمخازن الغلال، ومديرين للقطعان، ومديرين لأعمال بيت «آمون».
وفضلًا عن ذلك اشتركوا رسميًّا في إدارة البلاد. فقد تولى كل من «حبوسنب» و«بتاحمس» كاهنًا أكبر، وفي الوقت نفسه وزيرًا للدولة، وكان الكاهن «مري» حاكم الجنوب، والكاهن «منخبر رع سنب» وزيرًا للمالية، وكل هؤلاء تقريبًا كانوا مشتغلين في الأعمال العامة، ويديرون المباني التي أمر الفرعون بإقامتها، ولن أتكلم هنا عن المكافآت والنياشين والرتب التي منحها إياهم الفرعون، وقد كانت هذه من أعلى ما يمكن أن يعطي الفرعون خدامه الذين كانوا يعدُّون بالآلاف. والواقع أن الكهنة العظام للإله «آمون» كانوا وقتئذ ملتفين حول الفرعون بكل إخلاص، وبدون أي غرض مقصود. فقد شاهدنا أن كلًّا من «حبوسنب» و«منخبر رع سنب» قد أخلص لمليكه. وقد عاش الأول في عهد «حتشبسوت»، والثاني في عهد «تحتمس الثالث» (راجع مصر القديمة ج٤) وأن كلًّا منهما كان الصديق المتفاني في إخلاصه لمليكه، والسند المتين الذي يرتكز عليه العرش. ولا نزاع في أنه لم يفكر واحد من الكهنة العظام في عهد الأسرة الثامنة عشرة قط في أن يتساوى مع الفرعون، أو خطر بباله أن يغتصب منه التاج.
ومع ذلك فإن القوة التي كان يكتسبها باضطراد الكهنة الطيبيون، وثروتهم التي كانت تزداد بدرجة فوق المعتاد، وكذلك نفوذهم الروحي الذي كان يعظم باستمرار، كل هذه الأمور كان من أثرها أن جعل خلفاء التحامسة العظام، وبخاصة «أمنحتب الثالث»، ومن بعده «أمنحتب الرابع» المعروف باسم «إخناتون»، يشنون حروبًا على هؤلاء الكهنة غاية في الشدة والعنف، انتهت بالانقلاب الذي قام به «إخناتون»، وقد سار في تنفيذ مأربه ببعد نظر وروية، فلم يأخذ كهنة «آمون» غدرًا، بل سار في نشر مذهبه خطوة فخطوة كما شرحنا ذلك في مكانه (راجع مصر القديمة ج٥). وكذلك نلحظ أن أعظم الفراعنة قوة في عهد الأسرة التاسعة عشرة؛ على الرغم من أنهم قد عادوا لعبادة «آمون»، قد انتحوا سياسة بالنسبة للكهنة، تشعر بالاحترام وحسن القبول، ولكن في الوقت نفسه كانت سياسة حازمة محدودة. وليس من الصواب القول: إنه بعد تولي «حور محب» عرش الملك، قد استعاد كهنة «طيبة» — مع ثروتهم التي كانت أعيدت لهم فعلًا — النفوذ الذي كانوا يتمتعون به في الأزمان السالفة؛ إذ نجد مثلًا أن «رعمسيس الثاني» على العكس، قد عمل عملًا يلزم الكهنة العظام حدود واجباتهم الحكومية؛ فنجد أن الكاهن الأكبر «باكنخنسو» أشهر الكهنة العظام في هذا العهد، لم يتولَّ أي عمل إداري وحسب، بل كان سلطانه الروحي لا يمتد بعد إلى كل كهنة آلهة الوجه القبلي والوجه البحري، كما كانت عليه الحال في عهد الأسرة الثامنة عشرة؛ فكان نفوذه ينحصر في أنه رئيس الديانة في «طيبة»، ولم يكن له سلطان على «منف» أو «هليوبوليس». هذا ولم نقرأ قط أن كاهنًا أكبر تربع على كرسي الوزارة في عهد الأسرة التاسعة عشرة أو العشرين قبل عهد «حريحور». على أنه لو كانت مصر استمرت تحكم بفراعنة يقظين أقوياء، لكان من المحتمل جدًّا أن يعيش كهنة «آمون» الأول الذين لم يكن لهم وقتئذ نفوذ في ظل معبدهم، متمتعين بما كان لديهم من ثروة وفيرة وشرف رفيع، كما كان يعيش الكهنة أعظم الرائين «لرع» التابعون «لهليوبوليس»، أو كما كان يعيش الكهنة العظماء الخمسة التابعون لمعبد «تحوت» في الأشمونين، وهؤلاء كانوا خاملي الذكر ليس لهم أي تاريخ حافل بالأحداث العظيمة. ولكن عهود الإمبراطورية الفاخرة كانت قد انقضت. ثم نشاهد بعد عهد كل من «رعمسيس الثاني» وابنه «مرنبتاح»، وبعد فترة عهد «رعمسيس الثالث» أن مصر قد وقعت فريسة للفوضى، أو كانت تحكم بفراعنة لم يكن في يدهم من القوة إلا مظهرها وحسب.
والواقع أنه منذ أكثر من مائة وخمسين سنة من العصر الذي نتحدث عنه، كان الكهنة العظام قد أبعدوا عن الوظائف الاجتماعية، مما أدَّى إلى عدم اكتراثهم بتوطيد عرش الملك وسلامة الدولة، وأنهم في وقت تلك المحنة التي عمت البلاد لم يفكروا إلا في المحافظة على ثروتهم، والاستمرار في تنمية نفوذهم وسلطانهم، وقد عرف «رومع-روي» ذلك الكاهن الأول الجريء (راجع مصر القديمة ج٦) كيف يمكنه أن يستغل الثقة التي وضعها فيه الفرعون؛ ليمد من جديد سلطان الكهنة العظام «لآمون» على رجال الدين ومعابد الوجه القبلي والوجه البحري، وبعد ذلك استفاد من انعدام السلطة المدنية بعد موت الفرعون «مرنبتاح» حتى بلغت به الجرأة أن نقش اسمه ورسم صورته على غرار ما كان يفعله الفرعون على أحد جدران معبد الكرنك، على مقربة من مسكن الكهنة العظام، وهو المكان الذي كان على ما يظهر ينبغي على «حريحور» أن يخرج منه؛ ليتوَّج ملكًا على البلاد عندما حانت له الفرصة.
