حتى لا يضيع العقل مع الأرض
(١) الردُّ على خطابِ شامير في مدريد١
يعنينا هنا أن نؤكِّد، أن كلمة «شامير» التي ألقاها على المُؤتمرِين بمدريد في ٣١ / ١٠ / ١٩٩١م، تُشكِّل نموذجًا — لا شك — مثاليًّا تمامًا للخطاب الصهيوني عامة بمنطقه ومَحاوره الأساسية؛ فرغم الظروف التي أُلقِيَت فيها كلمة إسرائيل، في ظل ضعفٍ عربيٍّ عامٍّ وشامل، مهما سار العربان مُتبخترِين، وتحت مظلةٍ من السيطرةِ الأمريكية شبهِ الكاملة، ومع الاقتدار الإسرائيلي المُتفوِّق على كافةِ المستويات، والذي لا يُجادل فيه إلا مكابر، فإن كلمة شامير كانت على ذات الخط، وذات الدرجة، وذات القَدْر، الذي كان الخطاب الصهيوني يُراعيه دومًا، ودون أن يحيد عنه أُنملةً بشكلٍ ذكي. وليس جديدًا أنها تُلقى في ظرفٍ عالمي يتحدث عن نظامٍ جديد، يقول للدنيا إنه يسعى لإرساء قواعد السلام والأمن والمحبة على الكوكب الأرضي، وبخاصةٍ في أشد مناطق العالم سخونة، حتى لو ثَوى الجمر مؤقتًا تحت رمادٍ ظاهري، تصنعه أنظمةٌ تابعة. كما لم يغِبْ عن بال الخطاب أنه يتحدث إلى العالم كله، وأمام كل الشبكات الإعلامية الدولية؛ فوضع بحسبانه مشاعر الجماهير العريضة على تنوُّعها واختلاف توجُّهاتها، فجاءت صياغة الخطاب واضعةً باعتبارها أنها كما لو كانت تُخاطِب كلَّ فردٍ على حدة؛ ومن ثَمَّ فإننا نفترِض أن الخطاب قد أحاط تمامًا بكل الأغراض المطلوبة منه، واستخدم كل الممكنات من أساليبَ متاحةٍ تتناسب مع المقام، وعَمَد إلى كلِّ طرقِ الإقناعِ وعرَض قضيتَه كاملةً تامة شاملة مانعة بهدفِ كسبِ أكبر تأييدٍ جماهيري ممكن؛ حيث إنه حاصلٌ سلفًا على تأييد النظام الجديد؛ وعليه فإننا سنتعامل مع كلمة شامير في مدريد كمُعبرٍ صادق عن الخطاب الصهيوني، وسنُحاول قراءةَ طبيعةِ هذا الخطاب ومُكوِّناته وأغراضه ومناهجه.
والمُدقِّق في الخطاب يمكنه أن يلحظه وهو يتحرك على عدةِ محاور، تم ربطها ببعضها في منظومةٍ شديدة الجودة، تم تركيبها معًا بتقنية ومهارةٍ عالية؛ فكان المحور الأساسي للحركة جيئة وذهابًا، ومركز الحركة، هو التركيز على الاستجابة النفسية للمستمع، فقدَّم افتراضه المُسبَق لهذه الجماهير بأنه يخاطب كلَّ واحدٍ منهم كشخصٍ متحضر، بلغ من الحضارة قمَّتها، وهذا وحده لونٌ من تملُّق المستمع لكن بحيث يترك في نفسه أثرًا مطلوبًا، هو أن الخطاب يتعامل معه بكل احترامٍ لأنه شخصٌ مُتحضِّر حتى لو لم يكن المستمع يستحق هذا الاحترام، أو يحوز تلك الدرجة الحضارية، لكنها على أية حال الطريقة المُثلى لجعل المستمع يتجاوبَ مع كم الاحترام وكمِّ الحضارة المفترض فيه! وهكذا فقد سلَّم الخطاب للمستمع أنه رجلٌ متحضر، مسالمٌ ينفر من الحروب، يريد الرفاهة لجميع الأمم وكل الشعوب بلا استثناء، يرفُض التعصُّب بكافَّة أشكاله وينفر من الاضطهاد على أُسسٍ عرقية أو دينية بسبب اللون أو الجنس أو العقيدة. وبإيجاز فالخطاب يفترض في المتلقي ليبراليةً ملائكية، ومن هنا كان الكسب الأول المطلوب، على المستوى السيكولوجي، هو أن يقول للمتلقي أنت متحضر، ولهذا نحن نحترمك ونثق في حُكمِك على ما سنقول.
أمَّا المحور الثاني الذي ترتبط حركته بحركة المحور الأول، فهو الذي يرُكِّز على الجانب الحقوقي! وهو لا شك أهم أعمدة التعامُل بين المتحضِّرين ويتم فيه تأكيد الحقوق التاريخية الثابتة لليهود في أرض فلسطين منذ آلاف السنين. وهنا يتداخَل المحور الثالث على نفس الميكانيك لينقل الأمر الحقوقي المُسلَّم به حضاريًّا إلى اليد الإلهية مُنتقِلًا بذلك إلى المِحور الديني؛ فتلك الحقوق قراراتٌ إلهية، وهِبةٌ سماوية، واختيار أحكم الحاكمِين الذي فضَّلهم على العاملين (؟!) وهو القرار الذي يؤمن به إلى جانب اليهود، العالم المسيحي الغربي كله، وذلك باحتساب التوراة صاحبةَ ذلك القرار الحقوقي القُدسي بعهدَيه (القديم أو التوراة، والعهد الجديد أو الأناجيل) مع البصمة التأكيدية، والقول التوثيقي على الناموس التوراتي بلسان المسيح «ما جئت لأنقض الناموس. ما جئتُ لأنقض. بل جئتُ لأكمل.» وهنا وبسرعة يتم إدخال المَحورَين الحقوقي والتاريخي، مع المحور الايماني الديني على ميكانيك الحركة المحورية الأساسية «النفساني» لتتشابك الحلقات التي تؤدِّي إلى راحة ضمير المؤمن المسيحي الغربي تمامًا والمتحضر جدًّا، إزاء مساهمته بالموافقة على تأمينِ حياةِ هؤلاء المؤمنين لتحقيقِ كلمة الله الصادقة الثابتة، مع ما يُفترض في المستمع المُتحضِّر من رغبةٍ في إثبات تَحضُّره، بتأمينِ كل الحقوق، لكل العقائد والديانات مهما اختلَف معها.
(١-١) ضمير العالم
ولإحداث الأثر المطلوب من المحور الأساسي «النفساني» فقد ترك الرجل أثرًا طيبًا فعلًا، فكان رقيق الحاشية، عفَّ اللسان، وديعًا كالحِملان يمد يده إلى جيرانه يستجديهم الصداقة والأمان، رغم أنه الأقدر والأقوى، ولكنه من جانبٍ آخر قام يُردِّد «أن الموضوع ليس موضوعَ أرض، إنه موضوع وجودنا ذاته.» فأي لون من التنازُل يعني دمارَ شعبِ إسرائيل المسالم (!) وإزالته من الوجود. وذلك في ضوء المقارنة التي قدَّمها لتَعدادِ شعب إسرائيل «٤ ملايين»، مع من حولهم من عُتاة القتلة المتعطشين للدماء وعددهم «١٧٠ مليون عربي» مع ضالة مساحة أرض إسرائيل التي تستدعي الشفقة «٢٧ ألف كم» وسط محيطٍ عربيٍّ شرس يبلغ «٢٤ مليون كم» والحجة على المستوى النفسي مع تغييب الحقائق الأخرى تبدو غاية في الوجاهة. يبدو فيها شعب إسرائيل بطلًا للخير يُدافِع عن وجوده وسط غابة من الشر، مما يستدعي مشاعر الاشمئزاز من العرب الذين يستأسدون على الدولة الوديعة!
