الكاهن الأكبر بينوزم
تدل شواهد الأحوال على أن الكاهن الأكبر «بينوزم» بكر أولاد الكاهن الأكبر «بيعنخي» قد قام بنفس الدور الذي قالم به جده «حريحور»؛ فقد كان في بادئ الأمر يحمل لقب الكاهن «لآمون» في «طيبة»، ثم تزوَّج بعد ذلك من بنت الملك «بسوسنس الأول»، وأصبح فيما بعد ملكًا على البلاد بعد موت حميه. عندئذ نزل عن لقب الكاهن الأكبر لابنه الأكبر كما فعل من قبله «حريحور» مع ابنه «بيعنخي».
وقد عاصر الكاهن الأكبر «بينوزم» الفرعون «بسوسنس» (باسبنخعنوت) ثم تولى بعده حكم البلاد بوصفه ملكًا على مصر.
وكان لهذا الكاهن الأكبر نشاط عظيم قبل توليته عرش الملك، حتى إنه كاد يكون مستقلًّا عن عرش الفراعنة في «تانيس»، إذ الواقع أنه كان يجمع في يده السلطة العليا الدينية في البلاد، كما كان يحمل لقب الوزير، ورئيس الجيش، وبذلك جمع بين السلطتين الدينية والإدارية.
وقد أنجز «بينوزم» بعض أعماله وإصلاحاته في المدة التي كان فيها رئيسًا للكهنة في عهد الملك «بسوسنس الأول»، وأنجز البعض الآخر خلال المدة التي كان فيها فرعونًا على البلاد. هذا ولدينا بعض أعمال قام بها ليست مؤرخة. وتنحصر أعماله في التعمير فيما يأتي: (١) إصلاحات في معبد «الكرنك». (٢) إصلاحات في مدينة «هابو». (٣) إتمام الأجزاء التي لم تكن قد تمت في معبد «خنسو».
- فوق صورة الكاهن: تقديم الأزهار الجميلة من الكاهن الأكبر «لآمون رع» ملك الآلهة وهو بذلك يفعل الخيرات … «بينوزم» المنتصر ابن الكاهن الأكبر «بيعنخي» المرحوم، والذي يعمل ما يسر حضرته، وبانيًا معابد كل الآلهة، وناحتًا تماثيل جلالتهم من السام، وهو الذي يورد مؤنهم.
- فوق صورة «آمون»: كلام «آمون» … يا بني الذي من جسدي، يا محبوبي سيد الأرضين «بينوزم» (الاسم لم يوضع في طغراء) المنتصر. لقد رأيت الآثار التي أقمتها لي، وإن قلبي لمنشرح بسببها، وإنك تجعل بيتي في عيد من جديد، وإنك تبني مثواي من السام، وإنك تزيد في القربات اليومية، وإنك تضاعف ما كان من قبل. والمكافأة على ذلك هي الحياة الرضية «لحور».
(١) «بينوزم» وموميات الفراعنة
لقد وجه الكاهن الأكبر «بينوزم» عناية خاصة لإصلاح ما لحق بالموميات الملكية من تهشيم وتنكيل وعبث. وقد تحدثنا طويلًا فيما سبق عن المحاولات الإجرامية التي قام بها اللصوص في عهد فراعنة أواخر الأسرة العشرين لسرقة القبور. والواقع أن نهاب المقابر لم ينفكوا عن العبث بجثث هؤلاء الملوك، وما كان معها من ذخائر في عهد الأسرة الواحدة والعشرين، وقد حاول بعض الكهنة العظام وقف هذه الجرائم عند حدها بكل عنف وشدة، ولكن بدون جدوى، فقد ظهر لنا أن اللصوص لم يكونوا يخشون بأس أحد، إذ كانوا يقتحمون المقابر، ويسرقون ما على موميات ملوكهم وما معها من نفائس، بعد أن ينكلوا بها أفحش تنكيل، مما دعا إلى تكفينهم في أكفان جديدة، ووضعهم في توابيت غير توابيتهم التي كانت قد حرقت أو هشمت. وقد أسمت النقوش التي وضعت على هذه الأكفان والتوابيت هذه العملية «تجديد دفن الملوك»، وقد كان كل ملك يقوم بمثل هذا العمل الصالح يقيد ما فعله، إما على الكفن أو على التابوت الجديد الذي كان يصنعه. وهذه الكتابات أو المحاضر التي تركها لنا السلف هي التي سهلت علينا من جهة معرفة ترتيب تولي الملوك والكهنة العظام، الذين تحتويهم الأسرة الواحدة والعشرون، ومن جهة أخرى سهل علينا أن نتتبع تاريخ هذه الموميات إلى أن أسلمت إلى مثواها النهائي في خبيئة «الدير البحري»، وهي التي كشف عنها في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وكان لهذا الكشف دوي هائل في جميع بقاع العالم، كما كان له أكبر الأثر في تاريخ العالم عامة، وفي مصر خاصة.
في صيف سنة ١٨٧١ كشف أحد لصوص قرية «شيخ عبد القرنة»، الذين كانوا قد احترفوا سرقة الآثار مقبرة مُفْعَمة بالتوابيت الخشبية التي كُدست بعضها فوق بعض، وكانت معظم هذه التوابيت مغطاة بالطغراءات الملكية، ورسم على كل منها صورة الصل الملكي على الجبهة. وقد كان هؤلاء اللصوص الذين يحفرون القبور للاستيلاء على ما فيها يعرفون منذ زمن بعيد أن الطغراءات والأصلال التي على الجباه هي المميزات الخاصة للملوك دون سواهم. وقد كان أفراد أسرة «عبد الرسول» يحذقون حرفتهم تمامًا؛ ولذلك عرفوا لأول وهلة أن الحظ قد حباهم بخبيئة تحت الأرض مملوءة بموميات فراعنة وما معها من أثاث غالٍ.