وحركة الانقلاب التي رسم خطتها «رومع-روي» هذا لم يكن لها ما يشجعها مباشرة؛ وذلك لأن النشاط البارز الذي أظهره «رعمسيس الثالث»، كان كافيًا لوقف إرادة كهنة «آمون» العظام المتأرجحة نحو الاستقلال، ولكن عندما اختفى من على عرش الفراعنة آخر ملوكها العظام لم تلبث البلاد أن عضها الفقر بنابه، وأناخ الذل عليها بِكَلْكَله، وأصبحت تحكم برماد من الفراعنة. عندئذٍ رأينا على كرسي كهانة «آمون» الأعظم أسرة بقي أفرادها يتوارثون هذه الوظيفة مدة تبلغ حوالي الأربعين حولًا. وهكذا نجد أنه قد تأسست أسرة من الكهنة يجلسون على عرش الكاهن الأكبر «لآمون»، تقابل تلك الأسرة التي كانت تجلس على عرش الفراعنة. وهكذا نجد للمرة الأولى أن وظيفة الكاهن الأكبر «لآمون» في مصر كان يتوارثها الابن عن الأب، فتولَّاها أولًا «رعمسيس نحت»، وتلاه ابنه «نسآمون»، ثم أعقبه أخوه «أمنحتب». وقد لاحظنا أن نفوذ هؤلاء الكهنة العظام كان بارزًا وله أثره في البلاد أكثر من السلطة الدنيوية التي كانت بدون قوة تعززها. والواقع أن أفراد هذه الأسرة كانوا هم القابضين على زمام الأمور في البلاد من كل ناحية؛ فكان من بينهم الوزير ورئيس المشرفين على الضرائب وغير ذلك. وقد وصل نفوذ الكاهن الأكبر إلى درجة أمكنه بها أن يجعل مالية «آمون» مستقلة، وأن يرسم صورته على جدران معبد «الكرنك» بنفس الحجم الذي مثلت به صورة الفرعون نفسه، وهذه ظاهرة لم تعرف قط في تاريخ البلاد منذ فجر التاريخ، أي إن الكاهن الأكبر أصبح مساويًا للفرعون، وعلى ذلك نجد أن السلطة المدنية وقيادة الجيش كانت لا تزال في يد المدنيين، ولكن كما رأينا لأسباب خاصة أن «حريحور» الذي خلف «أمنحتب» قد أفلح في أن يجمع في يديه القوة الدنيوية والسيطرة الروحية. فكان رئيسًا لكهنة «آمون» الأثرياء، وقائدًا لكل الجنود، ورئيسًا للمالية، ونائب الفرعون في بلاد النوبة ووزيرًا، والمدير الإداري للأرضين وذلك في عهد فرعون نكرة.
وتدل شواهد الأحوال ظاهرًا على أنه قد صار إلى الأمام بالمشاريع الطموحة، التي كان قد وضع تصميمها «رومع روي» و«أمنحتب»، غير أن «حريحور» لم يكن من أسرة كهنة، ولم يتربَّ تربية دينية، بل تدل كل الظواهر على أنه كان جنديًّا، وأنه لم يتربع على كرسي كهانة «آمون» إلا لعلمه أنه لن يصل إلى غرضه إلا بمساعدة هذه الفئة التي كان في يدها ثروة البلاد، كما كانت تسيطر على عواطف الشعب الدينية، وقد كان غرضه إذن تفضيل خدمة نفسه على خدمة مليكه، عن النقيض من «حبوسنب» و«منخبر رع سنب»، اللذين لم يكن لهما هَمٌّ إلا مجد سيدهما وفخاره. وقد كان من الطبيعي أنه بعد أن بقي نحو عشرين سنة يشغل وظيفة عمدة القصر الملكي لفرعون خامل، قام في خلالها بالقضاء على كل الرذائل التي كانت شائعة في البلاد، وبإطفاء نار الثورة التي كانت مندلعة في «طيبة»، وبالقضاء على الأجانب الذين كانوا يجتاحون البلاد من كل حَدَبٍ وصَوْب، وأنه لما تم له كل ما أراد من إصلاح ظل هو الحاكم الفعلي في البلاد بجوار الفرعون «رعمسيس الحادي عشر»، حتى إنه لما اختفى من عالم الحياة اعتلى عرش الفراعنة، أو على الأقل تولى حكم الجزء الذي تركه له «سمندس»، الذي كان يحكم بوصفه فرعونًا في «تانيس» التي اتخدها عاصمة لملكه، فكان في البلاد وقتئذ فرعونان: أحدهما في الجنوب في «طيبة» وهو «حريحور»، والآخر في الشمال في «تانيس» وهو «سمندس».
