إلى عروس المَشرِق
وقد مات علي بن موسى الرضا وانتهى أمر ولاية العهد التي ولَّاه إيَّاها المأمون فأغضبت بني العباس والعرب في العراق، ولكن هل يرضى العرب ذَهاب الموت بهذه الولاية دون شِعار العلويين الأخضر الذي ما زال يتمسَّك به المأمون ويلبَسه هو ورجاله؟ وهل يرضى العرب في العراق أن يتعاوَنوا مع الفضل بن سهل وزيره، وهو من هو في تعصُّبه للفُرس والشِّيعة العلوية، ومُحاربته سرًّا وجهرًا لقادة العرب والقضاء على نفوذهم في الدولة؟
لا بُدَّ إذن من الرُّجوع إلى شِعار العباسيين وسُنَّتهم وأوضاعهم، وله في ذلك مَندوحة أيُّ مَندوحة ليُطفئ هذه الفِتنة الشعواء وليُعيد الأمور إلى نِصابها بعد ما اضطرب حبلُها ومَثُل خطرها.
•••
رجع المأمون إلى شِعار آبائه فخلَعَ الملابِس الخضراء ولبِس الملابِس السوداء، وقلَّده في ذلك وزراؤه وقُوَّاده ورجال دولته. ولم يَرَ الفُرس في ذلك غَضاضة؛ لأنهم يُحبُّونه ويَثِقون بمحبَّته لهم، واحترامه لكِبارهم، وهم أخوالُه وأنصاره.
أما الفضل بن سهل فقد رأى المأمون ألَّا يصحَبَه إلى العراق في مَوكِبه وفي هذه الفِتنة التي يَعتبِره العراقيون عامَلَها الأول، ولولا أعماله ما وقَع ما وقَع، ولولاه ما فكَّر المأمون فيما فكَّر فيه ولَمَا أقدَم على ما أقدَم عليه من الخروج على سُنَّة آبائه والمَيْل إلى ولاء العلويين.
خرج المأمون في مَوكبه الضخم إلى العراق وأشار على الفضل أن يذهب إلى مَسقَط رأسه «سَرخَس» وأن يقيم فيها مُدَّة حتى تَهدأ الحال وتَستتبَّ الأمور فيَبعَث إليه بالحضور إلى بغداد. واستصْحَب المأمون أخاه أبا إسحق المُعتصم، وابنه العباس، وكاتِبه عمرو بن مُسعَدَة، وقاضي القُضاة يحيى بن أكثم، وأحمد بن أبي خالد الأحول، وإسحق المَوصِلي، وغيرهم من خاصَّة رجاله وحاشِيته وأعيان دولته.
وسافر الفضل بن سهل إلى «سرخس» وكان له فيها قصرٌ كبير أقام به أيامًا، وبينما كان جالِسًا في وقتِ الغُروب يلعب الشطرنج مع بعض أهله إذ فاجَأَه أربعةُ رجالٍ يَحملون السيوف، فهمَّ إليهم بِسيفه فدَافعهم، ودافَعوه حتى ضعُف عن مُقاومتهم فلجأ إلى الحمَّام وأغلَقَه عليه، فاقتَحموا بابه، وتَعاوَروه بالسيوف حتى قَتلوه، وكان يَصيح: قَتلَني غِلمان أمير المؤمنين. قَتلني غِلمان المأمون!
وكان هؤلاء الغِلمان: غالب السُّعودي، وفَرخ الدَّيلَمِي، وقِسطنطين العربي، ومُوفَّق الصقلَّبي.
زواج سياسي
وصل موكب المأمون إلى «الرقَّة» في طريقه إلى بغداد فأقام بعض الوقت ليَستريح، فجاءه من سرخس فارسٌ يُنبِئه بمَقتلِ الفضل بن سهل بأيدي غِلمانه الأربعة، فتظاهَر بالحُزن والأسى، وقال عمرو بن مُسعدة: أرى أن يُقتَل هؤلاء الغِلمان، فإنهم إن بقُوا سلُّوا على أمير المؤمنين ألسِنَةَ الناس، ولا نأمَن أن يسلُّوا عليه سيوف خُراسان.
فقال المأمون: نِعمَ الرأي ما رأيت.