وقد عمَد الخطاب — بذكاء — إلى استحضارِ مشاعرَ أخرى تمتزج مع مشاعر الاشمئزاز، عندما ذكر أن كل عدوانٍ عربي على إسرائيل تم دحره! لتمتزج مع المشاعر الأولى مشاعرُ الاحتقار أيضًا مع الاستهانة والاستخفاف، من شأن أجلاف البوادي، الذين يتحيَّنون فرصة لا يجيدون حتى صنعها والوصول إليها. رغم ذلك فالرجل يمد يده إلى جيرانه أمام كل العالم ويشرح ما وقع على شعبه من مظالم، وذلك في قوله: «وللأسف فإن الزعماء العرب الذين كنا نَودُّ مصادقتهم، رفضوا الدولة اليهودية في المنطقة، وادَّعَوا أن أرض إسرائيل هي جزء من الأرض العربية … وانطلاقًا من تحدِّي الشرعية الدولية، فقد حاولت الدولة العربية احتلال وهدم الدولة اليهودية.»
وهكذا يختفي الفلسطينيون تمامًا ويصبح العرب — بلا سببٍ مفهوم أو واضح — يريدون تدمير إسرائيل المسالمة التي تسعى لصداقتهم وحسن جيرتهم لذلك أصبحت المسألة ليست مسألة أرض، إنما مسألةُ وجودِ شعبِ إسرائيل، وسط الحشد العربي الشرير! ومن ثَمَّ عمَد الخطاب مباشرة إلى الضغط على ضمير العالم بمأساة الشعب اليهودي الذي لاقى صنوف الاضطهاد، وأنه قد آن الأوان كي يصحو ضمير العالم ليرُدَّ لهذا الشعب أبسط الحقوق، وهي الأمن، بل ويطلب من اليهود الصفح والمغفرة (ألسنا عالمًا يدَّعي التحضر؟) ومن هنا أخذ يُوجِّه حديثه إلى كل فردٍ في هذا العالم الخاطئ ويقول: «لقد تمَّت ملاحقة اليهود عبر التاريخ في كل القارات تقريبًا … وتعرَّض اليهود للاضطهاد والتعذيب والذبح. وشهد هذا القرن خطَّة إبادة نُفِّذت على أيدي النظام النازي وهذه الكارثة والإبادة الجماعية المنقطعة النظير، والتي قضَت على ثُلث شعبنا تمَّت في واقع الأمر، وأمكن تنفيذها لأن أحدًا لم يدافع عنا؛ فقد كنا بلا وطن، ولكن هذه الكارثة هي التي جعلت المجتمع الدولي يعترف بمطالبنا، القائمة على حقنا في أرض إسرائيل.» وهنا نجدنا مُضطَرِّين إلى تأجيل تناول المحورَين (التاريخي والديني) لِنحاول أن نفهم الآن: كيف أمكن للمذابح النازية ضد اليهود، أن تؤدِّي إلى اعتراف العالم بحق إسرائيل في فلسطين، وقيام الدولة الصهيونية على أرضها؟ ونلاحظ أن الخطاب — بعد تهيئة المستمع نفسيًّا وعاطفيًّا، مع إشعال جذوة الضمير الحضاري وعُقدة الذنب — ينتقل فورًا إلى إعلان أنه رغم ظلم العالم لليهود، فليس لأحدٍ حق الادعاء بقيام دولة إسرائيل؛ لأن ضحايا اليهود أيام النازي كانوا الثمن المدفوع سلفًا، فقدَّموا أنفسهم قربانًا على مذبح قيام الدولة. هذا بالطبع حق اليهود التاريخي الديني المعلوم في تلك الأرض، وكل ما في الأمر أن العالم ربما نسي تلك الحقيقة بعد طولِ اغترابِ اليهود عن فلسطين وما حدث من النازي كان فقط عامل الإنعاش للضمير العالمي الخاطئ.
الخطاب الصهيوني بذلك يعمِد إلى لونٍ فاضح من التزوير والتلفيق؛ فرغم أن المذنب هو النازي، فهو لا يذكر أبدًا أنه ليس من المقبول حضاريًّا وحقوقيًّا وإنسانيًّا أن يدفع الفلسطينيون وِزرَ الجريمة النازية، والمعلوم أنه في فلسطين تحديدًا وعندما وقع اضطهادٌ على اليهود كان بدايةً من جانب الرومان الذين دمَّروا الهيكل الثاني، وشتَّتوا اليهود في بقاع الدنيا، لأسبابٍ تاريخية معلومة. أمَّا الاضطهاد الثاني فقد جاء على يد الصليبيِّين عندما استَولَوا على القدس عام ١٠٩٩م، وقاموا بحرقِ اليهود داخلَ معابدهم، مما أدَّى إلى هروبهم الجماعي من فلسطين، وهو ما وضح في سقطةٍ لسانية بخطاب شامير عندما قال: «إن اليهود كانوا موجودِين باستمرارٍ في فلسطين باستثناءِ فترة المملكة الصليبية القصيرة.» لكنه بالطبع لم يذكر السبب، كما لم يذكر أن سبب تواجُدهم بعد ذلك في فلسطين كان سماحَ صلاح الدين لهم بالعودة بعد استعادةِ العربِ لها من يد الصليبيِّين.
أمَّا إشارة الخطاب إلى أن كل شعوب العالم اضطَهدَت اليهود الذين عاشوا بين ظَهرانَيهم، فهو يستحق الدهشة والتساؤل؟ لماذا تُجمِع شعوبٌ مختلفةُ المواطن مُتباينةُ المشارب والعقائد، على كراهيةِ مُواطنِين مثلهم، ولكن من ملة اليهود؟! هذه فزُّورة لا يحلها إلا السيد شامير.
(١-٢) العلاج النفسي
واللافت للنظر هو تركيز الخطاب الصهيوني الدائم، على الجريمة الهتلرية ضد اليهود ففي كل «حدوتة» وفي أي مناسبة (وبدون مناسبة) يتكرر ذكر المذبحة النازية لليهود التي اكتَسَت بطابعٍ ديني؛ بحيث لا يُذكر هتلر إلا وتُذكر كراهته للدين اليهودي وأتباعه، وأنه ما ذبح هؤلاء إلا لكونهم يهودًا! حتى نسي العالم أن ضحايا النازية من غير اليهود قد بلغوا ستين مليون إنسان، وأن الضحايا المدنيِّين فقط وصل عددهم إلى ثلاثة ملايين بولوني، وستة ملايين سلافي، وضاع ذكرهم وسط الضجيج والصخب الصهيوني، والندب والعويل على شُهداء البشاعة البشرية ضد اليهود والذين اتخذ موتهم طابعًا قدسيًّا كما لو كان ضحايا هتلر من اليهود فقط! وأنهم فقط أصحابُ حقٍّ في القداسة وأصحاب حق في جَلْد ضمير الدنيا بالسياط، ووسيلةٌ لكسب التأييد المادي والمعنوي، وإذا كانت هذه الجريمة كما يقول خطاب شامير سببَ صحوةِ الضمير العالمي لإقامة دولة إسرائيل، فلا شك أن الخطاب العربي الفاشل كان وراءَ خمودِ ذات الضمير أمام إبادةِ وتشريد الفلسطينيِّين! إضافةً إلى العوامل الأخرى المُتعدِّدة، البعيدة عن موضوعنا هذا بشأنِ طبيعة الخطاب الصهيوني. لكنها على أيةِ حالٍ تُوضِّح لنا لماذا لم تقم دولة إسرائيل على أشلاء ألمانيا المنهزمة وقامت في فلسطين؟
ثُمَّ يَعمِد الخطاب الصهيوني مرةً أخرى إلى تشغيل المحور السيكولوجي؛ فبعد أن يُعدِّد خطايا العالم في حقِّ شعب الرب المختار! ويضع الضمير العالمي في حالةِ أرق، وشعورٍ حادٍّ بالذنب والخطيئة، فإنه يُسارِع متبرعًا بتقديم العلاج النفسي والبلسم الشافي لذلك الضمير المعذَّب، حتى يكون الجميع ممتنِّين وشاكرِين؛ فيربط الخطاب بين الاضطهاد النازي وبين الأشرار العرب الذين يكيدون للدولة الوليدة، ليضع النازي والعرب داخل إطارٍ واحد، فيمتزج الشر العربي بالشر النازي، ويصبح العالم مسئولًا تمام المسئولية إزاء الشروع في الجريمة الجديدة، وأن يمنعها قبل أن تقع، وعلى الإنسانية أن تقوم بواجبها إزاءَ ما يمكن حدوثه، وهو ما يلتقي صداه مع العقيدة المسيحية التي تقبل بفكرة الضحية، مقابل الفِداء والخلاص، أو بالنص الإنجيلي الذي يضع مشروعيةَ رفع الخطيئة (بدونِ دمٍ وسفكِ دم لا تحصُل مغفرة).