والواقع أنه لم يقع نظر إنسان في التاريخ عامة على شيء مماثل لذلك الكنز، ولكن على الرغم من عظم هذا الكنز الثمين وضخامة محتوياته، فإن استغلاله كان من الصعب، وكذا الاستفادة منه؛ فقد كانت التوابيت عديدة وثقيلة الحمل، ولم يكن بد من وجود عشرة عمال — على الأقل — لتحريك الواحد منها. هذا فضلًا عن أنه لم يكن لدى اللصوص منفذ للوصول إلى حجر الدفن إلا من بئر في السقف؛ ولذا كان لا بد لانتزاع محتوياتها الثمينة من نصب بكرة فوق فوهة هذه البئر. وكان هذا العمل مدعاة لكشف السر، وبذلك يفضح أمر اللصوص. وقد فكر هؤلاء اللصوص في الإباحة بالسر إلى الأشخاص المجاورين لهذا المكان ليأخذوا نصيبهم من هذا الكنز مقابل أن يكتموا الأمر، غير أنهم خافوا ألا يرضى واحد منهم بنصيبه، فيذيع السر إلى مدير المديرية، أو إلى مدير الحفائر في هذه الجهة. وقد صمم اللص على ألا يستفيد من الكنز الذي عثر عليه في الحال. وقد ساعده أحد أخويه وأخته في نزع أكفان بعض الموميات، واستخراج صندوقين أو ثلاثة مملوءة بتماثيل عجيبة وعجارين، وأواني أحشاء، وتماثيل في صورة الإله «أوزير» من الخشب الملون، ونحو ست ورقات بردية، ومجموعة من الآثار التي يمكن حملها وإخفاؤها بسهولة. وقد اقتحم جماعة اللصوص هؤلاء هذه الخبيئة ثلاث مرات في عشر سنوات. وكان ذلك في وقت المساء ولمدة ساعات معدودات، وكانت الاحتياطات قد اتخذت في كل مرة حتى لا يشك أحد في أمرهم وفي أهمية الكنز الذي عثروا عليه. وكانوا يبيعون في كل شتاء بعض التحف التي استخرجوها للسياح. وقد كانوا ينتظرون بعض أولئك العلماء الذين كانت ترسلهم بلادهم في بعوث فيذهبون إلى «طيبة»، أو بعض السائحين الأغنياء؛ ليتسنى لهم بيع هؤلاء الملوك جملة، ويكون ممن في مقدورهم أن يحصلوا على جواز سفر يخوِّل لهم عدم تفتيشهم في الجمرك.
وعلى أية حال فإن بعض الآثار التي أمكنهم أن يتصرفوا فيها، قد وصلت إلى «أوروبا»؛ فمنذ عام ١٨٧٤ ظهرت بعض التماثيل الخشبية المغطاة بطبقة من الطلاء الأزرق الرشيق في سوق تجارة الآثار «بباريس». ويقول «مسبرو»: إن ما رآه من هذه التماثيل الصغيرة لم تكن لملوك، بل كانت تحمل لقب «خبرخع رع». وينسب هذا اللقب — على الأقل — لملكين؛ أقدمهما هو الفرعون «سنوسرت الثاني» أحد ملوك الأسرة الثانية عشرة، والثاني للملك «بينوزم» أحد ملوك الأسرة الواحدة والعشرين. وقد اشتريت الأخيرة لعدم وجود ما هو أحسن منها، ويقول «مسبرو»: «وقد لاح لي في الجو بعض أمور أثبتت لي أنه لا بد من سبب لوجود هذه التماثيل.
وفي ربيع عام ١٨٧٦ عرض عليَّ «كامبل» — وهو ضابط إنجليزي — بردية تحتوي على الشعائر الدينية الخاصة بالكاهن الأكبر «بينوزم» وقال: إنه اشتراها في طيبة بأربعمائة جنيه إنجليزي.»
ومن أجل ذلك كانت المهمة غاية في الصعوبة؛ فقد كان عليه أن ينتزع من الفلاحين، بالحيلة تارة، وبالقوة تارة أخرى، السر الذي أخفوه حتى هذا اليوم عن مصدر هذه الآثار. وقد عمل بحث طويل بصبر وأناة مع المشترين والسياح الأوروبيين أدى في بادئ الأمر إلى الوصول إلى حقيقة هامة؛ وهي أن بائعي الآثار الملكية التي ظهرت في السوق هم أسرة «عبد الرسول»، وأفرادها: عبد الرسول أحمد، وأخوه محمد عبد الرسول، وهما من قرية «شيخ عبد القرنة»، ثم «مصطفى أغا عياد» الذي كان يعمل قنصلًا لكل من «إنجلترا» و«بلجيكا» و«روسيا» بالأقصر. وقد كانت مهاجمة الأخير من الأمور الصعبة، وذلك لمركزه السياسي والامتيازات الأجنبية التي كانت يتمتع بها، وهي التي كانت تقف عقبة في سبيل القبض عليه.
وبعد أن تردَّد «مسبرو» بضعة أيام صمم على العمل بشدة ضد عبد الرسول أحمد، وأخيه محمد. وفي ١٤ أبريل أرسل «مسبرو» إلى رئيس شرطة «الأقصر» بالقبض على «عبد الرسول أحمد»، وكذلك طلب ببرقية إلى «داود باشا» مدير قنا وقتئذ، وإلى وزير الأشغال بالتصريح بعمل تحقيق سريع مع رؤساء سكان قرية «شيخ عبد القرنة». وقد قبض على «عبد الرسول أحمد» شرطيان في أثناء رجوعه من مأمورية في الجبل، وجيء به إلى البر الثاني على ظهر قارب، وقد سأله كل من «إميل بركش»، الذي كان وقتئذ أمينًا مساعدًا «بمتحف بولاق» و«روشمنتكس» المدير الإداري المساعد للجنة أراضي «الدومين» ملك الحكومة. وقد أراد الأخير أن يساعد «مسبرو» بما لديه من تجارب، وقد أنكر «عبد الرسول أحمد» كل الحقائق التي وجهت إليه بشهادة السياح كلهم. وقد كانت التهم كلها تقع تحت طائلة القانون العثماني، وهي تحريم القيام بعمل حفائر خلسة، وبيع أوراق البردي المحرَّم بيعها، والتماثيل الجنازية، وكسر التوابيت والأشياء الفنية أو التحف التي تملكها الحكومة المصرية. وقد أجيب إلى طلبه في أن يفتش بيته عسى أن يوجد فيه ما يثبت التهمة عليه، ويجعله يخضع ويطلعنا على جلية الأمر. وقد استعمل معه اللطف والتهديد، والوعد والوعيد، والضرب وبذل العطاء له من المال، ولكن لم تنجح معه أية وسيلة. وفي اليوم السابع من شهر أبريل صدر الأمر بفتح محضر تحقيق رسمي. وقد أرسل المقبوض عليه أحد إخوته المسمى «حسين أحمد» إلى «قنا» حيث أمر المدير بإحضارهم ليعرف قضيتهم، وقد سار التحقيق بسرعة بحضور محقق المديرية ومندوب مصلحة الآثار، ومفتش «دندرة» فأسفر عن نتيجة واحدة هي ظهور شهود كثيرين في صالح المتهم، فقد أكد أعيان قرية «شيخ عبد القرنة» ومشايخها مرَّات عدة بحلف اليمين أن «عبد الرسول أحمد» رجل من أعظم الناس إخلاصًا وولاء، وليس عليه غبار، وأنه لم يقم قط بعمل حفائر خلسة، وليس في قدرته أن يسرق أي قطعة من الآثار، ومن باب أولى لا يمكنه أن ينهب قبرًا ملكيًّا. وقد لوحظ أن «عبد الرسول أحمد» يغالي في القول بأنه خادم «مصطفى أغا عياد»، وأنه يعيش في بيت هذا الرجل. وقد كان يعتقد بقوله هذا أنه يمكنه أن يرتكن على «مصطفى أغا»؛ ليحميه بوصفه قنصلًا له امتيازات خاصة، وأنه يمكن أن يصبح من رعايا «إنجلترا» و«بلجيكا» أو «روسيا». وبذلك يفلت من عقاب القانون المصري بسبب الامتيازات الأجنبية.
