مصير الفنان
أعدَّ أحمد بن أبي خالد الأحول دارًا أنيقةً لإبراهيم بن المهديِّ ليُقيم فيها كما أمَرَ المأمون، وليكون في رِعايته وتحتَ رقابته. فأقام بها مَوفور الرَّاحة والتكريم، وأقامت معه جوارِيه: شارِية، ورِيق، ومكنونة، وخالِدة، وصدُوف، ومعمعة، وبعضٌ غِلمانه. وكان يزوره ابناه هِبةُ الله وبقيَّة الله وبعضُ أصدقائه، ويَقضي وقتَه في الأدَب والغِناء ثمَّ في التفكير في مَصيره بعد أن قضى عليه المأمون وأودَعَه عند أحمد بن أبي خالد كالمَسجون، وإن كانت له الحُريَّة في الخروج إلى فِناء الدار وحديقتها والاجتماع بالناس.
وقد كان يُرهِقه هذا التفكير وكان الخوف من المأمون يُقلقه ويتشاءَم من نفسه، ويرى أن اسم «إبراهيم» مشئوم، فما سُمِّي به أحد إلا نالَه من الشؤم نصيب: فإبراهيم الخليل لقِي من نمروز ما لقي وطُرح في النار، وإبراهيم بن محمد ﷺ مات طفلًا صغيرًا ولم يُعمَّر، وإبراهيم الإمام قتلَه مروان بن محمد خَنقًا في سِجن حرَّان، وإبراهيم بن الوليد خُلِع، وإبراهيم بن عبد الله بن الحُسين العلوي قتلَه المنصور، وعمُّه إبراهيم بن الحُسين سقَط عليه السِّجن فمات، ثم هو قد خُلِع من الخلافة وفشِل في ثورته وهُزِم أمام المأمون وقُبض عليه وقُيِّد بالأغلال واعتُقل. فأي مصيرٍ مشئوم ينتظره إلا أن يكون الموت مهما تعلَّل بالآمال.
وجلس يائسًا مُبتئسًا، ثم دخلت عليه جاريته خالدة فرأته واجِمًا حزينًا، فسألته عمَّا به فلم يُجِبها، فخرَجت مُشفِقةً عليه فناداها أن تأتي له بالعود، فذهبت وعادت تحمِله فأخذَه الشجوُ وجعل يغنِّي:
وزاره أحمد بن يوسف أحد كُتَّاب المأمون وصديق إبراهيم، وكان أديبًا راوِيةً مُحدِّثًا، فجعل إبراهيم يُحدِّثه ومن حضر عنده حديثًا من الشعر والغناء، ويروي لهم طرائف بعضُها يُضحِك وبعضها يَعِظ، وأحمد بن يوسف ساكتٌ حتى طال المجلس فقال أحد الحاضرين لابن يوسف: ما لك لا تَنبَحُ يا كلب الروم، قد كنتَ نبَّاحًا فما لك اليوم.
فتبَسَّم إبراهيم بن المهديِّ وقال: لو كنتَ رأيتَني أنا في حضرة جعفر بن يحيى البرمكي لرحِمتَني كما رَحِمتَ أحمد منِّي!
•••
وبينما هم كذلك إذا بمُخارِق المُغنِّي يدخل وهو يترنَّم، فدعاه إبراهيم للغناء، فأبى وأبى الحاضِرون إلا أن يسمَعوا أمير الغناء إبراهيم، فنادى جارِيته فأحضرت آلات الموسيقى، وجلس إبراهيم وحولَه بعض جواريه يُغنِّي في قول أبي العتاهية:
فطرِب الحاضرون حتى خُيِّل لهم أن الدار تهتزُّ طربًا، وأن الإيوان يسير بهم سيرًا، فلما فرَغ تقدَّم منه مُخارِق وقبَّل يده وقال: جعلني الله فداءك يا سيدي، هذا هو الغناء، فأين أنا منك؟
فقال إبراهيم: لولا أني أرفَع نفسي عن هذه الصِّناعة لأظهرتُ فيها ما يَعلَم الناس معه أنهم لم يرَوا مِثلي.
ونهَض القوم، وانفضَّ المجلس، ودخل إبراهيم إلى مَخدَعه. وكان أحمد بن أبي خالد قد وَكَّل به كُبرى جواريه لتُوفِّيه حقَّه في الخِدمة والإعظام، وكانت تُدعى «ميمونة»، وهي من خِيرة الجواري الحِسان، فأقبلَت تسأله في رشاقةٍ ولطفٍ هل من حاجةٍ لسيِّدها، كما تفعل كل يوم، فقد عُنِيَت بخدمته وراحته واطمئنانه حتى جَلَّ مقدارها عنده وأحبَّها. فقال لها: نعم لي حاجة أيتها المَليحة الحسناء.
قالت في استِحياء: وما هي يا سيِّدي؟
قال: أن تُناوِليني هذه الكأس.
فذهبتْ في رفقٍ وتقدَّمت تُناوله، وما كادت تقترِب منه حتى خطَف يدَها فقبَّلها.
فاحمرَّ وجهُها خجلًا وتأخرَّت وقبَّلتِ الأرض بين يديه احترامًا، وخرَجَت مُسرعة، فقال إبراهيم:
وجعل يترنَّم بهذه الأبيات!
•••
مكث «إبراهيم» مُدةً في دار أحمد بن أبي خالد يقضي وقته على هذه الحال، وكان المأمون يسأل أحمد عنه ويتتبَّع أنباءه، ويبعث إليه من يُحادِثه ويُناظِره حتى يقِف على أغراضه وسريرة نفسه.