والضحية موجودةٌ والحمد لله، وعلى الفلسطينيِّين أن يُقدِّموا الفداء لخطايا العالم، ويرفعوا الإصر عن ضميره اليقظ لأن المسيح نفسه، وهو الإله، قد تمَّت تضحيته على الصليب من أجل راحةِ ضمير البشرية ورفع الخطيئة عن بني آدم فهل الفلسطينيون أحسن من الله؟
وهكذا تجد البشرية الغربية المتحضرة المُعذَّبة، التواقة إلى التكفير عن ذنبها لكن بعيدًا عن جلدها خروفًا يذبح بدلًا منها، لتعود لتلك النفس راحتها، واتزانها وتماسكها، وهو ما أجاد الخطاب الصهيوني صناعته على الدوام وباقتدار؛ ومن ثَمَّ تبرز إلى جوار طبيعة الخطاب التي تستهدف الجانب النفسي مع استثمار المعاني النظرية لمفهوم التحضُّر، التي لا بد أن تنفر من الاضطهاد بسبب اللون أو الجنس أو العقيدة، طبيعةٌ أخرى تستثمر البعد الديني؛ فاليهود لم يُضطهَدوا إلا لأنهم يهود، ويصبح من المنطقي ألا يطلبوا التعويض ممن اضطهدوهم بأرضٍ في أوروبا لسببٍ ديني بسيط معلوم هو أن أوروبا ليست أرض اليهود، أو كما قال موشى ديان لصحيفة لوموند في ٥ / ١٠ / ١٩٧١م «بما أننا نملك التوراة وأننا شعب التوراة فلا بُد أن نملك أيضا أرض التوراة.»
وتتم المغالطة الكبرى بالخلط السريع للأوراق، ولا يبقى مكانٌ في العالم يصلح لليهود ومن حق اليهود، وترضى به النفس الأوروبية المُعذَّبة دون أن تخسر أرضًا، سوى الوطن اليهودي الذي سلَبه الفلسطينيون. والأمر مشروع قدسيًّا بقرارٍ إلهي بالكتاب المقدَّس المُصدَّق وتلك إرادة الله الذي لا رادَّ لقضائه.
(١-٣) التزوير في الخطاب
والوقوف مع الترنيمة المعذبة لليهود حول الجريمة النازية، يكشف لنا بُعدًا أخر بالخطاب الصهيوني، وهي وقفة للتذكير بمجموعةِ حقائق، تُساعِد على حل اللغز الذي طرحه السيد شامير في قوله إن المذبحة الهتلرية، كانت السبب الحقيقي وراء قيام دولة إسرائيل!
ربما ما زلنا نذكُر ما حدث في بغداد مع بدء الهجرة اليهودية المنظمة إلى إسرائيل، بتخطيط وإشراف الصهاينة عندما تَردَّد يهود العراق في قيد أسمائهم بكشوف الهجرة، فلجأت العصابات الصهيونية المسلحة إلى إلقاء القنابل على مراكزِ التجمُّع اليهودي لإشعارهم أنهم في خطرٍ لدفعهم للهجرة إلى إسرائيل. وهو الحدث الذي تزامَن مع حالاتٍ أخرى شبيهة في مواقعَ أخرى من العالم كما تزامن مع بداية النشاط الفعلي للصهيونية العالمية. وكان أخطر تلك الأساليب هو ما حدث في ألمانيا النازية في قضية «إنجمان» المعروفة وما كشفت عنه د. «حنا أرندت» في كتابها «إنجمان في القدس»، وأَوردَت به مجموعةَ وثائق تثبتُ وجود تعاونٍ وثيق بين السلطات النازية وبين المؤسسة الصهيونية في فلسطين، وأن من بنود ذلك التعاوُن أنه كان بإمكان أيِّ يهوديٍّ ألماني أن يُهاجِر إلى إسرائيل، شريطة أن يُحوِّل أمواله إلى بضائعَ ألمانية. وقد قدَّم إنجمان مساحاتٍ من الأرض للصهاينة كمعسكراتِ تجمُّع لليهود ولتهجيرهم بالإكراه إلى فلسطين.
أمَّا ما حدَث ليهودِ تلك المعسكرات فهو البشاعات التي كَشفَت عنها قضية كاستنر، الذي باع يهودَ تلك المعسكرات للنازي بالتعاون مع إنجمان وهي من القضايا التي هزت إسرائيل، وكَشفَت أن زعماء الصهاينة وقياداتهم، قاموا بتجهيز أغنياء اليهود إلى فلسطين للحصول على الأموالِ إضافةً للعناصر الفعالة كالعلماء والشباب بينما تُرِكَت في المعسكرات بقيةُ اليهود من عناصرَ غيرِ مرغوبٍ فيها، وهم من تمَّت إبادتهم على يد النازي بعلم القيادات الصهيونية وتعاوُنها، لكسب العطف والتأييد العالمي، «وهو ما أدَّى بعد ذلك وبالفعل، إلى قيامِ دولة إسرائيل».
وبموجب الاتفاق قام «إنجمان» بتأمينِ قطارٍ خاصٍّ لحمل المهاجرين من النخبة المختارة الممتازة، ورافقهم بعضُ النازيِّين إلى الحدود لضمان سلامتهم، وقد قال كاستنر إن عددهم كان ١٦٤٨ شخصًا غادروا إلى إسرائيل مقابل ٤٧٦٠٠٠ تمت التضحية بهم في المجزرة «وهو الأمرُ الذي يُفسِّر لنا تأكيد شامير على أن تلك المجزرة، كانت السبب وراء قيام إسرائيل».
قد شهد على تلك المؤامرةِ الكبرى أحد القلائل الذين تمكَّنوا من الفِرار من معسكر «أوشيتز»، هو «رودلف فربا» وذلك في جريدة لندن ديلي هيرالد عام ١٩٦١م، بقوله: «نعم أنا يهودي، لكني أَتهِم قادة اليهود بأنهم أبشعُ مُمارسي الحروب فتلك المجموعة كانت على علمٍ مُسبق بما سيحدث لإخوانهم في غُرف الغاز النازية، ومن بينهم ستنر رئيسُ مجلسِ يهود هنغاريا، وقد استقل عددٌ كبير من يهود هنغاريا الفقراء قطاراتِ النقل طائعِين دون مقاومة؛ لأنهم كانوا قد أخذوا تطميناتٍ من القادة الصهاينة أنهم في طريقهم إلى الحرية، بينما كانوا يُساقون إلى الإعدام». أمَّا جريدة صوت الشعب الإسرائيلية فقد قالت في عام ١٩٥٥م «إن كل أولئك الأشخاص، الذين ذبح الألمان أقرباءهم في هنغاريا، يعلمون الآن وبوضوح، «أن قيادات الصهاينة هي التي دبَّرت الجريمة مع النازي».»