وتدل شواهد الأحوال على أن «مصطفى أغا» كان يغريه بذلك هو وشركاؤه في الجريمة. وبهذه الكيفية أمكنه أن يجمع في يديه كل تجارة الآثار التي كانت تستخرج من سهل «طيبة» وقتئذ. وقد أُطلق سراح «عبد الرسول أحمد» مؤقتًا بضمان اثنين من أصحابه هما: «سرور» و«إسماعيل سيد نجيب». وقد عاد إلى قريته في أواسط شهر مايو حاملًا لواء الأمانة التي قررها له أعيان قرية «شيخ عبد القرنة» غير أن القبض عليه، وإقامته في السجن شهرين كاملين، وكذلك عنف التحقيق الذي لاقاه على يد «داود باشا» الذي أذاقه صنوف العذاب، كل ذلك أظهر له جليًّا ضعف «مصطفى أغا»، وعدم قدرته على حماية خدَّامه المخلصين له كل الإخلاص. وقد كان اللصوص يعلمون — فوق ذلك — أن «مسبرو» لن يترك الأمر عند هذا الحد، بل إنه كان سيعود في فصل الشتاء ثانية ليفحص الموضوع من جديد، وكذلك كانت المديرية في خلال ذلك تجمع المعلومات من جهتها لهذا الغرض. وفي أثناء ذلك وصل إلى المتحف بعض شكاوى مجهولة، كما وصلت بعض معلومات جديدة من الخارج عن هذه الآثار، ولكن الأمر الذي قرب كشف سر الموضوع هو الخلاف الذي دب بين أفراد أسرة «عبد الرسول»، فقد ظن بعضهم أن الخطر قد زال ولن يعود ثانية وأن مصلحة الآثار قد هُزمت، وظن البعض الآخر أنه من الحزم التفاهم مع المتحف المصري، ووَقْف رجاله على مكان الكنز، وفي الوقت نفسه ادعى «عبد الرسول أحمد» أن الشركة التي كان يرأسها كانت ملزمة بتعويض له عن الشهر الذي سجنه، هذا إلى أنه طلب أن يكون له النصف في محتويات الكنز بدلًا من الخمس الذي كان يتقاضاه حتى تلك اللحظة. وقد هدد بأنه إذا رفضت طلباته فسوف يذهب إلى إدارة الحفائر ويفشي السر.
وبعد مضي شهر في مناقشات ومشاجرات بين أفراد أسرة «عبد الرسول» رأى أكبر إخوة «عبد الرسول» المسمى «محمدًا» أن إخوانه سيخونونه بلا شك؛ ولذلك عزم على أن يكون هو البادئ بإفشاء السر، فذهب خفية إلى «قنا» في اليوم الخامس والعشرين من شهر يونيو، وأخبر المدير بأنه يعرف المكان الذي تبحث عنه الحكومة منذ مدة طويلة بدون جدوى، وطير «داود باشا» الخبر في الحال إلى وزارة الداخلية التي وضعت الرسالة بين يدي «الخديوي»، وكان «مسبرو» قد حدث «الخديوي» عن هذه المسألة بعد عودته من التحقيق من «الوجه القبلي»، وقد فطن في الحال إلى أهمية الاعتراف الذي فاه به «محمد عبد الرسول»، وأرسل في طلب معلومات أكثر دقة، فوصلت إليه برقية أخرى في اليوم التالي لم يدع ما جاء فيها أي مجال للشك عن أهمية الكشف الجديد. وعندما عاين «داود باشا» مكان الكنز «بالقرنة» في اليوم الخامس والعشرين من شهر يونيو قال: إنه وجد أكثر من ثلاثين تابوتًا، وأشياء أخرى عديدة كالتماثيل الصغيرة وقطع المرمر. ومعظم التوابيت كانت مغطاة بالكتابات، وأن الأصلال والحلي — التي ترى في هذا المكان — تبرهن على أنه مكان ملكي، ولا يمكن أن يحصي الإنسان القطع الأثرية التي فيه دون إخراجها من بطن الأرض (ترجم الرسالة التي أرسلها «داود باشا» «أحمد كمال أفندي» الأمين المترجم بالمتحف المصري في ٢٨ يونيو سنة ١٨٨١ وكان «واسيلي بك» أمين المتحف في إجازة).
ومن جهة أخرى سافر «مسبرو» لأسباب خاصة إلى «أوروبا»، ولكنه ترك للأمين المساعد «بركش باشا» التعليمات والسلطة اللازمة للعمل. وفي اليوم السابع والعشرين من يونيو أصدر «الخديوي» أمره — عندما وصلت إليه البرقية — إلى «إميل بركش» بالذهاب إلى «طيبة» مع «تاودروس ماتافيان»، الذي عُيِّنَ منذ هذا الوقت مفتشًا لمنطقة الأهرام، و«أحمد أفندي كمال» الأمين المترجم بالمتحف المصري، و«محمد عبد الرسول» بوصفه نوتيًّا للسفينة المسماة «منشية»، وهي تابعة لإدارة الحفائر. وقد بدأت البعثة سيرها يوم الجمعة (أول يوليو) ليلًا. وعند وصول القارب يوم الاثنين الرابع من شهر يوليو إلى «قنا» بعد الظهر كان في انتظاره مفاجأة مدهشة، إذ وصل إلى «داود باشا» من «محمد عبد الرسول» مجموعة من الآثار النفيسة تشمل أواني الأحشاء الأربعة للملكة «أحمس نفرتاري»، وثلاث ورقات من البردي: الأولى للملكة «ماعت كارع»، والثانية للملكة «إستمخب»، والأخيرة للأميرة «نسخنسو»، وقد كانت الفاتحة — على ما يظهر — مشجعة لرجال المتحف، ووضع «داود باشا» تحت تصرف موظفي المتحف وكيله «محمد بك البدوي» وكثيرًا غيره من موظفي المديرية لضمان سير هذه العملية الدقيقة، فكان لمساعدتهم وسهرهم على إنجاز هذا العمل أبلغ الأثر وأعظم النتائج.
