مبايعة علي بالخلافة
أدرك محمد مدى إعجاب الحسن بأسماء فاتقدت نار الغيرة في صدره، ولكنها غيرة لم يشبها بغض لما يكنه للحسن وآل بيته من الحب. فانتقل بالحديث إلى سؤال الحسن عن أبيه، فقال الحسن: «تركته في مجلسه وقد اجتمع الأمراء حوله يريدون مبايعته، وهو يقول لهم: «لا حاجة لي في أمركم، فمن اخترتموه رضيت به.» وهم يلحون عليه في القبول ويقولون: لا نعرف أحدًا أحق بها منك، ولا أقدم سابقة ولا أقرب قرابة من رسول الله.»
فقال محمد: «وهل قبل؟» قال: «لا، وقد تركته يقول لهم: «لا تفعلوا، فلأن أكون وزيرًا خير من أن أكون أميرًا.» وهم يقولون: ما نحن فاعلون حتى نبايعك.»
فقال محمد: «إني لأعجب من رفضه أمرًا هو أولى به من سواه، ويجب والله ألا يليها غيره!»
فقال الحسن: «وإني أشد تعجبًا منك.» قال محمد: «وماذا فعل طلحة والزبير، فإني إخالهما غير راضيين لأن كلًّا منهما يريد الخلافة لنفسه؟»
فابتسم الحسن وقال: «سيبايعان كارهَين إن شاء الله، على أنهما يتظاهران بالقبول، وسنرى ما يكون منهما في الغد فقد ذهب إليهما بعض الناس يدعونهما إلى المبايعة.»
وافترقا بعد هنيهة، فسار محمد إلى فراشه وقد أهمه أمر أسماء مثل ما أهمه أمر الخلافة لعلمه أن الحسن إذا وسَّط أباه في تزويجها به فسينالها لا محالة، فلم يبقَ لديه إلا أن يسعى في إبعادها عنه، وقضى ليلته يفكر في وسيلة ليخرج بأسماء من بيت علي حتى يخلو بها فيقنعها ببراءته من دم عثمان، ثم يتزوجها قبل أن يبدو من الحسن ما يشعر برغبته فيها. فبكر في الصباح التالي وجاء إلى حجرة الحسن فلم يجده، وقيل له: «إنه ذهب إلى حجرة أمامة»، فعلم أنه سيقابل أسماء هناك، وسارع إلى إرسال من يستقدمه، فجاء الحسن مشرق الوجه، بادي الابتهاج، فانقبضت نفس محمد، وكادت الغيرة أن تبين في وجهه ولكنه تجلد وحياه وقال: «كيف أصبحت فتاتنا اليوم؟»
فقال الحسن: «هي في خير ولكنني أراها منقبضة النفس.»
فسُرِّي عن محمد إذ رأى في ذلك دليلًا على بقائها على عهده، وقال: «أظنها حزينة على أبيها فإنه قُتِل في دار عثمان، وأرى أن نخرج بها لتحضر مجلس أبيك وحديث القوم في أمر البيعة لعلها تُشغَل بما تراه هناك عن أحزانها.»
قال: «وكيف تجالس الرجال؟» قال: «أرى أن تذهب متنكرة.»
وكان الحسن أشد ميلًا من محمد إلى اصطحابها، ولا يدري ما يخالج قلب محمد فقال: «لقد رأيت صوابًا.» وذهب لاستقدامها، وما لبث أن عاد وهي معه وقد تنكرت. فلما رآها محمد حياها وهو ينظر إلى وجهها نظرة لا يفقهها إلا من عانى الحب والغيرة، ولبث ينظر إلى ما يبدو منها فأبرقت أسرتها حالما وقع نظرها عليه، فسُرِّي عنه وقال لها: «أظنك تودين حضور مجلس مولاي أبي الحسن؟»
قالت: «كيف لا وأنت تعلم ما يجول في خاطري؟!» فأدرك محمد أنها تشير إلى حبها، فوثق من أنها باقية على عهده فقال: «إذا فرغنا من هذا المجلس سلمت لك جوادك ومتاعك الذي كان لك في منزل عثمان، وقد وعدتك أن أحتفظ به.»
فأثنت عليه، وأشارت بعينيها إشارة فهم محمد منها مرادها والحسن لا يشعر.
ثم قال الحسن: «هلمَّ ندخل إلى أبي قبل حضور الناس عنده.» فدخل هو أولًا، ثم دخلت هي ومحمد.
