لقد ظل الاعتقاد سائدًا بأن «حريحور» — الذي تولى رياسة كهانة معبد «آمون» بالكرنك
— كان ينسب
إلى أسرة «رعمسيس نخت» التي تولى أفرادها هذه الوظيفة بالتوارث مدة طويلة، واستولوا في
خلالها على
زمام الأمور في البلاد من الناحية الدينية والإِدارية معًا بدرجة عظيمة، على أن الوثائق
التاريخية
لا تمدنا بأية معلومات تثبت هذا الاعتقاد.
حقًّا نعلم أنه بعد اختفاء «أمنحتب» بن «رعمسيس نخت» من رياسة معبد «آمون» ظهر بعده
على هذا
الكرسي «حريحور»، ولكنا لا نعرف نسبته له كما لا نعرف اسم والده ولا اسم أمه إذ لم يرد
قط على
الآثار الخاصة بهذا العهد ما يشير إلى هذا؛ ولذلك يتساءل الإنسان لماذا تحدث «مسبرو»
في تاريخه
الذي وضعه عن مصر وأمم الشرق
١ عن والد «حريحور»، وعن جده مشيرًا بذلك إلى الكاهن الأكبر «أمنحتب» ووالده «رعمسيس
نخت»، وليس لدينا ما يثبت أنه كان ابن الكاهن الأكبر «أمنحتب»، هذا بالإضافة إلى أنه
ليس لدينا ما
يبرهن على أن «أمنحتب» قد تزوَّج من الأمير الملكية «إزيس»، وأنه رزق منها «حريحور» وبذلك
يكون
الأخير من نسل «رعمسيس السادس» كما أشرنا إلى ذلك من قبل (راجع «رعمسيس السادس») وعلى
ذلك فإن هذا
الزعم يعدُّ خاطئًا من أساسه. وكذلك أراد بعض المؤرخين أن يزعموا أن والدته تدعى «نزميت»،
ولكن نعرف أن لقب «الزوجة الملكية» الذي كانت تحمله هذه
الأميرة في أحد نقوش معبد «خنسو» يبرهن من سياق الكلام دون التباس
٢ على أنها زوجة «حريحور» — الذي أصبح فيما بعد ملكًا — لا والدته. وإذا كانت تسمى في
وثائق جاءت فيما بعد الأم الملكية، فإنما جاء ذلك بوصفها والدة الأطفال الذين أنجبتهم
منه. وقد
أراد الأثري «فرشنسكي» أن يميز بين امرأتين باسم «نزميت»، إحداهما تكون أم «حريحور» والثانية
زوجه، غير أنه ليس لدينا وثائق توضح هذا الزعم.
٣ والواقع أن «نزميت» هذه ليس لها أية علاقة بأسرة ملوك الرعامسة وكل علاقتها تنحصر مع
زوجها؛ وذلك لأننا لا نجدها في أي نقش أو بردية تلقب بالبنت الملكية، وقد كانت تشغل وظيفة
رئيسة
حظيات الإله «آمون»، مثلها في ذلك كمثل كثيرات من زوجات الكهنة الأول لملوك الأسرتين
الثامنة عشرة
والتاسعة عشرة، ومن كل ذلك يظهر لنا أن «حريحور» لم يكن له حق في عرش البلاد، لا بنسبه
وحسبه، ولا
بزواجه من أميرة ملكية تخول له هذا الحق، بل إن ذلك يرجع إلى مطامحه الشخصية والأحداث
الخارجة عن
حد المألوف، التي حدثت في البلاد في تلك الفترة من تاريخ أرض الكنانة، وإن رياسة الكهانة
لم تكن
إلا شيئًا عارضًا مكملًا لمطامحه، بل في الواقع إن اعتلاءه العرش كان يعدُّ هزيمة لرجال
الدين في
معبد الكرنك، وبخاصة أسرة «رعمسيس نخت» كما سنبين ذلك فيما بعد.
