في مدينة مَرْو
ما زال المأمون بمَرو عاصمة خُراسان لم يبْرَحْها، وكان الخُراسانيون أشدَّ أنصاره قُوَّة، وأعظمَهم عدَّة، وأكثرَهم عددًا، فلمَّا بلغَتْه ثورة إبراهيم بن المهدي ببغداد، وكَلَ إلى وزِيرِه الأكبر الفضل بن سهل في إطفائها، فبعثَ بجيشٍ يَقودُه أخوه الحسَنُ بن سهل لمُحارَبة إبراهيم والقضاء على ثَورتِه والقَبضِ عليه وتَشتيتِ شَمْلِه، ولكن هذا الجيش لم يُكتَب له النجاح، وفرَّ الحسن بمن معه إلى سمر، ثم إلى خراسان.
وأراد المأمون أن يُعالِج إبراهيم بالسياسة، فبعَث إليه بكتابه يُؤمِّنه ويُفسِح له عنده من عَفوِه ورِعايته، فردَّ عليه إبراهيم بكتابه السابق.
قرأ المأمون الكِتاب وهو يتميَّز غَيظًا ثمَّ طوَاه وهو يقول: قاتَل الله إبراهيم … لستُ مِن الرشيد ولا الرشيد مِنِّي إن لم أُثِرها عليه حربًا شَعواء تأكلُه وتأكُل أصحابه!
وجمَع وزراءه وقُوَّاده وشاوَرَهم في الأمر، فانتهَوا إلى إرسال جيشٍ آخر بقِيادَة «حميد بن عبد الحميد» أحد كبار القُوَّاد، على أن يكون هذا الجيش أكثر عددًا وأشدَّ جُندًا. فخرَج الجيش يقودُه حميد، وخرج معه المأمون بمَوكِبه إلى الصحراء فودَّعَه.
•••
فأذِن له، فدخل مُحيِّيًا راكِعًا، فقال له المأمون: ماذا وراءَك يابن البوَّاب؟
فأخْرجَ ابن البوَّاب ورقةً وقال: إن أذِن أمير المؤمنين أنشدتُه هذا الشِّعر.
قال المأمون: هاتِ ما عِندك.
فشرَع ابن البواب يُنشِد:
فقال المأمون: أحسنتَ … أحسنت.
قال ابن البواب:
فاحمرَّ وجه المأمون غضبًا وقال: لا حيَّا الله من ذكَرْت ولا بَيَّاه، ولا أقرَّ به عينًا … أليس هو القائل حينما قُتِل أخي «الأمين»:
هذا بِذاك، ولا شيءَ له عِندنا …!
فسكَتَ المأمون بُرهةً ثم قال: وأين من ذَكرت، أبِبغداد هو أم بمَرو؟
فنادى المأمون حاجِبه وأمره أن يأتي بابن الضحَّاك، فدخل الحُسين، فركَع وقبَّل الأرض، وقال: السلام على مولاي أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.
فقال يَحيى: حاشا يا أمير المؤمنين، بل حَسنًا فعلت، فإن الأخضر خيرٌ من الأسود، والخُضرة رخاءٌ وخصْب، والسواد ظلامٌ وجَدْب، أرأيت كيف تخضرُّ الأرض في الربيع ويهتزُّ رُباها. والملابس الخضراء ملابس بيت الحُسين بن علي، وهي ملابِس أهل الجنَّة يلبَسون من سندس خُضر وإستبرق …!
قال المأمون: وهل كان من بأسٍ إذ بايعتُ لعلي بن موسى الرضا — رحِمَه الله — بولاية العهد من بعدي، وهو أفضل بني هاشم في هذا الزمان؟
فقال يَحيى: والله يا أمير المؤمنين لقد كان أصحَّ الناس بعدَك دينًا، وأكثرُهم ورَعًا.
فقال إسحق المَوصِلي: يا أمير المؤمنين، ما رأيتُ أبا نُواس — رحِمَه الله — ترَك معنًى من المعاني إلا قال فيه شِعرًا. وقد ذكَّرتُه يومًا بذلك وقلتُ له: «يا أبا نُواس قُلتَ ما قُلتَ في كلِّ شيء، وهذا علي بن موسى لم تقُل فيه شيئًا.» فقال: «والله يا إسحق ما تركتُ ذلك إلا إعظامًا لمقامِه، وليس قدْرُ مِثلي أن يقول في مِثله شِعرًا.» ثم سكتَ قليلًا وأنشَدَ:
قال المأمون: صدَق والله الحسَن بن هانئ.