•••
وعندما دخلت أسماء وهي في لباس الرجال حسرت بعض اللثام وهمَّت بتقبيل يد علي، وكان جالسًا فوق وسادة وعليه إزار وطاق وعمامة خز وقد ازدادت هيبته، وأرسل عمامته إلى الوراء حتى ظهرت صلعته، ثم أخذ يمشط لحيته بأصابعه وعيناه الدعجاوان تتلألآن في وجهه والذكاء ينبعث منهما. فلما رأى أسماء مقبلة ابتسم وحياها وسألها عن حالها، فقالت: «إني بفضل مولاي في خير وعافية.»
قال: «إن كلامك يا بنية ما زال يرن في أذني مذ جئتنا قبل مقتل عثمان — رحمه الله — فقد قلت: «إن في مقتل الخليفة إيقاظًا للفتنة.» وأراها استيقظت وأنك كنت على صواب.»
قالت: «إن الفتنة لتستحيي من ابن عم رسول الله فتعود إلى نومها إذا هو قبض على زمام الخلافة.»
فأعجبه أسلوبها وحدة ذهنها، ودعاها إلى الجلوس وهو يقول: «أراك خلعت زي النساء ولبست زي الرجال يا أسماء.»
قالت: «لقد ارتديت هذا اللباس لأستطيع أن ألقى رجل هذه الأمة.»
ولم تكد أسماء تجلس حتى جاء فتى يستأذن عليًّا في دخول بعض الصحابة فأذن، ودخل عليه جماعة من المهاجرين والأنصار فيهم طلحة والزبير، وكانت أسماء تعرفهما من قبل. فجلسوا حتى غصت القاعة بهم، وتصدر طلحة والزبير القوم وعلا وجهيهما انقباض كأنهما يخفيان أمرًا، فأدركت أسماء أنهما جاءا مكرهَين. وما لبثوا حتى نهض واحد من أهل المدينة وخاطب عليًّا قائلًا: «لقد جئنا إلى علي بن أبي طالب نطلب منه أمرًا ونرجو ألا يردنا فيه خائبين.»
فقال علي: «وماذا تريدون؟»
قالوا: «جئنا نبايعك على الخلافة لأننا لا نرى أحدًا أحق بها منك.»
قال وهو ينظر إليهم جملة: «ما زلت أرجو إعفائي من هذا الأمر، فإني أراه طريقًا وعرًا.»
قال قائل منهم: «ومن تُرى أقدم منك سابقة وأقرب قرابة من رسول الله وقد صرح بأنه: لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق؟»
قال: «كلكم لها أكفاء، وسأبايع بها من تبايعون.»
قالوا: «لا نرى غيرك أحق بها وقد قال رسول الله: عليٌّ مني وأنا من علي، وهو وليُّ كل مؤمن بعدي.»
قال: «قلت لكم دعوني واطلبوا غيري، فإنا مستقبلون أمرًا له وجوه وله ألوان لا تقوم به القلوب ولا تثبت عليه العقول.»
فوقفوا وقد نفد صبرهم وقالوا: «نناشدك الله! ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى الإسلام؟ ألا ترى الفتنة؟ ألا تخاف الله؟»
فلما سمع علي تأنيبهم سكت وقد ضاق بهم ذرعًا وعظم عليه الأمر فأطرق يتململ، ثم نظر إليهم فإذا هم سكوت ينتظرون جوابه فقال لهم: «قد أجبتكم.»
ولم يكد ينطق بها حتى ضج الناس استحسانًا وتهللت وجوههم فرحًا، إلا طلحة والزبير فإنهما ظلا صامتَين.
فلما رأى علي حسن لقائهم برغم سكوت طلحة والزبير، نهض فنهض الناس وهم ينظرون إليه ليروا ما يقول فإذا هو يضطرب كأنه تنبأ بما يتوقعه من جلائل الأمور، ثم أشار إليهم وقال: «اعلموا أني إذا أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، فإنما أنا كأحدكم إلا أني أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه.»
فقالوا: «كلنا أطوع لك من بنانك، ومن ذا الذي لا يطيع ابن عم رسول الله وأخاه ووصيه ونصيره وربيبه وحبيبه وخليفته، والذي قال فيه: «من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه!» وقال: «عليٌّ مني بمنزلة هارون من موسى»؟ فكيف نبايع سواك؟»
فقال: «إذا كنتم لا ترون بدًّا من المبايعة فلتكن في المسجد.»
قالوا: «هلمَّ بنا إلى المسجد.»