ولمَّا فاحت الفضيحة، وقُدِّم كاستنر للمحاكمة في إسرائيل بضغط الرأي العام لكشف الحقائق، عقَّبَت صحيفة يديعوت أحرونوت في ١٩٥٥م بقولها: «إنه إذا تم تقديم كاستنر للمحاكمة فإن الدولة برُمَّتها ستنهار، سياسيًّا ووطنيًّا نتيجة ما ستكشِف عنه تلك المحاكمة.» ولم يَمضِ قليلٌ على بدء المحاكمة حتى سقط كاستنر صريعًا رميًا بالرصاص من مجهول، وكُشِف بعد ذلك أن قاتله هو أكشتاين العميل السرِّي في جهاز الموساد.
وكان السؤال: هل من المعقول أن تُقدِّم القيادة الصهيونية هذا العدد الهائل من اليهود للذبح؟ يجد إجابته أولًا في قيام الدولة. وثانيًا في شهاداتٍ منها شهادة «موشى شوايفر» مساعد كاستنر الذي قال بهدوء: «نعم كان يهود هنغاريا عددًا كبيرًا لكنهم للأسف لم يكونوا يتمتَّعون بأي أيديولوجيةٍ يهودية.»
أمَّا قائد الهاجاناه «فايفل بولكس»، فقد التقى بإنجمان في جروبي القاهرة، وأبدى رضاه التام عن سير التعاون اليهودي مع النازي كما هو مرسوم له (انظر مجموعة وثائق التعاون النازي الصهيوني/كالتون، أستراليا).
لكن السؤال الأكثر منطقيةً هو: إذا كانت الجريمة النازية قد حَدثَت بالفعل، فلماذا تطوَّع النازي وسمح للنخبة اليهودية بالهجرة؟ والسؤال وجيه لكن الوقائع تقول ما يفيدنا بإجابةٍ مقنعةٍ؛ فلَعلَّنا نَذكُر أن منظَّمة الأورجون اليهودية في فلسطين قد قامت بإعلانِ الحرب رسميًّا ضد حكومة الانتداب البريطانية عام ١٩٤٤م. ونظَّمَت نشاطاتٍ إرهابية متتالية ضد القوات البريطانية في فلسطين، وهو ما جاء في سقطةٍ أخرى بخطاب السيد شامير في مدريد في قوله: «لقد قامت الدولة اليهودية وتكونت لأن الطائفة اليهودية الصغيرة بفلسطين أيام الانتداب ثارت على الاحتلال الإمبريالي!» سقطة السيد شامير هنا فاضحة ففي الوقت المفترض فيه، أن اليهود يحاربون الألمان، وأنهم ضحية المجازر النازية كان اليهود في فلسطين يقومون بنشاطاتٍ إرهابية ضد بريطانيا (؟!) الأمر واضح تمامًا تؤيده العلاقات غير الخفية التي قامت بين عصابة «شتيرن» اليهودية بفلسطين، وبين إيطاليا الفاشية وشنَّت بموجبها عددًا من الهجمات الإرهابية على البريطانيِّين بفلسطين، أمَّا مناحيم بيجن زعيم عصابة الأورجون، فقد وصل لفلسطينَ كجنديٍّ في الجيش البولوني لمقاتلة النازية، ثُمَّ فر من الجندية ونظَّم عصابةً لقتالِ البريطانيِّين وقتل الفلسطينيِّين.
هكذا تمَّت الخطة الصهيونية على ثلاثةِ محاور: مِحور يهود أوروبا ومهمته قتال النازية لكسب تأييد الحلفاء، ومحور ألمانيا للتخلُّص من نفاياتٍ يهودية لا تؤمن باليهودية وحقوقها التاريخية ليتم بها كسبُ عطفِ العالم والضغط على ضميره، في أشد الظروف العالمية توتُّرًا. ومحورٌ ثالث كان فيه صهاينة فلسطين يُقدِّمون للنازي خدماتهم الجليلة، ويقاتلون بريطانيا لصالحِ دول المحور، تنفيذًا للاتفاق غير المعلن.
وهكذا تنكشف لنا أهمُّ جوانبِ طبيعةِ الخطاب الصهيوني وهو التزوير الفاضح، وتهديد ضمير العالم دومًا بدم اليهود المسفوك لأنه إذا كان «بدونِ دمٍ وسفكِ دم لا تحصل مغفرة.» فإن ناموس الصهيونية قد أكَّد «بدونِ دمٍ وسفكِ دمٍ لا تقوم لإسرائيل دولة.»
(١-٤) الدين والعنصر
وقد كان مناط احتجاج الخطاب الصهيوني في مدريد هو أن «الزعماء العرب الذين كنا نود أن نُصادقهم رفضوا الدولة اليهودية في المنطقة، وادَّعَوا أن أرض إسرائيل هي جزء من الأرض العربية.» وهنا تحتشد مجموعة من المغالطات والتلفيقات؛ فالخطاب لا يذكر الأرض باسمها التاريخي الصادق «فلسطين» إنما يشير إليها بوصفها «أرض إسرائيل»، هو ما يستدعي مجموعةَ تداعياتٍ تاريخية، مع مجموعةِ مداخلاتٍ تلفيقية تربط تلك الأرض بشعبٍ واحد فقط، عاش مع مجموعةِ شعوبٍ أخرى على تلك الأرض على مر العصور التاريخية، لكن بحيث يبدو أنه لم يكن هناك سوى شعبٍ واحد هو الشعب الإسرائيلي.
والخلط مقصود، وينطلق من خلطٍ أساسي في مفهوم الخطاب الصهيوني وأُدلوجته، ما بين مفهوم العرق أو الجنس، وبين مفهوم الدين، بحيث يتداخلان ويصبح العرق دينًا، والدين عرقًا. كما يسمح بتداخلٍ آخر مع التراث الديني للمسيحيِّين بإجراء التطابُق في الخطاب بمهارة علاقات التطابُق الدائري في علم المنطق، أو أنظمة التكافؤ الرياضية؛ فالخطاب يتحدث عن رفض العرب ﻟ «الدولة اليهودية» وادعائهم أن «أرض إسرائيل» عربية فتتطابَق هنا الدائرة الكلية لمفهوم «الدين اليهودي» وتتكافأ مع الدائرة الكلية ﻟ «أرض فلسطين». لكن بعد حذف «فلسطين» ووضع «إسرائيل» لِتُصبِح فلسطين إسرائيل ويُصبِح شعبها الوحيد هو الشعب الإسرائيلي، والدين الوحيد الذي تَواجَد فيها على مر العصور، هو الدين اليهودي وحده دون بقية الأديان.
والمغالطة الثانية تتضح في إشارته إلى أن من ناصبوا الدولة الإسرائيلية العداء هم «الزعماء العرب». المسألة هنا طموحات من الزعامات، مع غزلٍ رقيق للشعوب العربية فنحن أصدقاءُ كشعبَين، وأهل وبنو عمومة. المشكلة فقط في طموحات الزعماء للتوسُّع.
