الطموح
كان إبراهيم بن المَهديِّ من أنبَغِ رجال عصره في الغناء والموسيقى، وكان مُجدِّدًا مُبتكرًا، مُمتازًا بطرائق التجديد والابتكار، ينتقِد القديم وأنصارَه، ويُندِّد بِزُعَمائه وفي رأسهم إسحق المَوصِلي. ومع أن أُمَّه «شِكْلة» — بِكسر الشين وسُكون الكاف — من أبٍ أعجميٍّ يُدعى «شاه افرند.» فقد كان إبراهيم أدِيبًا عرَبِيًّا صَميمًا، خطيبًا مِصْقَعًا، شاعرًا راوِية. ولم يكن في لَهْوه وتَرَفه مُستهترًا مُتبذلًا. وكان يُناظِر إسحق في فنِّ الغناء، ويأخذ عليه تَعَصُّبه للقديم، فإذا حاجَّه إسحق في بعض مُستَحدَثاته قال: أنا مَلِك أُغنِّي كما أشتهي!
وقد بَقِيت الخصومة بينه وبين إسحق في عهود الرشيد والأمين والمأمون والمُعتصم. وكان إبراهيم زَعيم المُجدِّدين، بينما كان إسحق زعيم المُحافظين، وعُرفت طريقة الأول بالغناء الحديث، وطريقة الثاني بالغناء القديم.
ومات هارون الرشيد وقام النِّزاع بين الأمين والمأمون على الخلافة، فلم يَزجَّ إسحق بنفسه في هذا الخلاف، بل بَقِي في «بغداد» لِخدمَة الفنِّ والأدب.
غير أن إبراهيم بن المَهدي كانت تُنازِعه ثورة نفسية مُنذ مات أخوه الرشيد؛ فكان يرى أنه أحقُّ بالخلافة من الأمين والمأمون، وما دام أبو جعفر المنصور تولَّى الخلافة بعد أخيه أبي العباس، وما دام الرشيد تولَّى الخلافة كذلك بعد أخيه الهادي، فلماذا لا يتولَّاها هو بعد أخيه الرشيد؟ وبأيِّ حقٍّ يَعْهدُ الرشيد لابنَيه بالخلافة مِن بعدِه وهما لا يَمتازان عنه في شيء؟ بل كان يرى أنه يَمتاز عنهما في كلِّ شيء — كان يمتاز عنهما في الأدب واللغة والفنِّ وعلوم الدين، ويَمتاز عن الأمين بالفِقه والرِّواية والفصاحة، ولم يكن مُغرِقًا مِثله في اللهو مُسرفًا في اللذائذ والشراب. فكان يتمنَّى الخلافة ويَشعُر بثَورةٍ في نفسه من أجلها، ولكن التمنِّي والكِفاية ليْسَتا طريق المُلك والسُّلطان، بل إن لهما سُبُلًا أخرى. وقد صار لكلٍّ من الأمين والمأمون قُوَّاد وجنود وأموال، أما هو فليست له هذه القُوى، فليَبتعِد حينًا من الزمان وليكْبِت طُموحه عن كلِّ إنسان، وليُخفِ ثورةَ نفسه حتى تَسْنَحَ الفرصة ويَحين الأوان.
ودخَل عليه نَديمه وصديقه محمد بن أميَّة، وكان كاتِبًا شاعِرًا ظريفًا، فأخذ يُسرُّ إليه ما في نفسه. وبينما هما يَتسارَّان إذ دَخل عليهما أبو العتاهية، وقد عاد إلى التنسُّك ولبِس الصوف وترك قول الشِّعر إلا في الزُّهد، فرفَعه إبراهيم وسُرَّ به، وأقبل عليه بِوجهه، فقال أبو العتاهية: أيها الأمير، بلغَني خبَر فتًى في ناحِيتك ومن مَواليك يُعرَف بابن أميَّة يقول الشعر، وأنشدْتَ له شعرًا فأعجبَني، فما فعَل؟ فضحِك إبراهيم وقال: «لعلَّه أقرَبُ الحاضرين مجلسًا منك.» فالتفَتَ أبو العتاهية إلى ابن أميَّة وقال: «أنت هو؟» فقال: «نعم، جُعِلتُ فداءك. أما الشِّعرُ فإنما أنا شابٌّ أعبَثُ بالبيت والبيتين والثلاثة كما يعبثُ الشُّبَّان.» فقال أبو العتاهية: «ذاك والله زمان الشِّعر. وما قِيل فيه فهو غَرَرُه وعيوبه.» ثم التفت إلى إبراهيم بن المهدي وقال: إنْ رأى أمير المؤمنين — أكرَمَه الله — أن يأمُرَه بإنشادي ما حضَرَه مِن الشِّعر. فقال إبراهيم: أنشِدْه يا محمد …
فأنشده:
فطرِب أبو العتاهية، وقال إبراهيم: «أحسنتَ يا بن أميَّة.» وجعل يُردِّد هذه الأبيات!