•••
فنهضوا ونهض علي بن أبي طالب، ومشى وهو يتكفَّأ وبيده قوس يتوكأ عليها، حتى أقبل على المسجد والناس بين يديه، وكان محمد وحسن وأسماء بالقرب منه. فلما دخلوا المسجد قرأ عليٌّ الفاتحة وصلى ثم وقف ووقف الناس، فنظرت أسماء إلى الجمع وقد هاجوا وماجوا فرأت طلحة وقد تقدم إليه قبل الجميع ومد يده فمدَّ عليٌّ يده فصافحه طلحة، وقال: «إنا نبايع سيدنا ومولانا الإمام، المفترَض الطاعة على جميع الأنام عليًّا بن أبي طالب، على كتاب الله وسنة نبيه واجتهاد أمير المؤمنين. ونسلم له النظر في أمورنا وأمور المسلمين لا ننازعه في شيء ونطيعه فيما يكلفنا به من الأمر على المنشط والمكره، وعلى ألا خليفة سواه.» وأدركت أسماء من هيئة طلحة وغنة صوته ومجمل حاله أنه إنما بايع مكرهًا. ثم سمعت رجلًا من الوقوف خلفها يقول لجاره همسًا: «إنا لله وإنا إليه راجعون! إن أول يد بايعت يد شلَّاء، لا يتم هذا الأمر!» فالتفتت أسماء إلى محمد كأنها تستفهمه مغزى ما يقوله الرجل، فدنا منها وقال لها: «إن في يد طلحة شللًا خفيفًا من يوم أحد، والذي سمعته يتكلم رجل من أهل العيافة تشاءم بتلك المبايعة.» قالت: «أرجو ألا تصدق عيافته.»
وبعد أن بايع طلحة تنحَّى وتقدم الزبير فبايع، ثم بايع غيره من الأمراء جملةً وفرادى.
إن الله تعالى أنزل كتابًا هاديًا بيَّن فيه الخير والشر، فخذوا نهج الخير وأصدفوا عن سمت الشر، أدوا إلى الله يؤدِّكم إلى الجنة. إن الله حرم حرمًا غير مجهول وأحلَّ حلالًا غير مدخول، وفضل حرمة المسلم على الحُرَم كلها، وشد بالإخلاص والتوحيد حقوق المسلمين في معاقدها. فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إلا بالحق، ولا يحل أذى المسلم إلا بما يجب. إن الساعة تحدوكم من خلفكم، تخففوا تلحقوا، واتقوا الله في عباده وبلاده فإنكم مسئولون حتى عن البقاع والبهائم. وأطيعوا الله ولا تعصوه. وإذا رأيتم الشر فأعرضوا عنه، واذكروا أنكم قليلون مستضعفون في الأرض.
وكان محمد قد خامر سروره قلق لما قام في ذهنه من ميل الحسن إلى أسماء، فلما انفض الجمع ورأى الحسن مع أبيه والناس حوله يهنئونه، أشار إلى أسماء فتبعته وقد أدركت ما في ضميره، وأحست ما في نفس الحسن وقد استملحته ولكنها بقيت على حب محمد وهو أول من طرق قلبها، فلما دعاها سارت في أثره وهي تتجاهل مراده حتى وصلا إلى بيت العجوز.
فلما خلا بأسماء نظر إليها نظرة لم يخفَ مغزاها عليها، فابتدرته قائلة: «أرى المدينة غاصَّة بالناس وقد شُغِلوا بخليفتهم فلم يعد يطيب المقام فيها.»
فأُعجِب محمد بحسن فراستها ورقة إحساسها، ولكنه خاف أن تكون مضمرة غير ما تظهر فقال: «وما الذي بغَّض إليك الإقامة بالمدينة؟» قالت: «بغَّضها إليَّ ما حبَّب محمد إليَّ.»
قال: «وكيف تتركين عليًّا وأهله؟» قالت: «ما لي ولأهله؟»
قال: «ألا ترين أن أمامة تفتقدك؟» قالت: «أظنها تفتقدني وقد يفتقدني غيرها، ولكنني لا أبالي أحدًا.»
فأدرك أنها عرفت نيته فقال: «لقد تم الأمر لعلي فهو اليوم أمير المؤمنين، وقد استقام لنا الأمر وسأنظر ما يكون من تبديل عماله على الأمصار، ونتدبر ذلك في حينه. أما الآن فأرى أن تقيمي عند أختي عائشة أم المؤمنين.»