ولما أن تم «لحريحور» الاستيلاء على تاج البلاد فكر فيمن يجب أن يكلفه القيام بوظيفة الكاهن الأكبر «لآمون». وقد اتضح له جليًّا أنه لا يمكن لرجل واحد أن يقوم بوظيفة الكاهن الأكبر «لآمون»، وإدارة أملاكه في «الكرنك» بصفة منظمة. وفي الوقت نفسه يأخذ على عاتقه تدبير شئون الملك. ومن جهة أخرى كان يعلم «حريحور» حق العلم أكثر من أي شخص آخر أن رئيس الكهنة «لآمون» كان أكبر مناهض خطر «للفرعون»؛ ولأجل ذلك فإنه قد حل هذه المعضلة حلًّا موفقًا باختياره من أفراد أسرته، فانتخبه من بين أولاد الكاهن الأكبر «لآمون» أي: ابنه «بيعنخي»، وقد نهج نهجه أخلافه من بعده. ونحن نعلم أن «حريحور» عندما أصبح فرعونًا على البلاد انتخب ابنه «بيعنخي» كاهنًا أكبر «لآمون»، ولكنه زوده بأكثر من ذلك، إذ ولاه قيادة الجيش، غير أنه مات قبل أن يتولى عرش الملك في «طيبة». وقد خلف «بيعنخي» ابنه «بينوزم» الأول، وعندما نودي ليتولى عرش الكنانة كلف بكر أولاده «ماساهرتا» بالقيام بمهامه الدينية، وقد سلم الأخير لأخيه «منخبر رع» مهام الكهانة بدوره. ولما تولى «منخبر رع» عرش الملك نصَّب ابنه «سمندس» على كرس رياسة كهانة «آمون»، وقد خلفه على العرش «بينوزم الثاني»، وهو والد الملك «بسوسنس» كما سيجيء بعد. وقد اعتنق ملوك «بوبسطة» (الأسرة الثانية والعشرون) أولًا نفس السياسة كما سنرى بعد، فنجد أن «شيشنق» مؤسس الأسرة الثانية والعشرين قد خلع على ابنه «أوبوت» لقب الكاهن الأكبر «لآمون»، وبعد «أوبوت» تربع على كرسي كهانة «آمون» «شيشنق» و«أورات»، ثم «سمندس» ابن الفرعون «أوسركون الأول»، ثم تولاه «تامراتي» بن «أوسركون الثاني»، ثم اعتلاه بعد ذلك «بدو باست» (؟) بن «حورسا إزيس» (الذي كان نفسه كاهنًا أكبر) ثم جلس عليه «أوسركون» بن «تاكلوت الثاني».
وهكذا سارت الأحوال حتى بداية القرن الثامن قبل الميلاد، عندما خاف «أوسركون الثالث» بحق من الخطر، الذي يمكن أن يهدد هذه الأسرة التي كان أمراؤها من الكهنة، وبخاصة أن ملوكهم كانوا يعيشون بعيدًا عن «طيبة» فألغى وظيفة الملك الكاهن بوصفها تمثل الحياة السياسية في «طيبة»، ووضع على رأس أملاك «آمون» وكهنته «الزوجات الإلهية»، والمتعبدات الإلهية، وقد بدأت سلسلة أولئك السيدات بابنته «شابتأبت».
ونصادف مرات عدة لقب المتعبدة الإلهية «لآمون رع» ملك الآلهة في ورقة «إبوت»، وهذا اللقب كان دائمًا مكتوبًا في طغراء ليذكرنا بأن حاملته من الأسرة المالكة. والظاهر أن حاملته كان لها عبادة خاصة، إذ كان لها كهنة وكتاب.
والمجموعة الصغيرة الجميلة المحفوظة الآن «بمتحف القاهرة»، والتي تمثل «أمنريتيس» جالسة على ركبة «آمون» تفسر بصورة رمزية خلابة الاجتماع الخفي لهؤلاء النسوة مع أزواجهنَّ الإلهيين. ولما كانت هؤلاء النسوة قد وهبن أنفسهنَّ ليكنَّ عذارى فإنه لم يكن لهنَّ نسل؛ ولذلك لجأن لاتخاذ دعيات يحللن محلهنَّ، ويحملن ألقابهنَّ بعد وفاتهنَّ، وقد كانت البنت التي تتخذها الكاهنة دعية لها لتخلفها يفرضها الفرعون عليها. والواقع أن الإصلاح الذي قام به «أوسركون الثالث» قد خدم أولًا أغراض ملوك الأسرة الخامسة والعشرين النوبية الأصل. فقد كان لزامًا على «شابنأبت» بهذه الكيفية أن تتخذ خلفًا لها «أمنريتيس» بنت الملك «كاشتا»، وقد اتخذت الأميرة دعية لها إحدى بنات «بيعنخي» النوبي الأصل، وكانت تسمى كذلك «شابنأبت»، وقامت الأخيرة بدورها بادِّعاء ابنة أخرى تدعى «أمنريتيس» ابنة الملك «تهركا». وفيما بعد نجد في العهد الصاوي «نوتكريس» بنت الملك «بسامتيك الأول». وأخيرًا تبنت «نوتكريس» بنت الملك «بسامتيك الثاني» التي تدعى «عنخسنفر-أبرع» وقد امتد عهد كهانتها مدة طويلة، وانتهى بحلول الفتح الفارسي، ومن البدهي أنه كان بجانب هؤلاء الأميرات «أزواج الإله» كهنة محترفون يقومون بأداء الشعائر الدينية، التي لم يكن في مقدور امرأة أن تقوم بها.
(٢) نظام الحكم في عهد الدولة الحديثة من الوجهة السياسية
تحدثنا فيما سبق عن تطوُّر الأحوال الدينية في عهد الدولة الحديثة وما بعدها بوجه عام، فيما يخص الكاهن الأول للإله «آمون». وسنحاول الآن أن نضع أمام القارئ هنا صورة مختصرة شاملة عن نظم الحكم في عهد الإمبراطورية، منذ تولى «أحمس الأول» حوالي عام ١٥٨٠ق.م إلى أن تولى «حريحور» عرش ملك الفراعنة حوالي عام ١٠٨٥ق. وقد تحدثنا في الجزء الخامس عن الإمبراطورية المصرية في آسيا بشيء من التفصيل. ولكنا هنا سنتحدث عن نظم الحكم عامة في داخل مصر وخارجها مدة خمسة القرون التي مكثتها الدولة الحديثة، وكانت في خلالها بين مد وجزر. وهذا العصر يبتدئ بطرد «الهكسوس»، وإعادة وحدة مصر تحت حكم أمراء «طيبة»، وينتهي بتقسيم مصر ولايتين مستقلتين إلى حد ما؛ إحداها في الجنوب تحت حكم «حريحور» وعاصمته «طيبة»، والأخرى في الشمال تحت حكم «سمندس» وزوجه «تنتآمون» وعاصمتها «تانيس». وهذا العهد يشمل عصر أعظم قوة وثروة تمتعت بهما مصر، وهو العصر الذي كانت تدين فيه لمصر بلاد الشرق قاطبة. ولا نكون مبالغين إذا قلنا: إنه كان العصر الذهبي للإمبراطورية المصرية. وقد انتهى هذا العصر كما ابتدأ بعصر طويل ظهرت فيه مصر بمظهر الضعف والركود مشفوعًا بانشقاق داخلي.
