عثمان بن عفان
وهمت أسماء بالدخول إلى الجامع فامتنع عليها لكثرة الناس وهيبة الاجتماع، فوقفت بالباب وهي على مثل الجمر، ووقف صاحبها إلى جانبها فارتاحت لما آنسته من رقة شعوره، وعلمت أن الدخول إلى علي يستحيل إذ ذاك. فلما دعاها إلى الاستراحة على البطحاء، وهي مقاعد من الحجر أو الخشب أنشأها عمر بن الخطاب خارج الجامع يجلس عليها الناس للاستراحة أو المحادثة أو المناشدة؛ لم تستطع أسماء جلوسًا لعظم قلقها، ولكنها التمست مكانًا تربط فرسها فيه إذا اضطُرَّت لدخول الجامع، فأمر رفيقها غلامًا ممن يلتقطون النوى في أسواق المدينة وهم كثيرون أن يمسك الفرس، فأمسكه وسار به إلى مرابط الخيل بين الأشجار هناك.
أما أسماء فنظرت إلى صدر المسجد، فرأت على منبره رجلًا ربعة ليس بالطويل ولا القصير، حسن الوجه لولا ما عليه من أثر الجدري، كبير اللحية عظيمها، وقد خضبها بالحناء، أسمر اللون، أصلع الرأس، عظيم الكراديس، عظيم ما بين المنكبين، وكان واقفًا على المنبر وقد توكأ على سيف وأجال نظره في الحضور وهمَّ بالكلام. فنظرت أسماء إلى رفيقها مستفهمة، فقال: «هذا عثمان بن عفان يخطب في الناس.»
فقالت: «لعل هذا الجمع من أهل المدينة؟» قال: «كلا، هم وفود أهل مصر والبصرة والكوفة، وقد جاءوا يشكون عثمان ويتذمرون من أعماله، وقد شكوه من قبل هذا إلى علي بن أبي طالب فأنَّبه عليٌّ، فدعاهم إلى المسجد ليخطب فيهم، وأظنه سيلتمس لنفسه عذرًا، فلنسمع ما يقوله.»
فنظرت أسماء إلى الخليفة وعيناها لا تقفان عليه لتضعضع حواسها، فرأت بجانبه رجلًا عرفت أنه مروان فقالت في نفسها: «بئس الشاب هو! لقد جاء إلى ابن عمه ونسي المهمة التي جاء فيها.» وجالت بنظرها في الجمع متفرسة لعلها ترى عليًّا، غير أنها لم تكن تعرفه فقالت لرفيقها: «ألا ترى عليًّا بين الناس؟» قال: «أظنني رأيته، نعم، أراه جالسًا بقرب المنبر وقد أطرق يفكر.» فنظرت إليه فإذا هو فوق الربعة، ضخم العضل، جميل الخلقة، وقد خطَّه الشيب فلم يخضب شعره. وآنست منه على شدة هواجسه ابتسامًا ظاهرًا في وجهه، فشعرت عند رؤيته بارتياح واستأنست بطلعته وحدثتها نفسها أن تخترق الجماهير إليه فأوقفها الحياء، ولبثت تنتظر انتهاء الخطيب من خطابه وهي في قلق شديد.
وانتصب عثمان ويمناه على السيف وهي ترتعش لعظم تأثره، ثم مسح لحيته بيساره ومشط شعرها بأصابعه والاضطراب ظاهر عليه، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على الرسول ثم قال: «يا أهل الأمصار، قد جئتم من البلاد البعيدة تطالبونني بأمور لم أكن أنا الذي ارتكبتها وحدي، فإن صاحبَيَّ اللذين تولَّيا قبلي (يريد أبا بكر وعمر) قد ظلما أنفسهما، وإن رسول الله ﷺ كان يعطي قرابته. وأنا في رهط أهل عيلة وقلة معاش، فبسطت يدي في شيء من ذلك لما أقوم به فيه، فإن رأيتم ذلك خطأ فردوه فأمري لأمركم تبع. وأما ما تريدونه من الفتنة أو الخلع فإنكم قد أسرعتم فيما عزمتم، ووالله لئن فارقتكم لتتمنَّون أن لو كان عمري عليكم مكان كل يوم سنة! لما سترون من الدماء المسفوكة والإحن، والأثرة الظاهرة والأحكام المغيِّرة.»
وكان عليٌّ في أثناء الخطاب مطرقًا مصغيًا لا يبدي حراكًا، حتى أتى عثمان على الفقرة الأخيرة فحرك عليٌّ حاجبيه وحنى رأسه تصويبًا لقوله: «لما سترون من الدماء المسفوكة … إلخ.»
وأما أسماء فلا تسل عن قلقها ومللها، وكان رفيقها واقفًا إلى جانبها وقد شُغِل عنها بما ثار من عواطفه عند سماعه كلام عثمان، ومال إلى إفهام رفيقه الملثم جلية الخبر تشفيًا من عثمان. ولكنه أراد قبل ذلك أن يعرف من هو، ثم تنسم من لهجتها صوتًا نسائيًّا ولكنه استبعد أن يظهر في النساء مثل هذه الهمة، فصبر حتى انتهى عثمان من خطبته وقال لها: «أراك يا سيدي خالي الذهن من مغزى كلام الخليفة، ولكي تتفهمه أوضحه لك باختصار: إن خليفتنا هذا هو ثالث الخلفاء الراشدين، تولى الخلافة منذ بضع عشرة سنة، وحالما تولاها عزل الولاة الذين كانوا قبله ممن ولاهم الخليفة عمر، وولى مكانهم رجالًا من بني أمية أي من أقاربه، ووسَّع أبواب الرزق لأهله وضيَّقها على سواهم، فثار المسلمون في الأعمال (الولايات)، وهم أهل مصر والكوفة والبصرة. أما أهل الشام فإنهم على دعوة عثمان، لأن عاملهم هو معاوية بن أبي سفيان من أقرباء الخليفة، وأما أهل الأمصار الثلاثة الباقية فنقموا على هذا الرجل وجاءوا في رجالهم يطلبون خلعه وتولية غيره مكانه، ولا يليق بالخلافة بعده إلا علي بن أبي طالب فإنه ابن عم النبي ﷺ ووصيه. ولكن بين الذين يطمعون في الخلافة الآن اثنين من الصحابة هما طلحة والزبير. فالخلافة إذا خُلِع عثمان بين الثلاثة علي وطلحة والزبير، ووفد مصر يريدونها لعلي، ووفد الكوفة يريدونها للزبير، ووفد أهل البصرة يريدونها لطلحة، ولكنهم متفقون جميعًا على خلع عثمان. وأما علي فلا رغبة له في الخلافة، ولكنه يخاف الفتنة بين المسلمين بسبب ذلك الخصام.»