وأمر بِقتلِهم فقُتلوا. ثم بعثَ إلى الحسن بن سهل، وكان وقتئذٍ في «واسط» فحضَرَ وأقامه في الوزارة مَقام أخيه حتى لا يغضَب الخراسانيون. وكان الحسَن بن سهل قبل أن يَلِي الوزارة من أكبر قُوَّاد المأمون، وكان أديبًا فصيحًا، ذا رأيٍ وحزمٍ ورجاحة عقل، غير مُتعصِّبٍ تعَصُّبَ أخيه للعلويين، وإن كان مُتشيِّعًا لهم كغيره من الفرس. وقد قاد الجيوش وحارب إبراهيم بن المهدي وأُصيب أثناء ذلك بمرَض السوداء «النورستانيا» فتغيَّر عقله حتى شُدَّ في الحديد وحُبِس في بيته زمنًا وخلَفَه على العَسكر أحدُ قوَّاده ثم شُفِي، فاستدعاه المأمون بعد مقتل أخيه وشمله برعايته وعطفه وأعلى مكانه في دولته، ووهب له أموالًا كثيرة، وأقطَعَه «فمَّ الصلح!»
وكذلك أراد المأمون أن يُرضي الفرس والعرب معًا وأن يجمع حوله الفريقين. وما كاد موكبه يبرح «الرقَّة» إلى بغداد حتى جاءته الأنباء بنصر قائده حميد بن عبد الحميد على إبراهيم بن المهدي وفِرارِه من بغداد.
في بغداد
اغتَبط المأمون بهذه البُشرى وتفاءَل برحِيله إلى بغداد ظافِرًا منصورًا، وشدَّ رِحاله مُسرعًا إلى عاصمة الدولة، وعروس المَشرِق، ودخلَها في مَوكبٍ فَخمٍ يحفُّ به القوَّاد والفرسان، ويتقدَّمه الجنود بالأعلام والطبول، ومن ورائه طوائف الفُرس والعرب في مشهدٍ رائعٍ بديع.
ودخل عليه أخوه صالح بن الرشيد فحيَّاه وهنَّأه وقال:
فقال المأمون: أحسنت يا صالح، لمن هذان البيتان؟
صالح: للحُسين بن الضحَّاك.
المأمون: لقد أحسن وأجاد، ولكن لا شيء له عندنا. أنبِئني يا صالح كيف رأيتَ الناس في بغداد؟
صالح: رأيتُهم يا أمير المؤمنين في كلِّ مكانٍ يَتسابَقون إلى مَوكِبك، ويَتقاتلون على رُؤيتك، ويَتنافسون في تقبيل يَدِك، ويهتِفون في حماسةٍ باسمك ويقولون: «المأمون أمير المؤمنين، لا طاعة لإبراهيم!»
فهزَّ المأمون رأسه وقال: هذه نِعمة جليلة أحمد الله عليها، ولكن لا يَغُرَّنك ما ترى من نِفاق الناس وتملُّقِهم، فطالما نافَقوا الغالِب وانفضُّوا عن المغلوب. أولَم يكونوا بالأمس يَهتِفون لإبراهيم بن المهدي ويُنادونه بالخِلافة ويُسنِدون له كلَّ فضلٍ ويُلقِّبونه «المُبارك»؟
«ولكن هكذا الدنيا يا صالِح، وهكذا الناس.»
صالح: صدَقتَ يا أمير المؤمنين.
•••
واستأذَنَ دِينار بن عبد الله على المأمون فسأله المأمون: ما وراءك يا دينار، هل قبضْتَ على إبراهيم بن المهدي؟
دينار: لن يُفلِتَ أبدًا من جنود أمير المؤمنين، وقد بعثتُ وراءه من يقبِض عليه في العراق والشام.
المأمون: سوف لا يُفلِت إن شاء الله، وأرجو أن تأتوني به حيًّا ولا تَقتلوه ولا تَمسُّوه بسوء!
دينار: سمعًا وطاعةً لأمير المؤمنين.
فقال العباس بن المأمون: يا أمير المؤمنين، إن إبراهيم خائن لك، وقد طمِع فيك وخلَعَكَ، والرأْيُ عندي أن يُقتَل أينما وُجِد!
المأمون: هوِّن عليك يا عباس.