ولا نزاع في أن المجهود القومي الضخم الذي بذله المصريون في طرد «الهكسوس» قد أعطى المصريين قوة ساعدتهم على متابعة غزوهم حتى نهاية الحدود الشمالية من «سوريا». وعلى قدر ما وصلت إليه معلوماتنا كان الجيش المصري في باكورة الأسرة الثامنة عشرة يتألف من جنود مصريين أصليين وهذا هو السر في مد سلطان مصر وعظم فتوحها، وقد كان الفرعون الغازي في أثناء عهد الفتوح الأولى للإمبراطورية يكافئ البارزين من رجال جيشه المدرَّبين بالأراضي وبالعبيد من الأسرى وبأنواعٍ أخرى من الغنائم التي حصل عليها من تلك الأصقاع، وكذلك كانوا يهبون معابد الآلهة العظام الأراضي والعبيد والغنائم، وقد استمرت عادة منح المعابد الهبات العظيمة خلال كل عهد الدولة الحديثة. (راجع مصر القديمة ج٥).
وأخذ فراعنة العهود المتأخرة لهذا العصر يعتمدون على القوَّات الحربية، وعلى رجال الشرطة الذين كانوا ينتخبون من بين الأجانب وبخاصة النوبيين واللوبيين، وإن كانت نسبة العناصر المصرية قد بقيت عالية بين القوات المسلحة، وقد وصل بعض الأجانب إلى أعلى الرتب في خدمة الحكومة المصرية، حتى إننا رأينا في عهد الفوضى التي وقعت في نهاية الأسرة التاسعة عشرة سوريًّا من المخاطرين كان في مقدوره أن يقبض على زمام الأمور في مصر، ويعتلي أريكتها (راجع مصر القديمة ج٧). وهكذا نرى في مصر الموحدة السكان نسبيًّا أن المصريين الذين طردوا «الهكسوس»، قد نما بينهم في العهد الذي نتحدث عنه عدد مميز قوي من الطوائف، التي كانت لها منافعها وميولها المتضاربة. ويمكن أن نميز من بين هذه الطوائف بوجه خاص طائفة الموظفين المدنيين، وطائفة الكهنة، وعلى وجه أخص التابعين للمعابد الكبيرة، وضباط رجال الجيش، والجنود المرتزقة، وكل هذه الطوائف كانت تتصادم بعضها مع البعض الآخر إلى حد ما من أجل الوظائف المدنية، ولم يشذ في ذلك ضباط الجيش أو الكهنة.
وهذه الأسرة نفسها على ما يظهر لم تكن تضرب بأعراقها في الكهانة، ولم يكن إذن تتويج «حريحور» فرعونًا بعد ذلك ببضع سنين نصرًا للكهنة، وقد استولى «حريحور» على الوظائف الدنيوية ذات السلطان؛ فتولى نائبًا على بلاد «كوش»، وتقلد وزارة الوجه القبلي حوالي نفس الوقت الذي تولى فيه رياسة كهنة «آمون» «بالكرنك». ومن المتحمل أنه خلع فيما بعد وظيفة الوزارة على موظف آخر من الموالين له بطبيعة الحال من حزبه؛ غير أنه مما لا نزاع فيه أن الخطوة التالية التي خطاها في تنفيذ سياسته، وهي الاستيلاء على عرش الملك كانت ترتكز على قوة حربية لا على قوة الكهنة، وقد أبرز علاقته «بآمون» وكهنة «آمون» لنفس السبب الذي أبرزت من أجله الملكة «حتشبسوت» ولادتها الخارقة لحد المألوف (راجع مصر القديمة ج٤) وذلك لأجل أن يعرض أمام الشعب اغتصابه الملك بلون ديني كاذب تمامًا.
ويجب أن يكون هذا الرأي المضاد تمامًا للرأي الذي كان يظهر أمام المؤرخين بدهيًّا عن «حريحور» وتوليه العرش، وهو بلا نزاع يساعدنا على أن نكون على حذر؛ فلا نجزم عند تفسير التيارات الخفية في السياسات المصرية القديمة، وأن الظواهر شيء والحقائق الواقعة شيء آخر، وهذا ما نشاهده الآن في سياسة الدول الكبرى.
أما من حيث نظام الحكومة وقواها، فإن كل إنسان يعلم أن الفرعون كان ملكًا مستبدًّا، وأن سلطته كانت ترتكز نظريًّا على زعم ألوهيته، إذ نجد أنه على الدوام كان يدعى «الإله الطيب». وكذلك كان يتصف بلقب من أكثر ألقابه شيوعًا، وهو «ابن إله الشمس رع»، ونحن نعلم من جانبنا أن ادِّعاءه أنه من نسل إلهي لم يكن مجرد استعارة لفظية، بل كان المقصود أن يفهم ذلك بمعناه الحرفي، وكذلك كان يحافظ دائمًا على بقاء دم الأسرة نقيًّا من أي دم أجنبي، مما أباح لهم زواج الأخت والبنت (راجع مصر القديمة ج١) ويقول لنا كتاب البلاط الملكي أن الفرعون الإلهي كان يفعل كل شيء لازم لسعادة شعبه بما لديه من قدرة لا حد لها، وهي تلك القدرة التي يتميز بها الآلهة، فيقصون علينا أنه كان يحصد أعداءه بعشرات الألوف في ساحة القتال، وأنه قد كشف بنفسه عما هو خطأ في كل أنحاء إمبراطوريته، وأنه بنفسه وضع القوانين اللازمة والقواعد التي تضع كل شيء في موضعه الصحيح. وكذلك حدثونا أن الملوك الأجانب سعوا إليه في الحال من بلادهم النائية حاملين جزيتهم على ظهورهم، وراجين الفرعون نفس الحياة الذي لا يعطيه أحد سواه، كما يقصون علينا أشياء أخرى كثيرة لا يمكن تصديقها، ولا يمكن أن تتأتى إلا على أيدي الآلهة، كما جاء في لوحة «أمنحتب الثاني»، التي كشف عنها المؤلف حديثًا (راجع مصر القديمة ج٤).