وفي اليوم السادس من يونيو قاد «محمد عبد الرسول» كلًّا من «محمد بك» وكيل المديرية، و«إميل بركش» و«أحمد أفندي كمال» و«تاودروس ماتافيان» إلى مدخل القبر، وقد كان المهندس المصري الذي رتب مدخل المقبرة قد اتخذ الاحتياطات، التي تدل على مهارته الفائقة. والواقع أن هذه الخبيئة لم يُعثر على مثلها من حيث طريقة إخفائها الغريب من الأعين. فسلسلة التلال التي تفصل هذا المكان عن «أبواب الملوك» من سهل «طيبة» تؤلف بين «العساسيف» و«وادي الملكات» من الدورانات الطبيعية تفصل الواحدة عن الأخرى حواجز يختلف سمك الواحد ما بين ثمانين ومائتى متر، ويلاحظ أن الحاجز الذي يؤدي إلى جنوب وادي «الدير البحري» يظهر في هيئة خاصة. فنشاهد أن جدار السفح قد قسم ثلاث درجات، الواحدة فوق الأخرى بارتفاعات مختلفة، وقد استعمل أقلها ارتفاعًا سنادًا لمنحدرات طويلة من الردم المغطى بالرمل الأصفر، وكان القبر الذي ثوت فيه الموميات منذ زمن بعيد جدًّا قد حفر في الجهة الشمالية الغربية من الدوران، عند المكان الذي ينفصل فيه السناد الذي يعزله من «الدير البحري»، وعمق البئر اثنا عشر مترًا وعرضها متران، وفي الداخل نجد في الجدار الغربى بابًا لممر يبلغ طوله ١٫٤٠ متر، وعرضه ٨٠ مترًا، وكان المدخل في الأصل مجهزًا بمصراعين من الخشب قد اختفيا.
وكان بعد كل إقامة احتفال يغلقه حراس الجبانة بوضع أختام من الطين عليها نقوش، وبعد مسافة ٧٫٥ أمتار ينحني الممر فجأة نحو الشمال ويستمر حوالي ستين مترًا، غير أن عرضه ليس واحدًا في كل هذه المسافة، إذ نجده أحيانًا يبلغ حوالي مترين، وأحيانًا ١٫٣٠ متر، وفي وسط المسافة نجد خمس درجات خشنة الصنع، وفي الجهة اليمنى نجد كوة لم يتم حفرها بعد، ويبلغ عمقها حوالي ثلاثة أمتار، يظهر منها أنه كان قد فكر عند الوصول إليها في تغيير اتجاه الممر، وأخيرًا نجد أن هذا الممر يؤدِّي إلى حجرة مستطيلة غير منتظمة الشكل يبلغ طولها حوالي ثمانية أمتار، وقد كانت مكدسة بالتوابيت الخشبية والموميات، وبأثاث جنازي. وقد كان يعترض الممر ويسده تابوت لوِّن بالأبيض والأصفر باسم «نبسني» على مسافة ٦٠ مترًا من المدخل، وبعد ذلك بقليل شوهد صندوق ثقيل اتضح أنه للفرعون «سقنن رع» (تاعاقن) ويذكرنا شكله بطراز توابيت الأسرة السابعة عشرة الريشية الزينة، ثم الملكة «تي حتحور-حنت تاوي» ثم «سيتي الأول»، وبجانب ذلك شوهدت محفة من الزهور الذابلة، وصناديق تحوي تماثيل مجيبة وأواني أحشاء وأوانٍ للقربان من البرنز، وفي قعر الحجرة في الزاوية التي يؤلفها الممر في الاتجاه الشمالي نجد سرادق الملكة «إستمخب» المصنوع من الجلد. وقد وجد مطويًّا بإهمال كأنه شيء لا قيمة له، والظاهر أن الكاهن الذي وضعه بهذه الصورة كان على عجل من أمره، فألقى به بسرعة في هذا الركن. وقد كان كل الدهليز مكدسًا بنفس الكيفية التي يسودها عدم النظام؛ ولذلك كان لا بد من التقدم زحفًا على البطن ليصل الإنسان إلى مكان خالٍ يضع عليه يديه أو ركبتيه. وقد رُئيت النقوش التي على التوابيت بواسطة نور شمعة وعُرف أنها تحمل أسماء تاريخية، وعرف أن تابوت «أمنحتب الأول» وتابوت «تحتمس الثاني» موضوعان في الكوة الغربية من السلم، وتوابيت «أحمس الأول» وابنه «سيآمون» والملكة «أعح حتب» والملكة «أحمس نفرتاي» و«بينوزم» الذي كان قد بُحث عنه كثيرًا وغيرهم. وفي الحجر التي في النهاية كان تكديس التوابيت قد بلغ حده من سوء النظام، ولكن لوحظ لأول وهلة أن طراز فن الأسرة العشرين في صنع التوابيت كان هو النظام السائد، وكذلك الأسرة الواحدة والعشرون، ولقد كان النجاح عظيمًا والحظ أسعد مما كان متوقعًا بوجود هذا العدد من التوابيت، إذ كان المنتظر أن يوجد في هذه الخبيئة ملكان أو ثلاثة من صغار الفراعنة غير المشهورين، ولكن ما كان قد كشف عنه الفلاحون هو أسرات بأكملها من الفراعنة، وأي فراعنة! إنهم أشهر الفراعنة الذين حكموا مصر وأضخمهم شهرة، وهم الذين طردوا الهكسوس، وأعني «سقنن رع» و«أحمس الأول»، والفاتحين لسوريا ولبلاد «كوش» وهم «تحتمس الثالث» و«سيتي الأول» وأخيرًا «رعمسيس الثاني»، وهو الذي بقي ذكره عند اليونان باسم «سوزستريس»، كما يقول بعض المؤرخين، ولكن في الواقع كان هذا الاسم يطلق على «سنوسرت الثالث» الفاتح العظيم.
ونرى من القصة السابقة أن أسرة عبد الرسول قد حافظوا على كتمان سر هذه الخبيئة لدرجة أن سكان الأقصر وأهل قرية «شيخ عبد القرنة» قد استولت عليهم الدهشة، كما استولت على نفس الأوروبيين عندما سمعوا بعدد الموميات وأهميتها البالغة في تاريخ العالم أجمع، وقد كان خيال العامة بدأ يعلو ويقوى، إذ أخذوا يتحدثون عن وجود صناديق مملوءة بالذهب وعقود من الماس والياقوت والتعاويذ النفيسة؛ ولذلك كان لا بد إذن من العمل بسرعة لنقل هذه الآثار خوفًا من القيام بمحاولات لسرقتها بأية طريقة، أو حتى مهاجمتها والاستيلاء عليها بحد السلاح. وقد علم فيما بعد فعلًا أن أحد مشايخ القرى المجاورة قد عقد مجلسًا مع عصابة من العبابدة اتفق فيه على عبور النيل في أثناء الليل ومهاجمة عمال الآثار، ولكن يقظة «بركش» و«محمد بك» وكيل المديرية و«أحمد أفندي كمال» الأمين المساعد قد ضيعت على المتآمرين مؤامرتهم. فقد جمع وكيل المديرية مائتي فلاح وبدأ العمل بسرعة. وقد استُعجلت سفينة المتحف في الحال؛ لأنها لم تكن قد وصلت، ولكن كان المشرف على حراسة الآثار الريس «محمد عبد الرسول» الذي كان يوثق به ويعتمد عليه، وقد رابط في البئر نفسها مع الآثار، وقام باستخراج ما فيها وكان «إميل بركش» و«أحمد أفندي كمال» يتسلمان الأشياء التي تخرج من بطن البئر، ثم تحمل إلى سفح التل ويرتبانها جنبًا لجنب دون التواني لحظة واحدة وبكل يقظة، وقد استمر العمل مدة ثمانية وأربعين ساعة بجد ونشاط لإخراج كل ما في البئر، غير أن المأمورية لم تكن قد انتهى إنجاز نصفها، إذ كان لا بد من حمل هذه الكنوز مخترقين بها سهل «طيبة» الغربية إلى شاطئ النهر، ومن ثم يعبر بها إلى الأقصر، وقد كان يلزم لحمل كل تابوت من هذه التوابيت على أقل تقدير اثنا عشر أو ستة عشر رجلًا مدة سبع أو ثماني ساعات؛ لنقلها من الجبل حتى السفينة التي كانت معدة للعبور بها.