ثم التفَتَ إلى إسحق وقال: وأين كُنتَ يا إسحق بعد فِرارِك من بغداد؟
وشرِبنا يا أمير المؤمنين على هذا الغِناء الجميل ساعة، واهتزَّت أعطافي، وسأل صاحب الدار الشابَّين عنِّي فأخبراه أنهما لا يَعرِفَانِني، فقال: هذا طُفيلِي، ولكنَّه ظريف، فأجمِلوا عِشرَته.
وغنَّت الجارية بعد ذلك ثلاثةَ أدوارٍ كلُّها من أدواري فأخطأتْ في الدَّور الثالث، فاستَعدتُه منها لأصَحِّحَه فغضبت، فقال أحد الشابَّين: «ما رأيت طفيليًّا أصفَقَ منك وجهًا، لم ترضَ بالتَّطفيل حتى تُريد تصحيح الغِناء.» فأطرقتُ ولم أجِبه، ثم قاموا للصلاة وتأخَّرتُ قليلًا فأخذتُ عود الجارية فشدَدتُه وضبَطتُه ضبطًا مُحكمًا وعدتُ إلى موضِعي فصليَّت، وعادوا فأخذتِ الجارية العود فمسَّتْه فعرفَت أن أحدًا مسَّه، فقالت: «من مسَّ عُودي؟» قالوا: «ما مسَّه أحد.» قالت: «بلى والله لقد مسَّه حاذِق مُتقدِّم في الغناء.» قلتُ: «أنا أصلحتُه.» قالت: «فبالله خُذْه واضرِب به.» فأخذتُه وضربت، فما بَقِي أحدٌ في المجلس إلا وثَبَ على قدميه وهزَّ عِطفيه، ثم قالوا: «بالله يا سيِّدي من أنت؟» قلت: «أنا إسحق المَوصِلي.» فأقبلوا عليَّ يا أمير المؤمنين، وغنَّيتُ الأدوار التي غنَّتْها الجارية، فقال صاحب الدار: «هل لك أن تُقِيم عندي شهرًا والجارِية والحِمار لك مع ما عليهما من الحُلِي.» قلت: «نعم.» فأقمتُ عندَه شهرًا لا يدري أحدٌ أين أنا، وها أنا ذا جِئتُ إليك يا أمير المؤمنين.»
فضحِك المأمون وقال: قاتلك الله … كنت أبحثُ عنك طويلًا، حتى حسِبت أن إبراهيم بن المهدي قد احتجزك.
قال إسحق: الحمد لله الذي نجَّاني من المَارِق.
•••
فأذِن له المأمون، فدخَل وحيَّاه فقال: حيَّا الله أمير المؤمنين وبيَّاه، وبارك عهَدَه.
قال المأمون: حيَّاك الله وبيَّاك يا عتابي، بلغَتْنا وفاتُك فغَمَّتْنا، ثم انتهتْ إلينا وِفادَتُك فسرَّتْنا.
– حال رَجُلٍ لا يطمَع في الدنيا إلا في رضا أمير المؤمنين.
فاستظرَفَه المأمون وأراد أن يمزَحَ معه، فقد كانت له أطوارٌ غريبة، فقال له: وكيف شأنُك يا عتابي؟
فأجاب: في خيرٍ إن شاء الله.
فسكت المأمون وتشاغَل بشيءٍ ثم عاد فقال: وكيف حالك يا عتابي؟
قال إسحق الموصِلي: وما هو الإبساسُ يا شَيخ؟
فقال كلثوم: ومن أنت أيها الوَسوَاس؟
قال إسحق: أنا من بعض الناس.
فضحِك المأمون حتى استلقى، وضحِك من بالمجلس، فقال كلثوم: قاتلك الله ما أملَحَك … ولكن ما رأيتُ كالبصل حرارة.
قال إسحق: وما رأيتُ كالثوم رائحة.
فقال كلثوم: غلبَنِي والله يا أمير المؤمنين.
