عبد الله بن عباس
مرت أيام والحسن يترقب فرصة يخاطب فيها أباه في شأن أسماء، فلم يتسنَّ له ذلك لاشتغالهم جميعًا في إيفاد العمال وتقلب الأحوال، فإن الإمام عليًّا لم يهدأ له بال منذ ولي الخلافة. وكان أكثر عمال الأمصار ناقمين عليه، ولعله لو أطاع المغيرة لخفف شيئًا من نقمتهم، ولكنه أصر على أن يستبدل بهم عمالًا من رجاله وموضع ثقته.
وكان الحسن متهيبًا مفاتحة أبيه في أمر الخطبة لئلا يُخيَّل إليه أنه اشتغل بالحب عن الخلافة، فبدا له أن ينتظر مجيء عبد الله بن عباس فيوسطه في الأمر لما يعلم من دالَّته على أبيه، وذكر ذلك لمحمد بن أبي بكر فلم يجبه ولكنه قلق واشتدت غيرته. فلما سمع محمد بمجيء عبد الله بن عباس أراد أن يشغله بحديث الخلافة عن السعي في الخطبة، فأسرع إليه قبل أن يعلم الحسن بمجيئه وأنبأه بما كان من حديث المغيرة بن شعبة وما أشار به على الإمام علي، إلى أن قال: «قد كنا في انتظار مجيئك لعلك تثني الإمام عن عزمه، فقد أصر على خلع عمال عثمان وهم ناقمون ولهم أنصار ومن بينهم معاوية.»
فقال عبد الله: «أصاب المغيرة والله! ونعم الرأي رأيه!»
قال محمد: «وهذا ما نراه نحن جميعًا، فما العمل؟»
قال: «ها أنا ذا ذاهب إليه الساعة.» قال ذلك ونهض وقد أهمه الأمر كثيرًا لغيرته على الإسلام ولقرابته من الرسول ومن علي.
وكان ابن عباس يناهز الأربعين من العمر، جميل الوجه، أبيض اللون مشربًا صفرة، جسيمًا فصيح اللسان. وكان أعلم الناس بالحديث والشعر وكلام العرب، سديد الرأي، عالمًا بتفسير القرآن وبكل علم من علوم تلك الأيام، لم يدرك أحد من أهل زمانه ما أدركه. فلما سمع كلام محمد أسرع إلى عمامته وجبته وهُرِع إلى منزل الإمام علي ومحمد يتبعه.
ولما وصلا إلى الدار رأيا المغيرة بن شعبة واقفًا بباب حجرة الإمام علي يشد نعاله فأدركا أنه كان عنده، فقال عبد الله لمحمد: «أتُرَاه جاءه ثانية أم لعلها الزيارة التي ذكرت؟»
قال: «هذه غيرها، ولا أدري ما جاء به.»
وبينما هما في ذلك مر بهما الحسن، فلما رأى عبد الله بُغِت ووقف وسلم عليه ودعاه إلى حجرته وهو يريد أن يذكر له أمر الخطبة، فرآه في شاغل آخر وقد أسرع إلى حجرة علي، فدخل معه ومحمد في أثرهما.
•••
فلما أقبل عبد الله على الإمام حياه بتحية الخلافة قائلًا: «السلام عليك يا أمير المؤمنين»، وكانت أول مرة رآه فيها بعد خلافته. وكان علي جاثيًا وبين يديه مصحف فلما سمع تحية عبد الله أحسن ردها ورحب به وقال: «وعليك السلام يا ابن عم الرسول.» قال ذلك والانقباض ظاهر على وجهه كأنه كان في جدال عنيف. فمشى عبد الله حتى جلس بجانبه، وجلس الحسن ومحمد في بعض جوانب الحجرة.
فلما استقر بهم المقام قال ابن عباس: «رأيت المغيرة خارجًا من عندك وعهدي به ذو دهاء وسداد رأي، فهل أحدث حدثًا؟»
قال علي: «والله لقد أخلف ظني فقد أشار عليَّ منذ أيام بأن أقر معاوية وسائر عمال عثمان على أعمالهم، وأنهم هم الذين بعثوها فتنة أودت بعثمان وأخذوا يؤلبون الناس علينا. فخالفته فيما ذهب إليه وأبيت إلا عزلهم، فتقدم إليَّ بأن أبقي معاوية على الشام فأقسمت لا أستعملنه يومين، فخرج وهو يرى أن ستبدي الأيام صحة ما رآه. ثم عاد اليوم فقال: «إني أشرت عليك أول مرة بالذي أشرت وخالفتني فيه، ثم رأيتُ بعد ذلك أن تصنع الذي رأيت فتعزلهم وتستعين بمن تثق به، فقد كفى الله وهم أهون شوكة مما كان.» فحمدت له رجوعه إلى الصواب.»