وتدل ألقاب «حريحور» على أنه كان من رجال الجيش، وأنه كان يحمل لقب القائد الأعلى
ورئيس طوائف
الأجانب كما سنرى بعد، هذا مع العلم بأنه كان يحمل لقب الكاهن الأكبر «لآمون»؛ ولذلك
فإن كل
الأحوال تدل على أن «حريحور» كان مثله كمثل المؤسسين الآخرين لأسر جديدة كالقائد «آي»
الذي كان
يحمل لقب كاهن، ولكنه كان في الأصل من رجال الجيش العظام، كما ذكرنا ذلك من قبل (راجع
مصر القديمة
ج٥) وعلى ذلك فإن كل الأحوال في مصر تدل على أن «حريحور» كان وليد الثورة التي قامت في
مصر في تلك
الفترة المضطربة من تاريخ البلاد، فأعاد إليها النظام وانتهى الأمر بتوليه هو مقاليد
الأمور في
البلاد، وأصبح فرعونًا لها ومؤسسًا لأسرة جديدة، وهذا الانقلاب هو الذي تحدثنا عنه فيما
سبق وهو
«عصر النهضة» (راجع «رعمسيس الحادي عشر»). وقد تناول الأستاذ «كيس» موضوع اعتلاء «حريحور»
عرش
الملك في مقال ممتع يدور حول عصر النهضة، ويتلخص في أن بعض أوراق البردي المعاصرة قد
أُرِّخت بعهد
يسمى عصر النهضة. وقد أراد بعض المؤرخين أن يجعلوه في حكم «رعمسيس التاسع»، ولكن دلت
البحوث على
أن ذلك رأي خاطئ كما شرحنا ذلك من قبل («رعمسيس الحادي عشر»). وكذلك لدينا نقطة أخرى
لا بد من
إظهار حقيقتها، وهي تاريخ ورقة «ونآمون» السالفة الذكر وهي التي جاء فيها أن رحلة «ونآمون»
هذا في
«سوريا» كانت في السنة الخامسة من حكم ملك لم يعين على وجه التأكيد. ويلاحظ في التقرير
الذي وضعه
«ونآمون» أن مصر كان من المفروض أنها مقسمة قسمين بين «حريحور»، الذي كان مقره «طيبة»
و«سمندس»
الذي كان مقره «تانيس». ولكن إذا اعترفنا بأن تاريخَ السنة الخامسة كانَ من عهد «رعمسيس
الحادي
عشر» فإن معنى ذلك أن التقسيم كان قد حدث منذ السنين الأولى من عهد هذا الفرعون، وهذا
ما يتعارض
مع الحقائق المؤكدة. ولكن لحل هذه المعضلة يمكننا أن نستعمل ما جاء من حقائق في أوراق
البردي التي
أبقتها لنا الأيام محفوظة في مقابر «طيبة»، فنحن نعلم إلى أي حد كانت السلطة الرئيسية
قد تضعضعت
في «طيبة». فقد قامت اضطرابات هناك مكثت تسعة أشهر وكانت قد حدثت في عهد «أمنحتب» الكاهن
الأكبر
«لآمون»، وقد رأينا تدخل الأجانب في هذه الفترة، وهذا العهد قد امتاز بما حدث فيه من
تخريب
للمعابد وإشعال الحرائق والقبض على موظفين من رجال الدين، وقد تعدَّى ذلك إلى تخريب حصون
مدينة
«هابو».
وبالاختصار فإن هذا العهد كان يعدُّ حربًا معلنة بين المعابد التابعة لضياع الإله
«آمون» في
«طيبة» وبين طوائف الأجانب، وقد أدلى «شرني» (راجع «رعمسيس الحادي عشر») ببراهين قوية
تؤكد أن عصر
النهضة لا يمكن أن يكون إلا في عهد آخر ملوك الرعامسة في الأسرة العشرين، وأن السنة التاسعة
عشرة
من حكم «رعمسيس الحادي عشر» تقابل السنة الأولى من عهد النهضة الجديدة، ومع ذلك فإن عصر
النهضة
هذا لا يمثل إلا السنين الأخيرة من حكم «رعمسيس الحادي عشر». ولكن من جهة أخرى نعرف أن
هجمات
الأجانب كانت قد حدثت فعلًا في عهد «رعمسيس التاسع» و«رعمسيس العاشر»، كما شرحنا ذلك
في مكانه.