وما كاد يَنتهي إسحق حتى استأذن «فتح» الحاجب لرئيس الشرطة دِينار بن عبد الله، فأذِن له المأمون ودخل، وحيَّا الخليفة، فسأله عما جاء به، فقال دينار: جئتُ يا مولاي بِرجُلٍ يَدَّعي أنه النبيُّ «إبراهيم الخليل» عليه السلام. فابتَسَم المأمون وقال مُتهكِّمًا: أدخِله نَستمع لوَحْيه.
فذهب دِينار وأتى بالرَّجُل.
فقال له المأمون: هل أنت إبراهيم الخليل؟
قال الرجل: نعم … نعم … يا عبد الله.
فغَاظت المأمون جرأتُه، فقال يحيى بن أكثم: هل يأذَن أمير المؤمنين أن أُناقِشه؟
قال المأمون: دونك وإيَّاه …
فقال يحيى: يا هذا، إن إبراهيم الخليل كانت له بَراهين.
قال الرجل: وما هي بَراهِينه؟
فضحك المأمون والحاضرون وقال للرجل: لا بُدَّ لك من براهين وإلا ضَربنا عُنقَك …!
قال الرجل: ما معي شيء ممَّا تطلبون، ولقد قلتُ لجبريل حين أرسلتُ بالرسالة: إنكم تُرسِلونَني إلى قومٍ فيهم أمير المؤمنين المأمون وفيهم قاضي القُضاة يحيى بن أكثم، فأعطوني بُرهانًا أذهب به إليهم. فغضِب جبريل وقال: «اذهب أولًا وانظر ما يقول لك القوم، ثم نُعطيك ما يطلبون.»
فأغرق المأمون في الضَّحِك، وقال: هذا نبيٌّ يصلُح للمُنادَمة!
ثم أمَرَ بإطلاقه وانفضَّ المجلس، وخرج المأمون ليقضِي وقتًا في الرياضة وصيد الثعالب والظِّباء ليُخفِّف عن نفسه مَتاعِب المُلك، وهموم التفكير في ثورة العراق، وفي الثائر إبراهيم بن المهدي …!
ساحر ومسحور
عاد المأمون من الصَّيد بعد ما قَضَى فيه ثلاثة أيام، وقد أصاب من الثعالب والغِزلان عددًا، وقنَصَ فيما قَنصَ نِمرًا مُخطَّطًا ثائِرًا أتى به حيًّا، فسمَّاه «إبراهيم المبارك» تَفاؤلًا بأنه سيتغلَّب على إبراهيم ويقبِض عليه ويطفئ ثورتَه ويأتي إليه مُقيَّدًا ذليلًا، كما قنَصَ هذا النمر وقيَّده وأضعف قوَّته وأذلَّ كبرياءه. وكان المأمون لا ينفَكُّ مُهتمًّا بثورة إبراهيم وخروجه عليه، وزاد في همِّه ما علِمَه من انضمام بني العباس إليه في الكوفة والأنبار وبغداد وسائر العراق والشام، وقد شايَعوه وبايَعوه أميرًا للمؤمنين. ولكنه منذ بَعثَ «حميد بن عبد الحميد» بجيشه وما حوى من عدَّةٍ ضخمةٍ وعدَدٍ غفير، وما زوَّده به هو وجنوده من الوصايا والوعود بالعطايا الجزيلة، كان مُطمئنًّا إلى أن قائده سيبلغ ما يُريد، ويُحقِّق له ما يتمنَّى.
وكان الفضل بن سهل وزيره الأكبر يَزيده اطمئنانًا وأمَلًا بما يُهوِّن عليه من شأن إبراهيم، ويُخفِي عنه بعض ما يحدُث في العراق من خطرِ هذه الثورة ونِقْمة الناس على المأمون، شأنَ بِطانة المُلوك ووزرائهم يُخفون عنهم حقيقة ما يجرِي بين الشعب. ولكن المأمون كانت له عيونٌ ينظُر بها غير عيون الفضل بن سهل، وكان يُتابِع أنباء جيش «حميد» على الدَّوام. وجلس المأمون في ديوانه وهو في «مرو» يُعالج شئون خُراسان، وكانت هناك طائفةٌ من الزَّنادِقة اهتمَّ بالقضاء عليهم وعلى دعوَتِهم بين الناس، وكانوا من الزَّنادِقة المانويَّة أتباع «ماني»: وهو ماني بن فاتِك الحكيم الذي ظهر في عهد ملك الفُرس سابور بن أزدشير بعد ظهور المسيحية. وقد ابتدَع دِينًا بين المسيحية والمجوسية، وكان يَنفِي نبوَّة موسى، ويعترِف بنبوَّة المسيح. وقد زعم أن العالم مُركَّب من أصلَين قديمين هما النور والظلمة، وأنهما أزليَّان لم يزالا ولن يزالا، وأن النور جوهرُه حسن فاضِلٌ كريم صافٍ نقيٌّ طيِّبُ الريح جميل المَنظر، وأن الظلمة جوهرٌ قبيحٌ ناقِص لئيم كَدِرٌ خبيثٌ مُنتِنُ الرِّيح قَبيحُ المَنظر.
