أسماء ومحمد ومروان
أغلقت أسماء الباب وجلست على السرير تفكر فيما مر بها من غرائب الأحداث، فتصورت أمها وحنوَّها وتذكرت كيف كانت تشكو إليها همها في مثل تلك الحال، فغلب الحزن عليها وبكت. وفيما هي في ذلك إذ سمعت وقع أقدام أمام بابها فأجفلت وافتقدت الخنجر وتحفزت للوقوف وقد نسيت حزنها، ولبثت هنيهة فلم تسمع صوتًا. ثم سمعت نقرًا على الباب فوثبت إليه وفتحته وقد تهيأت للقاء مروان فإذا بالباب محمد بن أبي بكر، فأجفلت وغلب عليها الحياء واختلط حياؤها بإجفالها فزاد وجهها مهابة وجلالًا.
أما محمد فلما رآها في تلك الحال ابتدرها قائلًا: «ما بالك يا أسماء؟! ما الذي أخافك؟!» فغالطته وحيته ولم تجبه، فرد التحية ومد يده فسلم عليها وشعر عند لمس يدها ببرد أناملها وارتعاشها، فقال: «ما بالك ترتعشين وأنت وحدك؟!» قال ذلك وهو ينظر إلى جوانب الغرفة لعله يرى أحدًا هناك فازداد تعجبًا.
أما هي فتجلدت وقالت: «لا شيء يخيفني يا محمد وأنا في حمى أبي الحسن.»
قال: «لقد صدقت، ولكنني أراك في اضطراب وهياج كأنك كنت تخاصمين أحدًا، أم أنت ترتعدين لقدومي على غرة؟ وأنا إنما فعلت ذلك طوعًا لعليٍّ، فإنه أرسلني لأفتقدك وأنظر في حوائجك.»
قالت: «بُورِك فيه وفيك! وأشكر لكما عنايتكما بي فإني بحمد الله في خير وعافية أدعو لسيدي أبي الحسن بطول البقاء.» قالت ذلك وجلست على السرير.
أما هو فودَّ لو يمكث عندها، ولكنه خاف أن تستهجن ذلك منه لخلو المكان من الناس، فقال: «وأين أبوك؟»
فتنهدت وقالت: «لا أدري أين هو الآن.»
فقال: «ما بالك تتنهدين يا أسماء؟! إني أراك تكتمين أمرًا.»
قالت: «لا أكتم شيئًا، ولكنني …» وسكتت.
قال: «ولكنك ماذا؟ قولي.»
قالت: «لا أدري ماذا أقول وأنا كلما نظرت إليك ذكرت أمي التي ذكرت اسمك وهي على فراش الموت!» وترقرقت الدموع في عينيها.
فلما رأى محمد دموعها انفطر قلبه شفقة وأمسك بيدها وجوارحه تختلج وقال: «رحم الله تلك الأم! فإني ما برحت منذ رأيتها وأنا في شغل شاغل لا يهدأ لي بال قلقًا عليك، وقد كان عليَّ أن أفتقدك قبل الآن ولكن الأحداث التي نحن فيها حالت بيني وبين ما أريد، فأمر هذا الخليفة قد أقضَّ مضاجعنا فلا نكاد نرتق فتقًا حتى يتفتق غيره.»
وكانا يتكلمان ومحمد واقف والباب مغلق إلى نصفه، فلم يتم محمد كلامه حتى رأى مروان داخلًا وملامح الغضب تلوح على وجهه وقد حمل سيفه، فلما رآه محمد لمح الغدر في عينيه فنظر إليه شزرًا ولم يعبأ به.
أما مروان فقال وقد علاه الاصفرار والبغتة: «ما الذي جاء بك إلى هذا المكان يا ابن أبي بكر؟!»
فقال محمد: «ما شأنك وما أنا في بيتك؟»
قال: «إنك في دار الخليفة وقد دخلت على نسائنا بلا استئذان.»
فاستغرب محمد قوله ونظر إلى أسماء كأنه يستفتيها، فقالت غير هيَّابة أو وجلة: «إن مروان يتكلم متطفلًا فيما لا تناله ذراعه ولو تطاول.»
فابتسم مروان ابتسام المستهزئ وقد اشتد غيظه وقال: «سلي أباك إذا كانت ذراعي تنال أم لا.»
قالت: «دع ذكر الآباء وارجع من حيث أتيت، وإلا أسمعتك ما لا يرضيك.»
فضحك مروان وتوكأ بيده على سيفه، وقال ويده الأخرى على شاربيه: «أراك تغررين بنفسك كأنك نسيت ما نالك بين يدَي الخليفة، ألا تعلمين أنك إذا بقيت على غرورك ندمت حيث لا ينفع الندم.»