وكذلك نجد في نقوش تراجم الموظفين العظام والكهنة نفس المغالاة في مدح أنفسهم، وإظهار فضائلهم، كل على حسب مستواه، كما كان للبلاط مادحون يطرون الفرعون وأنفسهم على السواء، فكثيرًا ما نجد في النقوش أن فلانًا كان مثال الفضيلة والمهارة، ولكن معلوماتنا عما فعله فلان هذا كانت في العادة تقتصر على قائمة ألقاب محدودة، والألقاب قد لا تعني دائمًا ما هو ظاهر منها.
والواقع أن معلوماتنا الحقيقية عن كيفية سير الإدارة الحكومية الفرعونية، وعن الأثر الذي كانت تحدثه في حياة الرعية قليلة جدًّا بكل أسف، وكثير من الوثائق الخاصة بذلك يمكن تفسيرها بأكثر من وجه واحد، وعلى ذلك فإن الصورة الناتجة التي نستنبطها من ذلك تحتوي أحيانًا أمورًا كثيرة غير مؤكدة.
ويلاحظ بطبيعة الحال أن حق الفرعون في الحكم كان يرتكز نظريًّا على أنه إله؛ وذلك لأن إله الشمس «آمون رع» قد أنجبه، وأنه عندما فعل ذلك قد اتخذ صورة الملك السابق لهذا الغرض (أي عندما اجتمع بأم الملك الحاكم). وعلى ذلك فإن «آمون رع» كان يضعه بموافقة الآلهة الآخرين المتحمسين له على عرش الملك، ويقرر له حكمًا طويلًا مزدهرًا. ولا نزاع في أن هذه الأساطير الدينية والتقاليد الفرعونية كانت تساعد على توطيد مكانة الفرعون. ولكن القواعد الحقيقية الثابتة التي كانت تعتمد عليها قوته هي سيطرته على أداة الحكم، بما في ذلك الجيش والشرطة، فنجد الملكة «حتشبسوت» المغتصبة للملك بعد أن بقيت عدة سنين وصية على عرش الملك الشرعي «تحتمس الثالث»، الذي لم يكن قد بلغ أشده بعد؛ قد دفعت به إلى الوراء وأقصته عن الحكم عندما شعرت أنها قد أصبحت موطدة القدمين، وفي قبضتها زمام الحكم، وقد بقي الملك الشرعي في عزلة طوال مدة حكمها. ويلاحظ أن «حتشبسوت» لم يكن في مقدورها أن تعلن نفسها «بنت آمون رع» إلا بعد أن أصبح زمام الحكم في يدها، ولا نزاع في أنه لم ينكر أي إنسان حقها علنًا في أنها إلهة مدة حياتها، غير أن الإنسان يتساءل بشيء من العجب والدهشة: كم من معاصريها كان يعتقد فعلًا في إلاهيتها؟ إن النفاق والخوف والأحزاب قد لعبت دورًا عظيمًا في ذلك، ولكن في نهاية الأمر تمكن الفرعون الشرعي «تحتمس الثالث» من أن يستولي على العرش؛ لا لأنه كان صاحب الحق الأعلى في ادَّعاء الإلاهية؛ بل في الواقع لأن موت «حتشبسوت» قد أزال من أمامه العقبة الإنسانية الحقيقية. وأهم من ذلك موضوع الملك المصلح «إخناتون»، الذي كان في مقدوره أن يمحو عبادة الأوثان التقليدية، ثم غير لقبه الإلهي بطريقة تخطئها المعرفة وينكرها الشعب. ولكن مع ذلك بقي يحكم حتى يوم مماته. والواقع الذي لا لبس فيه أن إلاهية الفرعون كانت ترتكز على قوته هو على الحكم على الرغم من أن النظرية الرسمية كانت على العكس مما فعله «إخناتون».
وقد كان بجانب الفرعون الإلهي الذي كانت قوته ترتكز على الخدمة المدنية والجيش، ورجال الشرطة بطبيعة الحال عدد عظيم من الآلهة الآخرين في مصر، وكان بعضهم — أو كهنتهم — يأخذون بنصيب في حكومة مصر من وقت لآخر، وذلك بوساطة الوحي الذي كان — على ما يظهر — يعدُّ بمثابة قانون ينطق به الإله، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع في مناسبات عدة وسنتحدث عنه بعد، غير أن الجزء الذي كان يلعبه الوحي في حكومة البلاد ضئيل؛ ولذلك سنناقش أولا العناصر القانونية الإنسانية في حكومة البلاد.
والظاهر أن وضع القوانين كان من اختصاص الفرعون وحده. وتدل شواهد الأحوال على أنه لم يكلف أي فرد أو جماعة بالقيام بهذا العمل. وكان ينوب عن الفرعون في تنفيذ أعماله القضائية والإدارية جماعة كبيرة جدًّا منظمة من الموظفين، وكان المصريون على علم تام بالفرق بين الوظائف الإدارية والوظائف القضائية، ولكن يظهر أنه في عهد الإمبراطورية كانت الوظائف القضائية يقوم بأدائها في العادة رجال كانت أعمالهم الأصلية إدارية الصبغة؛ وكان التفويض في الأمور الإدارية والقضائية بطبيعة الحال مرخصًا به من أكبر وظيفة إلى أقل وظيفة، أي من الفرعون إلى أكبر موظفيه في الدولة، ومن هؤلاء إلى مرءوسيهم الصغار.