السنة الخامسة، الشهر الرابع من فصل الصيف، اليوم الحادي والعشرون، وهو يوم دفن رئيسة السيدات «نسخنسو»، بوساطة الكاهن والد الإله «لآمون»، والمشرف على الخزانة «زد خنسون عنخ» بن … كاهن «آمون رع» ملك الآلهة «عنخفنآمون»، وكبير القاعة (التشريفي) «نسباي» … ولكاهن والد الإله «لآمون»، ورئيس الجيش «نسبقشوتي».
-
خاتم المشرف على الخزانة «زد خنسو فعنخت».
-
خاتم كاتب الخزانة «نسي» … (راجع J. E. A. Vol. 32 p. 26).
والذي يقرأ هذا النقش كما يقول «مسبرو» يجد أنه يوحي إليه فكرة البحث فيما إذا كان يوجد في الرمل بين قطع الحجر التي كُدِّست في البئر بقايا أختام الأشخاص الثلاثة، الذين ذكروا أنهم وضعوا أختامهم على الباب. وقد حدث فعلًا أنه بعد بحث استغرق بضع دقائق عُثر على حوالي عشرين قطعة من الطين المختوم، تحمل بقايا حروف مطبوعة على أحد وجهيها. وعندما فُحصت هذه القطع على مهل وجد أنها تحتوي على بقايا أختام مبدوءة بالعلامات الدالة على رئيس كهنة «آمون» والباقي مهشم، ولبعض أختام كاملة لخاتم شخص غير الذين جاء ذكرهم في المتن، ويحتمل أنها لعمال كلفوا بمراقبة الجزء الجنوبي من الجبانة.
السنة العاشرة الشهر الرابع من فصل الشتاء اليوم العشرون، وهو يوم دفن «أوزير» الكاهن الأكبر «لآمون رع» ملك الآلهة والرئيس الأعلى للجيش والمرشد «بينوزم» على يد الكاهن والد الإله لآمون رئيس الخزانة «رذ خنسو فعنخ».
ووالد الإله «لآمون» وكاتب الجيش ورئيس المفتشين «نسقشوتي».
وكاهن «آمون … أنآمون». ووالد الإله «لآمون» (وننفر) وعلى يد كاتب الملك لمكان الصدق «بكنموت». ورئيس العمال «بديآمون». ورئيس العمال «أمنموسى»؛ ووالد الإله «لآمون» ورئيس الأسرار «بديآمون» بن «عنخفخنسو».
-
التأشيرة حرف (أ) رقم (١) على الصدر.
-
التأشيرة حرف (ب) رقم (٢) على الصدر تحت تأشيرة «حريحور» مباشرة.
-
التأشيرة حرف (أ) رقم ٣ على الصدر.
-
التأشيرة حرف (ب) رقم ١ فقدت.
-
التأشيرة حرف (ب) رقم ٢ على الصدر تحت التأشيرة حرف (أ) رقم (٢).
-
التأشيرة حرف (ب) رقم ٣ عند قمة الرأس.
-
والد الإله التابع «لآمون» ورئيس المالية المسمى «زد خنسو فعنخ»؛ والد الإله التابع «لآمون» و«ننفر» بن «منتومواست».
-
والد الإله التابع «لآمون»، والكاهن الثالث للإله «موت» «أفنآمون» بن «نسبقشوتي» والد الإله التابع «لآمون …»
والأهمية التي نستخلصها من تصحيح السنة من السادسة عشرة إلى العاشرة، التي جاءت في النقش الذي على الصخر (في داخل الخبيئة) الخاص بالكاهن الأكبر «بينوزم»، والتي جاءت كذلك في التأشيرة حرف (أ) ظاهرة جدًّا؛ فمن جهة نجد أن تاريخ نقش «بينوزم» اليوم العشرون من الشهر الرابع من فصل الشتاء في السنة العاشرة قد أصبح موحدًا بالتأشيرة حرف (ب) وبعبارة أخرى نجد أن نقل ثلاث الموميات إلى «البيت الأبدي» الخاص «بأمنحتب الأول» قد حدث في نفس اليوم الذي دفن فيه «بينوزم»، ومن جهة أخرى نجد أن تاريخ التأشيرة حرف (أ) يقرب من تاريخ التأشيرة حرف (ب)، إذ الواقع أننا نجد الأول قد حدث قبل الثاني بثلاثة أيام. وعلى ذلك ليس لدينا أي سبب يجعل التأشيرة حرف (أ) والتأشيرة حرف (ب) تشيران إلى حكم فرعونين مختلفين، كما كان ذلك ضروريًّا طالما كان تاريخ التأشيرة حرف (أ) هو السنة السادسة عشرة من حكم الفرعون «سيآمون».
والترتيب الصحيح للحوادث هو كما يأتي: في اليوم السابع عشر، التأشيرة حرف (أ) نُقلت موميات الملوك الثلاثة من مقبرة «سيتي الأول» بحضور الموظفين «عنخفنآمون» و«نسقشوتي». وبعد ثلاث أيام من التاريخ السابق أي في اليوم العشرين (التأشيرة حرف ب) وضعت نفس هذه الموميات في «البيت الأبدي» «لأمنحتب الأول» على يد جماعة من الموظفين تشمل أربعة كهنة يحمل كل منهم لقب «والد الإله» على حين أنه في نفس اليوم دفن الكاهن الأكبر «بينوزم»، كما جاء على النقش الذي تركه في الخبيئة في قبره على يد جماعة من الرجال كان من بينهم «نسقشوتي» الذي حضر نقل الموميات الثلاث منذ ثلاثة أيام مضت.