وأن للنور خمسة أجناس: أربعة منها أبدان والخامس روحها، فالأبدان هي: النار والنور والريح والماء، وروحها النسيم. وللظلمة خمسة أجناس كذلك: منها أربعة أبدان وهي الحريق والظلام والسموم والضَّباب، ورُوحها الدخان وهي تدعى الهمامة وتتحرَّك في هذه الأبدان.
وكان لِمَاني اعتقادٌ في بعض الشَّرائِع دونَ البعض الآخر، وله في ذلك مَذهبٌ وأتْباعٌ طالَمَا حَارَبهم المأمون.
واستأذن دِينار رئيس العَسكر في الدخول، فأذِن له المأمون فدخل وسأله عن شأنه وما أتى به، فأنبأه أنه قَبض على عشرةٍ من الزَّنادِقة المانوية، فأمر بإحضارهم فسألهم: أنتم الزَّنادِقة؟
فقال أحدُهم: أنا لستُ زِنديقًا يا أمير المؤمنين.
قال المأمون: وما خبرُك يا هذا، ولماذا جِئتَ معهم؟
– امرأتي طالِقٌ يا أمير المؤمنين إن كنتُ والله أعرِفُ هؤلاء أو أعرفُ من أمرِهم شيئًا، وإنما أنا رجلٌ طُفَيلِي.
فقهقَهَ المأمون قهقهةً عاليةً وقال: يا دِينار، فكَّ قيود هذا الرجل.
فقال الطُّفيلي: أحمد الله إلى أمير المؤمنين … أأنطلِق؟
وأشار إلى ناحِية المجلس. ثم التفتَ المأمون إلى الزنادِقة، وقال: وأنتم ماذا تقولون عن العالم؟
وأراد بعضهم أن يتكلَّموا فعاجَلهم المأمون قائلًا: اخسئوا قاتلكم الله.
ودفعَهم الجنود إلى السجن، ثم التفتَ إلى الطُّفيلي وقال: وأنت يا هذا تطفَّلت، فغامَرْت، والله لأكاد أن أقذِف بك معهم!
فضحِك المأمون وقال: قاتَلك الله، إن فيك لظُرفًا … انصرِف وعفوتُ عنك!
•••
انصرف الطُّفيلي … وما كاد يغيب عن المجلس حتى سُمِعت ضجَّة في الخارج، فإذا بالوزير الأكبر الفضل قادمًا محمولًا كعادته على كرسيٍّ مُجنَّح، وكان المأمون قد أجاز له ذلك تكريمًا له، وسمَّاه ذا الرياستين!
وأقبل الفضل في هذه الهيئة، حتى إذا كان على مرأًى من المأمون نزَل وترجَّل، وسلَّم على أمير المؤمنين وجلس عن يساره، فقال المأمون: كيف حال العراق يا فضل؟
– إنها حالٌ تسرُّ أمير المؤمنين، وتكبِت أعداءه … إن العراقيين يلتفُّون حولك ويُخلِصون لمولاي الحبَّ والولاء.
– وما شأن إبراهيم بن المهدي فيهم؟
– إنه مَخذول مَنبوذ في طائفةٍ قليلةٍ من رِعاع القوم.
فسكتَ المأمون مَليًّا وقال: ولكن الوافِدين من بغداد يقولون غير ذلك.
فقال الفضل في غير تريُّث: وهل دخلتُ على أمير المؤمنين يومًا بكذب، أو حدَّثتُه بغير ما أعلم، أو مالأتُ أحدًا عليه؟ وإذا كان أمير المؤمنين قد شرَّفَني بِثقتِه ورفعَني إلى موضِع أمانته وسرِّه، فكيف يقول لي هذا القول؟!