العباس: لستَ تأمَنُ يا أمير المؤمنين أن يعود إبراهيم لمِثل ما فعل، فيُسبِّب لك المَتاعِب.
المأمون: صدقتَ يا بُني، ولكن من أراد المُلك فليُوطِّد نفسه على المَتاعِب.
زُبيدة
وبينما هم في المجلس إذ دخَل الحاجب «فتح» يقول: أم جعفر زبيدة يا أمير المؤمنين.
فقام المأمون إجلالًا لزوجة الرشيد وحفيدة أبي جعفر المنصور، وصرَف من حوله من الوزراء والرجال وبقِي أخواه المُعتصم وصالح وابنه العباس.
ودخَلَت زُبيدة وبصحبتِها عليَّة بنت المهدي عمَّة المأمون. وكانت منذ قُتل ابنُها الأمين مُعتكفةً في قصرِها «دار القرار» على شاطئ دجلة، حتى إذا أقبل المأمون جاءت لتُحيِّيه وتُفضِي إليه بما في نفسها. فلما دَخلت قال المأمون: حيَّاك الله يا أماه، كيف حالك؟
وتناوَلتْ زُبيدَة حُلَّة الخلافة التي كان يلبَسها الرشيد في حياته، وكانت تحمِلُها إحدى وصيفاتها، فقدَّمَتها للمأمون هديةً وتِذكارًا جميلًا، فتناوَلها مَسرورًا وشكَر لها هذه الهدية النفيسة، واستأذَنتْ وخرجَت مع عليَّة مُودِّعتَين منه أجمل وداع. وما كادتا تَبعُدان حتى بعثَ المأمون في طلبِ عمرو بن مُسعدَة، فأقبل مُسرعًا، فأراه حُلَّة الرشيد، وحدَّثه عما جرى بينه وبين زُبيدة، فقال عمرو: لقد نصحَتْ أم جعفر والله يا أمير المؤمنين، ومثلُك فوق نُصح الناصحين.
قال المأمون: وفَّقَنِي الله. وكيف حال بغداد اليوم يا بن مُسعدَة؟
عمرو:
قال المأمون: أحسنتَ يا بن مُسعدَة، وبارك الله لك.
الفشل
فنظر الأسوَد إليه نظرةً فاحِصة، وقال: نعم، وعلى الرَّحبِ والسَّعة.
وفتح الباب ووسَّع له، فدخل إبراهيم إلى بيتٍ فيه حصيرٌ نظيف ووِسادةٌ وحَشيَّةُ جلدٍ نظيفتان، فجلس عليها ولكن الأسوَد لم يجلِس.
فدعاه إبراهيم للجلوس فأبى، وقال: إني خارج لبعض شأني، ولينتظِر سيِّدي قليلًا.
وترَكه وخرج وأغلَق الباب عليه، فأوجَس إبراهيم في نفسه خِيفة، وأيْقنَ أنه يَمكُر به وأنه ذاهب ليدُلَّ عليه العسكر ليفوز بجائزة المأمون، فقد جعَل لمن دلَّ عليه مائة ألف دِرهم! وما كان باستِطاعة إبراهيم أن يفِرَّ من هذه الدار؛ فقد أغلق الأسود الباب إغلاقًا مُحكمًا وأخَذ معه مِفتاحها، فزاد خوف إبراهيم. ومضتْ مُدَّةٌ يَسيرة، ولكنها كانت طويلة بما فيها من فَزَعٍ وأوهام.
وأقبَلَ الأسود يحمِل طبقًا فوقَه كلُّ ما يَشتهي من خُبز ولَحْم، وقد جلبَ معه قِدرًا جديدةً، وجرَّةً وكيزانًا نظيفةً، وقال لإبراهيم: جعَلَني الله فِداءك يا سيِّدي. إنني رَجلٌ حجَّام، وأعلم أنك تتقزَّز مما أتولَّاه من الحِجامة، فشأنك بما لم أمْسَسْه أو تقَع عليه يدي لِتصنَع به طعامك.
فدُهِش إبراهيم لكَرَم هذا الرجل ومروءته، وقام فطهى طعامه، وكانت به حاجةٌ إليه شديدة، وتناول منه ما اشتهى حتى إذا فَرَغ تقدَّم الأسود فقال له: هل لك ياسيِّدي في شيءٍ من النَّبيذ؟
قال إبراهيم: ما أكرَهُ ذلك، جُزِيتَ خيرًا.