وكانت أسماء قد علمت منه أنها سارت إلى مكة لقضاء مناسك الحج عندما كان عثمان محاصرًا ولم تسمع أنها عادت، فقالت: «هل عادت أم المؤمنين من مكة؟»
قال: «لم تعد بعد، وقد قُتِل عثمان وتولى علي وهي غائبة، وقد تقيم هناك حقبة أخرى.» قال ذلك وهو يعلم أن مجيئها قريب، ولكنه خشي إن هو أعلم أسماء بذلك ألا تعود ثمة حاجة في خروجها من المدينة، فتضطر إلى أن تقيم ببيت علي وتأبى عليه غيرته ذلك.
قالت أسماء: «هل أذهب إليها؟»
قال: «أرى أن تذهبي فتقيمي عندها وتشاهدي بيت الله الحرام ومشاهدة مكة، فإذا عادت أختي عدت معها، وإذا أقامت طويلًا ذهبت أنا لاستقدامك ونكون قد عرفنا مصيرنا.»
قالت: «إن في ذهابي إليها شرفًا عظيمًا، ولكن كيف أسير وحدي؟!»
قال: «أرى أن تصحبك هذه الخالة (وأشار إلى العجوز) فإن لها دالَّة على أختي، وذهابها معك يغنيني عن الإيصاء بك، وسأرسل معكما من يوصلكما إليها. ويحسن بك أن تطلبي أنت الشخوص إليها.» قال ذلك ونظر إليها وهو يبتسم.
ففهمت مراده وأدركت أنه يخاف أن يعلم علي أو الحسن أنه هو الذي حملها على الشخوص، فقالت: «نعم، فأنا الراغبة في المسير لأكون بجوار أم المؤمنين. أين جوادي وأمتعتي؟»
قال: «هنا عند الخالة، فامكثي عندها إلى الغد فآتي إليك بمن يسير بك إلى مكة.» قال ذلك وهمَّ بالخروج.
فقالت له أسماء: «ولا يبرح من ذهنك أني ما زلت أتوقع اليقين عن مقتل عثمان وتفصيل ما تبرئ به نفسك.»
قال: «غدًا تلاقين أم المؤمنين فاسأليها عن عثمان وهل استحق القتل وهي تجيبك بما يغنيك عن سؤالي. ألا ترضين بها حَكَمًا؟»
قالت: «أرضى». قال: «إنها من أول القائلين بقتله، ومن قولها: اقتلوا نعثلًا — لقب عثمان — فقد كفر.»
وتركها محمد ومضى، فلما كان صباح الغد جاء وقد أعد جمالًا وهودجًا، فلما رأت أسماء الجمال قالت: «وما تلك؟» قال: «هي جمال ولا يصلح لركوب الصحراء غيرها، فإن بيننا وبين مكة بضع مراحل والطريق وعر.»
قالت: «ولكنني أوثر الفرس، وكذلك فعلت في قدومي من الشام، وقد خوفوني ركوب الأفراس في الصحراء فأبيت إلا ركوبها.»
قال: «لا يجمل بك أن تركبي فرسًا ورفيقتك هذه لا تستطيع ركوبه، فاركبي الجمل فإنه أصلح لهذا الطريق واتركي جوادك هنا فلا خوف عليه. وقد علمتُ أن رجلًا من أخوال أم المؤمنين من بني الليث واسمه عبيد بن أبي سلمة عاد إلى مكة، فعهدت إليه في أن تسيرا معه فيوصلكما إلى منزل أختي.»
فعجبت أسماء لوصفه الرجل بأنه من أخوال أخته وحدها، فسألته عن ذلك فقال: «إن عائشة من أم غير أمي ولم تسنح لك الفرصة أن تريها بالأمس، فعسى أن تريها في فرصة أخرى.»
قال ذلك وأمر العجوز فأخذت في إعداد ما يلزم للسفر وجعلت تجمع صررها؛ صرة فيها المشط، وصرة فيها السواك، وصرة للنعال … ونحو ذلك. ولم يمضِ ساعتان حتى تهيأ كل شيء. وجاء عبيد بن أبي سلمة فأوصاه بالعجوز والفتاة خيرًا وودعهما.
فقالت له أسماء وهي تشد منطقتها حول خصرها وتتهيأ للدخول في الهودج: «متى أراك؟» قال: «أرجو أن أراك قريبًا في مكة أو أبعث في استقدامك متى استقام الأمر وهدأت الأحوال.» فودعته وسارت وقد تلثمت بلثام السفر.