مقتل محمد بن أبي بكر
طال انتظار أسماء عودة رسولها، فقلقت وندمت لأنها لم تخرج معه للبحث عن محمد، وأضحت الشمس ولم يرجع فازداد قلقها ولم يعد يطيب لها مقام، فمشت بين تلك الأكواخ إلى الجهة التي تتوقع أن يكون رسولها قادمًا منها حتى بعدت مسافة. وبينما هي تتطلع إلى آخر الطريق إذ رأت شبحًا مسرعًا نحوها عرفت من قيافته أنه رسولها، فاختلج قلبها وحدقت لترى ما يبدو منه، فإذا هو يسرع حتى وصل إليها من شدة التعب وقد احمرَّت عيناه وكلل العرق جبينه.
فصاحت فيه: «ما وراءك؟! قل! ما خبرك؟! هل وجدت محمدًا؟!» قالت ذلك وقلبها يزداد خفقانًا.
فقال وهو يلهث لهثًا شديدًا: «آه يا مولاتي! نعم وجدته، ولكنه، ولكنه في خطر من القتل …»
فصاحت: «وكيف ذلك؟! ومن يقتله؟!»
قال: «إنهم علموا بمكانه في الخربة قبل وصولنا إليها أمس … آه! ضاق صدري من التعب، أمهليني أستنشق الهواء … دلَّهم عليه بعض المارة، فحملوه وهو أعزل إلى الفسطاط …»
فقالت: «وبعد ذلك ماذا جرى؟!»
قال: «لما خرجت في هذا الصباح قصدت إلى الفسطاط رأسًا، لأني أعلم أنه لا يبرح مكانه إذا لم يقبضوا عليه، ودخلت الجامع وتظاهرت بالصلاة فرأيت ابن العاص وعبد الرحمن بن أبي بكر أخا سيدي محمد، وسمعت عبد الرحمن يقول لعمرو: «أتقتل أخي صبرًا؟! ابعث إلى ابن حديج فانهه عنه.» فعلمت أن معاوية بن حديج هو الذي قبض عليه ويريد قتله. فطار صوابي ووددت أن أعرف أين هو ابن حديج لأذهب إليه، فسمعت عمرًا يقول لأحد رجاله: «اذهبوا إلى ابن حديج وقولوا له أن يكف عن قتل محمد ويأتيني به.» فخرجت في أثر ذلك الرسول حتى وصلت إلى مكان بين الخربة والفسطاط، فرأيت فيه جمعًا متكاثفًا بينهم ابن حديج ومعه رجاله وقد أحاطوا بمولاي محمد، وقد رق جسمه من العطش والجوع. وتقدم رسول عمرو إلى ابن حديج وأبلغه أمر عمرو فقال: «قتلتم كنانة بن بشر وأخلي أنا محمدًا؟! هيهات، هيهات!»
ولا تسل عن أسماء عند سماعها هذا النبأ وكيف كان وجهها يتلون، فتطاولت بعنقها وحدقت ببصرها لترى ما تم بعد ذلك وهي تقول: «جزاهم الله شرًّا على هذا القول! لا، لا، لا أظنه يقتله رغم أمر عمرو، ولكنه أساء الأدب.»
فقال الرجل: «ولو اقتصرت إساءته على ذلك لكان خيرًا، ولكنه منع عن سيدي الماء فقد سمعته بأذني يطلب منهم أن يسقوه، فقال له ابن حديج بقحة واستخفاف: «لا سقاني الله إن سقيتك قطرة أبدًا! إنكم منعتم عثمان شرب الماء، والله لأقتلنك حتى يسقيك الله من الحميم الغساق!» …»
فلما سمعت أسماء ذلك قالت: «خسئ النذل!» وأصاخت بسمعها فأتم الرجل كلامه وقال: «فأجابه سيدي محمد: «يا ابن اليهودية النساجة، ليس ذلك إليك إنما ذلك إلى الله يسقي أولياءه ويظمئ أعداءه أنت وأمثالك. أما والله لو كان سيفي بيدي ما بلغتم مني هذا!» …»
فلم تعد أسماء تستطيع صبرًا على سماع تتمة الحديث وقالت: «وماذا جرى؟!»
قال: «سمعت ابن حديج يقول له: «أتدري ما أصنع بك؟ أدخلك جوف حمار ثم أحرقه عليك بالنار» …»
فصاحت أسماء والدمع يتساقط من عينيها وهي تتشدد وتتجلد: «خسئ ابن اليهودية! إنه لا يجسر على ذلك.»