فأتى بآنيَةٍ نظيفة، وكأسٍ نظيفة، وقدم له نَبيذًا حسنًا، ثم انتحى ناحِيةً أخرى وأتى بنبيذٍ آخر وقال: أتأذَن لي يا سيِّدي — جعلني الله فداءك — أن أقعُد ناحيةً منك فأشرب مَسرورًا بك؟!
فعجِبَ الرجُل من رِقَّته وأدبه، وأجاب: نعم، وهنيئًا لك، وطِبتَ نفسًا.
فأخذا يَشرَبان، حتى إذا تناوَلَ الأسود ثلاثًا قام فأخرَج من خِزانته عودًا، وقال لإبراهيم: يا سيِّدي، ليس من قدْري أن أسألك أن تُغنِّي، ولكن قد وجَبَتْ عليك حُرمتي، فإن رأيتَ أن تُشرِّف عبدَك بأن تُغنِّيَه فعلت.
فبُهتَ إبراهيم وقال له: وكيف توهَّمتَ أني أُحسِن الغِناء؟
فابتسم الأسود وقال: يا سُبحان الله، أهذا مَبلغُ ظنِّك بي؟ أفلم أعرِفك يا سيِّدي إبراهيم، وأنت القمَر لا يخفَى على رائيه، والمِسك لا يَغيبُ شَذاه عن عارفيه؟
فأُسقِط في يدِ إبراهيم بن المهديِّ وقال: وهل تَبغي أن تَبيعَ مروءتك مَعي بعرَضِ الدنيا؟
– أستغفِر الله وأستغفِرك يا سيِّدي إن كنتُ قد قصَّرتُ في حقِّك أو أردتُ بك سوءًا، ولكنِّي ما توهَّمتُ يومًا أن تُشرِّفَني في منزلٍ وتُسعِدني بهذه الضِّيافة، فإذا شِئتَ زِدتَني من كرمك، وأسمَعتَني شيئًا من جميل غِنائك، فإني رجلٌ أعشَقُ الغناء، وأُعجَب بك.
فتناوَل إبراهيم العود، وقال: حبًّا وكرامةً. لكَ ما طلبت!
وما كاد يَعزِف إبراهيم على العود حتى قال الأسود: أتأذَن لي يا سيِّدي أن تُغنِّي ما أقترِحُه عليك؟
فقال إبراهيم: هاتِ ما شِئت.
فاقترح ثلاثة أدوارٍ من أصوات إبراهيم، فقال له: ومن أين عرفتَ هذه الأصوات؟
قال الأسود: كنتُ أخدِم إبراهيم المَوصِلي، فسمعتُه يُثنِي عليك، ويَذكرك بهذه الأصوات ذِكرًا طيِّبًا.
فابتسَمَ إبراهيم مُغتبِطًا وشرَع يُغنِّي هذه الأدوار. حتى انتهى منها، فقال الأسود: بِحياتك عندي يا سيدي إلَّا غَنيَّت شيئًا من شِعر مَجنون ليلى.
فسكت إبراهيم بُرهةً ثم بدا عليه الشَّجوُ والأسى فأنشد:
ومكَثَ مع صاحِبه في شُربٍ وغناء إلى ساعةٍ مُتأخِّرة من الليل، ثم أراد أن يخرُج من عنده، وكان يحمِل معه «خريطة» فيها دَنانير، فقال للأسود: «خُذها فاصرِفها في بعض شأنك، ولك عندَنا مَزيد إن شاء الله.»
فقال الأسود: ما أعجَب هذا، والله يا سيدي لقد هَممتُ أن أعرِض عليك جُملة ما عندي من مال، وأسألك أن تَقبَلَها تفضُّلًا منك وكرمًا، ثم أجللتُك عن ذلك!
فخجِل إبراهيم وقال: قتلتَني والله كرمًا وأدَبًا ومروءةً.
وخرج من عِنده مودِّعًا وهو يتمنَّى له أحسن ما يتمنَّى من أمنٍ وسلام.
