الفنان النبيل
أشرَقَت الشمس على رُبوع بغداد في مَوكِبٍ حافِل بالجلال والبهجة والجمال، وكان اليوم باسِمًا حُلوًا ندِيًّا، وكان في رَوائه وطِيبه مُونِقًا صَفْوًا زكيًّا. كان من أيام الربيع الضاحِك الطَّرُوب، الرائع في بَهاء طلعته، المُختال بسحر فِتنته، الشادِي بأنغام الحياة وألحان الوجود.
وكان القصر فَخمًا فاتنًا يتألَّق، قد أبدَع فيه صانعه، فحلَّى جُدرانه بصفائح الذهب والفضة والجواهر النفيسة، والألوان الجذَّابة، والنقوش الدقيقة. وله قُبَّة خضراء تَسمو مُتلألئةً في السماء إلى ثمانين ذراعًا، كأن الثريا عرَّسَت فيها، أو كأنَّ البدر شُدَّ في أعاليها.
وقد شادَه المَنصور في وسط بغداد بالقُرب من دِجلة بحيث يُشرِف على سائر أحياء المدينة، وأقام في مُنتهى قُبَّته فارسًا يحمِل رُمحًا يتَّجه نحو مَهبِّ الريح أينما كانت. ثم بنى قصر الخُلد، وجعله مَقرَّ الخلافة، وكان يَسكنه هو وخلفاؤه من بعده. أما قصر الذهب فقد نزَلَه إبراهيم بن المَهديِّ بعد أبيه وجدِّه. وكان إلى جمال بنائه ورَوعة زَخارِفه تُحيط به الخمائل الغنَّاء، والحدائق الفَيْحاء، وتَعمرُه الجواري الحِسان، وأنغام البلابل والغزلان.
ويَعيش فيه إبراهيم في هَناءَةِ الحياة الذهبيَّة السعيدة التي عاشَها خُلفاء بني العباس وأُمراؤهم في أَوْج مَجدهم وذُروة عَظمتهم وضَخامة ثروتهم، وكأنما كانوا يَحيَون في غُرف الجِنان.
وكان إبراهيم بن المَهدي رفيع المَنزلة، نَبيه الذِّكر، شريف القَدر، زَانَه الشباب فزادَه حُسنًا وإحسانًا. وبسَط الله له في جَمال الجسم، وحلاوة الصوت، وعُذوبة النفس، ودِقَّة الحِس، والنبوغ في فَنَّي الأدب والطرَب، وكان له طَلعة سمراء جذَّابة تَتهلَّل بالمَلاحة والظُّرف والنَّبَالة.
•••
وعلا صوت إبراهيم، وانسابت تَغاريده في أجواز الفضاء، فهزَّت كل من سمِعها وملَكت عليه نفسه، فجلس الناس على شاطئ دِجلة وفي البساتين القريبة يستَمِعون ويطرَبون، وسكِرت الجواري والغِلمان بِعُذوبة ما ابتكَرَ هذا الفنان النابغ من أصواتٍ وأوزان، وسقَط الإبريق والكأس من يَدِ مكنونة، وسالت الخَمر وهي لا تدري لِمَا نابَها من نَشوة الطرب والأنغام.
•••
وأقبَل إبراهيم على أُخته فوجَدَها جالسةً على أَرِيكةٍ من العاج فوق سدَّةٍ مُزدانةٍ بالوَشْي والدِّيباج، وقد تزيَّت بزيِّ أميرات بني العباس في ذلك الزمان الناعِم النضير، ووقفت خلفَها جاريتها الحسناء «خلوب» في رشاقةٍ وظُرف، مُمسكةً بمِذبَّة أنيقةٍ لتذبَّ عنها كعَادةِ بنات الأشراف وسيِّدات القصور. فحيَّاها وحيَّته مُرحِّبةً مُهلِّلة، وقبَّلت كَتِفه وقبَّل رأسها ثم جلس، فقال لها في تجمُّلٍ ولُطف: كيف أنت يا أختي؟ جعلَني الله فداءك.
فقالت في رِقَّةٍ وعطف: بحمد الله يا أخي وفَضله ورعايته …
قال لها: وكيف صِحَّة جسمك، وحال نفسك؟
فقالت: صِحَّةٌ سابِغة، وعافِيَةٌ كاملة، ونفسٌ مُطمئنَّة، وعيشةٌ راضية.
