حكم الحَكَمَيْن
ولما جاء الأجل المعين لتلاوة حكم الحكمين بعث عليٌّ أبا موسى الأشعري في أربعمائة رجل ومعهم عبد الله بن عباس، وبعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة من أهل الشام، والتقوا بأذرُح. وكان عمرو بن العاص قد استعان بكل دهائه في إقناع أبي موسى بأن يوافقه على خلع علي وتولية معاوية لأنه المطالب بدم عثمان، فلما لم يفلح ذكر له تولية أحد أبناء الصحابة كعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير. وبعد جدال عنيف اتفقا على خلع عليٍّ ومعاوية، وأن يختار المسلمون واحدًا غيرهما بالشورى. وكان من دهاء عمرو أنه ما زال يدافع أبا موسى في الكلام، حتى طلب هذا خلع الاثنين فأصبح هو البادئ في الكلام عند إصدار الحكم.
فلما جاء اليوم المعين واجتمع الناس من الأقطار، وصلت أسماء أيضًا في ذلك اليوم. فوقفت بين الناس بحيث لا يعرفها أحد، فرأت أبا موسى وابن العاص في مجلس علي، وبقية الناس في جانب آخر كأن على رءوسهم الطير ينتظرون ما يكون من الحكم.
فوقف أولًا أبو موسى فأصغى الناس لمقاله، فقال بصوت عالٍ يسمعه الحاضرون: «أيها الناس، إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نرَ أصلح لأمرها ولا ألمَّ لشعثها من أمر قد أجمع رأيي ورأي عمرو عليه، وهو أن نخلع عليًّا ومعاوية ويولي الناس من أمرهم من أحبوا. وإني قد خلعت عليًّا ومعاوية فاستقبلوا أمركم وولوا من رأيتموه أهلًا.»
وكان لقوله وقع عظيم ولبث الناس ينتظرون قول عمرو، فإذا هو قد وقف وقال: «إن هذا قد قال ما سمعتموه وخلع صاحبه (عليًّا)، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه وأثبت معاوية، فإنه ولي عثمان بن عفان والمطالب بدمه وأحق الناس بمقامه.»
فلما سمع أصحاب علي قوله علموا أنها حيلة من عمرو وغفلة من أبي موسى ووبَّخوا أبا موسى وأنَّبوه، فقال: «ما العمل فقد غدر بي؟!»
وأما أسماء فلما سمعت القولين علمت أن معاوية قد اشتد ساعده، وأن رجال علي لا بد أن ينقسموا بين من يقبل الحكم ومن لا يقبله، فلم تستطع صبرًا على البقاء هناك فخرجت من بين الجمع لا تلوي على شيء وقد صغرت نفسها. وما زالت سائرة والخادم معها حتى أتت شجرة منفردة في الصحراء فاستظلت بها وشغلت الخادم بتدبير الجوادين، وخلت إلى نفسها وجعلت تفكر في حالها وما أصابها من الفشل المتوالي من كل صوب وحدب، ولا سيما موت القسيس وضياع اسم أبيها وفشل رجال علي وخروج الخلافة من يده بحكم الحكمين. فغلب عليها اليأس فلم ترَ لها فرجًا إلا بالبكاء والنحيب، فنظرت إلى ما حولها فإذا هي منفردة وليس من يسمع بكاءها، فأطلقت لدموعها العنان حتى كاد يُغْمَى عليها. وما زالت تشهق وتزداد شهيقًا كلما ذكرت عليًّا أو أمها أو محمدًا حتى تعبت وجف دمعها فألقت رأسها على حجر ونامت، ولكنها لم تستغرق في النوم إذ تراءى لها طيف محمد، فأفاقت مذعورة وهي تقول: «أهلًا بحبيبي، لا تعزية لي إلا به. إنه في مصر الآن، هل من يعلمه بما حل بأمر الخلافة، وأن ابن العاص قد كاد فيها كيدًا عظيمًا؟! آه يا محمد! هل من حيلة تخدم بها عليًّا رجل هذه الأمة؟! لا أظن الأمر بعد الآن إلا صائرًا إلى معاوية. أما أنا المسكينة اليتيمة المجهولة النسب والتعسة الحظ، فربما كنت أنا وحدي سبب هذا البلاء، وربما كان سوء طالعي هو الذي جر كل هذه المصائب!» وسكتت هنيهة ثم انتبهت بغتة وهي تقول: «محمد! محمد! أنت تعزيني في أحزاني ومصائبي، هلمَّ بي إليك لأعيش بقربك فأنت الأب والأخ.»
وفيما هي تخاطب نفسها لمحت الخادم عائدًا بالجوادين وهو يسرع نحوها، فقالت: «ما وراءك؟»
قال: «التقيت وأنا أسرج الجوادين بشرذمة من رجال الشام ركبوا مسرعين وفيهم عمرو بن العاص وكلهم فرحون بما نالوه، وسمعت ابن العاص يقول: «لقد استقام لنا الأمر، ولم يبقَ إلا أن أفتح مصر فإذا دانت لي عدتُ إلى ولايتها، ولا يبقى في يد علي إلا العراق والحجاز فنجرد عليهما ونفتحهما.»
فلما سمعت ذكر مصر وفتحها اضطربت وتذكرت محمدًا فيها، فقالت في نفسها: «أذهب إلى مصر الآن وأرى ما يئول إليه أمرها.» ثم التفتت إلى الخادم وقالت: «وما ظنك في مسيرهم إلى مصر؟»
قال: «لا أدري متى يسيرون، فلا بد لهم من الشخوص إلى الشام وتدبير أمورهم ثم يحملون على مصر.»
فلبثت مدة تتردد ولا تدري هل تسير إلى مصر لترى محمدًا أم تسير إلى الكوفة لترى عليًّا وما آل إليه أمر خلافته.
ولم ترَ بدًّا من المسير إلى مصر، فأسرعت إلى جوادها فركبته وقد يئست مما أصابها من الفشل، وسارت تعلل نفسها بلقاء محمد.