أمَّا المغالطة الثالثة فهي إجراء المطابقة السريعة بين مفهوم الدين اليهودي وبين العنصر أو الجنس الإسرائيلي، الذي عاش كقبيلةٍ ضمن عددٍ كبير من الشعوب الأخرى التي ذَكرَتها التوراة في فلسطين مثل الكنعانيِّين (الفلسطينيِّين) والحيثيِّين، والعمونيِّين والأدوميِّين والموآبيِّين، والفرزيِّين، واليبوسيِّين … إلى آخر القائمة المعروفة. ثُمَّ تُجرى المطابقة الدائرية مرةً أخرى بين اليهودية كدينٍ بعد أن أصبحت جنسًا وبين يهود اليوم المُتناثرِين بين جنسيات العالم على تفرُّقها، بحيث يظهر هذا الشتات غير المؤتلِف كما لو كان جنسًا واحدًا، وعرقًا بذاته، لمجرد أنهم يدينون بدينٍ واحد هو اليهودي، بحيث تنطلي الأُكذوبة الكبرى على جماهير الدنيا تأسيسًا على مدخلٍ منطقي سافر التزوير، وعلى أساسٍ ديني عقائدي ينهض على أُسسٍ أسطورية خَلقَت تتابعًا عرقيًّا عنصريًّا بالكتاب المقدَّس لشعب إسرائيل القديم بحيث يبدو يهود اليوم كما لو كانوا ينحدرون عن الآباء التوراتيِّين الأوائل، إبراهيم وإسحاق ويعقوب.
وربما ساهم في ابتلاع البعض لتلك الفرية خاصةً المُتدينِين، هو انعزال أصحاب الديانة اليهودية عن غيرهم في كل المواطن التي عاشوا فيها بحيث بدَوا كما لو كانوا مُحافظِين تمامًا على نقاء البَذرة الإبراهيمية منذ ألوف السنين في أصلابهم الطاهرة، وهو افتراضٌ يقوم على التسليم بلونٍ خارق من العفاف الجنسي المنقطع النظير، وهو ما لا تنطق به سيرةُ بناتِ اليهود، لا اليوم ولا حتى في العصور التوراتية مند البدء … وباعتراف الكتاب المقدَّس ذاته.
وبنظرةٍ سريعة عَجلى على إصحاحات الكتاب المقدَّس يمكنك أن تجده يموج بالصخب الجنسي. ونموذجًا لذلك ما جاء به مع الرجل الأول في تاريخهم، البطرك إبراهيم الذي حكى الكتاب عنه: «فانحدر إبرام إلى مصر وقال لساراي امرأته إني قد علمتُ أنك امرأةٌ حسنة المنظر … قولي إنك أختي ليكون لي خيرٌ بسببكِ وتحيا نفسي من أجلك … فأُخِذَت المرأة إلى بيت فرعون، فصنع لإبرام خيرًا بسببها، وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وأتن وجِمال» (سفر التكون، ٢١).
هكذا نجد البداية لا تُبشِّر بخيرٍ مع هذا الادعاء بالنقاء الجنسي على مَرِّ العصور. ولسنا هنا في مقام الدفاع عن نبيٍّ جليل، لكن المُتابِع للأسفار يجد النبي «إرميا» ينوح على تفشِّي الزنا بين بنات مملكتَي يهوذا وإسرائيل ويقول: «هل رأيت ما فعلت العاصية إسرائيل، انطَلقَت إلى كل جبلٍ عالٍ وإلى كل شجرةٍ خضراء وزنَت هناك … ولم تَخفِ الخائنة يهوذا أختها، بل مضَت وزنَت هي أيضًا» (سفر إرميا، ٣)، وصهلوا كلُّ واحدٍ على امرأة صاحبه» (إرميا، ٥)، بل إن الرب يهوه أخذ ينادي نساء شعبه المختار «ارفع ذيلَكَ على وجهِكَ فيرى خزيك، فسقك وصهيلك، ورذالة زناك على الآكام، في الحقل رأيت مكرهاتك، ويلٌ لك أورشليم، لا تطهُرين حتى متى؟» (إرميا، ١٣). ثم يُنادي مملكة يهوذا «أزنيتِ على اسمك وسكبتِ زناكِ على كلِّ عابر … وصنعتِ لنفسكِ مرتفعاتٍ مُوشَّاةً وزنيتِ عليها وصنعتِ لنفسك صور ذكور وزنيتِ بها … وفرجتِ رجلَيك لكلِّ عابر، وأكثرتِ زناكِ وزنيتِ مع جيرانكِ بني مصر الغلاظ اللحم الذين منيُّهم كمَنيِّ الحمير وزدتِ في زناكِ لإغاظتي … وأسلمتكِ لمرام مُبغضاتكِ بنات الفلسطينيِّين اللاتي يخجلن من طريقكِ الرذيلة، أعطيتِ كل محبِّيك هداياك ورشيتِهم ليأتوكِ من كلِّ جانبٍ للزنا بكِ وصارَ فيكِ عكس عادة النساء في زناك؛ إذ لم يزن وراءك بل أنت تُعطِين أجرة ولا أجرة تُعطى لك، فصرت بالعكس» (سفر حزقيال، ١٦).
وهذا قليلٌ من كثير. وربما كل شبق بنات صهيون، الذي كان يدفعهن إلى الصهيل عند الوصال (بتعبير الكتاب المقدَّس)، وإلى صناعةِ ذكورٍ صناعية لمزيد من الإشباع، ودفع الأجور للرجال، وهو الذي دفع دولة إسرائيل الحالية، إلى وضع قانونٍ لا يعتبر الفرد بموجبه يهوديًّا إلا إذا كانت أمه يهودية ومن ثم أصبح النسب اليهودي للأم لا للأب. ولو طبَّقنا ذلك القانون على «داود» مؤسس المملكة التوراتية القديمة، وعلى ولده «سليمان» أشهر ملوكهم فسنجد الأول حفيدًا لامرأةٍ تُدعى «راعوث» لم تكن من بني إسرائيل جنسًا ولا تدين باليهودية بل كانت موآبية، أمَّا سُليمان فقد رُزق به أبوه «داود» من امرأةٍ حيثية لا يهودية ولا إسرائيلية. وطبقًا للقانون فإن كليهما ليس يهوديًّا ولا إسرائيليًّا.
(١-٥) الجانب الحقوقي
أمَّا المغالطة الكبرى في كلمة السيد شامير فكانت في قوله إن الزعم بأن أرض إسرائيل أرضٌ عربية مجرَّد ادِّعاءٍ فينتقل الخطاب إلى المحور التاريخي، أو (الحقوقي الديني التاريخي معًا)، ليقول دون أن يرِف له جَفن: «إننا الشعب الوحيد الذي ظل على أرض إسرائيل بدونِ توقفٍ لمدة أربعة آلافِ عامٍ متصلة … ونحن الشعب الوحيد الذي كانت أورشليم عاصمته، ونحن الشعب الوحيد الذي تُوجد أماكنه المقدَّسة فقط في أرض إسرائيل.» ورغم ما في مقولةِ الأربعة آلاف سنة من مغالطة، لأننا هنا في مقام قراءة طبيعة الخطاب وليس الرد بالوثائق، فإن الخطاب يُريد أن يقول للجماهير ببساطة: إن بني إسرائيل (متطابقًا معهم يهود اليوم) كانوا أصحاب أرضِ فلسطينَ من أقام العصور التاريخية.
وما دام الرجل يتحدث كمؤمن صادق الإيمان، حريصٍ على عقيدته ومحارمِ دينه، صادق العلاقة بتوراته إلى الحد الذي دفعه إلى ترك المُؤتمرِين في مدريد، ليقضي عطلة السبت متهجدًا مع بني جلدته، فلا مُشاحَّة في أن اختبار صدق الخطاب بالمطابقة مع الكتاب المقدَّس يمكن أن يضع طبيعة ذلك الخطاب على محك المصداقية من عدمها.