وذات ليلةٍ خرج المأمون ومعه إسحق المَوصِلي، فمرَّ بالدار التي يُقيم فيها فسمِعا فيها غناء، فوقَفا تحت جَناحها فإذا إبراهيم يُغنِّي في حنانٍ وشجَن:
فقال المأمون لإسحاق: إن صوت إبراهيم ليهزُّني ويُطرِبُني، وما أريد أن يُحبَس عني.
قال إسحق: يا أمير المؤمنين، إن إبراهيم يتمثَّل بما لم يَقُله، ويُغنِّي ما ليس له.
وعاد المأمون إلى قصر الخُلد، حتى إذا انبلَجَ الصُّبح وارتفَع النهار وجلس في دِيوانه، أقبل رسولٌ من إبراهيم إلى المأمون يحمِل قصيدةً من نَظمِه يَستعطِفُ فيها المأمون، فلما قرأها قال: إن من الكلام ما يفوق الدُّرَر ويَغلِبُ السِّحر، وإن كلام عمِّي منه. أطلِقوا عمِّي وردُّوا إليه ماله وائتوني به مُكرَّمًا.
فذهب أحمد بن أبي خالد غيرَ مُتريِّثٍ إلى إبراهيم وجاءه بالبُشرى وطلب إليه أن يسير معه إلى المأمون، فنهَض ولبِس وتطيَّب، ودخل عليه فسلَّم وقبَّل البساط، فأجابه المأمون جوابًا حَسنًا وقال: يا عمُّ صِر إلى المُنادَمة وارجِع إلى الأُنس، فلن ترى منِّي أبدًا إلا ما تُحب.
فقال إبراهيم:
قال المأمون: اجلس يا عمُّ آمنًا مُطمئنًا فلن ترى منِّي ما تكرَه إلا أن تُحدِث حدَثًا أو تتغيَّر عن طاعة، وأرجو ألَّا يكون ذلك منك إن شاء الله.
•••
عاد إبراهيم إلى حُريَّته الأولى، وعاد إلى حياته الفنيَّة، إلى حياة الأُنس والطرَب، وقَرَّبه المأمون ووثِقَ به. ودخل على المأمون ذات يومٍ مُبتذلًا في ثِياب المُغنِّين وزيِّهم، فلما رآه المأمون ضحِك وقال: نزَع عمِّي ثِياب الكبر عن مِنكَبيه!
وكان مُخارِق المغني حاضرًا المَجلِسَ فأذِن له المأمون أن يُغنِّي بحضرة إبراهيم فغنَّى أحد الأدوار، فقال إبراهيم: أسأتَ وأخطأتَ يا مُخارِق.
قال المأمون: يا عمُّ إن كان أساء وأخطأ، فأحسِن أنت.
فقام إبراهيم وجلسَ للغِناء وغنَّى الدور حتى فرَغ منه، فقال المأمون: أحسنتَ والله يا عم.
فقال إبراهيم لمُخارِق: أعِدْه الآن يا مُخارِق.
فأعاده فأحسَن، فقال إبراهيم: يا أمير المؤمنين، كم بين الصَّوت الآن وبينَه في أول الأمر؟
قال المأمون: ما أبعدَ ما بينهما!
فالتفت إبراهيم إلى مُخارِق وقال: إنما مثلُك يا مُخارِق مثل الثوب الوشي الفاخر إذا تغافل عنه أهله سقَط عليه الغُبار فحال لونه، فإذا نُفضَ عاد إلى جوهره.
فابتَسَم المأمون وقال لإبراهيم: حدِّثني يا عم.
قال إبراهيم: يا أمير المؤمنين، قد رأيتُ في منامي بالأمس رؤيا عجبًا.
فقال المأمون: وما هي؟
قال: رأيتُ علي بن أبي طالب في النوم، فمَشينا حتى جِئنا قَنطرة، فذهب يتقدَّمُني، فأمسكتُ به، وقلتُ له: «إنما أنت رجلٌ تدَّعي هذا الحقَّ بامرأة، ونحن أحقُّ به منك.» فما رأيتُ له في الجواب بلاغةً كما يُوصَف عنه.
فقال المأمون: وأي شيءٍ قال لك؟
قال: ما زادَني يا أمير المؤمنين على أن قال «سلامًا سلامًا!»
فضَحِك المأمون وقال: قد والله أجابك أبلَغَ جواب.
فقال إبراهيم: وكيف ذلك؟
قال المأمون: عرَّفك أنك جاهِلٌ لا يُجاوَب مِثلك. فقد قال الله عزَّ وجلَّ: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا. فخَجِل إبراهيم وسكَت. وكذلك لم يفقِد المأمون مَيْله للعلويين ورأْيَه فيهم على الرَّغم مما وقَعَ من أحداثٍ كادت تذهَبُ بمُلكه، وعلى الرغم مما شرَعَه من تدبيرٍ وسياسة جديدة منذ بارَح «مرو» ووَصَل إلى بغداد، فقد كانت سياسةً أراد بها أن يُرضي العرب، ولكنها في الوقت نفسه لا تُغضِب الفرس. وكان الفرس يعرفون مَيْله للشِّيعة العلوية، وإن كان قد قتَلَ عَميدهم الفضل بن سهل، فقد رفَع أخاه الحسَن بن سهل وأكرَمه وخطَب ابنته «بوران» فأعلى نَسَبه وشرَّفه، وضاعَفَ له من التكريم والتَّمجيد بين الناس، وهو تكريمٌ للفرس بين العرب.