وقد كانت خدمة الحكومة تنقسم قسمين، وهما: نوع النشاط الذي يقوم به الأفراد، والبيئة الجغرافية. فمن جهة كانت توجد مصالح في الإدارة الرئيسية كالخزانة الملكية، ومخازن الغلال الملكية، وقد كان عملها في مصر كلها، ويحتمل أنه كان يمتد كذلك إلى الإمبراطورية كلها. ومن جهة أخرى كانت البلاد مقسمة أقسامًا إدارية كل منها كان له أعضاء حكومته المحليين، وإن كان هؤلاء تابعين للحكومة الرئيسية من كل الوجوه.
ومما يلفت النظر أنه في عهد الإمبراطورية لم يكن في العادة يوجد موظف واحد بعينه تحت سلطة الفرعون يقبض على زمام الحكم في كل أنحاء البلاد، وفي كل مصالح الحكومة في وقت واحد، إلا في عهد كل من الدولتين القديمة والوسطى؛ فكان الوزير يمثل هذا الموظف الذي كان يقبض على كل السلطة. ولكن في عهد الدولة الحديثة كان يوجد عادة وزيران: واحد منهما للوجه القبلي، والآخر للوجه البحري؛ ويحتمل أن كلًّا من هذين الوزيرين كان يقوم في الإقليم الذي يسيطر عليه بكل الأعمال العامة ولا يخضع إلا للملك. وليس من المؤكد أن واحدًا من الوزيرين كان له أية سلطة في «بلاد النوبة» (حيث كان يوجد بها نائب من قبل الفرعون يحكمها وكان — على ما يظهر — مسئولًا مباشرة أمام الفرعون) أو في آسيا. ومن حقنا أن نشك في أن الفرعون قد قصد ألا يجعل لأي فرد معين من رعيته حق تمثيل السلطة الملكية في كل مكان، وفي كل حال من الأحوال.
وقد كان في كل بلدة كبيرة جماعة منظمة تنظيمًا غير محكم تعرف «بالمجلس» (قنبت) كما كان فوق هذه المجالس «مجلسان عظيمان»: أحدهما في «طيبة»، والآخر في «هليوبوليس»؛ ويرأسهما الوزيران بالتوالي، أي إن أحد المجلسين العظيمين كان في الوجه القبلي ومقره «طيبة»، والآخر في «الوجه البحري» ومقره «هليوبوليس». وليس من المؤكد أن هذه المجالس كما هي كانت تؤدي وظائف إدارية، غير أنه من المؤكد أنها كانت تعقد بمثابة محاكم قضائية لتفصل في القضايا الجنائية، وفي بعض الأحيان كانت تفصل بسلطة قضائية في المسائل الإدارية. ويلاحظ هنا أن كل عضو من أعضاء المجلس كان في غالب الأحيان من الرجال الذين كان عملهم الأصلي إداريًّا. وعلى ذلك فإن هذه المجالس لا بد كانت تميل إلى وضع حد بين الأعمال الإدارية والقضائية.
وعندما كانت أسماء أعضاء المجلس توضع في قائمة، فإنها كانت — غالبًا — يوضع لها العنوان التالي: «مجلس هذا التاريخ» مما يشعر أن تأليف هذا المجلس كان يغير من يوم إلى يوم. وفي إحدى الجلسات القضائية التي يحتمل أنها كانت خاصة بمصالح لمعبد الإلهة «موت» بالكرنك (راجع مصر القديمة ج٦) كان يرأس المجلس الكاهن الأكبر «لآمون»، ولا تحتوي إلا على كهنة فقط — إذا استثنينا المسجل الذي كان يحمل لقب «الكاتب المسجل لمجلس طيبة» — ولدينا مجالس أخرى تشمل موظفين خارجين عن هيئة رجال الدين، أو كانت تتألف من كهنة وموظفين مدنيين معًا.
ويخيل إليَّ أن معابد الآلهة يجب أن تعد مصالح ضمن الإدارة الملكية، فقد كان الفرعون — نظريًّا — هو الذي يؤدِّي الشعائر اليومية العادية في جميع معابد مصر، وعلى ذلك فإن الكاهن الذي كان يقوم بأداء هذه الشعائر فعلًا إنما يقوم بها على أنه ممثل للفرعون. وقد وُجدت هبات المعابد — في الظاهر — لأجل المساعدة على القيام بهذه الشعائر، وهي الخدمة الدائمة التي كان يؤديها الفرعون لآبائه المقدسين وأمهاته، ولآلهة الدولة العظام وإلهاتها.
والواقع أن الكهنة والموظفين الآخرين التابعين للمعبد كانوا عمال الفرعون كما كان ضباط الجيش، أو جباة الضرائب. وعلى قدر ما يمكن الحكم به كان للفرعون من السلطة في عزل وتنصيب رجال الدين كالتي كانت له في مصالح الحكومة الأخرى. حقًّا نعلم أن بعض رجال الدين كان لهم الحق في أن يورثوا أبناءهم وظائفهم، غير أن ذلك كان ينطبق على مصالح حكومية أخرى.
ولا نزاع في أن أغنى طوائف الكهنة — وبخاصة كهنة «الكرنك» للإله «آمون رع» ملك الآلهة — كانت تعد خطرًا عظيمًا على فرعون ضعيف، ولكن هذه الحالة كانت تنطبق على الجيش، وكذلك على بيت الفرعون نفسه. والفرعون القوي الشكيمة كان يقبض — عادة — على زمام رجال الدين تمامًا، وبنفس الطرق التي يدير بها زمام بيته أو جيشه.