قال ابن عباس: «يا ابن عم، أترى المغيرة قد صدقك اليوم؟ أما أنا فما أظنه والله إلا قد نصحك في الأولى وخدعك في الثانية. إن معاوية وأصحابه أهل دنيا، فمتى تثبتهم لا يبالون من ولي هذا الأمر، ومتى تعزلهم يقولون أخذ هذا الأمر بغير شورى عثمان، ويؤلبون عليك فتنتقض عليك الشام وأهل العراق. وإني لا آمن طلحة والزبير أن يَكُرَّا عليك، ولهذا أشير بأن تثبت معاوية فإذا بايع فعليَّ أن أقلعه من منزله.» وكان ابن عباس يتكلم وعليٌّ مطرق مقطِّب الوجه، وقد أقلقه الأمر كثيرًا، وأما الحسن ومحمد فكانا يسمعان كلام ابن عباس ويودان لو يقتنع الإمام فيقر معاوية تجنبًا للحرب. فلما فرغ ابن عباس من كلامه لبثا ينتظران ما يقوله علي، فإذا هو لا يزال مطرقًا عابسًا، والسكوت يسود الحجرة ولا ينبس أحد ببنت شفة. ثم رفع علي رأسه ونظر إلى ابن عباس ويده على سيفه وقال: «والله لا أعطيه إلا السيف!» ثم رد يده إلى لحيته وقال:
فلما سمع ابن عباس قوله ورأى ما بدا على وجهه من أمارات الغضب، شق عليه الأمر كأنه رأى بأم رأسه المركب الخشن الذي همَّ علي بركوبه وما يتوقعه من سوء العقبى، وكانت له دالَّة ووجاهة عنده فقال له: «أنت رجل شجاع لست صاحب سياسة ولا رأي في الحرب، أما سمعت رسول الله ﷺ يقول: «الحرب خدعة»؟ أما والله لئن أطعتني لأصدرنهم بعد ورد، ولأتركنهم ينظرون في دبر الأمور لا يعرفون ما كان وجهها في غير نقصان عليك ولا إثم لك!» وما فرغ من كلامه حتى أندى العرق جبينه حمية وغيرة، ولكنه لم يكد يفرغ حتى ابتدره علي قائلًا: «يا ابن عباس، لست من هناتك ولا من هنات معاوية في شيء.»
قال ابن عباس: «أطعني وأغلق بابك عليك، فإن العرب تجول جولة وتضطرب ولا تجد غيرك، فإنك والله إن نهضت مع هؤلاء اليوم ليحملنك الناس دم عثمان غدًا!»
وكان ابن عباس يتكلم ولا تلوح على حركاته إشارة الرضا، فلما فرغ من كلامه قال له علي: «تشير عليَّ وأرى، فإذا عصيتك فأطعني.»
فقال ابن عباس: «أفعل، إن أيسر ما لك عندي الطاعة.»
فقال علي: «تسير إلى الشام فقد وليتكها.»
قال ابن عباس: «ما هذا برأي، فإن معاوية رجل من بني أمية، وهو ابن عم عثمان وعامله، ولست آمن أن يضرب عنقي نقمة لعثمان، وإن أدنى ما هو صانع أن يحبسني فيتحكم علَيَّ لقرابتي منك، وإن كل ما حمل عليك حمل علَيَّ. ولكن اكتب إلى معاوية فمَنِّه وعِدْه …» فقطع علي كلامه قائلًا: «لا والله لا كان هذا أبدًا!»
فسكت ابن عباس ولبث برهة ثم استأذن وخرج، وخرج في أثره الحسن ومحمد وكأن على رءوسهم الطير. أما عليٌّ فأمر في إنفاذ عماله إلى الأمصار؛ فبعث عثمان بن شهاب إلى الكوفة، وعبيد الله بن عباس (أخا عبد الله) على اليمن، وقيسًا بن سعد إلى مصر، وسهلًا بن حنيف إلى الشام.