وكانت أسماء تسمع كلام رفيقها وهي لا تفهم منه شيئًا لعظم اضطرابها، ولكنها لم ترَ بدًّا من الصبر لأنها رأت عثمان عاد يتكلم. وما أتم عثمان كلامه حتى ضج الناس فعلمت أنهم خارجون، فحمدت الله على فراغه، فتنحَّت ريثما يخرج الجمع وقد زاغت عيناها وهي تتفرس في الجماهير لعلها ترى عليًّا خارجًا معهم فخرج الكل ولم تره بينهم، فتحولت نحو الجامع وكان رفيقها قد سبقها إليه فوقفت تنتظره، فعاد وحده فلما استقبلها سألها: «هل رأيت عليًّا؟» فذكرت أنها لم تره، فجعل يبحث بين الناس ولكنه لم يجده.
•••
عاد إلى الجامع وقد خلا من المصلين وأخذ الخدم في إطفاء المصابيح، فخافت أسماء أن يمنعوها من الدخول، ولكنهم لما رأوا رفيقها وسعوا لهما فعلمت أنه من كبار القوم. فدخلا إلى المسجد فرأت المكان خاليًا، ووقف الرجل ووقفت وجعلا يفكران، وبعد برهة قال الرجل: «أظنه دخل حجرة امرأته فاطمة بنت النبي ﷺ فإنها مدفونة في حجرة بإزاء هذا المسجد، وكثيرًا ما كنا نراه يدخلها لزيارة ذلك الأثر الشريف، فلا بد من الانتظار ريثما يخرج.»
فقالت: «لا صبر لي يا مولاي على الانتظار، دعني أدخل إليه وأخاطبه فإن الأمر الذي جئت من أجله يقتضي العجلة، وهب أنني أسأت الأدب في استعجاله فإنه سيعذرني متى عرف السبب، دعني أدخل الحجرة.»
قم يا رسول الله تعهَّد أمتك وانظر إلى ما آلت إليه حالها من بعدك، لقد بعثك الله نذيرًا للعالمين وأمينًا على التنزيل، وليس أحد من العرب يقرأ كتابًا ولا يدعي نبوة، وقد كانوا على شر دين في شر دار، يشربون الكدر ويأكلون العشب، ويعبدون الأصنام، ويسفكون الدماء، ويقطعون الأرحام. فسقت الناس حتى بوأتهم محلتهم، وبلغتهم منجاتهم، فاستقامت قناتهم، واطمأنت صفاتهم، وجعل الله الإسلام أمنًا لمن علقه، وسِلمًا لمن دخله، وبرهانًا لمن تكلم به، وشاهدًا لمن خاصم به، ونورًا لمن استضاء به، وفهمًا لمن عقل، ولبًّا لمن تدبر، وعبرة لمن اتعظ، ونجاة لمن صدق، وثقة لمن توكل. فقام بنصرته قوم دُعُوا إلى الإسلام فلبوه، وقرءوا القرآن فأحكموه، قوم لا يُبَشَّرون بالأحياء ولا يُعَزَّوْن بالموتى. مُرْه العيون من البكاء، خُمْص البطون من الصيام، ذُبُل الشفاه من الدعاء، صُفْر الألوان من السهر، على وجوههم غبرة الخاشعين. قد كنت يا رسول الله تأكل على الأرض، وتجلس جلسة العبيد، وتخصف نعلك بيدك، وترقع ثوبك بيدك، وتركب الحمار العاري. ولقد يكون الستر على بابك عليه التصاوير فتقول لإحدى أزواجك: «غيبيه عني، فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها.» وكنت يا رسول الله إذا احمرَّ البأس وأحجم الناس، تقدم أهلك فتقي بهم أصحابك حتى قُتِل عبيدة بن الحارث يوم بدر، وقُتِل حمزة يوم أحد، وقُتِل جعفر يوم مؤتة. هذه هي سنتك وتلك هي قدوتك. فلما فارقتنا خلَفك شيخ (أبو بكر) حارب المرتدين، وأيد الدين القويم، وخلفه رجل فتح الأمصار ودوَّن الدواوين، وشاد للعدل منارًا، فاعتز به الإسلام، وامتدت رايته على العراق وفارس ومصر والشام، وفر من وجهه كسرى وقيصر، والناس يومئذٍ مجتمعون حول الدعوة آخذون بناصرها بقلب واحد. حتى تولاهم عثمان وهو شيخ صادق الإسلام، ولكنه استأثر بالسلطة وآثر أهله على سائر المسلمين، فقاموا عليه قومة رجل واحد، وتجمعوا على نبذ طاعته وأقروا على خلعه، لا ترهبهم خلافته ولا يخشون سطوته. كأن الناس إنما أذعنوا لأهل السابقة من الصحابة لما كانوا فيه من الذهول والدهشة لأمر النبوة وتردد الوحي وتنزل الملائكة، فلما انحسر ذلك العباب وتُنُوسِي الحال واستفحل الملك أنفت نفوس المسلمين من غير قريش وهان عليهم نبذ طاعة الصحابة حتى بلغ من جرأتهم التمرد على الخليفة. فعظمت الفتنة وخفتُ ما خوَّفتنيه يوم سألتك عن الفتنة فقلت لي: «يا علي، إن القوم سيُفتَنون بعدي بأموالهم ويمنُّون بدينهم على ربهم، ويتمنون رحمته ويأمنون لسطوته، ويستحلون حرامه بالشبهات الكاذبة والأهواء الساهية.» آه يا رسول الله! لقد طالما نصحت لهذا الخليفة ألا يكون إمام هذه الأمة المقتول، فإنه كان يقال: يُقتَل في هذه الأمة إمام يفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة، ويلبس أمرها عليها ويثبت الفتن فيها. ولكنه انصاع إلى شاب من أهل قريته (مروان بن الحكم) يسوقه حيث شاء بعد جلال السنين وتقضِّي العمر.