وبالعودة إلى الكتاب المقدَّس نجده يحكي لنا أن إبراهيم أرومة اليهود وأول رجل ذي شأن في تاريخهم، لم يكن فلسطينيًّا إنما جاء فلسطين غريبًا من بلدٍ بعيد يُدعى «أور الكلدانيِّين» في رحلةٍ استغرقت خمسة عشر عامًا. وعندما وصل فلسطين مع عائلته الصغيرة، يقول الكتاب المقدَّس: «كان الكنعانيون حينئذ في الأرض» (سفر التكوين، ١٢)، وأن إبراهيم قد هبط ضيفًا على مَلكِ مدينةِ جرار المدعو أبيمالك، ويصف المقدَّس تلك الأرض بأنها «أرض الفلسطينيِّين» (سفر التكوين، ٢١)، وأن أبيمالك كان «ملك الفلسطينيِّين» (تكوين، ٢٦)، وعندما قتَل أبناءُ يعقوب حفيدِ إبراهيمَ بعض الفلسطينيِّين بعد حالة زنًى مع شقيقتهم، قال لهم يعقوب المعروف باسم إسرائيل: «كدَّرتُماني بتكريهكما إيايَ عند «سكان الأرض الكنعانيِّين» … وأنا نفر قليل» (تكوين، ٣٤)، وعليه لو سلَّمنا للرجل الحريص على محارم دينه ويوم سبته، بأن الآباء التوراتيِّين الأوائل كانوا في فلسطين منذ أربعة آلاف عام، فإن مقدَّسه يؤكِّد أنهم دخلوها ضيوفًا قليلي العدد على أهلها الكنعانيِّين بل كانت فلسطينُ عندما وصلوها ممالكَ ذاتَ حضارة ونظامٍ اجتماعي وسياسي. أمَّا مهجر الأبِ الأول إبراهيم وموطنه الأصلي، فقد أثبتنا أنه لا يقع ضمن المنطقة بكاملها وعلى الإطلاق، وإنما يقع في جبالِ آرارات بأرمينيا وذلك في كتابنا «النبي إبراهيم والتاريخ المجهول» وقدَّمنا بسبيلِ ذلك مجموعةً من القرائن والبراهين التي ستظل صادقةً حتى تجد من يرُدُّ عليها ويدحضُها بأدلةٍ أقوى وقرائنَ تُثقِل كفَّتها، وحتى الآن لم يحدُث ذلك ولا نظنُّه بحادثٍ في المستقبل المنظور.
(١-٦) يهود فلسطين
وإعمالًا لما قلناه فإن طبيعة الخطاب الصهيوني كما هو واضحٌ جلي، طبيعةٌ قبلية لا ترى قبيلةً غير قبيلتها، ولا تُراثًا مقبولًا غير تراثها، ولا دينًا صحيحًا غير دينها ولا صِدقًا إلا في توراتها، وكأن تُراث الآخرين غيرُ موجودٍ لشعوبٍ عديدة عاشت في فلسطين، كان لها مقومات الشعب والعنصر والدين والحضارة والنظام الاجتماعي والسياسي قبل قيامِ مملكةِ داود بأكثرَ من ألفَي عام.
ولمجرَّد التذكرة، ومنعًا للإطالة يكفينا ذكرُ أن الملك «داود» المؤسِّس الحقيقي لدولة إسرائيل التوراتية، حوالي ١٠٠٠ قبل الميلاد أقام دولته مستفيدًا من توازُن القوى بين القوتين العُظميَين حينذاك «مصر والرافدين»، فكون جيشًا من أهل الأرض الفلسطينيِّين، وأقام لونًا من الائتلاف ووَحَّد القبائل في وحدةٍ سياسية وصَهَر الممالك الصغيرة معًا، بل كان حُرَّاس «داود» أيضًا من الفلسطينيِّين، كذلك قائد جيشه، وسواء هو أو ابنه «سليمان»، «فقد أقاما الدولة على أساسِ تَعدُّد القوميات. المقدَّس شاهد بذلك»، وحتى لو أغفلنا كل ما سبق وسلَّمنا ولم تقم أبدًا كدولةٍ ذاتِ جنسٍ واحد ودينٍ واحد، والكتاب للخطاب الصهيوني بالصدق التام فإن مسألة جمعِ روسٍ وألمان وبلغار وأمريكان وأحباش … إلخ من مواطنهم للإقامة في فلسطين بالحق التاريخي، لمجرد أنهم يهود، يجعل الأمر مزحةً بشعة ستظلُّ وصمة، وربما بصقة في جبين هذا العصر إلى ما يشاء الله؛ لأنه بمقارنةٍ شديدة البساطة، سنجد أن الحقوق التاريخية للهنود الحمر في أمريكا أوضحُ من ادعاءات الخطاب الصهيوني في فلسطين لأن الهنود لم يكونوا أول من استوطن أمريكا منذ فجر التاريخ بل كانوا الشعب الوحيد فيها.
إن طبيعة الخطاب الصهيوني إذن، تعتمد على عددٍ هائل من المغالطات والتمريرات التي تبدو في ظاهرها صادقة الحقوقية (مع الخلط لمفهوم العنصر بمفهوم العقيدة)، وحتى لا يتيح الخطاب الفرصة لمقارنة يهود اليوم بآباء العصر التوراتي، فإنه يقفز فورًا إلى تأكيد «أننا الشعب الوحيد الذي ظل على أرض إسرائيل بدون توقفٍ نحو أربعة آلاف عام»، لتستمر المطابقة بين مفهوم الدين والعنصر لدعمِ مِحور الحق التاريخي؛ ليظهر الأمر كما لو أن اليهود فقط هم من عاشوا في فلسطين على مَرِّ العصور أو على الأقل الجماعة الأكثر عددًا. لكن السائح اليهودي بنيامين الطليطلي الذي زار القدس ١١٧٠ ميلادية سجل أنه لم يجد في فلسطين بكاملها سوى ١٤٤٠ يهوديًّا! كما لم يعثر اليهودي «ناحوم جيروندي» في زيارته لفلسطين عام ١٢٥٧م إلا على عائلتَين يهوديتَين. أمَّا الأطرف فعلًا فإنه حتى هذا القرن نجد الشهادة في خطاب شامير تقول: «لقد قامت الطائفة اليهودية الصغيرة (ولاحظ الصغيرة) التي كانت تُقيم بفلسطين تحت الانتداب بالثورة على الاستعمار الإمبريالي.»
(١-٧) شالوم
وأمام عدسات الإعلام العالمي في مدريد، لم يَنسَ الرجل الشهم أن يُبدي مروءته وأسفه وأساه على الفلسطينيِّين، المُشرَّدِين، بينما قنابله الجهنمية تدُك مخيماتهم في لبنان، حيث قال بكلِّ تراحُم وحنان: «إنه لا يوجد يهوديٌّ واحد في هذا الزمان، يستطيع أن يكون غيرَ مبالٍ بمعاناة الفلسطينيِّين.» هذا رغم سرده لبشاعات العرب مدمجة ببشاعات النازي ضد اليهود. لكنه رأى من واجبه كرجلٍ متحضر أن يُعلن ذلك الأسى والحزن مع ندائه لجيرانه البرابرة حتى يظهروا كسببٍ فيما حدَث للفلسطينيِّين: «أَظهِروا استعدادكم لِقَبولِ إسرائيل. إن التخاطُب أفضلُ بكثيرٍ من سفك الدماء؛ فالحروب لن تحُل قضيةً في منطقتنا، لكنها تسبَّبَت في المآسي والمعاناة والقتل والكراهية.» وهكذا فطبيعة الخطاب تُشهِد العالم: إن العرب يُشرِّدون الفلسطينيِّين بحروبهم؛ لأنهم يُريدون قتلَنا لمجرد أننا متدينون. إنهم يُريدون أن يقتلوا رجلًا يقول: ربي الله.