فاستغرب محمد هذا الجدال، ولكنه أدرك ما في نفس مروان فاتقدت في قلبه نار الغيرة، وعظم عليه التطاول وهمَّ به يريد ضربه، فاعترضت أسماء بينهما وقالت: «دعه يا محمد لأرى ما هو فاعل.» قالت ذلك وتقدمت إلى مروان ويدها على خنجرها كأنها تهم باستلاله وقد قطَّبت حاجبيها وحمي غضبها، حتى كاد الشرر يتطاير من عينيها.
فأُخِذ محمد بشجاعتها ولم يكن يعهد مثل هذا في النساء، فأراد أن يحول بينها وبين مروان فلم تمكِّنه من ذلك.
أما مروان فلما رأى ما كان من أسماء وأدرك أن محمدًا منجدها خاف العاقبة، وكان قد قبض على حسامه فرفع يده وتظاهر بالضحك ومد يده يريد أن يمسك بيد أسماء ليكلمها، فجذبت يدها وقالت: «جرِّد حسامك وأرني شجاعتك، وهذا ابن أبي بكر شاهد على ما يكون.»
فقال مروان: «أأجرد حسامي على فتاة؟! أما دواؤك يا أسماء فهو عندي.» قال ذلك وخرج متغاضبًا وهو إنما خرج خائفًا كاظمًا، وعزم على الفتك بأسماء غيلة.
ونظر محمد إلى أسماء وقد علت وجهها مهابة الأبطال وذهب عنها ذل الحزن والضعف، فأُعجِب بما خصها به الخالق من الهيبة والأنفة، فأمسكها بيدها وأرجعها إلى غرفتها قائلًا: «بُورِك في شهامتك يا أسماء! ولكنني أراك قد اكترثت بهذا الشاب التافه فاتركيه وشأنه.»
قالت وهي تحاول تخفيف غضبها: «إني لا أبالي بشقشقته، ووالله لو أنه حمل عليَّ بمائة مثله ما حسبت لهم حسابًا!»
قال: «ما لك وللإقامة هنا؟ تعالي نذهب معًا إلى منزل عليٍّ فتقيمين ضيفة مكرمة.»
فقالت: «أتريد أن أفر من هذا المكان؟ كلا، لا أبرح حتى أرى ما يكون من أمر هذا الغلام الغر.»
قال: «أتحسبين ذلك فرارًا؟»
قالت: «نعم، دعني هنا لأرى ما يكون من أمره.»
قال: «وما يهمك؟ دعيه وشأنه.»
قالت: «يهمني طيشه الذي وسَّع الخرق وأغضب المسلمين على الخليفة، ولولا حماقته لقُضِي الأمر ولأمن الناس الفتنة.»
فتحير محمد ولم يدرِ كيف يقنعها بالخروج وأهمَّه بقاؤها هناك غيرةً عليها، فأحب أن يستطلع العلاقة بينها وبين مروان فقال: «وما الذي جعل له هذه الدالَّة عليك؟ هل تعرفينه من قبل؟»
فتنهدت وعادت إليها ذكرى مصائبها وقالت: «إننا عرفناه في الشام وقد رافقنا في سفرتنا المشئومة إلى قباء ثم دخل المدينة قبلنا، وتسبب في موت أمي قبل وصول علي.»
فعجب محمد وقال: «كيف كان ذلك؟»
قالت: «إن حديث ذلك طويل يحتاج إلى شرح، ولكنني أقول بالاختصار إن هذا الشاب رافقنا من الشام لأَرَب في نفسه [بقصد أن] يناله، ولولا ضعف أبي وانحيازه إليه لما استطاع المسير معنا خطوة، ولكن …»
فقال: «وأي أرب؟» فلم تجب كأن الضعف والحياء قد عادا إليها فأطرقت صامتة.
ففهم محمد مرادها فازداد بغضًا لمروان وغيرةً على أسماء، ولم يعد يصبر على بقائها هناك وحدها. ونظرًا إلى ما يعلمه من نفوذ مروان لدى الخليفة، خاف أن يوسطه في إقناعها أو استرضائها فتقبله على كره منها، ولما تخيل هذا أحس بنيران هبت في بدنه، وصار إلى خلع عثمان أو قتله أميل. فصمت برهة يفكر ثم قال وهو يريد أن يزيدها كرهًا واحتقارًا لمروان: «إني أعرف من أمر هذا الغلام ما لا يعرفه سواي، فقد سمعت من أختي أم المؤمنين (عائشة زوجة النبي) أن النبي لعنه وهو في صلب أبيه، فقال لأبيه الحكم بن العاص: «ويل لأمتي من صلب هذا!» فما ترجين منه بعد ذلك؟ أصغي لقولي وتعالي معي إلى منزل علي.»