هذه هي حال أمتك يا رسول الله. فإني أشكو إليك قومًا افترقوا بعد ألفتهم، وتشتتوا عن أصلهم، فكلٌّ منهم آخذ بغصن أينما مال مال معه، حتى أصبحت الأحوال مضطربة، والأيدي مختلفة، والكثرة متفرقة. أما أنبأتك صفيتك (فاطمة) النازلة بجوارك بتضافر أمتك على هضمها؟ وإني أخاف أن ألحق بكما والحال على ما وصفت، فأستحيي أن أحمل إليك خبر هذه الفتنة التي أخافها أن تفرق كلمة الإسلام. فادع لنا ربك أن يجمع كلمتنا ويلم شعثنا ويأخذ بناصرنا فنعلم مكان الخلافة منا. والسلام عليك حتى نلتقي.
وسمعت أسماء وصاحبها عليًّا وهو يقرأ الفاتحة فعلما أنه يتأهب للنهوض، فأسرعا في التقهقر حتى خرجا من الحجرة إلى المسجد وخرجا منه إلى البطحاء وقد خف الازدحام لتفرق الناس إلى منازلهم، فوقفا ينتظران عليًّا فقال الرجل: «أظنه لا يخرج من هذا الباب، فلنقف له بالباب الآخر.» فناديا الغلام قائد الفرس فتبعهما ومشيا وقد نفد صبر أسماء وأنهكها الملل، ولم يمشيا قليلًا حتى لقيا عليًّا خارجًا من باب الجامع ومنديله لا يزال في يده يمسح به عينيه، ثم جعل يصلح عمامته ويسرح لحيته بأنامله ويمشي الهوينى كأنه عائد من سفر طويل.
فتقدم الرجل إليه وحياه فقال علي: «مرحبًا بابن أبي بكر، أهلًا بك يا محمد. ما الذي جاء بك؟» فعلمت أسماء أنه محمد بن أبي بكر وكانت تسمع به. قال: «لقد جئتك بقادم غريب قد أنهكه البحث.» قال: «لماذا لم تنزله في دار الأضياف؟ أين هو؟»
فتقدمت أسماء وألقت التحية وهي لا تزال ملثمة وقد التفَّت بالعباءة، فنظر عليٌّ إليها فعلم أنها متنكرة لأمر ذي بال فقال لها: «ما غرضك يا أخا العرب؟»
قالت: «لقد جئت أدعوك لغوث امرأة مريضة في خطر شديد، تلتمس أن تراك لتبث لك سرًّا ضنت به علينا جميعًا.»
فقال: «ومن تكون هذه المرأة؟» قالت: «هي أمي، وأما زوجها فهو من بني أمية. وقد جئنا بها من دمشق فتحملت مشاق السفر والمرض على أمل أن تبلغ المدينة فتطلعك على ذلك السر، فاشتد عليها المرض حتى لم تعد تستطيع الوصول.»
قال: «أين هي الآن؟»
قالت: «هي في قباء على مقربة من هذا المكان.»
قال: «هيا بنا إليها. هل ترافقنا يا محمد؟»
قال: «إني في خدمتك حيثما سرت، وإذا رأيت أن أقوم بهذا الأمر دونك لما أنت فيه من المشاغل الكثيرة فعلتُ فتبقى أنت هنا.»
قال: «لا بأس من ذلك، ولكنني أخشى أن يكون مجيئي إليها واجبًا وهي امرأة في مرض شديد تجب علينا إغاثتها.» قال ذلك ومشى نحو البيت يلتمس فرسه، ومشى الاثنان في أثره ومحمد ينظر إلى أسماء خلسة لعله يستطلع شيئًا من أمرها، وهي تطلب إلى الله أن يعجِّل عليٌّ في الخطى، ولكنه لم يمشِ قليلًا حتى لقيه رجل مهرول وعليه أمارات البغتة، فقال له: «ما وراءك يا غلام؟»
قال: «لقد عاد المصريون إلينا بعد خروجهم.»
فقال: «وكيف عادوا وقد عهدناهم راضين بما وعدهم به الخليفة من الإصلاح؟»
قال: «لا أدري إلا أنهم عادوا إلينا غضابًا، وهم ينتظرونك في فناء دارك.»
فقال علي: «لا حول ولا قوة إلا بالله!» وسار وهو يهز رأسه وينظر إلى محمد، وكان هذا في مثل حاله من العجب لما سمعه. فقال علي: «ما بال هؤلاء القوم لا يريحون لنا بالًا؟! إني أرى مشكلتهم هذه لا تنحل إلا بفتنة تئول إلى الفشل، فوالله إنهم ليرومون أمرًا عظيمًا أخشى منه اختلال الحال»، فقال محمد: «لا يخلو رجوعهم من أمر ذي بال.»