وقد ذكرنا أن يوميات الجبانة تتحدث عن إضراب العمال بسبب الأجانب، وكذلك أخبر الوزير
بغارة قام
بها رجال من قبيلة «المشوش» اللوبية، وأن إحدى الهجمات قامت من «قلعة الجبلين» الواقعة
جنوبي
«طيبة»، وكان مناهضهم هو ابن الملك صاحب «كوش» القائد الأعلى «بانحسي»، الذي
قاد القتال حتى الجزء الشمالي من مصر مخربًا بلدة «حاراداي»
عاصمة المقاطعة السابعة عشرة من مقاطعات مصر الوسطى، وكانت ضمن دائرة نفوذ وزير الوجه
البحري، وقد
حاربت الفرق النوبية والطيبية التي تحت قيادة «بانحسي» ضد قوات الأسرات اللوبية المتزايدة،
التي
كانت معسكرة في «هراكليوبوليس»، مما هدد قطع العلاقات بين صعيد مصر وريفها. وفي نفس الوقت
حدث
إضراب بسبب القحط بين عمال جبانة «طيبة» في عهد «رعمسيس العاشر»، وفي عهد «رعمسيس الحادي
عشر»،
وقع نهب المقابر وعصيان الجنود المرتزقة الذين هاجموا المعابد، مما زاد في ارتباك الحالة
التي لم
يكن في مقدور «أمنحتب» الكاهن الأكبر «لآمون» أن يسيطر عليها. وقد مكثت الاضطرابات تسعة
أشهر في
خلال السنة الأولى من عهد النهضة، وكان «أمنحتب» لا يزال يجلس على كرسي الكاهن الأكبر
«لآمون»
(أقرن ذلك بما لخصناه من رأي «مونتيه» في هذا الصدد «رعمسيس الحادي عشر») … إلخ.
ولكن عاد النظام إلى نصابه عندما تولى «حريحور» مقاليد الأمور بدلًا من «أمنحتب» إذ
نجد بعد
السنة السابعة عشرة من حكم الفرعون «رعمسيس الحادي عشر» أن «حريحور»، أخذ يتابع تنفيذ
الأعمال
التي قام بها «بانحسي» فتقلد أعمال ابن الملك صاحب «كوش»، وتقلد وظيفة القائد الأعلى
في «طيبة»،
كما تقلد الوزارة وغير هيئة كبار الموظفين الإِداريين العليا.
ولكن كان لا بد من الاعتراف بأن «سمندس» — الذي كان يقبض على زمام الأمور في «تانيس»
— مساوٍ
«لحريحور» في السلطان، وكان الأخير قد أعطى مقاليد الوزارة في السنة الرابعة والخامسة
من عهد
النهضة إلى «نماعت رع نخت»، وأبقى لنفسه السلطان على بلاد النوبة، والقيادة العليا للجيش،
وبعد
ذلك بقليل عندما تولى عرش الملك خلع على ابنه «بيعنخي» وظائفه الحربية.
وسنحاول الآن أن نذكر ما جاء عنه في النقوش، التي تركها لنا على جدران معبد «خنسو»
بوجه خاص،
وعلى غيره من آثاره حتى نرى إلى أي حد يتفق ما جاء فيها مع نظرية الأستاذ «كيس»، فكما
ذكرنا منذ
السنوات الأولى من حكم «رعمسيس الحادي عشر» (١١٣٠–١١٠٠ق.م) كان «حريحور» بوصفه الكاهن
الأكبر
والوزير يقبض على كل السلطة الروحية ويدير كل السلطة الإدارية في البلاد.
(١) تمثال «حريحور»
ويلاحظ أن «حريحور» لم يحمل لقب وزير في أي نقش من النقوش العدة، التي تركها لنا
على جدران
معبد «خنسو»، حيث نجد اسمه كما سنرى مختلطًا باسم «رعمسيس الحادي عشر»، ولكن نجد هذا
اللقب ضمن
الألقاب التي يحملها هذا الرجل العظيم في المحضر، الذي دون في السنة السادسة من عهد «رعمسيس
السادس» على تابوت الملك «سيتي الأول» الذي كان قد أصلحه.