وقد سمت التأشيرة (حرف ب) الخبيئة «بيت أمنحتب الأول الأبدي»، وإنه لمن الصعب أن نحكم إذا كان هذا «البيت الأبدي» هو نفس المكان الذي يسمى «الأفق الأبدي» في «ورقة إبوت»، على أنه ليس له أي شأن بتواريخ الأسرة العشرين. ولم نجد في أثناء بحثنا هذا حاجة للتخلص من تاريخ السنة العاشرة من حكم «بوسنس الثاني»، وهو التاريخ الذي أرخ به «ونلك» التأشيرة حرف (ب) وبدلًا من ذلك، فإنا قد حذفنا السنة السادسة عشرة من حكم الملك «سيآمون»، وهي التي أصبحت على حسب القراءة الجديدة للمتن: السنة العاشرة للتأشيرة المذكورة، وعلى ذلك فليس ثمة داعٍ لعكس التأشيرة (حرف أ). والتأشيرة (حرف ب) اللتين على تابوت «سيتي الأول».
- (١)
توفيت «نسخنسو» زوج الكاهن الأكبر «بينوزم» في السنة الخامسة (يحتمل من عهد الملك «سيآمون») ودفنت في مقبرة قديمة للملكة «أنحابي».
- (٢)
وقد مات الكاهن الأكبر «بينوزم» نفسه في السنة العاشرة من حكم «سيآمون» (أي بعد موت زوجه «نسخنسو» بخمس سنين) ودفن في نفس المكان مع زوجته.
- (٣)
وقبل دفن «بينوزم» بثلاثة أيام نقلت موميات «رعمسيس الأول» و«سيتي الأول» و«رعمسيس الثاني» من مقبرة «سيتي الأول» وقد كانت ثاوية فيها.
- (٤)
وفي نفس اليوم الذي دفن فيه «بينوزم» وضعت موميات الملوك الثلاثة السابقة في نفس المقبرة التي دفن فيها.
- (٥)
وليس لدينا أية طريقة لمعرفة تاريخ دفن الموميات الأخرى في مقبرة «أنحابي»، وكل ما نعرفه أن مومية «أمنحتب الأول» كانت مدفونة فعلًا هناك، في اليوم الذي دفنت فيه مومية «بينوزم».
- (٦)
وعلى حسب البحث السابق تختفي السنة العاشرة من عهد «بسوسنس» الثاني بالنسبة لتاريخ خبيئة «الدير البحري»، كما تختفي في الواقع من تاريخ الأسرة الواحدة والعشرين.
- (٧) وتختفي كذلك السنة السادسة عشرة من تاريخ الخبيئة، ولكنها لا تختفي من تواريخ الأسرة؛ وذلك لأن هذه السنة قد دُوِّنت في لوحة هبة محفوظة «بالمتحف المصري».١٧
وقد وضعت أوراق البردي في «صندوقين» استعيرا من بيت مدير الآثار، ومعها بعض أواني الأحشاء، وقطع قربان وعينات من التماثيل المجيبة.
وكان هذا الترتيب الأولي — بطبيعة الحال — قبيح المنظر، وقد عُمل في السنين التالية (١٨٨٣–١٨٨٥) على تحسينه، وكان هذا العمل شاقًّا؛ إذ إن القائمين بالأمر من الإنجليز — وبخاصة «سكوت منكريف»، الذي كان يشغل وقتئذ منصب وكيل وزارة الأشغال، وكذلك وزراء الأشغال — لم يمدوا يد المساعدة لرجال المتحف.
وعلى أية حال فقد أفلح رجال المتحف في عمل «الفترينات» و«الدواليب» بعد لَأْيٍ وجهد. وفي أبريل سنة ١٨٨٦ كانت كل الموميات محفوظة في صناديق من الزجاج، فحفظت بذلك من تقلبات الجو ومن أيدي الزائرين.
وبعد فحص «رعمسيس الثاني» جاء دور «رعمسيس الثالث» ثم «سيتي الأول» ثم «سقنن رع» ثم مومية «أحمس»، وبعد ذلك موميات الكهنة العظام «لآمون». وقد فحصت كل مومية بدقة بقدر المستطاع بوساطة المسيو «بوريان»، والدكتور «فوكيه» و«أنزنجر» وأخي «مسبرو» والمسيو «مسبرو» نفسه. وقد كانت المقاسات تؤخذ بوساطة اثنين من هؤلاء، ثم يحقق اثنان آخران تلك المقاسات، ثم تسجل على ورق خاص لذلك، وقد حلل كيمائي مشهور وهو المسيو «ماثي» المواد والأنسجة التي أخذت من على الجثث. وأخيرًا جاء لمساعدة هؤلاء الدكتور «شفينفورت» العالم الألماني في التاريخ الطبيعي، وساعد في فحص الأزهار والحبوب، ووضع اسم كل منها. وبالاختصار ألف لنا أقدم مجموعة من الأعشاب في العالم، وقد استغرق هذا العمل شهرًا كاملًا هو شهر يونيو سنة ١٨٨٦. وقد فحصت هذه الجثث ثانية، وتقلبت عليها محن وأحداث يعلمها الكل، وهي الآن موضوعة في حجرة خاصة بعيدة عن النظارة، ولا يزورها إلا الملوك والعلماء وأصحاب المكانة في العالم.
هذه نظرة عامة في الأحداث التي أدت إلى الكشف عن موميات الفراعنة والكهنة العظام وغيرهم من عظماء مصر في عهد الدولة الحديثة، وما آل إليه أمرها حتى الآن. ونعود الآن إلى التحدث عن اهتمام الكاهن الأكبر «بينوزم» بموميات فراعنة مصر في عهده، وهي التي كانت عرضة لسلب ونهب ما عليها وما معها في مقابرها من ذهب وفضة وأشياء أخرى نفيسة، وقد دُوِّنت محاولات هذا الكاهن المتوالية لحفظ هذه الجثث على التوابيت واللفائف. وقد بقيت لنا هذه السجلات بتواريخها التي لم يذكر معها اسم الفرعون الذي كان يحكم وقتئذ، ولكن نعرف بدهيًّا أنه كان الملك «بسوسنس الأول» الذي خلف الفرعون «سمندس» (نسونبدد) في «تانيس». وهاك هذه التأشيرات على حسب تواريخها:
(١-١) مومية الملك «تحتمس الثاني» (على الصدر)
(١-٢) مومية «أمنحتب الأول» (على الصدر)
السنة السادسة، الشهر الرابع من الفصل الثاني، اليوم السابع (من شهر برمودة). في هذا اليوم أرسل الكاهن الأكبر «لآمون رع» ملك الآلهة «بينوزم» ابن الكاهن الأكبر «لآمون» (بيعنخي) ليدفن من جديد الملك «زسر كارع» ابن «رع» (أمنحتب الأول) له الحياة والفلاح والصحة على يد المشرف على الخزانة «باي …»
(١-٣) «سيتي الأول» (الكتابة على اللفائف الداخلية)
النسيج الذي عمله الكاهن الأكبر «لآمون رع» ملك الآلهة «بينوزم» المنتصر ابن «بيعنخي» لوالده «خنسو» في السنة العاشرة (عهد بسوسنس الأول).