ومن المعلوم أن فراعنة الأسر الثامنة عشرة والتاسعة عشرة والعشرين، قد وهبوا عطايا ضخمة للمعبد الكبير الخاص «بآمون رع» ملك الآلهة في «الكرنك»، وهذه العطايا تشمل أرضًا زراعية، ومناجم ذهب، وأنواعًا أخرى من الضياع الحقيقية وكذلك العبيد بأعداد ضخمة من الذين أُسروا في الحرب، أو استولى عليهم من البلاد التي فتحت بحد السيف، وقطعانًا عظيمة من كل نوع، وسفنًا تجري في النيل، تَمْخَرُ عُبَابَ البحر، وأثاثًا للمعبد، ونسيجًا، وحَبًّا، ونبيذًا، وجعة، وأمتعة خفيفة الحمل مختلفة أشكالها، ومصانع كانت تصنع فيها مواد عديدة. وقد كان من الواضح تمامًا أن «آمون رع» ملك الآلهة لا بد أنه كان أغنى مالك في مصر إذا استثنينا الفرعون في كل العصر الذي نتحدث عنه.
ومن جهة أخرى لدينا براهين قاطعة نرى منها أن الفرعون ووزيره وموظفين آخرين، كانوا يقومون بالمراقبة — إلى درجة ما — على الشئون الاقتصادية للمعابد على الأقل. وكانت الحكومة تقوم بتعيينات في بعض الأحيان في أعلى وظائف الكهانة وفي أدناها.
والآن، نعود إلى موضوع الوحي. وسنأخذ هنا على سبيل الإيضاح مثالين، أحدهما عن سؤال إداري، والآخر عن حالة صغيرة جدًّا خاصة بسرقة:
كان على «رعمسيس الثاني» في السنة الأولى من سني حكمه أن ينتخب كاهنًا أكبر جديدًا للإله «آمون» بمعبد «الكرنك» أي: موظفًا جديدًا لأهم منصب كهانة في مصر (راجع مصر القديمة ج٦).
وقد وضع «رعمسيس» على حسب قوله أمام الإله أسماء كل موظفي البلاط الفرعوني: قائد الرديف، ورؤساء الكهنة، وأشراف معبد «آمون» نفسه. وقد انتخب نفسه شخصًا يدعى «نب وننف»، الذي لم يكن حتى ذلك الوقت عضوًا من كهنة «طيبة»، بل كان الكاهن الأكبر للإلهة «حتحور» صاحبة «دندرة» والكاهن الأكبر للإله «أنحور» صاحب «طينة» والمشرف على كهنة الآلهة. ما بين «طينة» و«طيبة». وهذه الوظائف كان يشغلها والده من قبله، وعلى ذلك نصب «رعمسيس» «نب وننف» كاهنًا أكبر «لآمون»، وأمره أن يضع ابنه في وظائفه، وهي الوظائف التي كانت خاصة بالأسرة. وفي هذه الحالة ليس لدينا أي شك في أن الفرعون هو الذي عين الكاهن الأكبر الجديد «آمون»، وهو الذي انتخبه أيضًا. أما موضع الوحي فلم يكن ترتيب أمره من الصعوبة أكثر من ترتيب أخذ الأصوات في الانتخابات العامة الآن. أما المثال الثاني فيرجع تاريخه إلى منتصف الأسرة العشرين، أي أكثر من مائتي سنة بعد المثال الأول (راجع تفصيل هذا الموضوع في هذا الكتاب «عهد رعمسيس الرابع» … إلخ).
وموضوعه أن خمسة رداءات سرقت من خادم يدعى «أمنمويا». وقد رفع الخادم المجني عليه شكواه إلى أحد الآلهة الصغار في «طيبة» يدعى «آمون» صاحب «بخنتي»؛ ليكشف له عن اسم اللص. وقد قبل الإله أن يفعل ذلك، وعلى هذا ذكر أمامه «أمنمويا» أسماء سكان القرية، وعندما ذكر اسم المزارع «بتوم دي آمون» هز الإله رأسه كأنه أراد أن يقول: «إنه سرقها.» وعندئذ قال المزارع «بتوم دي آمون» للإله: «إن هذا كذب، إني لم أسرقها.» وعلى ذلك صار الإله في شدة الغضب.
وفي فرصة أخرى لجأ المزارع المتهم «بتوم دي آمون» إلى إله آخر صغير في «طيبة» أيضًا، غير أن هذا الإله بدوره هز رأسه كأنه أراد أن يقول: إنه أخذها. فقال المزارع مرة أخرى: «إن هذا كذب.» وقد غضب هذا الإله — كسابقه — غضبًا شديدًا؛ لأن رجلًا قد أعلن الإله أنه لص بلغت به القحة أن يؤكد براءته ويكذب الإله في آنٍ واحد. وبعد ذلك وقف المزارع المتهم مرة أخرى أمام «آمون» صاحب «بخنتي» وهو إله قريته الذي اتهمه في بادئ الأمر، ثم لجأ المزارع للإله قائلًا: تعال إلى «يآمون» صاحب «بخنتي» يا سيدي الطيب المحبوب؛ هل أخذت أنا الملابس؟ وعندئذ هز الإله رأسه مرات عدة كأنه أراد أن يقول: «إنه أخذها.»
وبقية سجل القصة ليس واضحًا تمامًا كما ذكرنا ذلك في مكانه. ويحتمل أن المزارع المتهم اعترف بالسرقة. وعلى أية حال فإنه — في أغلب الظن — عوقب من أجل السرقة، غير أنه لا يمكنني أن أشك في أنه كان بريئًا. ولا نزاع في أن إثبات تهمة المزارع كما جاءت على لسان «آمون» كان قد عملها بالفعل — بطبيعة الحال — كاهن أو جماعة من الكهنة. وليس لدينا شيء يوحي بأن الكهنة كان لهم علم بالموضوع. والظاهر أنه لا يوجد أي برهان من أي نوع يمكن أن تستند عليه محكمة حديثة، بل على العكس نلحظ أن المزارع قد سلك مسلك رجل طاهر الضمير، وإذا كان قد اعترف نهائيًّا فإنه لا بد قد فعل ذلك تحت تأثير عامل نفسي ثالث يخفيه في قرارة نفسه، أو أن المشاع في القرية أنه هو الذي سرق، وقد بنى الكهنة اتهامه على ذلك دون وجود دليل مادي لديهم.