وأسرعا حتى أتيا بيت علي فرأيا الناس عند بابه زرافات ووحدانًا بين فارس وراجل وقد علت ضوضاؤهم. فلما أشرف علي عليهم ترجل الراكبون وهرول الواقفون نحوه، وفي مقدمتهم رجل لا يزال بثياب السفر فحيَّا عليًّا فرد التحية وقال له: «ما الذي عاد بكم إلينا وكنا قد فضضنا بينكم وبين عثمان ووعدكم خيرًا؟»
قال: «إنه لم يعدنا إلا خداعًا.» قال ذلك ومد يده فأخرج أنبوبة من الرصاص فتناولها علي ومشى إلى مصباح مضيء عند باب الدار، ونظر فرأى فيها صحيفة من جلد أخرجها وقرأ، فإذا كتاب من عثمان إلى عامله بمصر يأمره فيها بجلد زعماء المصريين الذين قدموا المدينة لمطالبته، وحبسهم وحلق لحاهم وصلب بعضهم، فبُغِت علي لذلك وتأمل الصحيفة فإذا في ذيلها خاتم عثمان وكان يختم كتبه بهذه العبارة: «لتصبرن أو لتندمن.» فتحقق أنه خاتمه فقال: «وما الذي أظفركم بهذا الكتاب؟»
قال: «برحنا المدينة أمس على ما وعدنا هذا الرجل من الإصلاح وصدَعنا بأمرك، فلم نكد نخرج حتى لقينا غلام عثمان على بعير من إبل الصدقة، ففتشنا متاعه فوجدنا فيه هذه الأنبوبة وفيها هذه الصحيفة.»
فقال علي: «إنا لله وإنا إليه راجعون! ما بالنا لا نكاد نرتق فتقًا حتى نرى غيره؟! ما الذي غيَّر عثمان وحمله على هذا العمل؟!»
فقال محمد بن أبي بكر: «إنها فعال مروان بن الحكم ابن عمه، فقد كان غائبًا في الشام ولم يأتِ المدينة إلا في غروب هذا اليوم، ونظنه هو الذي أغرى عثمان بذلك.»
فتأفف علي وقال: «تبًّا لهذا الشاب! إنه لا يدل إلا على الشر.»
فلما سمعت أسماء ذكر مروان عرفت أنه هو طالبها ورفيق سفرتها، فازدادت كرهًا له وقالت في نفسها: «قبحه الله! إنه لا يزال عثرة في طريقنا»، وأيقنت أن ذلك سيكون سببًا في عدول علي عن المسير معها فخاطبت محمدًا في الأمر، فقال: «لا تخف يا صاح، إننا منجدوك.» وخاطب عليًّا في ذلك فقال له: «إني أخاف إذا برحت المدينة في هذا الليل أن يقع ما نندم عليه. سر يا محمد مع هذا النزيل وافعل ما تراه وقم عني في كل خير يرجونه، ثم عد إليَّ بالخبر.»
فلم تعد تتجرأ أسماء على الإلحاح فقنعت بما وقع مخافة أن يقع ما هو شر منه، فالتفتت إلى فرسها فإذا بالغلام يقوده وراءها فتهيأت للركوب، وبعث محمد فاستقدم فرسه. وركب الاثنان ومحمد ينظر إليها وهي تركب لعله يرى بعض ثيابها تحت العباءة في أثناء الركوب، فلمح من ثوبها شيئًا أحمر اللون يشبه ثياب النساء، ولكنه ما زال مستبعدًا مثل هذه الجرأة من امرأة.
وسار الاثنان يلتمسان قباء لا يكلم أحدهما الآخر، ولكن محمدًا كان شديد الميل إلى معرفة حقيقة رفيقه بعدما اشتبه فيه من أمره، فخرجا من المدينة والظلام حالك. وبعد هنيهة أشرفا على قباء، فلما أطلت أسماء على خيمة أمها عرفتها من النار المضيئة خارجها، فخفق قلبها مخافة أن يكون قد وقع في أثناء غيابها ما يوجب حزنًا، فهمزت الجواد فطار بها حتى سبق جواد محمد بثباتها على متنه. ولم يدركا الخيمة حتى خرجت امرأة خادم الجامع لاستقبالهما، فترجلت أسماء عند باب الخيمة وترجل محمد، ثم دخلت وهي تحل عقالها وتنزع العباءة عن كتفيها ودنت من سرير أمها، فإذا هي قد أفاقت وفتحت عينيها ونظرت إلى أسماء بلهفة وعيناها تنظران إلى باب الخيمة كأنها كانت تتوقع دخول أحد، وقالت: «أين علي؟»
فخافت أسماء إذا أخبرتها الحقيقة أن تحدث لها حدثًا فيزيد مرضها، فقالت لها: «إنه آتٍ يا أماه.» واغرورقت عيناها بالدموع.
وذهب محمد في أثر أسماء يتفرس فيها على نور المصباح فلما نزعت عقالها رأى شعرها من الوراء طويلًا مسترسلًا، ثم نزعت العباءة فبان رداؤها الأرجواني اللامع وهو عبارة عن قفطان من الديباج عليه منطقة من جلد عريضة تعودت لبسها في السفر فتحقق أنها فتاة، فشعر بإعجاب غريب. ولم يبقَ بعد ذلك إلا أن ينظر إلى وجهها، فأسرع في أثرها حتى دنا من السرير فاعترضه منظر والدتها، وحالما وقع نظره عليها هاله نحولها وفرط سقمها وامتقاع لونها وشخوص عينيها، ولكنه التفت إلى أسماء فإذا فيها فضلًا عن الجمال هيبة وجلال كأنما هي ملكة وجبار معًا، فلم يتمالك عن الإعجاب بها والانعطاف إليها وأحس بإحساس غريب نحوها.