فقال الرجل: «فلما سمعت قول ابن حديج أسرعت إليك بالخبر، لأني رأيت الشر باديًا على وجوه القوم.»
فالتفتت أسماء وراءها فرأت الكوخ بعيدًا ولا سبيل لها إلى الرجوع إليه لتمتطي جوادها، ولم تعد تطيق الصبر عن المبادرة إلى محمد فسألت: «هل يبعد المكان من هنا؟!» قال: «إنه قريب». فقالت: «هلم بنا إليه!» ومشت وهي لا تدري كيف تنقل قدميها لعجلتها ولهفتها، والرجل لا يستطيع اللحاق بها لأنه كان لا يزال تعبًا وليس في قلبه ما في قلبها من نار تتعجل خطواتها. ومضت ساعة وهما سائران دون أن تدرك المكان، فندمت لمجيئها ماشية وقد كانت تظن المسافة أقصر من ذلك.
ثم أشرفا على ساحة فقال الرجل: «كانوا في هذه الساحة، ويلوح لي أنهم ساروا إلى الفسطاط»، فمشت حتى أتت المكان الذي كانوا فيه فرأت آثار دم وكأن شيئًا قد جروه جرًّا، فارتعدت فرائصها وجمد الدم في عروقها وصاحت: «ويلاه! إنهم قتلوه! نعم قتلوه! آه يا محمد يا حبيبي!» فقال لها الرجل: «وكيف عرفت ذلك؟!»
قالت: «أما ترى الدم وآثار جر الجثة؟!» ثم لطمت وانحدر الدمع على خديها، ومشت تتبع آثار الجر وعيناها لا تريان الطريق لما يغشاهما من الدمع، فلم تمشِ قليلًا حتى اشتمت رائحة شواء فمسحت عينيها وتطلعت فرأت دخانًا يتصاعد من خربة، فأيقنت أنهم قتلوه وأحرقوه في جوف الحمار كما قالوا.
فهرولت إلى الخربة لا تلوي على شيء، فرأت هناك جيفة حمار حولها النار موقدة وجوفها مشقوق فتفرست في ذلك الشق فرأت من خلال اللهيب رأس محمد مغمض العينين كأنه في سبات عميق، فصاحت: «محمد! آه يا حبيبي! لقد صح قولهم وفعلوا ما أرادوا، قتلهم الله!» وهمَّت بأن تلقي نفسها في النار فأمسكها الرجل من ثوبها. فلطمت وحلت شعرها وأخذت في الندب والعويل وهي تمسح عينيها كل لحظة وتنظر إلى جثة محمد من خلال اللهيب، فتراه لا يزال نائمًا فتناديه فلا يجيب، فتهم بأن تلقي نفسها فوقه والرجل يمسكها.
فضاقت بها الحيل فجعلت تدور حوله وتندبه وتندب نفسها وتقول: «يا لشقائي! آه يا حبيبي يا محمد! إنك لم تلقَ حتفك إلا من سوء طالعي، فلو لم أحبك لم تمت! ويلاه! ويلاه! ماذا أعد من النحوس المحدقة بي؟! لا ريب أني وُلِدت شؤمًا على نفسي وعلى كل من هم حولي. نعم، عاكسني الدهر ولكنه لم يصب مني مقتلًا لأن آمالي كانت عالقة بحبيبي محمد، وقد صبرت في مصائبي أملًا في لقائه، ورضيت من الدنيا أن أكون بقربه. ولكن آه! آه! لولا هذه الآمال لم تُقتَل يا محمد! لقد قُتِلت ليتم شقائي، فأنا سبب القتل! ولكن كيف تموت هكذا؟! كيف يختلط جسدك بالتراب؟! بل كيف تموت هذه الميتة وأبقى أنا حية؟! كلا ثم كلا!»
قالت ذلك وألقت نفسها في اللهيب كأنها تعانق محمدًا ووجهها فوق وجهه، فأسرع الرجل إلى انتشالها فإذا هي تختلج اختلاج الموت.
فبكى الخادم بكاءً مرًّا وصبر حتى خمدت النار، فجمع رفات الحبيبَيْن ووضعه في قبر واحد وقال: «إنا لله وإنا إليه راجعون!»