– لا والله يا فضل ما علِمتُ عنك سوءًا. ولكن إذا كانت الحال على ما تصِف، فكيف أنباء جَيش حميد بن عبد الحميد؟
– إنه على ما يُحبُّ أمير المؤمنين، قد انتصَر منذُ الساعة الأولى.
– ولكنِّي علمتُ أنه خسِر الجولة الأولى بين جيشه وجيش إبراهيم!
وهنا دخَل الحاجِب يستأذِن لهِرثمة بن أعيَن أحد قوَّاد العباسيين القدَماء، وأكبرهم في عهد المَهدي والرشيد، وكان بينه وبين الفضل بن سهل ضَغينة ولم يكن راضِيًا عن سياسته. فأذِن له ودخل، فقال: السلام على مولاي أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.
ثم التفت هرثمة إلى الفضل بن سهل وقال مُشيرًا إليه في تَهكُّم: الحمد لله يا أمير المؤمنين الذي لم يُمِتْني حتى رأيتُ هذا المجوسيَّ يُحمَل إلى مجلِسك في كرسيٍّ مُجنَّح، ويجلِس بين يديك على كرسيٍّ كأمراء بني العبَّاس!
فقال المأمون مُتَجهِّمًا: دَع ما لا يعنيك يا هِرثمة لما يَعنيك. ولا شأن لك بالفضل بن سهل.
ثم نادى الفضل دِينارًا وجُندَه قائلًا: خذوا بِرِجل هذا الجاهِل السَّفيه وجُرُّوه على وجهه إلى السجن!
ففعل الجُند ما أمر الفضل، وسكَتَ المأمون ثم قال له: أحسنْتَ يا فضل، والله لو لم تقُل له ما قُلتَ لكنتُ قلتُه، ولو لم تفعل ما فعلتَ لأمرتُ الساعة أن يُقتَل.
ثم نهَضَ المأمون، وأذِن للفضل والحاضرين بالانصِراف، لكنه استبقَى كاتِبَه عمرو بن مُسعَدَة.
•••
انصرَف القوم ثم التفتَ المأمون إلى عمرو وقال: أرأيتَ يا عمرو ما فعل الفضلُ بن سهل بالشيخ هِرثمة في مَجلسي مع بَلائه في هذه الدولة، وهو قائدي وقائد أبي وجدِّي، والله إني لهمَمتُ أن أقتُل الفضل بن سهل الساعة.
ابن مسعدة: والله يا أمير المؤمنين ما تكلَّم الشيخ هِرثمة إلا حقًّا، ولقد ستَرَ الفضل عنك كثيرًا وأغضَبَ منك أهل العراق حتى قالوا عنه: «إنه ساحرٌ وإنك مَسحورٌ به!»
المأمون: عَجبًا، أهكذا يقولون؟!
ثم أطرَق المأمون في تفكيرٍ عميق!
عمرو بن مُسعدَة
وقد تولَّى عمرو الكِتابة للمأمون، فأحبَّه وآثره وقدَّمه على سائر كُتَّابه، وولَّاه ديوان الرسائل وديوان الخاتَم والتوقيع والأزقَّة، ثم تولَّى حُكم فارس وكرمان. وكان المأمون يُعجَب ببلاغَتِه، ويُسنِد إليه الكِتابة في مَهامِّ دولته.
ودخل أحمد بن يوسف الكاتب على المأمون يومًا، فرأى بيَدِه كتابًا من عمرو، وهو يتأمَّل فيه مُدَّة، فوقف حتى انتهى منه والتفتَ إلى أحمد، فقال له: «إن في هذا الكتاب كلامًا نظير ما سمعتُ من الرشيد عن البلاغة من أنها التباعُد عن الإطالة، والدلالة بالقليل من اللفظ على الكثير من المَعنى. وما كنتُ أتوهَّم أن أحدًا يَقدِر على ذلك حتى جاءني هذا الكتاب من عمرو فإذا فيه: «كِتابي إلى أمير المؤمنين، ومَن قِبَلي من قُوَّاده ورؤساء أجنادِه في الانقِياد والطاعة على أحسن ما تكون طاعةُ جُندٍ تأخَّرتْ أرزاقهم، وانقياد كُفاةٍ تراخَت أُعطياتهم، فأخلَّت لذلك أحوالهم، والْتَاثَتْ معه أمورهم.»