•••
أما هي فقد كانت في شاغل عن حاله بما هي فيه من القلق على أمها، وكانت قد اطمأنت قليلًا لما رأتها منتبهة وقد ندمت على عودتها بغير علي، ولكنها أيقنت أن مجيئه لم يكن ممكنًا والناس في انتظاره عند منزله على تلك الصورة. ثم حولت وجهها نحو محمد وعيناها شاخصتان إليه لا تتحركان إلا تكلفًا فلم تتفرس فيه إلا قليلًا حتى تساقطت دموعها على خديها. فلما رآها محمد تبكي انفطر قلبه، فخاطب المريضة قائلًا: «كيف أنت يا خالة؟»
فقالت: «ابن أبي بكر؟»
فلما سمع قولها اقشعر جسمه، وابتدرها قائلًا: «أجل إني هو، ماذا تأمرين؟»
قالت: «أين هو علي؟» قال: «قد بعثني لأنوب عنه لأنه في شاغل مهم، فَأْمُري بما تريدين.»
قالت: «لا أريد أحدًا غير علي، أدركوني به. لا أريد أحدًا سواه.» قالت ذلك وظهر الكدر في وجهها.
فعجبت أسماء لما سمعت أمها تقول «ابن أبي بكر»، وشعرت عندما سمعت اسمه من فمها بارتياح إليه، ولكنها تململت لإصرارها على استقدام علي فقالت لها: «ألا تزالين تطلبين عليًّا؟»
قالت: «نعم لا أزال أطلبه، أدركوني به فإن في نفسي سرًّا لا أبوح به إلا له، أدركوني به قبل انقضاء أجلي.»
فنظرت أسماء إلى محمد نظرة استحثاث أثرت فيه تأثيرًا غريبًا، وشعر كأن نظرها اخترق صدره حتى وقعت سهامه في قلبه فنهض للحال وقال لأسماء: «إذا لم يكن بدٌّ من استقدام علي فإني ذاهب لاستقدامه.» وخرج فامتطى جواده وهمزه نحو المدينة وعزم على ألا يعود إلا بعلي.
وخرجت أسماء تنظره فسمعت وقع أقدام جواده يخترق السهل، وتذكرت يزيد فبحثت عنه فإذا هو نائم في خيمة أخرى لا يبالي شيئًا فلم تكترث له.
وعادت إلى سرير والدتها وقلبها يخفق خوفًا عليها، فإذا هي قد غيرت وضعها فتحولت إلى جنبها الآخر وأطبقت أجفانها بعض الإطباق أو هي أرختها، وعيناها مفتوحتان على كيفية لم تعهدها فيها من قبل، ورأت حدقتيها قد جمدتا وشخصتا فخافت من منظرها ونادت العجوز وكانت قد خرجت لحاجة فقالت لها: «ما بال أمي قد غيرت وضعها؟ وما لي أرى عينيها شاخصتين جامدتين؟!»
فبُغِتت العجوز وقد أيقنت أن المريضة في حالة النزع وبخاصة حين رأت كتفها يختلج وتنفسها يسرع، فامتُقِع لون العجوز وظهر الخوف عليها، فأدركت أسماء خوفها فصاحت بها: «ما بالك خائفة، لعل أمي في خطر؟!»
فقالت: «عسى ألا يكون خطرٌ يا ابنتي، والاتكال على الله.» وخرجت مسرعة.
فاضطربت الفتاة وأمسكت بيد والدتها فجستها فإذا هي باردة جافة، ونظرت إلى عينيها وقد غارتا في تجويفهما وذهب لمعانهما، فارتعدت فرائصها وخافت خوفًا شديدًا وأسرعت إلى باب الخيمة لتستقدم العجوز.
وفيما هي تتحول شهقت أمها شهقة عنيفة، فأجفلت وعادت إلى السرير وهي تحسبها تتكلم فانحنت عليها وقبلتها في جبينها فإذا هو بارد جاف، فاقشعر جسمها وازداد خفقان قلبها واصطكت ركبتاها، ولم تكن رأت ميتًا قبل ذلك الحين، فنادت العجوز فأتت، فجعلت أسماء تنظر إليها وتتبين عواطفها فرأتها في وجل فازداد خوفها. فأعادت النظر إلى وجه والدتها فإذا هي فاتحة فاها وقد برز فكَّاها واتسع شدقها وسكن اختلاج صدرها وبرز أنفها واستطال واصفر لونها، فنظرت أسماء إلى العجوز فرأتها قد خرجت من الخيمة فتبعتها فإذا هي تنادي يزيد وصوتها مختنق، فتحققت وقوع القدر.
فعادت إلى السرير وصاحت: «أماه! أماه!» ولا من مجيب، فدقت يدًا بيدٍ ولطمت فإذا بالعجوز عائدة وهي تلطم وتقول: «حلي شعرك يا ابنتي إن أمك ماتت! وا حسرتاه!»
فحلت أسماء شعرها وأخذت تصيح وتلطم وجاءتها العجوز برماد لطخت به رأسها، وكان يزيد قد أفاق فجاء وأخذوا في العويل والنوح، فتجمع أهل القرية على صياحهم وعلا البكاء. ولم يفعل أحد منهم فعل أسماء فإنها كادت تقتل نفسها لفرط البكاء والندب واللطم، وعبثًا كانوا يخففون عنها فكم ألقت نفسها فوق والدتها وتوسدت جثتها وأخذت في تقبيلها وهي تقول: «لمن تركتني يا أماه؟! ولمن أشكو همي بعدك؟! ومن يخبر عليًّا عن السر؟! ومن يحمينا من غدر الخائنين؟! آه من الزمان! لعل أجلك قد ساقنا إلى هذه الصحراء لتُدفَني فيها، ما النفع من بقائي بعدك وقد أصبحت وحيدة يتيمة لا سند لي ولا معين؟!»
وأما يزيد فكان يتظاهر بالبكاء ولا تُذْرَف له دمعة.
وفيما هم في ذلك سمعتهم أسماء يقولون: «جاء علي»، فصاحت صيحة ارتج لها المكان وقالت: «لقد أبطأت يا أبا الحسن، إن أمي ماتت ومات سرها معها!» ثم نظرت إلى أمها وكانوا قد غطوها بالملاءة وقالت لها: «قومي يا أماه احسري نقابك فقد جاء علي، قومي إليه وأطلعيه على سرك، وقومي وأشفقي على ابنتك!»