ونظر إبراهيم إلى «خلوب» وتشاغَل بالنظر إليها، فلاحظت عُليَّة هذه النظرات، وتنبَّه لهذه المُلاحظة فاستَحيا، وخفَض رأسه ثم رفعه وقال: وكيف هناؤك في حياتك يا أختي؟
– هناءٌ عظيمٌ أشكر الله عليه، لا ينقُصني فيه شيء ولا يَشغلُني عنه شاغِل.
– وكيف أوقاتك ومجالس أُنسِك؟
– إنها طَيِّبة سارَّة لا حظَّ للشيطان فيها.
– وكيف أنت يا أختي؟ جعلي الله فداءك.
وجذَبه النظر إلى «خلوب» فلاحظتْ أخته، فغَضَّ في استحياءٍ ثم عاد يقول: وكيف هناؤك في حياتك يا أختي … وكيف أوقاتك ومجالس أنسك … وكيف صحَّة جسمك وحال نفسك؟
فنظرَت إليه في عتابٍ وقالت: سُبحان الله، أليس هذا قد مضى أمْرُه وأجبْنا عنه؟!
فازداد خَجَل إبراهيم وهمَّ لينصرِف مُستأذِنًا، فضحِكت أختُه وقالت: لا بأس عليك يا أخي، اجلِس، فوالله إني لمَشوقةٌ إلى أنسِك، ولن أترُكك حتى تسمَع ما عندي وأسمع ما عندك!
قال إبراهيم: هاتِ يا عُليَّة.
فنادَت جواريها وغِلمانها، واستدعَت أخاها يعقوب بن المَهديِّ وكان يُحسِن النفخ بالمِزمار، وعقدَت مجلسًا بَهيجًا مُؤنسًا وغنَّت من شِعرها:
وكان إبراهيم يَهتزُّ طرَبًا كلمَّا تغنَّت بمقطعٍ من مقاطع هذه الأغنية، حتى إذا انتهت ناوَلَته العود فأمْسَك به وغنَّى مِن شعره:
فطربت عُليَّة طربًا شديدًا، وناولته كأسًا من النبيذ وقالت: وحَياتِي لتُغَنِّيَنَّ.
فعزف إبراهيم، وغنَّى مِن شعره:
فطرِبَت عُلية، وقامت فعانقته وقبَّلته في فمِه، وقالت بارك الله لك يا أخي، وبارك لنا فيك، ولا فُضَّ فوك، وبَعُد شانئوك.
ثم جعلَت تتحدَّث معه وتروِي له مِن الأدب والشِّعر ويروي لها كذلك، حتى امتدَّ الحديث إلى ذِكر أخيهما هارون الرَّشيد وأيامه، فقال إبراهيم: حَجَجتُ مرةً مع الرشيد، فبَينا نحن في الطريق وقد انفردْتُ وحدي وأنا على دابَّتي إذ حملَتنِي عيناي، فسلَكَت بي الدابَّة غير الطريق، فانتبهتُ وأنا على غير الجادَّة، فاشتدَّ بي الحرُّ فعَطِشتُ عطشًا شديدًا، فارتفع لي خِباءٌ فقصدتُه، فإذا بقبَّةٍ وبجانبها بئر ماءٍ بقُرب مَزرعة، وذلك بين مكة والمدينة، فاطَّلعتُ في القبَّة، فإذا أنا بأسودَ نائم، فأحسَّ بي ففتَح عينيه ثم استوى جالسًا، فإذا هو بَشِع الصورة، فقلت: يا أسود، اسقِني من هذا الماء، فقال مُحاكيًا: يا أسود اسقِني من هذا الماء! ثم قال: إن كنتَ عطشان فانزِل واشرَب. وكان تحتِي بِرذَونٌ خبيثٌ نَفُور فخشِيتُ أن أنزِل عنه فينفِر، فضربتُ رأس البِرذَون. وما نَفعَني يا عُليَّة الغناء قطُّ كما نفعَني في ذلك اليوم.
فقالت عُليَّة: «وكيف كان ذلك؟»
قال إبراهيم: لما أجابَني الأسود بهذا الجواب سرتُ ورفعتُ عَقيرتي وغنَّيت، فلَحِق بي، وقال: أيُّما أحَبُّ إليك: أن أسقِيك ماءً وحدَه، أو ماءً وسويقًا؟
قلت: الماءُ والسَّويق.