•••
وكان الأمين قد تولَّى الخلافة بعد أبيه، وكان للمأمون إمارة خراسان وما يليها من شرق الدولة العباسية كعهد الرشيد، فقد قسَّم الدولة بينهما عند وفاته إلى قِسمين: قسم يليه الأمين وهو العراق والشام وما بعدهما إلى بلاد المغرب، وقِسم يليه المأمون وهو خراسان وسائر بلاد المشرق، على أن تكون الخلافة للأمين. ولم يلبَث أن وَقَع الخلاف بينهما، وطمع كلٌّ منهما في الآخر، وانتهى الأمر بقَتل الأمين ببغداد، والمُبايَعة بالخلافة للمأمون.
وكان إبراهيم بن المهدي وقتئذٍ كبير آل العباس ببغداد، فخرج من عُزلَته الفنيَّة إلى السياسة، واضطربت الحال في بغداد، وكان يَتنازَع العباسيين عامِلان: عامل الولاء للخليفة الجديد، وعامل الثورة عليه، خصوصًا بعد ما وصلَهم أن المأمون قد أبدَل بالملابس السوداء (شِعار العباسيين) الملابسَ الخضراء (شعار العلويين)، وأحرق الأُولى في ملأٍ من الناس!
إذن كانت الفرصة سانحةً لإبراهيم ليُحقِّق آماله في الخلافة ويُطلِق ما في نفسه من طموح إلى المُلك والسلطان. وإذن فليدَع الفنَّ فترةً مِن الزمان، أو إلى آخِر الزمان إذا صحَّتِ الأحلام!
في الحانة
لم تفقِد بغداد في ظلام هذه الفتنة شيئًا من نُورها وجمال العيش فيها وطِيب الحياة بين أبنائها؛ فقد كانت هذه الأحداث تمرُّ بها دون أن يَعصِف بها عاصِفٌ شديد؛ إذ كان النِّضال مَقصورًا على رجال السياسة، وأطماعهم في النفوذ والجاه والسلطان. وكانت بغداد عروس الشرق، وعاصمة الحضارة، وزعيمة البلدان، وكانت الأموال تنصبُّ فيها انصِبابًا، فكثُرت فيها مجالِس الأُنس والأدَب والطرَب.
وجلس جماعة من الأُدباء والمُغنِّين في حانةٍ لرجُلٍ رومِيٍّ في طرَفٍ من أطراف المدينة، وكانت تُحيط بالحانة أغراسٌ وبساتين، وفي جُدرانها كُوًى كالجُيوب فيها دِنانُ الخمر، وفوق الكُوى رُفوفٌ عليها أباريقُ وأقداحٌ من الزجاج والخشب، وفي صدْر الحانة بعض المَعازف والأعواد والآلات. وأخذ هؤلاء الأُدَباء والمُغنُّون يتسامرون ويحْتَسون كئوس الخمر، يدور بها السُّقاة من الغِلمان الحسان.
قال ابن الضحاك: وأين ما كان لنا من صِحاب في مجالس الأُنس والشراب؟ وأنعِم بِعهد الأمين، عهد الهوى والشباب.
فقال عمرو: ما زلتُ — والله يا بن الضحَّاك — أتَمثَّل جمال هذا العَهد كلمَّا ذكرتُ أبا نُواس وهو يُنشِد الأمين على إحدى تلك الحرَّاقات، ونحن نأنَس بالرياضة معه على مياه دجلة في شباب الربيع، والأمين فَرِحٌ طَرُوب:
قال الحُسَين بن الضحَّاك: أسَفًا فقد ذَهب الأمين وشباب الأمين.
ابن الورَّاق:
ابن الضحَّاك:
وما كادا يَصِلان إلى ذلك حتى ترك «دعبل بن علي» لعبة الشطرنج، وكان يلعبها مع زلزل، وقال: ما هذه الذِّكريات لِأمورٍ عفَّى عليها الزمان … هَوِّنا عليكما، خليفةٌ أتى وخليفةٌ ذهَب، وما يُبالي الناس فالدنيا لِمن غلب.
فقال زلزل:
فقال علوية: صدقت، وصدَق والله عديُّ بن زيد، دَعونا مِن الخِلافة والخُلفاء وحدِّثونا من أخبار العُشَّاق والأُدَباء.