(١-٤) مومية «رعمسيس الثالث» (على اللفائف)
السنة الثالثة عشرة، الشهر الثاني من الفصل الثالث، اليوم السابع والعشرون (من بئونة). في هذا اليوم أرسل الكاهن الأكبر «لآمون رع» ملك الآلهة «بينوزم» ابن الكاهن الأكبر «لآمون» (بيعنخي): كاتب المعبد «زسر سوخنسو» والكاتب في جبانة «طيبة» «بوتهأمون»؛ ليعطي مكانًا للملك «وسر ماعت رع مري آمون» (رعمسيس الثالث) له الحياة والفلاح والصحة ثابتًا ومقيمًا أبديًّا، (عهد بسوسنس الأول).
(١-٥) مومية «رعمسيس الثالث» (على اللفائف)
الكاهن الأكبر «لآمون رع» ملك الآلهة «بينوزم» المنتصر ابن «بيعنخي». لقد عملها في السنة التاسعة (من عهد بسوسنس).
(١-٦) مومية «رعمسيس الثالث» (على اللفائف)
(١-٧) مومية «رعمسيس الثاني» (على إحدى اللفائف)
(١-٨) مومية الأميرة «أحمس ست كامس» (على صدر المومية)
(١-٩) مومية «أحمس الأول» (على صدر المومية): (راجع Maspero, Ibid. 534)
السنة الثامنة، الشهر الثالث من الفصل الثاني، اليوم التاسع والعشرون (برمودة). أرسل جلالة ملك الوجه القبلي والوجه البحري رب الأرضين «خبر خع رع ستين آمن بينوزم» محبوب «آمون» له الحياة والفلاح والصحة لإعطاء مكان الملك «نب بحتي-رع» (أحمس الأول).
(١-١٠) مومية ابن الملك «سيآمون» (راجع Maspero, Ibid. 538)
السنة الثامنة، الشهر الثالث من الفصل الثاني، اليوم التاسع والعشرون. أرسل جلالته (له الحياة والفلاح والصحة) لإعطاء مكان لابن الملك «سيآمون» (لم يذكر اسم الملك هنا، غير أن وجه الشبه الذي بين هذا النقش، والذي جاء على مومية «أحمس الأول» يرجح ظن «مسبرو» في أنهما من عهد واحد).
(١-١١) مومية «أمنحتب الأول» (على صدر المومية): (راجع Ibid. 536–7)
السنة السادسة عشرة، الشهر الرابع من الفصل الثاني، اليوم الحادي عشر. أرسل الكاهن الأكبر «لآمون رع» ملك الآلهة، «ماساهرت» ابن الملك «بينوزم» له الحياة والفلاح والصحة؛ ليدفن من جديد هذا الإله على يد كاتب الخزانة، وكاتب المعبد «نب آمون» بن «سوتيموسى».
(٢) نقوش «بينوزم» الأول في مدينة هابو: (راجع A. S. 40 p. 328 ff)
(٢-١) أعمال «بينوزم» الأخرى في أثناء توليه عرش ملك مصر
ملك الوجه القبلي، والوجه البحري، رب الأرضين «خبر خع رع ستبن آمون ابن رع» من جسده، ومحبوب «بينوزم» محبوب «خنسو» أقام معبدًا من الحجر الرملي الأبيض الجميل بمثابة عمل أبدي ممتاز، وهو الذي يعمله ابنٌ يعمل الخيرات لوالده الذي وضعه على عرشه، ملك الوجه القبلي، والوجه البحري «خبر خع رع-ستبن آمون» بن «رع» من جسده، ومحبوبه «بينوزم مري آمون».
سيدة الأرضين «حنت تاوي»: لقد أقامته بمثابة أثرها لوالدتها «موت» عندما أحضر ملك الوجه القبلي، والوجه البحري «خبر خع رع ستبن آمون» هذه الكباش (أي الكباش التي على هيئة «بولهول» إلى بيت «آمون» أي معبد الكرنك).
(٢-٢) مومية الملك «بينوزم الأول»
وُجدت مومية هذا الفرعون في تابوت الملك «تحتمس الأول» في خبيئة «الدير البحري»، وقد كانت في الأصل مهشمة، ولكنها أُصلحت ووضعت فيها جثة الفرعون «بينوزم». وقد كان يُظن في بادئ الأمر أنها الملكة «أعح حتب» وقد نهب اللصوص ما على المومية من مجوهرات على صدرها، غير أنهم لحسن الحظ تركوا الجزء الأسفل منها سليمًا؛ إذ وجد بين ساقَيِ الفرعون «كتاب الموتى» ملفوفًا كما كان عند الدفن.
(٣) «أسرة بينوزم الأول»
(٣-١) زوجة «ماعت-كارع-موت محات»
وأهم الآثار التي دوِّن اسمها عليها، أو صُنعت باسمها هي ما يأتي:
معبد الأقصر: (ردهة التماثيل)
متن معبد الكرنك (على الواجهة الشمالية للبوَّابة السابعة)٢٧
ويقول كذلك «آمون رع» ملك الآلهة الإله العظيم جدًّا بادئ الكون، و«موت» و«خنسو» والآلهة العظام: أهلكوا كل فرد مهما كان صنفه في مصر، رجلًا أو امرأة يعارض بالقول مهما كان، ممتلكات الملكة «ماعت كارع» — من أي نوع — بنت الملك «بسوسنس الأول»، التي أحضرتها معها عندما انتقلت إلى الجنوب، وكذلك الممتلكات من كل نوع، وهي التي أعطاها إياها أهل البلاد؛ لكى تأخذ نصيبها من ثروتهم الصغيرة، أما أولئك الذين يسلبون شيئًا من هذه الممتلكات يومًا بعد يوم، فإنا سنثقل كاهلهم بأرواحنا، ولن نكون معهم على صفاء، بل سيعاقبون بشدة مضاعفة على يد هذا الإله العظيم و«موت» و«خنسو» والآلهة العظام.
يقول «آمون رع» ملك الآلهة، والإله العظيم جدًّا، بادئ الكون، و«موت» و«خنسو» والآلهة العظام: إنا سنهلك كل الأفراد من أي صنف في مصر كلها، سواء أكانوا رجالًا أم نسوة سيعارضون بالقول مهما كان نوعه في الممتلكات التي حملتها معها عندما انتقلت إلى الجنوب والممتلكات من كل صنف، وهي التي أعطاها إياها أهل البلاد لتأخذ نصيبها من ثروتهم الصغيرة؛ أما أولئك الذين يسلبون شيئًا من هذه الممتلكات من يوم ليوم، فإنا سنضع ثقل أرواحنا عليهم، ولن نكون لهم أصفياء، ولكن سنلقي بهم وأنوفهم في الرغام، وسيعاقبون (؟) بشدة مضاعفة على يد الآلهة العظيم «موت» و«خنسو» والآلهة العظام.