فأخرج قُعبًا له، فصبَّ السَّويق في القدَح، فسَقاني، وأقبلَ يضرِب بيدِه على رأسه وصدره ويقول: «وا حرَّ قلباه يا مولاي، زِدني وأنا أزيدُك.» وشرِبتُ السويق والماء، ثم قال: «يا مولاي إنَّ بَينَك وبين الطريق أميالًا، ولستُ آمنُ عليك العطَش، لكنِّي أملأ قِربَتي هذه، وأحمِلها قُدَّامك.» فقلت له: «افعل.» فملأ قِربتَه وسار قُدَّامي وهو يَحجِل في مِشيَته غيرَ خارجٍ عن الإيقاع، فإذا أمسكتُ لأستريح أقبَلَ عليَّ فقال: «يا مولاي عَطِشت.» فأُغنِّيه، إلى أن أوقفَنِي على الجادَّة من الطريق، ثم قال: «سِرْ رَعاك الله ولا سَلَبَك ما كَساك من هذه النِّعَم.» فلحقتُ بالقافلة، والرَّشيد قد فقَدَني، وبثَّ الخيل في البرِّ لِطَلَبي، فسُرَّ بي حين رآني، فأتيته فقصَصتُ عليه الأمر، فقال: «عليَّ بالأسود.» فما كان إلا يَسيرٌ حتى مَثَل بين يديه، فقال له: ويلَك ما حرُّ قَلبِك؟
فقال: «يا مولاي، مَيمونة.» قال: «ومن ميمونة؟» قال: «حبشيَّة يا مولاي.» فأمَر من يَستَفهِمُه، فإذا هي أمَةٌ لبعض أولاد الحسن بن علي، فاشتراها له، فأبى مواليها إلا أن تكون هديَّةً للرشيد، فوَهَبَها له.
فقالت علية لإبراهيم: رحِم الله أخي الرشيد، فقد كان نَبيل النفس، عظيم المُروءة. لقد فعَلَها معي، فهذا «طل» الغُلام وهبَنِي إياه ليكون في خِدمتي ورِكابي.
فضحِكت عُليَّة. ثم نهَض وودَّعته أخته، وانصرف إلى قصره، وكان الليل قد انتصف، فأوى إبراهيم إلى مَخدعه في سلام.
في ليالي القمر
كانت الليلة التالية ليلةً وضَّاءة صافِيةً من ليالي القمر، وما أدراك ما هذه الليالي الضاحكة القَمْراء في بغداد عروس المَشرِق في ذلك الحين؛ فقد كان الناس يخرجون فيها للتَّزاوُر وشُهود مَجالِس الأُنس والطرَب والشراب إلى وقتٍ أخيرٍ من الليل، فيأخذون من اللهو ومتاع الدنيا ما شاءت لهم الحياة الرَّغِدة الباسمة التي زَخَرت بأنواع اللذائذ والسرور على شواطئ الرافدين.
وخرَج «إبراهيم» في المساء إلى بيت صديقه مُخارِق المُغنِّي في زيِّ العامة من العرب، وقد خلَع ملابس الأمراء، فمرَّ في طريقه بدارٍ رشيقةٍ مُتقنة البناء ينُمُّ ظُرفها وجمال مَرآها على أنها لِثَريٍّ كبيرٍ من الأثرياء. وكان هذا الثريُّ يُدعَى «أبا عبد الله» وهو من كِبار تُجَّار العراق الذين امتدَّت تِجارتهم إلى الهند وفارس واليمن وبلاد الأحباش، وقد دعا نُخبةً من أصدقائه التُّجار بعد أَوبَةٍ من أسفاره ليُحيِيَ معهم ليلةً ساهِرةً عامرةً بالغناء والموسيقى والشراب ورقص الجواري الحِسان، وكانت أمثال هذه الليلة تَفتِن عُشَّاق الطرَب من الأمراء والأعيان وأهل الفنون يَغشونها سواء أكانوا من المَدعُوِّين أم من الهُواة المُتلذِّذين. فنظر «إبراهيم» إلى الدار فإذا كفٌّ ومِعصمٌ لحسناء قد خرجا من إحدى نوافذها، ثم إذا وَجهٌ فاتِن كأنما هو وجه القمر يُطلُّ من هذه النافذة ثم يَختفي كالبرق. فاستهواه ما رأى واستثار فؤاده، وهو الشاب الأديب الفنان المَملوء حياةً وشبابًا، وشعورًا رقيقًا مُرهفًا، فوقف واجِمًا مُفكِّرًا فيمن عسى أن تكون هذه الجارية الفاتنة، وفيما عسى أن يكون في هذه الدار من الأُنس والمَتاع، ثم إذا بِتاجِرَين من المَدعوِّين قد أقبَلا، وسلَّما عليه، فسلَّم عليهما، ودخلا الدار، فدخل هو بينهما، وهما يَظنَّانِه من أصدقاء صاحب الدار؛ فلم يكن لهما عهدٌ برؤية إبراهيم بن المهدي ومعرفته عن كَثَب، وكذلك كان أبو عبد الله، فإنه لم يعرِفه، ورحبَّ به عند قُدومِه عليه وظنَّ أنه صديق صاحِبَيه أتى مَعهما تفضُّلًا ورغبةً منه في المُؤانَسة والمُجالَسة، وسماع الغناء مع سائر الأهل والأصحاب.