قالت: «ربما ذهبت إليه في فرصة أخرى.»
فبُهِت محمد وهو يود أن يبثها ما خالج قلبه من حبها ويستطلع ضميرها ولكن الحياء والهيبة منعاه من ذلك، فظل برهة صامتًا وهو لا يزال واقفًا بإزاء السرير وأسماء جالسة مطرقة وقد خالج ضميرها مثل ما خالج ضميره وهي أكثر حياءً منه، فظلت صامتة تنتظر أن يفتح هو الحديث.
•••
قال محمد بن أبي بكر لأسماء: «إني لا أرى عارًا في خروجك من هنا إلى منزل علي وهو الذي اقترح هذا، ولا أخفي عليك أن الهياج قد اشتد على الخليفة فهو لن ينجو من الخلع أو القتل، وبخاصة إذا ظل مصغيًا لمشورة مروان، فهيا بنا.»
فهمَّت بالجواب، ولكنها لم تكد تفعل حتى سمعا سعال يزيد ثم رأياه يدخل، فبُغِت محمد ونفر من رؤيته لأنه لم يكن يحسن الظن به. أما يزيد فحالما رأى محمدًا تقدم إليه وحياه وتظاهر بالترحيب به، وسأله عن علي قائلًا: «كيف مولانا أبو الحسن؟» فقال محمد: «في خير».
قال: «ألا ينوي الخروج إلى الحج فقد آن أوانه وأرى الناس يتأهبون له؟»
قال: «لا أظنه يستطيع ذلك هذا العام.»
فقالت أسماء: «ولماذا؟» قال محمد: «إن في خروجه من المدينة الآن والناس في هرج ومرج مجازفة، وقد دعتني شقيقتي أم المؤمنين إلى أن أذهب معها إلى الحج، ولكن ما أظنني مستطيعًا.»
قالت: «ولماذا؟» فلم يجب ولكن ملامح وجهه دلت على أنه لا يريد الخروج من المدينة وأسماء في ذلك المكان على تلك الحال.
فأحست أسماء أنه يحبها ويغار عليها، فسكتت مخافة أن يلحظ يزيد شيئًا من ذلك.
وعاد محمد فخاطب يزيد فقال: «أرسلني إليكم مولاي أبو الحسن لأدعوكما إلى النزول عنده، تجنبًا للنزول بالقرب من دار الخليفة والناس محيطون بها.»
فقال يزيد: «لا أرى علينا بأسًا هنا، وقد فُضَّ الخلاف على ما سمعت.»
فابتدرته أسماء قائلة: «كيف فُضَّ الخلاف ومروان بالمرصاد؟»
قال: «وما الذي فعله؟» قالت: «إنه بعد أن استرضى الخليفة الثائرين وصرفهم بالحسنى عاد فحرضه عليهم فعاد الأمر إلى ما كان عليه، وأظن محمدًا أعلم منا بما ينوون لأنه قادم من بينهم.»
فهز محمد رأسه وقال: «نعم، إن مروان في صباح هذا اليوم قد وسع الخرق حتى استفحل الخطب ولم يعد تلافيه ممكنًا، وهذا ما خوَّفني عليكما لقربكما من الخطر.» قال يزيد: «وماذا ينوون؟»
قال: «إذا لم ينل هؤلاء الناس ما يرجونه فقد تسوء العاقبة، كفانا الله شر الفتنة!»
قال يزيد والخبث والرياء باديان على وجهه: «أراهم تعصبوا عليه وتجنَّوْا، وهم إنما جاءوه يلتمسون الدنيا وفيهم من حقد عليه لمغنم فاته أو لحديث سمعه من واشٍ مبغض … وما إلى ذلك، ويدَّعون الغيرة على الإسلام رياء الناس.»
قال محمد وقد ضاق بجوابه: «كلٌّ يعرف ما نواه.» وسكت. ثم سأل: «ألا تأتيان معي إلى منزل علي؟» قال يزيد: «لا نرى ما يدعو إلى هذا الآن.»
فنهض محمد وودعهما وخرج غاضبًا ناقمًا على مروان، وحدثته نفسه بأن في بقاء عثمان خليفة عونًا لمروان على نيل أسماء.
أما هي فلم يكد محمد يتوارى حتى ندمت على بقائها، فإن أنَفتها منعتها من الخروج.