الكاهن الأكبر بيعنخي
تدل شواهد الأحوال على أنه على أثر وفاة «حريحور»، لم يكن في مقدور أسرته أن تحافظ على تاج الملك. ويظهر أن «سمندس»، الذي كان يحكم في «الدلتا» قد أصبح ملكًا على البلاد جميعها، كما سنرى بعد. غير أننا نجد أن وظيفة الكاهن الأكبر «لآمون» كانت في يد «بيعنخي»، ولم يكن يحمل لقب الملك مثل والده، ومع ذلك تدل النقوش على أنه كان هناك شبه رابطة بين شطري المملكة، كما سيتضح لنا هذا بعد؛ وكما قلنا من قبل: لا نعرف إلا النزر اليسير عن ملوك «تانيس»، وإلا ما كُشف عنه حديثًا وهو قليل في ذاته؛ وذلك لأن الآثار لم تكشف لنا عن كل أسماء ملوكها، ونجد صعوبة في ترتيب الملوك الذين عرفناهم فعلًا. وقد كانت دائرة نفوذهم تمتد جنوبًا حتى «أسيوط»، ولكن سيادتهم كان معترفًا بها في جنوب الوادي حتى «بلاد النوبة»، وقد كان ملوك «تانيس» يحافظون على بقاء سلطانهم بقوة وشدة، حتى إنه كان في مقدورهم — في حالات كثيرة — طرد كهنة «آمون» وإعادة سلطانهم — ولو إلى زمن قصير — في كل البلاد وجمع شملها. وكان يكفيهم للحصول على ذلك أن يستولوا على رياسة الكهانة في «طيبة» بتعيين فرد من أسرتهم، وهذا هو نفس ما كان يحدث أحيانًا، عندما يخلو كرسي رياسة الكهنة، ولكن ذلك كان لا يمكث إلا فترة قصيرة. وقد كان ملوك «تانيس» يتخلون عن كرسي الكهانة بعد زمن قصير مفضلين أن يُملأ بأحد أعضاء أسرة «حريحور»، الذين كان لهم حق وراثته.
والواقع أن واجبات الكهنة العظام قد أصبحت معقدة جدًّا في عهد سيادة «طيبة»، وقد كانت التفاصيل الدقيقة التي لا بد من مراعاتها عند أدائها تشغل كل حياة الأشخاص الذين وهبوا حياتهم لإنجازها والقيام بأدائها. فقد كان عليهم أن يؤدوا شعائر يومية عديدة موزعة على ساعات النهار والليل المختلفة بطريقة لا تترك مجالًا للقيام بأي عمل آخر جديد دون أن يُغير على الوقت المخصص لراحة الجسم وحاجياته. فقد كان الكاهن الأكبر يستيقظ كل صباح في ساعة معينة، وكانت له أوقات خاصة لتناول طعامه ورياضته، وللمقابلات، ولإقامة العدل، ولمباشرة الأمور الدنيوية، وللراحة مع زوجاته وأولاده. وفي أثناء الليل كان يظل مستيقظًا أو يقوم في فترات؛ ليحضر الأحفال المختلفة التي كانت لا تؤدَّى إلا عند شروق الشمس. فقد كان مكلفًا بملاحظة كهنة «آمون» في الأعياد التي يخطئها العدُّ، وهي التي كانت تقام للآلهة، وكان لزامًا عليه أن يحضرها إلا إذا كان ثمة عذر شرعي قهري. ومن كل ذلك يتضح أنه كان من المستحيل على ملك غير ديني مثل ملك «تانيس» أن يخضع لمثل هذه القيود إلا إلى حد معلوم. ولا غرابة إذا نفد صبره أحيانًا، كما أن عدم التمرُّن كان يؤدِّي إلى ارتكاب أخطاء أو ترك أشياء؛ مما يجعل الشعائر تفقد قيمتها. ولا شك في أن الأمور الدنيوية الخاصة بملكه — وبخاصة الإدارة الداخلية، والعدالة، والمالية، والتجارة، وشئون الحرب — كانت كلها تتطلب منه وقتًا كبيرًا حتى إنه كان يضطر — بأسرع ما يمكن — إلى أن يجد لنفسه نائبًا يؤدي واجباته الدينية. ومن ثم نرى أن مقتضيات الأحوال حتمت بقاء الكهنة العظام الطيبيين بجانب ملوكهم فراعنة «تانيس».
والواقع أنهم كانوا مناهضين خطرين بما لديهم من ثروة وإقطاعات، وبسلطانهم الشاسع الذي كانوا يتمتعون به في مصر وبلاد النوبة، وفي كل المقاطعات التي كانت ميولها الدينية مع الإله «آمون»؛ ولذلك فإن «سمندس» لم يقف في وجه «حريحور»، عندما استولى على وظيفة الكاهن الأكبر، وأعلن نفسه فرعونًا على البلاد، بل على العكس أظهر له الولاء والودَّ.