«وإن استِحساني هذا الكتاب بعَثنِي على أن أمرتُ للجُند بأُعطِيَتهم لسبعةِ أشهر. لله عمرو ما أبلَغَه، ألا ترى كيف أومَأَ إلى وجهِ المسألة في الإخبار، وإعفاءه سُلطانَه من الإكثار.» وكان عمرو ذا ثروَةٍ واسعةٍ مما أقطَعه إياه المأمون وممَّا نزَل عنه من خراجِ بعض الوِلايات كما كان خُلفاء ذلك العهد الذهبي يفعلون لخاصَّتهم، حتى قِيل إنَّه مات عن ثمانية ملايين دينار بعد ما عاش عِيشة البذخ والتَّرَف وبذَل ما بذَل من كثير الأموال للعلماء والشُّعراء وغيرهم. ولا غَرْوَ فقد كان مُلكُ العباسيين أكبر من قارة أوروبا، وكانت الضرائب تُجبَى من كلِّ مكانٍ إلى بغداد!
وقد كان لعمرو فرسٌ أدهم أغرُّ لم يكن للمأمون مِثله، فرآه واستحسَنه فبادَر عمرو بإهدائه إليه مع كتابٍ فيه هذه الأبيات:
كانت هذه مَنزِلة عمرو عند المأمون، فليس غريبًا أن يَستبقِيَه، ويصرِف من حضَر في المجلس، وفيهم الفضل بن سهل كبير وزرائه وعظيم دولته. وقد كان بين عمرو وفضل ما بين الوزراء والنُّظراء ورجال السلطان من تنافُسٍ ودَسائس وإيثارٍ للنفس بالحظوة والولاء.
•••
فلمَّا أفضى المأمون بما في نفسه لعمرو حين رأى الشيخ هِرثمة بن أعيَن يفعَلُ به الفضل بن سهل ما فعل بمجلسه، أجاب الخليفة بما أجاب به، وقال له: إن الفضل ستَرَ عنك كثيرًا، وأغضَب أهل العراق حتى قالوا: «إنه ساحِرٌ وإنك به مسحور!»
فقال المأمون لعمرو: ومن يَعلَم هذا غيرُك من رِجالي يا أبا الفضل؟
فأجاب: يعلَمُه خلَفُ المصري، وعلي بن سعيد، وعلي بن هشام.
فبعثَ المأمون من أتى بهؤلاء الثلاثة في اليوم التالي.
حضَروا وسلَّموا وركعوا، وقبَّلوا الأرض ثم رفَعوا رءوسهم، فقال لهم المأمون: ماذا تقولون في الفضل بن سهل، هل هو يَغشُّني؟
فالتفتَ بعضُهم إلى بعض، ولم يتكلَّموا، فأعاد المأمون سؤاله، فسَكتوا، ثم قال خلَفُ المصري: لا نقول شيئًا يا مولاي حتى تُعطِينا الأمان من الفضل!
فدَمدَم المأمون بكلامٍ ثم قال: أهكذا يَفعلُ بأوليائي؟ والله ليَلْقيَنَّ جزاءه!
ثم ما عَرف يا أمير المؤمنين فضلَك عليه، ولا شَكَر نَعماءك، بل اتَّخذَها حربًا لأوليائك، واستَغلَّها لمآرِبِ أعدائك، وقد رأيتَ ما فعلَه بِهرثمة في مَجلسِك اجتراءً منه عليك، واستِخفافًا بحقِّك، ولو كان قد وضع نفسه مَوضِعَها لما فعل ما فعل بحضرَتِك، ولما تولَّى ذلك عن أمير المؤمنين، وهو أعلم بالأمور!
ولكن خَلِّ شأنه، فلَه يومٌ آخر. وانظر ماذا ترى في أمرِ الفِتنَة بالعراق.
يا أمير المؤمنين، إن النِّفاق من أخلاق الجماهير، وأنت في حِكمةِ تدبيرك، وبَراعة سياستك، وفصاحة لسانك، وعظيم كِياستك، أقدرُ على أن تَرُدَّ الأمر إلى نِصابه، وقد ميَّزك الله بالعِلم وفضَّلك بالسَّداد ووفَّقك إلى ما أنت به أهل وما أنت به جدير، وأرادَك حافِظًا لتُراث الرشيد في ولده وأن تكون للدِّين والدنيا خير إمام.