الخطاب مستمر كما هو واضح في التركيز على المحور النفسي والمشاعر الدينية المسيحية الأوروبية التي تَشهَد بالحقوق التاريخية على أساسِ الشهادة المُقدَّسة بالتوراة، هذا بالطبع مع صورة العربي المعلومة لدى الرجل الأوروبي.
ومرةً أخرى نعود للكتاب المُقدَّس لنرى مدى المصداقية في الخطاب، وإلى أيِّ حدٍّ يتطابق مع الكتاب المقدَّس، ومع ما يحدث بالفعل بل بالقول، مسايرةً للخطاب المتديِّن الحريص على محارم الدين، والحريص في الوقت ذاته على إقناع عقل العالم وضميره بحقوقه التاريخية.
-
«أَحرِقوا جميع مدنهم بمساكنهم وجميع حصونهم بالنار» (سفر العدد).
-
«اقتُلوا كل ذكَرٍ من الأطفال وكلَّ امرأة» (سفر العدد، ٣١).
-
«أَحرِقوا حتى بنيهم وبناتهم بالنار» (سفر التثنية، ١٢).
أمَّا الخطَّة المُثلى في أوامر الرب، فهي أن يبدأ شعبه بدعوة الشعوب الأخرى إلى السلام والصلح أو بالنص:
«حين تقترب من مدينة، استدعِها للصلح. فإن أجابتك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير، ويُستعبد لك، وإن لم تسالمك بل عمِلَت معك حربًا، فحاصِرها. وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرِب جميع ذكورها بحد السيف. وأمَّا النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة، كلها غنيمة تغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك. هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدًّا، التي ليست مدن هؤلاء الأمم هنا» (تثنية، ٢٠).
هذا عن المدن البعيدة، أما المدن القريبة: «فضربًا تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف، وتحرقها بكل ما فيها مع بهائمها. تجمع أمتعتها إلى وسطها وتحرق بالنار المدينة وكل أمتعتها» (تثنية، ١٣).
أمَّا المدن الفلسطينية فلها شأنٌ آخر، إذ يأمر يهوه قائلًا: «أمَّا مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبًا، فلا تستبقِ منها نسمةً ما» (تثنية، ٢٠).
ومن هنا، وبمطابقة المقدَّس فهو يتطابق تمامًا مع الفعل الصهيوني، لكنه لا يطابق الخطاب بحال. لكن الفعل بمطابقة المقدَّس إنما يصبح فعلًا مقدَّسًا ويُصبِح من تلك المقدَّسات تدمير صور وصيدا ومذابح صبرا وشاتيلا وقبية وكفر قاسم ودير ياسين، ومجازر منظمة الأورجون البيجنية وسفاحِي الوحدة ١٠١ التابعة لأريل شارون؛ فالأَمرُ مقدَّس، لذلك هو نبيل وسامٍ، وباسمِ رسالة إسرائيل التوراتية يتم التعامُل مع عرب اليوم، كما تم التعامُل مع الكنعانيِّين بالأمس. فقط تغيَّرت لغة الخطاب أمَّا الفعل فمقدَّس، والمقدَّس خيرٌ وأبقى.
(١-٨) العصر السعيد
ثم يختم شامير خطابه وهو يبتسم سعيدًا استطلاعًا للعصر السعيد الآتي، عصر الأمان والسلام لكل الشعوب الذي تنبأ به إشعيا وردَّد شامير نبوءته وهو يقول: «فيطبعون سيوفهم سككًا ورماحهم مناجل، ولا ترفع أمةٌ على أمةٍ سيفًا ولا يتعلمون الحرب فيما بعدُ» (إشعيا، ٢).
هذا فقط ما ذكره الرجل من كتابه المقدَّس، ليتطابق مع خطاب السلام، كي يبرز التطابُق في الخطاب مع العنصر المقدَّس مع الحق التاريخي، اتباعًا لكتابٍ يأمر بالسلام وينبئ بالسلام؛ فإشعيا النبي يتحدث عن اليوم الذي سيتم فيه صهر السيوف لِتُحوَّل إلى محاريث ومناجل، ولا تكون هناك حربٌ بين الأمم إنما تعاون وسلام وإنتاج ورفاهية لكن في أي مقام قال إشعيا نبوءته؟ الخطاب يصمت، وهنا فقط يذكر النبوءة منزوعةً من سياقها، لِيُقدِّم مقدَّساته للعالم، وهي تدعو للسلام وبحيث يكون الرجل مستمرًّا على الدرب ومُكرِّرًا لدعوةِ أبطالِ العهد القديم من أجل السلام.
- لسوريا: «هو ذا دمشق تُزال من بين المدن وتكون رجمة ردم» (إشعيا، ١٧).
- لمصر: «في ذلك اليوم تكون مصر كالنساء، فترتعِد وترتجِف من هزَّةِ يدِ رب الجنود، وتكون أرض يهودا رعبًا لمصر» (إشعيا، ١٧: ١٩).
- لجزيرة العرب: «بلاد العرب … من أمام السيوف قد هَربوا يفنى كلُّ مجدِ قيدار … لأن الرب إله إسرائيل قد تكلَّم» (إشعيا، ٢١).
- للبنان: «وحي من جهة صور … وَلوِلي يا سفن ترشيش لأنها خربت … وَلوِلوا يا سكان الساحل … ورب الجنود قضى به ليدنس كبرياء كل مجد … أرضك كالنيل يا بنت ترشيش … أيتها العذراء المتهتكة بنت صيدون … ولبنان ليس كافيًا للإيقاد وحيوانه ليس كافيًا للمحرقة» (إشعيا، ٢٣، ٤٠).
- للعراق: «انزلي واجلسي على التراب أيتها العذراء ابنة بابل، اجلسي على الأرض بلا كرسي يا ابنة الكلدانيِّين لأنك لا تعودين تُدعَين ناعمة ومترفة تنكشف عورتك وتُرى معاريك … اجلسي صامتة وادخلي في الظلام يا ابنة الكلدانيِّين لأنك لا تعودين تُدعَين سيدة الممالك» (إشعيا، ٤٧).
والآن، ترى هل حقَّق الخطاب الصهيوني القديم أغراضه، بفعل أصحاب الخطاب الصهيوني الجديد؟ سؤالٌ لا يجيب عليه إلا الزعماء العرب المؤتمرون في مدريد … يحلمون بنبوءةِ «إشعيا» بالعصر السعيد.