٥
وقد ذكر لقب الوزارة كذلك على تمثاله الذي عثر عليه
في خبيئة الكرنك،
٦ وقد مثِّل «حريحور» على غرار الكثير من أسلافه من الكهنة الأول للإله «آمون» قاعدًا
القرفصاء. ونخص بالذكر منهم «رعمسيس نخت» و«أمنحتب» أي: في هيئة كاتب يدون على بردية
منشورة على
حجره. ويلاحظ أن البردية وقاعدة التمثال قد غُطيتا بالنقوش، وقد جاء عليها:
على إضمامة البردي: (١) أُعطيت بمثابة شهادة حظوة سيد الآلهة
«آمون»، الذي كان أصل الأرضين (٢) ليته يجعل حياتي تمتد في معبده؛ لأني مفيد لروحه، وأن
يبقى
(٤) تمثالي أمامه. وأن يحييه عندما كان يخرج في الاحتفال (٥) لأجل روح الأمير الكاهن
الأول
«لآمون» ملك الآلهة، عمدة المدينة والوزير (٧) ابن الملك صاحب «كوش»، وقائد جنود الجنوب
والشمال، ومهدِّئ الأرضين لسيده «آمون» (حريحور). ونقش حول قاعدة التمثال في سطر طويل:
«الأمير
الذي على رأس الأرضين، والسمير والشريف العظيم في كل الأرض، والوزير البصير بالعدالة،
والمصغي
بوصفه قاضيًا للأمور (القضائية) الخاصة بأهل الجنوب، ورئيس أهل الجنوب، والذي يعمل الأشياء
المفيدة في معبد «آمون»، وهو الذي تعمل له كل الأرض قاطبة، الكاهن الأول «لآمون» ملك
الآلهة
«حريحور»» يقول: «إن أي فرد سيقصي هذا التمثال عن مكانه (حتى) بعد عدة سنين، فإنه سيقع
تحت سطوة
«آمون» و«موت» و«خنسو» واسمه لن يوجد بعد في أرض مصر، وسيموت جوعًا وعطشًا.»
ومن نقوش هذا التمثال نعلم إذن أن كلًّا من لقب الوزير والعمدة كان من ألقاب هذا
الكاهن
الأكبر وملك المستقبل «حريحور». ومن المحتمل أنه بهذه الكيفية كان يقوم بالحكم الإداري
في
البلاد، أو على الأقل اسميًّا في كل من مصر العليا ومصر السفلى؛ لأننا سنرى أنه قد لقب
على
جدران قاعة العمد في معبد «خنسو» مدير الجنوب والشمال،
٧ وكذلك نجد في متون هذا التمثال إثباتًا لما جاء في المتن الطويل المهشم السطور على
شرقي الباب الذي يربط الردهة بقاعة العمد لنفس المعبد، وهو أن «حريحور» كان يلقب ابن
الملك صاحب
«كوش»، ورئيس البلاد الجنوبية. ولا نزاع في أن لهذه الوظيفة الأخيرة ينسب لقب قاضي دعاوى
أهل
الجنوب الذي كان يسيطر عليه، ومنذ عهد طويل نعرف أن الإله الطيبي الكبير «آمون» قد استولى
على
بلاد النوبة وهي المعروفة ببلاد «ذهب آمون». وهذه البلاد كانت حتى هذه اللحظة يحكمها
نائب
للفرعون ضمن هيئة الموظفين الإداريين، وكانت بعيدة عن كهنة «آمون» بالكرنك تمامًا. ولكن
نشاهد
أنه عندما تقلد «حريحور» لقب ابن الملك صاحب «كوش» بالإضافة إلى ألقابه: الكاهن الأول
«لآمون»،
والقائد الأعلى للجيش، والوزير، والحاكم الإداري للأرضين قد أمد سلطانه على بلاد أعالي
النيل،
وبذلك تقدم خطوة ثابتة نحو السلطة العليا.
ومما يلاحظ في نقوش هذا التمثال كذلك أن «رعمسيس الحادي عشر» لم يذكر قط، وأن «حريحور»
قد
تجنب عن قصد كل إشارة للفرعون؛ وهذه هي الميزة التي نراها في نقوش ها التمثال، إذ لم
ينل
كالعادة حظوة من الفرعون، بل نال حظوة من الإله «آمون». وإذا كان «حريحور» من جهة أخرى
قد هدَّأ
الأرضين (طبعًا من الثورة التي كانت تنخر في عظامها) فإن ذلك كان للإله «آمون» لا للفرعون.
من
ذلك يمكن الإنسان أن يحكم بأن هذا التمثال قد عمل له بعد السنة السابعة عشرة من حكم الفرعون
«رعمسيس الحادي عشر»، وكان وقتئذ «بانحسي» يحمل هذا اللقب، وأن الفرعون لم يكن يقوم بأي
دور في
حكومة البلاد، إذ كان قد تجاهله «حريحور»، وأخضع كلية لإدارته سيد القصر الجسور.