قال دعبل: إني مُحدِّثُكم عن حادثٍ ظريفٍ وقَعَ لي مع صَريع الغواني مُسلِم بن الوليد قاتَلَه الله …
فإذا أنا بِجارِيةٍ رائِعة، لها وجهٌ زاهِر، ومَطلعٌ باهِر، وهي تسمَع هذا البيت، فاعترضَتْني وقالت:
فأجبتُها:
ثم شعرتُ كأني أُخاطِب حوريةً هبطتْ من الجنة؛ فقد كانت تقطَع الأنفاس بِعذوبَةِ ألفاظها، وتَختلِس الأرواح ببراعةِ مَنطِقها، وتُذهِب الألباب بِرخيم نَغَمها، مع رَشاقة قدٍّ واعتدال، فحار والله البصر فيها، وتلجلج اللسان، ثم ثاب لي عقلي وراجعَتْني شجاعتي، فقلتُ:
فأجابت:
ثم سِرتُ وتَبِعتْني — وذلك في أيام إملاقي — فقلتُ ما لي إلا منزل مُسلم بن الوليد، فسِرتُ بها إلى بابه، فخرج، فقلتُ له: «أكمِل الخيرَ معي، وجهٌ صبيح يَعدِل الدنيا بما فيها، وقد وقَعَ بي ضِيق وعُسر.» فقال: «والله لا أملِك غير هذا المنديل.» فقلت: «هو البُغيَة» وتناولتُه. فقال: «خُذه فاشْتَرِ لنا بِثمنِه شيئًا.» فتركتُ الجارية عِنده، وذهبتُ فبِعتُه واشتريتُ لحمًا وخُبزًا ونبيذًا، وصِرتُ إليه فوَجدتُها تَتساقَط معَه حَديثًا كأنه الزَّهر المَمطور، فقال: «ما صنعت؟» فأخبرته، قال: «كيف يَصلُح طعام وشراب وجلوس مع وجهٍ جميلٍ بِلا رَيْحان وطِيب، اذهبْ فأحضِر لنا شيئًا من ذلك.» وأخرج نِصف دينار، فأخذتُه وذهبت، ثم عُدتُ إليهما فوجدتُ باب الدَّار مفتوحًا وليس لهما من أثَر …!
فضحِك علوية وصاحِباه وقالوا: والله إنك لأحمَقُ البَشَر …!
وقَهقهوا قهقهةً عالِيةً ملأتِ الحانَة وأغرَقوا في الضَّحِك!
•••
وهنا دخل أبو المُهنَّأ مُخارِق المغنِّي وهو يترنَّم بهذه الأبيات:
فقال زلزل المُغنِّي: مَرحبًا أبا المُهنَّأ. اجلس وزِدْنا من أُنسك ولُطفك.
ونادى زلزل الساقي فناوَل مُخارِقًا كأسًا فشَرِبها وهو يقول:
فسمِعه أبو دلفٍ قاسم العِجْلي، فنفَر قائلًا: كلا … كلا … فإن في الدنيا ألذُّ منها.
«فهذه والله لذَّتي، وإن استلذَّ أحدٌ شيئًا من المُعاقَرة مِلتُ إلى المُقاومة والمُبادَرة، ولا أستلذُّ غيرَهما.»
فضحِك دعبل في تهكُّمٍ وقال: ما صدَقتَ والله يا قاسِم … وإذا كانت لذَّةُ الحرب لذَّتَك وخوضُ المنايا غرامَك، فلماذا قلت:
فقال أبو دلف: ذلك كان في مُتقدِّم العمر وأيام الصِّبا، وهل أنا أحسن ممن قال:
فقال عقيد المغني: لمَن هذا البيت الجميل؟
أجاب أبو دلف: سمعتُه من المأمون في مجلسٍ ضمَّنا للشِّعر والغناء.
قال عقيد: كلام الملوك، مَلِك الكلام، ورائحة المِسك تنمُّ عليه …
فاعترض الحُسين بن الضحَّاك وقال: ألم تقولوا دَعونا من الخلافة والخلفاء؟!
فقال دعبل: ويحَك يا حُسيْن … الدنيا دُوَل …
ابن الضحَّاك: كلا … كلا … لا أُمَّ لي إن بقِيتُ في بغداد بعد مَقتل أمير المؤمنين الأمين. هيا بنا يا عمرو.
عمرو بن الورَّاق:
وخرج الحسين بن الضحاك — وقد اعتزَم أن يُغادِر بغداد — وترك أصحابه وهم يلْهُون …