أما علي فترجَّل وقد شغله أمر الفتاة عن الالتفات إلى الميتة، وكانت أسماء قد توردت وجنتاها وذبلت عيناها وتكسرت أهدابهما لمَا انسكب منهما من الدموع. ومما زادها هيبة ووقارًا استرسال شعرها الأسود على ظهرها وصدرها وحول كتفيها وقد غطى معظم وجهها، ناهيك بانكسارها وذلها من الحزن واليأس فإنهما يزيدان الجمال جاذبية. وكان أكثر الناس تأثرًا من منظرها محمد بن أبي بكر، فإنه لم يتمالك نفسه عن البكاء لما لقيه من الفشل في مهمته، وقد أنهك جواده سوقًا واستحث عليًّا على القدوم رغم ما كان فيه من المشاغل ووعده بالاطلاع على سر عظيم، وظن نفسه قد عاد ظافرًا فرأى الفشل ينتظره.
وحالما وقع نظر علي على أسماء شعر بانعطاف نحوها وتوسم في طلعتها ملامح ارتاح إلى التفرس فيها، فحمل ذلك الانعطاف على محمل الشفقة لما رآه من تعاسة تلك الفتاة، وندم ندمًا شديدًا لتقاعده عن المجيء معها وأحس بأن عليه مواساتها جهد طاقته، فوقف وقفة معتبر لمصير الإنسان ثم أجال بصره في الناس وهم سكوت يسمعون وقال: «ما أصف من دار أولها عناء وآخرها فناء، في حلالها حساب وفي حرامها عقاب، من استغنى فيها فُتِن، ومن افتقر فيها حزن، ومن ساعاها فاتته، ومن قعد عنها واتته، ومن بصر بها بصرته، ومن أبصر إليها أعمته. انظروا إلى هذا الميت فقد قُبِض بصره كما قُبِض سمعه وخرجت الروح من جسده فصار جيفة بين أهله لا يسعد باكيًا ولا يجيب داعيًا. اعلموا عباد الله أنكم وما أنتم فيه من هذه الدنيا على سبيل من قضى قبلكم ممن كانوا أطول أعمارًا وأبعد آثارًا، فأصبحت أصواتهم هامدة ورياحهم راكدة وديارهم خالية وآثارهم فانية، وأقاموا بمنازل شِيدَت بالتراب، أهلها لا يستأنسون بالأوطان، ولا يتواصلون تواصل الجيران على ما بينهم من قرب الجوار، وكيف يكون بينهم تزاور وقد طحنهم بكلكله البلى وأكلتهم الجنادل والثرى؟!»
وكان علي يتكلم والدموع تتساقط من عينيه هادئة تنحدر على لحيته، فأُعجِب محمد لما آنسه من ذلك البطل من الحنان، وأشد الحزن ما يبكي الرجال.
أخذ علي يخفف عن أسماء وكانت جالسة الأُرْبُعاء فاقترب منها وأمسك بيدها وقال لها: «اصبري يا بنيتي، إن الحزن والبكاء لا يجديان، إن أمك قد سبقتنا إلى دار اللقاء الأخير. وأما ما تذكرينه من اليتم فلا تخافيه لأن الله كفيل باليتامى، واتخذيني لك أبًا وألقي همك بعد الله عليَّ، واصبري إن الله مع الصابرين.»
فنهضت أسماء وقد سقط منديلها من يدها، فمسحت دموعها بكمها المسترسل من معصمها فعلقت أزراره بشعرها فانحسر بعضه عن وجهها فأطرقت خجلًا، وأجابت عليًّا وصوتها مختنق وقالت: «شكرًا لك يا رجل المسلمين ووصي خاتم النبيين على مواساتك، وسمعًا وطاعة في مرضاتك. وإن أمي هذه (قالت ذلك وأشارت إليها وقد خنقتها العبرات) فاضت روحها وهي تذكر عليًّا وتناديه وفي صدرها سرٌّ أبت أن تبوح به إلا له، فها قد ذهب سرها معها ويا ليتها باحت به، أو ليتني ألححت عليك بالقدوم! ولكن ما الحيلة وقد قُضِي الأمر؟!» قالت ذلك وعادت إلى البكاء متهيبة مجلس علي.
أما محمد بن أبي بكر فلا تسل عما خالج قلبه، وما أحس به من الميل الشديد إلى أسماء، حتى شعر بأن المصيبة واقعة عليه، ولم يدر كيف يعزيها أو يخفف عنها، وتمنى لو بقي معها لمواساتها إلى ساعة الدفن. وإذا بعلي يناديه فلباه، وقال له علي بعد أن انتحى به ناحية: «لا أرى ثَمَّ ما يدعو إلى بقائي هنا وقد ماتت حاملة السر»، فقال: «أجل يا عماه، إنك مشغول بأمر الخليفة. وقد أسفت على مجيئك بلا فائدة»، فقال علي: «إني إذن ذاهب. وأوصيك بأهل هذه الميتة خيرًا، وانظر فيما يحتاجون إليه، فإذا تم الغسل والدفن فأوصل الفتاة وأباها ومن معها إلى مقرهم، وإذا رأيتهم في حاجة إلى الإنفاق فادفع إليهم ما يحتاجون إليه. على أني لا أرى أبا الفتاة حزينًا إلا بالانقياد!»
فقال محمد: «سر في حراسة الله! إني فاعل كل ما تأمرني به، ولكنني آسف لضياع السر فإنه لا يخلو من أمر»، فقال علي: «إني أفكر في ذلك ولا أرى بابًا لحله.»