ومجموع هذا المتن يعرض أمامنا صورة لمصر قسمت فيها القوة بين الملك والكاهن الأكبر «لآمون»، ورؤساء الجنود والمرتزقة، وبعبارة أخرى مصر في عهد الأسرة الواحدة والعشرين، غير أنه لم يذكر لنا اسم الكاهن الأكبر «لآمون» المعاصر للفرعون «بسوسنس»، ولكن مع ذلك يحدثنا عن حالة هؤلاء … اللائي يمثلن الملكية الوراثية في مصر، ويحدثنا عن العقود التي كانت تؤلف من أجلهن … تعيينهن، ولا يحتمل كثيرًا أنهن كن يستشرن في إبداء ميولهنَّ عند زواجهن، وأنهن كن يرسلن من الشمال إلى الجنوب بدون تردد عندما تحتم الأحوال السياسية ذلك، ولكن مع ذلك كانت تتخذ الاحتياطات الدقيقة للمحافظة على أملاكهن، وأن تكون وراثية في خلفهن. وهذه الممتلكات مؤلفة من جزأين: الأول هو ما يحملن معهن عندما ينتقلن من الشمال إلى الجنوب مثل «ماعت كارع»؛ والآخر هو ما منحته الزوج وأسرتها لكل واحدة منهنَّ من ثروتهم الضئيلة لتضمها إلى ملكها الشخصي.
وكانت هذه الإقطاعيات الخاصة توضع بحفاوة تحت حماية آلهة «طيبة»، الذين كانوا قد أخذوا على عاتقهم عقاب من تمتد يده إلى شيء صغير منها في حياتها أو إلى ورثتها من بعدها. وقد كان المرسوم يُعرض في المعبد في المكان المعروف باسم «رقعة المعبد الفضية»، ويحتمل أنها ساحة المعبد التي قبل بوَّابة قاعة العمد حيث كان الدهماء تراه. ولا نظن أن احتفالات عظيمة كانت تقام لكل الأميرات اللائي كن من دم ملكي — وبخاصة من لم يكن آباؤهن ملوكًا — ولكن هؤلاء الأميرات اللائي كان لزواجهن أهمية خاصة كزواج «ماعت كارع»، التي كان والدها فرعونًا حاكمًا، كانت توضع لهن إعلانات ضخمة. وبالاختصار فإن كل الوثائق التي في متناولنا يظهر أنها تميل إلى توحيد الملكة «ماعت كارع» زوجة «بينوزم الأول»، بسميتها بنت الفرعون «بسوسنس».
معبد «خنسو» بالكرنك
لدينا منظر على واجهة معبد «خنسو» بالكرنك يجمع بين «بينوزم»، وزوجته «حنت ثاوي» و«ماعت كارع»، فنجد أن الفرعون بعد أن ملأ الجدار بصورته قد ترك لهما مكانًا صغيرًا على الجزء الأسفل من الجدار على كل من واجهتي البوَّابة، وقد مثلت الاثنتان معًا على جدار البوَّابة الغربي أمام محراب فيه صورة كل من «آمون رع» و«خنسو» برأس صقر، وترى في هذه الصورة «ماعت كارع» واقفة مرتدية على رأسها لباس غريب مُحلى بالصل الملكي وتلعب بالصاجات: «اللعب بالصاجات لوجه «آمون» الجميل، رب تيجان الأرضين؛ ليمنحك المملكة العظيمة على عرشك: الأميرة العظيمة والحظية الكبيرة، والزوجة الإلهية «لآمون» في «الكرنك»، والبنت الملكية من جسده، ربة الأرضين، المتعبدة الإلهية «ماعت كارع» العائشة.»
تابوت الملكة «ماعت كارع»
(٣-٢) الملكة «حنت تاوي حتحور دوايت»
وقد مثلت عليها هذه الملكة والصل على جبينها (وقد لاحظنا أنها لا تحمل قط الصل في رسوم معبد «خنسو»، وتتقبل تحيات «بينوزم» الأول الذي لم يكن وقتئذ إلا كاهنًا أكبر «لآمون»).
(٣-٣) أولاد «بينوزم الأول»
-
(١)
ذكرنا من قبل أنه وجد في تابوت الملكة «ماعت كارع» ابنتها الصغيرة التي ولدتها وماتت معها، ولم نعرف لها اسمًا، وقد ظن بعض علماء الآثار خطأ أن اسمها «موت أمحات»، ولكن هذا الاسم هو اسم ثانٍ لوالدتها، كما ذكرنا ذلك من قبل (L. R. III p. 253-4).
-
(٢)
«نسي-با-نفرحر»: ويحمل لقب الكاهن والد الإله ابن «بينوزم» وقد مُحي اسم أحد أولاد «حريحور» لمعبد الكرنك، وكتب اسم هذا الابن بدلًا منه (L. D. III. 247 Maspero, Ibid. p. 684; L. R. III. P. 259 Note 2, & A. Z XX (1882) p. III).
-
(٣)
«رد خنسوف عنخ»: ويحمل لقب الكاهن الأكبر «لآمون». وكان أول من ذكر هذا الاسم «سسل تور» عام ١٨٩٢، ويقول: إنه وجده مذكورًا على تابوت قد اختفى الآن بكل أسف.٣٢ويرى «برستد» أن هذا الكاهن الأكبر «رد خنسوف عنخ»، قد شغل هذه الوظيفة في السنتين السابعة والثامنة من حكم والده «بينوزم» في حين أن «جوتييه»، يظن أن «ماساهرتا» هو ابن آخر للملك «بينوزم» كان يشغل هذه الوظيفة للمرة الأولى في السنة السادسة عشرة من حكم والده (راجع Riv. § 650 B. r. A.).
-
(٤)
«ماساهرتا»: الكاهن الأكبر «لآمون رع» ملك الآلهة ابن الملك «بينوزم».٣٣
-
(٥)
«منخبر رع»: الكاهن الأكبر «لآمون رع» (منخبر رع) بن «بينوزم» (راجع A. S. VIII. P. 22) وسنتحدث عنه فيما بعد.
-
(٦)
«إستمخب»: ابنة الكاهن الأكبر «لآمون». وتدل كل الآثار على أنها كانت بنت «بينوزم الأول»، وأخت «ماساهرتا» وأخت «منخبر رع» وزوجه. وقد قال عنها «مسبرو»: إنها بنت «ماساهرتا»، وعلى ذلك تكون حفيدة «بينوزم الأول»، غير أن هذا الرأي خاطئ٣٤ على حسب قول «جوتييه»؛ وذلك لأن ما جاء على سرادقها الجنازي من أنها بنت الكاهن الأكبر دون أن يذكر أنها بنت الملك «بينوزم» وأن إخوتها يلقبون «أولاد بينوزم» يظهر لي أن ذلك لا يضعف هذا الرأي الذي صرح به «دي روجيه» في مقاله عن النقوش الخاصة بمقبرة «أحمس الأول».٣٥