(٢) النقوش التي على جدران معبد «خنسو» بالكرنك: (راجع
Lefebvre. Hist. des Grands Pretres d’Amon, p. 273)
وعلى جدران قاعة العمد بمعبد «خنسو» بالكرنك نجد ألقاب «حريحور»، ووظائفه معروضة
أمامنا
بصورة بارزة مرات عدة: «مدير الوجه القبلي والوجه البحري، ومدير الأعمال الخاصة بآثار
جلالته،
وقائد جنود صعيد مصر وريفها، ورئيس طوائف الأجانب.»
٨
وكذلك الرتب: «الأمير الذي على رأس الأرضين، والسمير، والشريف العظيم في كل الأرض.»
ولم يكن معبد «خنسو» قد تم بناؤه بعد منذ موت الفرعون «رعمسيس الثالث». ولم يكن قد
أُنجز
منه إلا المحراب والحجرات المجاورة له، أما قاعة العمد التي تحمل ذكريات عظيمة باسم «حريحور»،
فإنها تعد عملًا مشتركًا قام به كل من «حريحور» والفرعون «رعمسيس الحادي عشر».
٩
على أننا نكون قد عبرنا تعبيرًا دقيقًا إذا قلنا: إن الفرعون قد ترك مباني هذه القاعة،
أو
على الأقل تزيينها «لحريحور»، الذي نجد اسمه في كل مكان على عقود جدرانها الأربعة وعلى
الجدران
نفسها، وعلى العمد وعلى الأسس. وقد كان اسمه فيها كذلك بارزًا بدرجة عظيمة مضارعًا اسم
الفرعون
إن لم يكن يفوقه.
والمناظر التي تزين الجدران تمثل كالعادة صور عبادة وتقديم قربان، غير أن القائم
بتقديمها
لم يكن الفرعون في كل الأحوال، إذ نجد أن «حريحور» — في ست حالات — كان يحل محل الفرعون،
وأهم
هذه المناظر تلك التي مثلت على الجدار الشمالي، فعلى يمين الباب المؤدي إلى المحراب نشاهد
القارب العظيم للإله «آمون» في الأمام ويتبعه قاربان صغيران، ويلاحظ أن الكاهن العظيم
«حريحور»
هو الذي يطلق عليها البخور، كما يدل على ذلك المتن المنقوش فوق المنظر،
١٠ وعلى يسار هذا الباب تقف القوارب الثلاثة وتوضع فوق قواعدها الخاصة بها، وهنا نجد
أن «حريحور» كان كذلك يقوم بأداء الشعائر اللازمة: تقديم البخور والقربان «لآمون رع»
رب تيجان
الأرضين، ورئيس الكرنك، ورب السماء، وملك كل الآلهة لأجل أن يمنح حياة طويلة تنقضي في
رؤية
صلية، وشيخوخة سعيدة في مدينة «طيبة» بوساطة الأمير الذي على رأس القطرين، والسمير، والشريف
العظيم وكل الأرض قاطبة، والكاهن الأول «لآمون» ملك الآلهة، وقائد جنود الجنوب والشمال،
ورئيس
طوائف الأجانب «حريحور». وعلى الرغم من كل ذلك فإِن الشكر الرسمي كان يوجهه الإله للفرعون
«رعمسيس الحادي عشر»: «يا بني الذي من جسدي، يا محبوبي «من ماعت رع ستبن بتاح»، إن قلبي
لفي
سرور مبتهج بسبب أثرك.»
١١
والعمد الثمانية التي في قاعة العمد قد زُيِّن كل منها بمنظر فريد بنفس التركيب الذي
مثلت
به المناظر التي على الجدران. وهنا نلاحظ كذلك أن «حريحور»، قد أخذ لنفسه الوظائف الدينية
التي
كانت في العادة قاصرة على الفرعون؛ ولذلك فليس من الصواب أن نقول هنا: إننا نرى على هذه
المناظر
كما جاء في بعض الكتب أن «رعمسيس» يضحي أمام ثالوث «طيبة»، بل الواقع أن أربعة من ثمانية
المناظر — وهي التي على العمودين الأول والثالث من الصف الجنوبي، وعلى العمودين الثالث
والرابع
من الصف الشمالي — يرى عليها الكاهن الأعظم «حريحور»، لا الملك يقدم لإله أو أكثر من
ثالوث
«طيبة» قربانًا من البخور والأزهار. وفضلًا عن ذلك نجد في أسفل اللوحة المنقوشة على أربعة
العمد، التي تحمل سقف الممرِّ الأوسط نقشًا قد دوَّنه «حريحور» كأنه إمضاء بأعماله وهو:
عمل تحت
إدارة من تسلم تعليمات جلالته الأمير والمحبوب العظيم للإله الطيب حامل المروحة على يمين
الملك،
والكاهن الأول «لآمون رع» ملك الآلهة ورئيس طوائف الأجانب «حريحور»، أو نجدها في صورة
أخرى
هكذا: عمل تحت إدارة من تسلم تعليمات جلالته، الأمير الذي على رأس الأرضين، والكاهن الأكبر
«لآمون رع» ملك الآلهة، والقائد الأعلى للجيش، ورئيس الطوائف الأجنبية «حريحور» لأجل
سيده «خنسو
— في طيبة — نفرحتب»، وهكذا نفهم من اللوحات التي على الجدران والتي على العمد أن «حريحور»
يلعب
دورًا يعادل في أهميته الدور الذي كان يقوم به الملك، ومن ثم نرى أن «حريحور» كان يشارك
الفرعون
في كل فخاره، على الرغم من أنه كان أحد رعاياه، ولكنه عرف كيف يمكنه أن يصبح صاحب سلطان
يضارع
سلطان سيده.