ثم التفت إلى يزيد وناداه، فجاء ووقف بين يديه وهو لا يستطيع النظر إليه إلا خلسة، فلما رأى عليٌّ مسارقته النظر ورفرفة أجفانه وتردد بصره كأنه يرى ما يبهره تحقق أن الرجل مُراءٍ يضمر غير ما يظهر، لأن من سلمت سريرته وأخلص نيته كان بصره ثابتًا صافيًا مثل قلبه، وأما المرائي المخاتل فلا يستطيع تثبيت نظره في مخاطبه كأنه يفكر في حيلة يخترعها. ونظر عليٌّ إلى يزيد فعرف أنه أموي فقال له: «اصبر يا أخا أمية، إنك بُلِيت بما يُبلَى به كل ابن أنثى ولا حيلة إلا الصبر.»
فتظاهر يزيد بالبكاء، فقال علي: «لقد أوصيت بكم محمدًا ليتولى قضاء حوائجكم ويواسيكم، وإذا نزلتم المدينة نزلتم في حمانا.»
فشكر يزيد وأثنى وهمَّ بتقبيل يده. ثم تقدم علي إلى أسماء وهي تبكي فعزاها وقال لها: «إن محمدًا باقٍ لمواساتكم»، فأجهشت ولسان حالها يشكره. فخرج علي وهو يقول لمحمد: «إني لأعجب مما بين هذه الفتاة وأبيها من البون الشاسع فكأنها ليست ابنته!» ثم امتطى جواده وودع وسار قاصدًا المدينة.
أما محمد فأمر خادم الجامع بإحضار من تقوم بالغسل والدفن، ثم افتقد يزيد فلم يجده بين الناس فعجب لغيابه، وظنه بادئ ذي بدء قد ذهب لحاجة له، فلما طال غيابه ارتاب في أمره حتى إذا انفلق الصبح رآه بين الناس، فلم يسأله عن سبب غيابه لئلا يكون في السؤال تطفل. ثم غسلوا الميتة وصلوا عليها ودفنوها، وأسماء لا تنفك عن البكاء والنحيب.
•••
فلما عادوا من الدفن اقترب محمد بن أبي بكر من يزيد وسأله عما يحتاج إليه، فبالغ هذا في الثناء والشكر، فسأله محمد: «أتريدون الذهاب إلى المدينة فتنزلوا علينا، فإن عليًّا أوصانا بكم خيرًا؟»
قال: «لقد تفضلتم علينا بما لا طاقة لنا على شكره، ولا نشك في كرم مولانا أبي الحسن وحُسْن وفادته، ولكن لنا أهلًا في المدينة لا بد من النزول عليهم، نخشى إذا نزلنا على غيرهم أن يعدوا ذلك منا امتهانًا لهم، ولكننا في حمى أبي الحسن أنى ذهبنا.»
فعجب محمد لما آنسه من تلطفه، وكاد يحسن ظنه به فسأله: «وأين يقيم أهلكم يا عم؟»
قال: «يقيمون بقرب الزوراء سوق المدينة.»
وكانت أسماء أثناء الحديث جالسة تسمع ما يقولان وهي مطرقة حزنًا وانكسارًا وقد غطت رأسها بخمار أسود زادها هيبة وجمالًا، فلما ذكر أبوها محل إقامته قال محمد وهو ينظر إلى أسماء: «إذن عسى ألا تنسونا، ومهما يعنُّ لكم من الأمور فإني رهن إشارتكم لأن عليًّا حفظه الله أوصاني بكم خيرًا.» وتطلع إلى أسماء فرأى الدمع يقطر من بين أهدابها وينحدر وهي مطرقة، فازداد عطفًا عليها وحنوًّا.
قال يزيد: «إننا أبدًا عبيد إحسانكم، فإذا أصابنا شر لجأنا إليكم ذاكرين حسن صنيعكم العمر كله.»
فقال محمد: «ألا تحتاجون إلى دواب تحمل أمتعتكم؟»
قال: «إن دوابنا ما زالت عندنا، وقد بعث إلينا أقرباؤنا خدمًا يساعدوننا في الحمل والنقل.»
ثم نهض محمد فنهض يزيد وأسماء لتوديعه، وتذكرت أسماء أن أمها عرفته وذكرت اسمه على فراش الموت، فنظرت إليه والدمع يتلألأ في عينيها وقد ذبلتا وتكسرت أهدابهما وتنهدت ولم تجب، فحياها وتحول إلى جواده فركب وعاد إلى المدينة وقد علق ذهنه بأسماء واشتغل قلبه بها.
أما ما ظهر في حديث يزيد من الرقة فقد اصطنعه تنفيذًا لتعاليم مروان، وكان قد ذهب إلى المدينة خلسة ليستشير مروان فيما يصنعه إذا طُلِب إليه النزول في جوار علي، وأبدى خشيته من أن يكون هذا عقبة في سبيل زواجه من أسماء بعد أن تُوفِّيت أمها التي كانت عونًا لها على رفض هذا الزواج. وقد لقي مروان في منزل الخليفة عثمان فأنبأه بوفاة مريم، واستشاره فأوصاه أن يحتال في التخلص من محمد، وعلَّمه كيف يشكر ويعتذر بالنزول عند أقاربه.
وكانت أسماء خالية الذهن من كل ذلك لسلامة نيتها واشتغالها عن الدنيا بأحزانها، ولكنها شعرت بارتياح إلى علي ومحمد وبأنهما سند عظيم لها إذا آنست من مروان أو يزيد ما لا يرضيها.
ولم يكد محمد يتوارى عن قباء حتى أمر يزيد عبيدًا كان مروان قد أرسلهم لخدمته فقوضوا الخيام وحملوا الأمتعة، وسار الركب إلى المدينة بعد أن ودعت أسماء قبر أمها وأكرمت خادم الجامع وامرأته فوق ما أكرمهما به محمد فودعاها وهما يبكيان.