•••
وكان إبراهيم يَتنكَّر بألوانٍ شتَّى من التَّنكُّر حتى لا يعرِفه عيون المأمون المُنبثُّون في كل سبيل، فما كاد يبرَح دار الأسود حتى اشتبَه فيه جنديٌّ من الشرطة فسار وراءه، وشعَر إبراهيم بهذا الجندي، فسار حتى دَخل الدَّار التي يختبئُ بها فدَخلَها، وأغلقَ بابها، وكانت لرجُلٍ نبطيٍّ من أنباط المدائن كان يعرِفه إبراهيم منذ عهد الرشيد، فلما لجأ إليه وسِعه بمروءته وأخفى أمره عن الناس.
وقف الجُندي يرقُب الدار، ورأى إبراهيم أن الرجل يُريد أن يوقِع به ويَدلَّ عليه حيث يقيم، فانتظر حتى انشقَّ النهار فأراد أن يفِرَّ من الدار، ولكنه وجدَ الجنديَّ ما يزال يرقُبه ويتربَّص له، ويفحَص كلَّ من خرج منها، فتزيَّا بزيِّ النساء وخرج مع امرأتين من دار النِّبطي.
سار إبراهيم بهذا الزيِّ وسط هاتين المرأتين، فرآهنَّ الجندي فسار وراءهُنَّ حتى بَعدْنَ عن الدار ثم تقدَّم منهن وقال: من أنتُن، ومن أين جِئتن، وإلى أين تَذهَبن؟
فتكلَّمت إحدى المرأتين بكلامٍ تعلَّلت فيه بِعلَّات، ثم تكلَّمتِ الأخرى بكلامٍ مثله، ثم سأل الجندي إبراهيم فبدا من صوته أنه صوت رَجُل، فسأله الجندي واشتدَّ في سؤاله، فأخرج إبراهيم خاتمًا ثمينًا وأعطاه إياه. فزادَتْ رِيبة الجندي وقال: هذا خاتَم رجلٍ له شأن!
فأخذَه وأمر الثلاث أن يَسِرنَ معه إلى رئيس العسكر، فلما وصلنَ أمر كلًّا منهن بالسُّفور، فسفرَتِ المرأتان وأبى إبراهيم أن يُسفر عن وجهه، فجذَب حِجابه رئيس العسكر فبدَت لِحيته، وعرف أنه «إبراهيم بن المهدي!»
فقبضَ عليه وقيَّدَه بالأغلال وبعثَ إلى دِينار بن عبد الله يُخبِره ذلك!
•••
أقبل دِينار في غِبطةٍ مُسرعًا، فوجد إبراهيم مقبوضًا عليه مُقيَّدًا بالأغلال، فساقَه إلى دِيوان المأمون ودخَل مُستأذِنًا فأُذِن له، فركع وحيَّا أمير المؤمنين، ثم قال: بُشراك أمير المؤمنين، فقد قَبضنا على «ابن شكلة» إبراهيم بن المهدي.
المأمون: حسنًا، أين هو؟
دينار: هو مُقيَّد بِبابك يا أمير المؤمنين.
المأمون: حمدًا لله الذي أظفَرَني به. أدخِله يا دِينار.
فخرج دِينار ليُحضره، فقال المُعتصِم: أرى يا أمير المؤمنين أن يُقتَل جزاء خروجه عليك وعِصيانه أمرَك.
وقال العباس: نعم يا أمير المؤمنين، إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ، وقد خرج إبراهيم على الله ورسوله بالخروج عليك.
وهنا جاء دِينار بإبراهيم بن المهديِّ يَحجِل في قُيوده وحولَه الجنود شاهِرين السيوف، فلما رآه المأمون قال له: هيه يا إبراهيم، هيه يا إبراهيم!
فقال إبراهيم: السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.
وأمَرَ بفكِّ أغلاله، ونادى المأمون أحمد، فقال له: خُذه يا أحمد عِندك، فهو صديقُك، وأنت أولى به.
قال أحمد: وما تُغني صداقتي عنه وأمير المؤمنين ساخِطٌ عليه، وإن كنتُ لا أمتنِع من قول الحقِّ فيه.