وجلس إبراهيم معهم مُتنكِّرًا، وانتهى الطعام وأقبلَت جاريةٌ حسناء تُدعَى «خالدة» كانت صاحبة الوجه الفاتن والكفِّ والمِعصم، جمعَت بين القمر نورًا والغُصن لينًا، وهي كما قال بشار:
وكانت تتهادَى في استحياءٍ وتمشي في دلالٍ وتَثنٍّ كأنما تمشي على عواطفها فتُذيب القلوب وتسحَر الألباب. ووراء هذه الجارية مَوكِبٌ من الجواري الحِسان ومِلاح الغِلمان يحملون آلات العزف والطرب، ثم جلسوا جميعًا على تَختٍ بالقُرب من فِسقيَّةٍ جميلةٍ وفي وسطِهم خالدة وغنَّت لبشَّار بن بُرد:
فما كادَت تنتهي حتَّى امتلك القوم الشجوُ والطرَب، واستعادوها فأعادت الغناء. ثم قال لها إبراهيم: أسمعينا يا خالِدَة مِن العباس بن الأحنف. فغنَّت:
فاشتدَّ طرَب القوم، وقال إبراهيم: أحسَنتِ والله يا جارية، ولكن بَقِي عليك شيء! فعَزَّ عليها أن ينقُدَها وقامت نافِرةً وضرَبَت بِعودها الأرض، وصاحت: متى كُنتم تُحضِرون مجالِسكم من لا يُحسِن السَّماع؟!
وخرجَتْ، فقام إبراهيم في هدوءٍ وثَبات، وأخَذَ العُود فأصلَحَه واندَفَع يُغنِّي بِتلحِينه:
وما كاد ينتَهي منها حتى خرجتِ الجارية، فأخذت بيده وجعلتْ تقبِّلها وهي تقول: المَعذِرة يا سيِّدي، والله ما سمعتُ أحدًا يُغنِّي هذا مِثلك!
فقال إبراهيم: جُعلت فِداءك يا خالِدة، وما سَمعتُ والله مُعتذِرةً أجملَ منك! وقام مولاها أبو عبد الله ففعل مِثلما فعلتْ وقال مِثلما قالت ورَجاه أن يُغنِّي صوتًا آخر، فغنَّى من شِعر بشَّار:
فَتأوَّه جميع السامعين وهتفوا مُعجَبين مُكبِّرين وقالوا: هذا والله الغِناء … هذا والله الغِناء!
وجاء من طرَبِ القوم ما كاد يُذهِلُهم، وناشَدوا إبراهيم أن يَزيدَهم، فغنَّى:
فأبى إبراهيم أن يُعرِّفه نفسه، فألحَّ عليه كثيرًا حتى أخبره، فبُهِت الرجل وقال: «الله أكبر، سَلِيل الهاشم، وحفيد العباس، وأمير الغناء عندي …»
قال إبراهيم: لا تفْضحْني يا عمُّ يرحمُك الله … فما كان ينبَغي أن أغشى دارَك في هذه الحال!
فقال أبو عبد الله: لا بأس عليك يا سيِّدي فإن الدَّار دارُك.
قال إبراهيم: أحمَدُ إليك الله أبا عبد الله … وأتمنَّى لك حياة طيِّبة!
ونهَض ليخرُج، فقال أبو عبد الله: لا والله حتَّى تقبَل منِّي «خالدة» جاريةً لك، فإنك أكرمتَني بأُنسك، وشرَّفتَني بِضِيافتك.
فاغتبَط إبراهيم بهذه الهديَّة الحَسناء.