والآن ننتقل إلى فحص النقوش التي على أساس قاعة العمد، وهذه أكثر إيضاحًا عن موقف
«حريحور»
بالنسبة للفرعون، إذ إنها تظهر لنا استقلاله عن العرش وقد كان آخذًا في الزيادة، وهذه
النقوش
عبارة عن تقديمات، وتبتدئ إحداها هكذا: الكاهن الأول «لآمون» ملك الآلهة، والقائد الأعلى
لجنود
الجنوب والشمال، ورئيس طوائف الأجانب «حريحور». لقد عمل هذا بمثابة أثره لأجل «خنسو —
في طيبة —
نفرحتب» مقيمًا له من جديد معبدًا يشبه أفق السماء، وموسعًا معبده ليكون عملًا أبديًّا،
ومعظمًا
أثره أكبر مما كان عليه من قبل. وقد زاد في القربات اليومية، وضاعف ما كان موجودًا من
قبل في
حين أن تاسوع آلهة «طيبة» كانوا في فرح كما كان البيت العظيم في عيد … وأخيرًا
١٢ ذكر في الإهداء «لرعمسيس الحادي عشر»، وهذه بقية من الاحترام، ويقصد بها نسبة بناء
قاعة العمد له على غرار نسبتها إلى «حريحور». ومع ذلك فإنا نجد إهداءين آخرين يحيطان
بالأساس
منسوبين «لحريحور» وحسب، بوصفه دائمًا الكاهن الأكبر «لآمون» ملك الآلهة،
١٣ غير أنه أصبح مستقلًّا لدرجة أنه أهمل ذكر اسم الملك، وكتب اسمه فقط، وهاك أحد
النقشين: «الكاهن الأول «لآمون» ملك الآلهة، قائد جيوش الجنوب والشمال، ورئيس طوائف الأجانب
«حريحور»: لقد عمل هذا بمثابة أثره «لخنسو — في طيبة — نفرحتب» مقيمًا له من جديد معبدًا
بمثابة
عمل ممتاز وللأبدية، وهو عمل قلب محب.» وبهذه الكلمات ينتهي الإهداء دون أن يذكر اسم
«رعمسيس
الحادي عشر».
١٤
وعندما يمر الإنسان من قاعة العمد في ردهة المعبد نشاهد أن موقف «حريحور» الرسمي
قد تغير،
إذ نجد أن النقوش لا تذكر «رعمسيس الحادي عشر» وحسب، بل يتضح لنا جليًّا أن «حريحور»
قد اتخذ
مكانه على عرش الملك؛ وذلك لأنه هنا قد منح نفسه وصفًا ملكيًّا رسميًّا، وجعل لنفسه لقبًا
واسمًا كل منهما في طغراء يسبقهما اللقب: «ملك الوجه القبلي والوجه البحري» (أو كذلك
لقب «الإله
الطيب») وقد فصل بينهما على حسب التقاليد التي مر عليها آلاف السنين النعت «ابن رع».
ولكنه لأجل
ألا يغضب القائمين بالنظام الديني الذي كان سائدًا وقتئذ، وليظهر أنه كان يناصره، استعار
اسمه
الأول من لقب الكهانة الذي كان يحمله وهو «الكاهن الأول لآمون». وهذا ذكرنا بالملك «آي»
عندما
اتخذ لنفسه لقب «والد الإله» ووضعه في طغراء، وكذلك يذكرنا بأباطرة الرومان في مصر عندما
كانوا
يتخذون اسمًا أولًا لهم لقبهم «أوتوكراتور» (راجع مصر القديمة ج٥). أما طغراء «حريحور»
الثاني
فكان يشمل اسمه وحسب، مضافًا إليه عبارة «ابن آمون» وذلك اعترافًا بفضل والده «آمون».