فقال إبراهيم: يا أمير المؤمنين، إن قتلتَنِي فقد قتلتِ الملوك قبلَك أقلَّ جُرمًا منِّي، وإن عفوتَ عني عفوتَ عمَّن لم يَعفُ ملِكٌ قبلك عن مِثله.
فسَكتَ المأمون ثم تمثَّل:
خُذه يا أحمد عِندك مُكرَّمًا. وقد عفوتُ عنه إلا أن يُحدِث حدَثًا، فراقِبه وامنَعه أن يأتِيَ شرًّا.
بُشرى
فأذِن له المأمون، فدخل فحيَّا الخليفة، فقال له: كيف حال ابن طاهر يا سالم؟
– حالٌ طيِّبة كما يُحبُّ أمير المؤمنين ويرضى، فقد دخل مصر واستولى عليها.
– وهل قبَضَ على واليها عبد الله بن الحَكَم؟
– نعم يا مولاي، وكان ابن طاهر قد حَمَل عليه حملةً قاضيةً، فتفرَّقتْ جنوده، ووَهَنتهُ جُهوده، وتشتَّت شملُه، فلجأ إلى الفُسطاط فأغلق بابها عليه وعلى من بقِي من رجاله، فحاصره قائدُك عبد الله أيامًا فبعث إليه ابن الحَكَم بهديَّة!
فاحمَرَّ وجه المأمون وحملَقَ في وجه سالمٍ وقال في غير تريُّث: وهل قَبِل الهدية؟
– حاشا لعبد الله يا أمير المؤمنين وهو وليُّكَ وقائدك، فقد جاءه رسول ابن الحَكَم بألف وَصيفٍ وألفِ وصيفة، ومع كلٍّ منهم ألف دِينار، فأرسل إليه ابن طاهر يقول: «لو كنتُ قبِلتُ هديَّتك نهارًا لقبلتُها ليلًا، بل أنتم بِهديَّتكم تفرحون، ارجع إليهم، فلنأتينَّهم بجنودٍ لا قِبَل لهم بها، ولنُخرجنَّهم منها أذِلةً وهم صاغرون.» فلما بلغ ذلك ابن الحَكم بعث يطلب الأمان فأعطاه إياه، وخرج مُستسلِمًا!
ثم أعطى الرسول كتابًا يُهنِّئ فيه عبد الله بهذا الفتح ويولِّيه مصر والشام والجزيرة، وكتبَ له في أسفَلِه:
قال: نعم!
فقال: هل يَجِب شكرُ الله على العِباد؟
قال: نعم!
فقال: فهل يَجِبُ شكرُ بعضِهم لبعضٍ عند الإحسان والمِنَّة والتفضُّل؟
قال: نعم!
فقال: فتَجيء إليَّ وأنا في هذه الحالة التي ترى: لي خاتَمٌ في المَشرِق جائز، وفي المَغرِب كذلك، وفيما بينهما أمري مُطاع وقَولي مَقبول، ثم ما ألتفتُ يميني وشمالي وورائي وقدَّامي إلا رأيتُ نعمةً لرجلٍ أنعَمَها عليَّ، ومنةً ختَم بها رَقَبتي، ويدًا لائحةً بيضاء ابتدَأني بها تفضُّلًا وكرمًا، فتدعُوني إلى الكُفر بهذه النِّعمة وهذا الإحسان، وتقول اغدُر بمن كان أوَّلًا لهذا وآخرًا، واسْعَ في إزالةِ خَيطِ عُنُقه وسفكِ دَمِه! تُراك لو دَعَوْتني إلى الجنَّة عيانًا من حيث أعلم أكان الله يُحبُّ أن أغدُرَ به وأكفُر إحسانَه ومِنَّته وأنكُثَ بيعَتَه؟
فسكت الرجل يا أمير المؤمنين، فقال له عبد الله: أما أنَّه قد بلغَنِي شأنك، وتالله ما أخاف عليك إلا نفسك، فارحَل عن هذا البلد، فإن السُّلطان الأعظَم إن بلَغَه أمرك، وما آمَنُ من ذلك عليك، كنتَ الجانِيَ على نفسك ونفس غيرِك.
فقال المأمون: يا صالِح، ذلك غَرسُ يدي، وإلفُ أدَبي، وتِرب نفسي. وما أشكُّ يومًا فيما عَهِدتُه فيه من حُبٍّ وولاء.