وهذان المثالان عن الوحي معًا يفسران — على ما يظهر بوضوح — مقدار قوة الوحي أو عدم قوته خلال الأسرتين التاسعة عشرة والعشرين، إذ إنه كان من الممكن أن يكون حكمه فعلًا حاسمًا في قضية صغيرة، تشمل فقط مصالح رجل من الطبقة الدنيا. ولكن عندما يكون لمصالح الحكومة دخل، فإن الفرعون «يرتب» الوحي — بلا شك — كأنه أمر عادي، كما كان يرتب — بالضبط — وضع أعظم الأقاصيص الخيالية في سجلات أحكامه الرسمية. ولدينا مثال طريف لذلك في قصة الوحي التي تتحدث عن تهمة الكاهن «تحتمس» باختلاس متاع الإله «آمون»، وقد دُوِّنت في الكرنك في عهد «بينوزم الثاني» كما سيجيء بعد.
وقد كان الراعي «مس» في زمنه يعدُّ صاحب أملاك بين جيرانه، فقد كان صاحب ماشية للبيع. ومن المحتمل أنه كان ينمي ثروته من سنة إلى أخرى بالمساومة الحاذقة. ولا شك في أن بذور القيام بالمشروعات كانت موجودة في مثل هذا العمل، غير أن البذور لم تنمُ — على ما يظهر — في عهد الإمبراطورية. ويخيل إليَّ أنه بين إنتاج الأسر الفردية من جهة، وبين الإنتاج العظيم الذي تنتجه المعابد ومصالح الحكومة من جهة أخرى، لم يبقَ مجال كبير لقيام الأفراد بمشاريع في التجارة أو الصناعة. وعلى أية حال فإن فقرنا في المصادر لا يعيننا على الجزم في مثل هذا الموضوع.
وفضلًا عن وجود أفراد مثل الراعي «مس»، الذي كان يشتري ويبيع لحسابه، فإنه كان يوجد تجار يقومون بأعمال تجارية بمثابة عملاء لمؤسسات دينية كبيرة (ورقة هاريس ص٤٦ سطر ٢ مصر القديمة ج٧). ولا نعلم شيئًا عن «تجار المعبد» هؤلاء غير وجودهم. والظاهر أن تجارتهم في بعض الحالات على ما يظهر كانت دولية في مجالها (راجع منشور نوري ج٦ ص٨٨).
ولا نعلم إذا ما كان مقدار الأرض التي يملكها الأفراد خلال الإمبراطورية كبيرًا لدرجة تجعله ذات أهمية اقتصادية كبيرة أم لا.
والواقع أن التاج كان يملك مساحات شاسعة من الأرض، وكذلك كان للمعابد ضياع عظيمة. وكانت أراضي التاج وأراضي المعبد تقسم عادة مساحات كل منها تحت إدارة المعبد (راجع ورقة فلبور). وفي مثل هذه الحالات كان الموظف المسئول يسكن على مسافة بعيدة من الأرض التي تحت إدارته، ومثل قطعة الأرض هذه كان لها أولًا مالك غائب (وهو الفرعون أو الإله). وثانيًا كان لها مدير غائب، وهو الذي وُكل إليه إدارتها. وإذا سارت كل الأمور — فيما يخص هذه القطعة من الأرض — على ما يرام، فإن مديرها الغائب كان ينتظر بطبيعة الحال كسبًا عظيمًا فوق مقدار الحَب الذي كان يورد إلى الفرعون، غير أنه كان يحدث أحيانًا أن الفلاحين يفرون من سوء المعاملة، التي يلاقونها على أيدي رؤسائهم المباشرين كما كانت الحال في مصر الحديثة إلى زمن غير بعيد (وحتى الآن نجد مع بعض الملاك الرأسماليين يتقاضون إيجارهم من الفلاح، سواء أأنتجت الأرض أم لم تنتج بشتى الطرق).
ويمكن أحيانًا أن يجندوا لعمل حكومي في مكان آخر مجاور أو حتى في جزء آخر من مصر. وما يحدث من جراء ذلك يترك لخيالنا.
وقصارى القول: إن حكومة الدولة المصرية كانت فردية بيروقراطية مركزية من حيث المبدأ، وكانت — إلى حد كبير — مركزية عمليًّا. ولا نزاع في وجود مشاحات من أجل المنفعة بين العناصر المختلفة في الحكومة البيروقراطية، التي تتألف من مصالح مختلفة تكاد كل منها تكون مستقلة عن الأخرى ولا تجمعها مسئولية واحدة. ولدينا أدلة تدل على أن الفرعون كان يستخدم هذه المشاحات ليخدم مصالح الأسرة الحاكمة، ويلاحظ أن كلًّا من طائفة الكهنة والجنود قد أصبح ذا أهمية عظمى في القرون التالية، ويمكن رؤيتهما تنموان منذ نشأتهما. وفي خلال نصف القرن الأخير من عهد الإمبراطورية تجد أن كلًّا منهما منغمس في اضطرابات خطيرة، مما ساعد على سقوط الأسرة العشرين، وتصدع أركان الإمبراطورية. ونرى من كل هذا أن الرجل العادي — على ما أعتقد — لم يكن لديه من القوة ما يهيئه للتعبير عن آرائه في الحياة السياسية أو الاقتصادية؛ لأن الأحوال لم تكن قد هُيئت له بعد لظهوره في معترك الحياة، وهو يحمل في نفسه شيئًا من الاستقلال الذاتي، أو الصفات التي تؤهله لبلوغ ذلك. وقد يرجع السبب في هذا أولًا لنظام الحكم الذي كان سائدًا في هذه الفترة من تاريخ البلاد، وكذلك إلى تربيته على الخضوع له، وإن كان أحيانًا قد يثور على هذا النظام بسبب الجوع والفقر، كما أوضحنا ذلك في مكانه عند التحدث على إضراب العمال في عهد «رعمسيس الثالث»، وعندما قام العمال — وحتى رجال الدين — بنهب المقابر الملكية وغيرها إلى درجة تدعو إلى الدهشة والعجب من شعب وديع كالشعب المصري، ولكن الفقر كافر والجوع أشد منه كفرًا.