١٥
وهذا الانتقال يحدثنا عنه نقش دوِّن على الجدار الشمالي للردهة في الجهة الشرقية من
الباب
الذي يؤدي إلى قاعة العمد. وهذا المتن مهشم بكل أسف لدرجة كبيرة.
ويدل ما تبقى منه على أنه يخلد ذكرى وحي أَوْحَى به الإله «خنسو» وصدَّق عليه الإله
«آمون»،
وفيه يذكر أنه قد منح أو وعد بمنح الكاهن الأكبر «حريحور» الملك في حين أن «رعمسيس الحادي
عشر»
كان لا يزال على عرش الملك. وهكذا نجد أن التدخل الإلهي قد حبا مرة أخرى مطامع مدَّعٍ
للتاج،
غير أن المدعي في هذه الحالة كان هو نفس رئيس الكهنة لمعبد الكرنك.
وفي هذا المتن نجد ألقابًا جديدة نُسبت إلى «حريحور» منها مدير مخازن الغلال، وهذا
اللقب قد
أعطاه حق التصرف في أعظم ثروة مادية في مصر، وكذلك لقب «ابن الملك صاحب كوش» وهذه الوظيفة
قد
أمدت سلطان هذا الكاهن الأكبر الطموح على بلاد أعالي النيل حتى حدود بلاد «كوش». وهذا
النقش
يرجع تاريخه إلى السنين الأخيرة من حكم «رعمسيس الحادي عشر»؛ وهو على أية حال قبل السنة
السابعة
عشرة من سني حكمه؛ وذلك لأننا نعرف كما ذكرنا من قبل أنه في هذه السنة كان «بانحسي» نائبًا
على
بلاد النوبة، وهو الذي وجه إليه الفرعون الخطاب الذي سبق ذكره، وهو المحفوظ الآن في بردية
«بمتحف تورين». والواقع أن نقش «حريحور»، الذي نحن بصدده الآن لم يبقَ منه فعلًا إلا
نهاية تسعة
وعشرين سطرًا، ومنها يمكننا أن نفهم بصعوبة المقصود من المتن وهي مؤرخة بالسنين الأخيرة
من عهد
«رعمسيس الحادي عشر». وتحدثنا أن الكاهن الأكبر «حريحور» (السطر ٢، ويلاحظ أن الاسم نفسه
لم
يحفظ في هذا النقش إلا في السطرين ١٢ و١٧) قد قام بعمل تقرير مرتين للإله «خنسو»، ولكن
لم يبقَ
من كلامه في كل من هذين التقريرين إلا النهاية … إلى «نو» بلدك، أما ما عمله الإله لإجابة
خطاب
الكاهن الأعظم فقد عبر عنه بالكلمات: «وعلى ذلك تقهقر الإله.» كما جاء في السطر الرابع،
وكذلك
بنفس العبارة في السطر الخامس. وفي الجزء التالي لذلك يدور الكلام عن مدة عشرين عامًا
منحها
الإله «آمون» للكاهن الأكبر: ويعلن الإله «خنسو» هذه المنحة «لحريحور»، وكذلك يعطيه الإذن
بأن
ينقش هذا الحادث على لوحة ويجعله يقيمها في المعبد. وفي هذا الجزء الأخير من النقش يجيب
الإله
«خنسو» أربع مرات بالاستحسان على كلام «حريحور» (ونلاحظ ذلك في السطرين ٢٠ و١٨، وفي السطرين
١٥و
٢٦ نجد المتن مهشمًا) وقد ترجم «برستد» هذا النقش غير أنه لم يرَ فرقًا بين العبارة الدالة
على
الرفض والعبارة الدالة على الاستحسان؛ ولذلك أخطأ فهم النقش من هذه الناحية (راجع
Br. A. R. IV, § 615-616) فترجم عبارة تراجع برأسه أو رفض
بالعبارة التالية، وعندئذ هز الإله رأسه (استحسانًا). وقد تناول المؤرخ «إدورد مير» هذا
المتن
مرة أخرى وخطأ ترجمة «برستد»، وترجم التعبير الدال على الرفض بما يأتي: «ورجع الإله خلف
نفسه.»