فلما أشرفوا على المسجد تذكرت أسماء لقاءها عليًّا هناك، وما كان من اضطرابها وقلقها في الليل الغابر، وتاهت في بحار التأمل، ولم يهمها شيء من ضوضاء أهل المدينة وتجمهرهم في أسواقها. وقبل وصولهم إلى المسجد مروا بأحجار الزيت، وهي موضع صلاة الاستسقاء بقرب الزوراء، فرأوا الناس هناك جماعات متكاتفين وهم أخلاط من أهل مصر والكوفة والبصرة، وفيهم الأمراء والفرسان والعبيد والخدم على اختلاف أزيائهم، وكل حزب في شاغل وحديث وجدال. وبلغوا دارًا وراء الجامع فناؤها واسع يحيط به سور منيع، ولها باب ضخم في وسطه باب صغير، وكان الباب مغلقًا والحراس واقفون به، فعلمت أنها دار عثمان. ولم يتجاوزوها حتى وصلوا إلى باب وقفوا عنده، فترجل يزيد هناك فعلمت أنه المنزل المقصود، فترجلت وقد أنهكها التعب والنعاس لما قاسته من المجاهدة والبكاء والحزن. ولكنها لم تكد تدخل المنزل حتى لقيها مروان، فلما رأته استعاذت بالله وندمت على مجيئها، على أنها لم ترَ بدًّا من النزول مع يزيد. فلما رآها مروان وقد تسربلت بالثوب الأسود وبدا تحته وجهها وقد زاده انكسار الحزن جمالًا وإشراقًا، ازداد تعلقه بها فتقدم نحوها مسلِّمًا ومعزيًا، فردت عليه ردًّا فاترًا، أما هو فبالغ في إكرامها وسار في خدمتها إلى داخل الدار، وكان بعض نساء المنزل قد جئن لاستقبالها فدخلن بها حجرة ويزيد معها، وهي لا تنطق بكلمة وإذا كلمها أحد لم يكن جوابها إلا البكاء. ولما خلت إلى يزيد سألته عن أهل ذلك المنزل فقال: «هؤلاء آل حزم.»
ورأى مروان من الحكمة أن يتركها لتستريح فخرج يتدبر وسيلة لاسترضائها بالحسنى، فخطر له أن يوسط بينه وبينها نائلة بنت الفرافصة زوجة الخليفة، وكانت نائلة ذات مقام رفيع لزواجها بالخليفة، على أنها لم تكن من قريش بل قحطانية من بني كلب، وكان والدها من الفرافصة نصرانيًّا يقيم بالكوفة. وكانت عاقلة حسنة الخلق، ولم تكن ترتاح إلى مروان لنزقه وطيشه، وكثيرًا ما كانت تخالفه فيما يشير به على عثمان زوجها حتى انتهرته مرارًا ونصحت لزوجها بألا يصغي إليه، ولكنها لم تكن تبالغ في جفائه احترامًا لقرابته منه.
فسار مروان إليها وكان في اضطراب عظيم لما أحاط بزوجها من الأخطار، فلما رأته قالت: «ما وراءك يا مروان؟» قال: «ما ورائي إلا الخير يا خالة، إني أراك في وجل من أمر هؤلاء الناس الذين يحاولون نزع الخلافة من أيدينا، ورأس ذي النورين عثمان إنهم لن ينالوا ذلك! فقد كتبنا إلى معاوية في الشام، وإلى عامر ورؤساء الأجناد من بني أمية نستقدمهم إلى نجدتنا، فإذا جاءوا لم يستطع المصريون أو الكوفيون أو البصريون مناوأتهم، فيتفرقوا أيدي سبا.»
فتنهدت نائلة وقالت: «لا أظنهم يصلون إلينا يا مروان إلا بعد أن تنفد الحيلة، والتبعة كلها عليك فإنك وسعت الخرق بطيشك.»
فضحك مروان وقال: «سوف ترين بعينك يا خالة مساعي مروان، وسوف تعلمين مدى فشل هؤلاء الأعداء المغرورين. فلا تجزعي ولا تخافي، إننا نحن الفائزون بإذن الله.»
قالت: «دعنا من الهزل يا مروان، إن الأمر جلل.»
قال: «بل هو أهون مما تظنين، وما أنا حاسب له حسابًا، ومما يدلل على ذلك أني بسبيل البناء بعروس جميلة جئت بها إلى هذا المكان.»
قالت: «وأية عروس؟» قال «أسماء بنت يزيد الأموية، إنها على جانب عظيم من الجمال وقد كانت في دمشق، وكانت أمها راغبة عن تزويجها وقد ماتت في قباء. وجئت بالعروس وأبيها اليوم وأنزلتهما في دار بني حزم، وهي الآن نائمة تستريح من وعثاء السفر، فأرجو منك إذا جاءتك غدًا أن تقنعيها بأني كفء لها.»
فقالت: «أين نحن من الزواج يا غلام؟»
قال: «لا تقولي يا غلام وأنا شاب بطل كما تعلمين! وأستحلفك برأس أمير المؤمنين أن تسترضيها، وهي لا شك ستقتنع بكلامك، فإذا فعلت ذلك فديتك وفديت عمي الخليفة بروحي.»
فسكتت نائلة وهي تعجب لنزق مروان، ولكن استخفافه بمناهضي الخليفة طمأنها وبرَّد قلبها. وما زال مروان بها حتى وعدته باسترضاء أسماء.
فتركها وخرج إلى يزيد فأخبره بما عزم عليه، ففرح وقال: «حسنًا فعلت، وأرى أن آتي بها أنا إلى نائلة فيكون ذلك أقرب إلى نجاحنا.»
فقال مروان: «وهب أنها لم تقنع باسترضاء نائلة لها، فإني أحمل الخليفة على تزويجي بها قسرًا، وما أنا براجع عن عزمي فإنها فتاة تعرف ما ينفعها وما ينفع أباها.» وقد أراد مروان بذلك أن يؤكد آمال يزيد بمنصب يناله بواسطة تلك المصاهرة.
فأبرقت أسرة يزيد وقال: «طب نفسًا يا بني، فإني لن أجعلها إلا ما أريد.»
فودعه مروان وخرج، وباتت أسماء تلك الليلة لا تدري بما بيتاه لها.