والظاهر أنه لم يمارس وظائفه الدينية التي منحها إياه والده إلا مدة قصيرة، والآثار التي وصلت إلينا من عهده قليلة جدًّا. على أننا نجد اسمه بوجه خاص على آثار ابنه الأكبر الكاهن الأكبر «بينوزم» الذي أصبح ملكًا فيما بعد، وهو لا يحمل في هذه كذلك إلا لقب «الكاهن الأكبر».
ولم نجد له آثارًا قام بإنشائها في معبد «خنسو» أو غيره، ولم يذكر إلا بوصفه والد «بينوزم» الكاهن الأكبر والملك.
وبعد: إني أفهم كل الأمور التي كتبت لي عنها، أما قولك: اعتن بالكاتب «بوتهاي آمون» ومغنية «آمون» ملك الآلهة «شد متي» والصبية، هكذا تقول أنت فإن كل شيء طيب من جهتهم، وإنهم أحياء اليوم، أما الغد ففي يد الله، وإنك أنت الذي تشتاق إلى رؤيته، وإني أقول «لآمون رع» ملك الآلهة: ليته يمنحك حظوة في حضرة القائد سيدك، وأن يرجعك «آمون» سالمًا، وأن أضمك سالمًا في حضني.
تأمل … «آمون نست-تاوي» ينجيك، وإنك خادمه، وإني أضعك أمام «أمنحتب» له الحياة والفلاح والصحة عند كل احتفال به. وإني سأحميك وإني سأرجعك سالمًا، وستملأ عينك بالردهة (أي المعبد الذي فيه «أمنحتب»). هكذا تكلم (أي الإله) وقد أرسلت إليك لأعلمك. أرجو أن تكون صحتك طيبة، ولا تقطع أخبارك عني بأحوالك بوساطة أي شخص يكون آتيًا إلى الجنوب حتى يصير قلبنا (مطمئنًّا) (؟).
حاشية لكاتب الجبانة «ثارري»: «لا تنشغل على «بنت حمشري» فهي في صحة، ولم يصبها أي ضرر.»
وهذا الخطاب على ما يظهر هو أحد عدة خطابات من عهد الأسرة الواحدة والعشرين، ولا بد أنها وجدت كلها معًا ضمن لقية واحدة.
والقائد الذي ذكر في السطرين ٦، ٧ هو الأمير «بيعنخي» بن الملك «حريحور»، وهذا الخطاب له أهمية من حيث الوحي، وبخاصة العبارة التالية: «إني أضعك أمام «أمنحتب» عند كل احتفال له، وإني سأحميك، وإني سأرجعك سالمًا، وإنك ستملأ عينك بالردهة.» هكذا يقول. وهذه الكلمات لا تعني إلا أنه عندما كان يحمل تمثال عبادة هذا الإله في حفل خلال أعياده أحضر «تحتمس» بطريقة ما صاحبه الغائب إلى ملاحظة الإله، وبخاصة أنه كاهنه، وأن الإله عندئذ كان يجيب على لسان أحد المستخدمين من أتباعه. وقد لاحظنا من قبل أن «أمنحتب» صاحب الردهة هو اسم شكل خاص لهذا الإله. وبدهي أن تمثال العبادة هذا كان يقوم على خدمته صاحب «تحتمس» الذي كان كاهنه.
أسرة «بيعنخي»
-
(١)
وأكبر أولاد «بيعنخي» هو «بينوزم» الذي تولى رياسة الكهانة أولًا ثم عرش الملك فيما بعد.
والآثار التي تحدثنا عن نسبة «بينوزم» لأبيه كثيرة جدًّا نذكر منها واحدًا بمعبد «الأقصر»: الأمير رئيس الأرضين، الكاهن الأول «لآمون» ملك الآلهة «بينوزم» المرحوم (راجع Daressy Rec. Trav. XIN (1892) p. 32). -
(٢)
«حقا-نفر»: ويلقب: ابنه الكاهن الثاني «حقا-نفر» (Daressy Ibid).
-
(٣)
«حقا-عا»: ويلقب: ابنه الكاهن «ستم» في معبد الملك (lbid).
-
(٤)
«عنخف (ني) موت»: ويلقب: ابنه مدير الماشية، والمدير العظيم لبيت «آمون»، وكاهن الإلهة «موت» (Ibid).
ولا نعرف «لبيعنخي» إلا ابنة واحدة، وهي ربة البيت، ومغنية «آمون رع» ملك الآلهة.