والترجمة الحرفية لهذه العبارة صحيحة غير أنه لم يرَ المعنى الحقيقي للتعبير، أي لم يرَ
أنه عكس
معنى العبارة الدالة على الموافقة، وهو: «وهز الإله رأسه بشدة.»
وأخيرًا تناول هذين التعبيرين الدالين على الرفض والقبول عند إشارة الوحي الأستاذ
«شرني»
وبرهن بوساطة متون أخرى على أن التعبير الدال على الرضا يدل عليه بالانحناء إلى الأمام،
والتعبير الدال على الرفض عبر عنه بالرجوع إلى الوراء أي التقهقر، وهذا ما يعبر به عن
هذين
المعنيين في أيامنا حتى الآن (Bull. Inst. Fr. xxx p.
492).
وهاك نص النقش:
(١) … «رعمسيس الحادي عشر» محبوب «آمون رع» ملك الآلهة، معطي الحياة أبديًّا.
«حريحور» أمام الإله «خنسو»: (٢) … الكاهن الأكبر «لآمون»
ابن الملك صاحب «كوش» والمشرف على مخازن الغلال (٣) … وبعد ذلك كرر له الكاهن الأكبر
«لآمون»
ملك الآلهة (٤) … «طيبة مدينتك»، وعلى ذلك تقهقر الإله (رفض) (٥) … «لطيبة مدينتك» وعلى
ذلك رفض
الإله (٦) … (٧) … (٨) شرفًا لي وحياة وسعادة وصحة وأشياء جميلة كثيرة في «طيبة مدينتك»
(٩) …
التي تعطيها، وستعطيها إياي، وبعد ذلك هز الإله رأسه في مدة سنة، وهي المدة التي أعطيتها
إياي
والذين في (١١) … في مدة السنة التي أعطيتها إياي والتي صرفتها لتعطيها إياي خلافًا ﻟ
… (١٢) …
«حريحور» المنتصر.
تأكيد «آمون»: وقد خرجت المدينة بمثابة رسل له؛ لينجزوا
ما قاله «خنسو» (١٣) … (آمون رع) ملك الآلهة موليًا وجهه نحو الشمال إلى الكرنك. وبعد
ذلك وصل
عند اﻟ … (١٤) … «آمون رع» الآلهة، الوالد … (١٥) … وعند ذلك هز الإله رأسه بعنف (بالقبول)
قائلًا: إن مدة عشرين عامًا هي التي سيمنحك إياها «آمون رع» ملك الآلهة (١٦) … بسبب الأعمال
الطيبة التي عملتها للإلهة «موت» والإله «خنسو» وأولادها السابقين (١٧) …
تسجيل المعجزة: وبعد ذلك كررها له الكاهن الأكبر «لآمون»
ملك الآلهة «حريحور» قائلًا: يا سيدي الطيب (١٨) … هل ستسجل هذه المعجزات على الحجر؟
فهز الإله
رأسه بعنف (بالقبول) ثم كرر له الكاهن الأكبر «لآمون» ملك الآلهة «حريحور» قائلًا: …
(«خنسو»
كاهن «آمون رع» ملك الآلهة «حريحور» قائلًا) … «خنسو» — في طيبة — الراحة الجميلة قولك.
هب أن
يقيموا لوحة … (٢٠) … «خنسو» — في طيبة — الراحة الجميلة التي عملها، فهز الإله راسه
بعنف
(بالقبول).
شكر «حريحور»: (٢١) … الأبوية ستأتي إليك وملايين السنين
ستكون في … (٢٢) … وستأتي أجيال يتكلمون عن هذه المعجزات الخاصة ﺑ … (٢٣) … أجيال أطفال
سيعملون
… (٢٤) الكلمات التي أتت ستكون (٢٥) … التي قلتها لي والتي منحتني مدة عشرين سنة (٢٦)
… فهز
الإله رأسه بعنف (بالقبول) … (٢٧) … وعلى ذلك أعطى «حريحور» (أمره بإقامة هذه اللوحة)
… (٢٨) …
في وضعها صورة …
وأهم ما يلفت النظر في هذا المتن غير ما ذكرنا أن الإله وعد «حريحور» بحكم عشرين سنة،
وهذا
يذكرنا بما تمناه «رعمسيس الثالث» لابنه وهو مدة حكم طولها مائتا سنة.