(٢) المصريون والإسرائيليون في التوراة وفي التاريخ٢
من استهلاك الوقت أن نتحدث عن مصر في التاريخ، والكلام بشأنها من نوافل القول؛ فشأنها معلوم وأَنشرُ من أيِّ حديثٍ حتى أصبح من فساد الرأي أن يُؤرِّخ باحثٌ لأيِّ علمٍ من العلوم دون الرجوع إلى أصول تلك العلوم في مصر القديمة، هذا في مجال العلوم، وفي ميدان التاريخ كعلم. أمَّا في ميدان الاعتقاد، وفي الصحائف المقدَّسة، فلها شأنٌ عظيم أيضًا، لكن بوصفها ذلك البلد الضال أهله، الذي تألَّه حاكمه، فكفر، فوُصِم مع شعبه بأنهم من المُجرمِين؛ لذلك استحقوا أن يكونوا من المُغرَقِين، بقرارٍ من «يهوه» رب التوراة، وبضربةٍ من عصًا إعجازية دمَّرت الزرع والضَّرع في وادي النيل قبل أن ينطبق البحر المفلوق على من بقي منهم، أليسوا مُجرمِين؟
أمَّا إسرائيل فهي عمدة المقدَّس وعقدته الجامعة، هي المحور منه والقلب الخافق؛ فهي شعبٌ مقدَّس فضَّله الله على العالمين. سلسلةٌ من النجباء الأنبياء المُطهَّرِين فالأب نبيٌّ يُنجِب نبيًّا، في سلسالٍ توارَثَ النبوة كما توارَثَ أرضَ فلسطين، خيرُ خلفٍ عن خيرِ سلف، فكانوا في المقدَّسات هم المُقدَّمِين على غيرهم من الأمم الضالَّة، جَدُّهم البعيد هو إبراهيم الخليل، وآباؤهم إسحاق ويعقوب المُلقَّب بإسرائيل، وبنوه بنو إسرائيل الأسباط المُكرمون، ومنهم يوسف الصبي الفاتك الجمال الذي توزَّر على خزانة المصريِّين، وعلَّم خبراء الزراعة ومُهندسِيها في مصر، كيف يواجهون قحط السنين، ومن بعده جاء «موسى» أعظم أنبياء إسرائيل. ويغص التاريخ المقدَّس بعد ذلك بسيرة أولئك الهُداة المُطهَّرين فهذا «شاءول» يقيم لهم دولةً في فلسطين ليترك تأسيسها وتعميدها لداود الملك وولده سليمان، بينما أصبح ذلك الأخير سيدًا على مملكةٍ عظمى تغنَّت بها كتب الدين وكتب الأساطير، فتَسلَّط على الوحوش والهوام والجن والعفاريت. وأصبَحَت إسرائيل في زمانه أغنى الدول، حتى كانت الفضة في الشوارع مثل التراب (بتعبير التوراة)، أمَّا في المأثور الإسلامي فكان أحد أربعة ملوك تملَّكوا على العالم الأرضي من أقصاه إلى أقصاه.
هذا شأن إسرائيل في مأثورات الدين، لكن الغريب والمشكل الحقيقي أمام هذا الرتل العقائدي والهائل، أن التاريخ كعلم، يعلم يقينًا تاريخ مصر بحفائره وعلمائه وأركيولوجيته بأعلامها الآثارية الشاهدة، كما انتهى ترتيب أوضاعها الزمني عبر أُسرات ودُول، من مينا مُوحِّد القطرَين مرورًا ببناة الأهرام إلى التحامسة ثم المناتحة فالرعامسة حتى الشناشقة والطهارقة والبطالمة، فأرض مصر تفيض بالحفائر، غنية بالأحداث. لكن ذلك العلم نفسه، علم الحفائر والآثار، علم التاريخ، رغم الهوس الحفائري في إسرائيل الآن، يجد الأرض ضنينةً بأي معلومةٍ ذات شأن؛ فالتاريخ كعلمٍ لا يعرف عظيمًا أقام لإسرائيل مملكة باسم «شاءول»، ولا يعلم بشأنِ محاربٍ ذي بأسٍ أسَّس لإسرائيل قوميتها باسم «داود»، ولم تَرِد في وثائقه بالمرة أيةُ إشارةٍ لملكٍ حكيم حاز شهرةً فلكية باسم «سليمان»، كما لم يسمع أبدًا ولم يُسجَّل في مُدوَّنات مصر ولا في مدوَّنات الدول المجاورة، خبر جيش الدولة العظمى وهو يغرق في بحر تفلقه عصًا، وإطلاقًا لا يُدرَى شيئًا عن صبيٍّ جميل فتَن نساء مصر وأذهلهن بجماله فقَطَّعن الأيادي وهُنَّ في الهيام به ساهمات. كلا لا يعلم التاريخ من كل ذلك شيئًا ولو يسيرًا، وكل ما يعلمه عن إسرائيل، حكاياتٌ متناثرة عن شواردِ قبائلَ من شُذَّاذ الآفاق باسم «الخابير، والعابيرو»، وإيماءة هنا ولفتة هناك تتحدث بإهمال عن جماعةٍ باسم إسرائيل يُحتمل، ويُظن، ومن الجائز، وقد تكون: هي مملكة إسرائيل لكن الأسماء المُعظَّمة المُبجَّلة المُفخَّمة في التاريخ الديني، فلا شيء منها البتة وقطعًا في التاريخ كعلم.
(٢-١) الإسرائيليون يدخلون مصر
«تقول التوراة — ولا يقول التاريخ هنا شيئًا — إن أول احتكاكٍ للبدو العبرانيِّين بمصر والمصريِّين كان زمن الأب إبراهيم، الذي هبط مصر مع زوجته سارة هربًا من القحط الذي حل بأرضِ كنعان، فحصل هناك على فضلٍ عظيم وخيرٍ عميم، ثم تُحدِّثنا التوراة — ولا يُحدِّثنا التاريخ — عن قصة الصبي الأخَّاذ في جماله «يوسف» ابن إسرائيل (يعقوب) وقصة بيعه في مصر، وكيف أَثبَت مهارةً إسرائيلية أوصلتَه إلى كرسي الوزارة، لِيُصبِح الرجل الثاني في مصر بعد الفرعون، وكيف أَرسَل يوسف يستدعي أهله لينعموا بخيرِ مصرَ كملجأ للإسرائيليِّين كلما قَحطَت بهم الحياة ولحِقَت بهم المجاعات.»
لكن التوراة لا تُخبرنا بالسبب الذي أدَّى إلى حنَق الفرعون التالي على العرش على يوسف وأهله، إلى حد تسخيره ضيوف مصر في الأعمال الشاقة، عقابًا لهم على أمرٍ مجهول، ونحن نعلم أن «ماعت/العدالة/القانون الكوني» كانت تاج القانون المصري الدائم، ومن هنا يظُن أغلب الباحثِين، أن الإسرائيليِّين لعبوا دورًا مع الهكسوس الغزاة ضد المصريِّين، وتعاوَنوا مع أعداءِ البلاد فحقَّت عليهم النقمة، وتَمَّ أَسرُهم مع فلول الهكسوس الأسيرة بمصر.
وبدورنا نذهب مع هذا الظن، ونحتمل دخول يوسف وأهلِه مصر في عهدِ «أسيس» آخر الحكام الهكسوس على مصر، وهو ما يلتقي مع الاسم «عزيز» الذي جاء في القرآن الكريم، خاصة أن الآياتِ كانت تتحدَّث دومًا عن حاكمِ مصر باسم الفرعون، عدا زمن يوسف، زمن دخول الإسرائيليِّين إلى مصر. ناهيك عما سجَّلَته التوراة عن سياسةِ يوسفَ في مصر أثناء السنين القحط السبع؛ حيث احتكر «الميرة» جميعًا في خزائنه وباعها للمصريِّين الذي يموتون جوعًا مقابل الاستيلاء على أرضِهِم ثم مواشيهم ثم أنفسهم هم لِيتحوَّلوا إلى عبيد، لصالح الحاكم الهكسوسي. أمَّا مشاعر المصريِّين تجاه هؤلاء الإسرائيليِّين فقد تبدَّت بوضوح في اعتبارهم الإسرائيليِّين نجسًا يجب اجتنابه، وهو ما ورد جميعه في نصوصٍ توراتية من قبيل: «اشترى يوسف كل أرضِ مصر لفرعون؛ إذ باع المصريون كلُّ واحدٍ حقله؛ لأن الجوع اشتد عليهم، فصارت الأرض لفرعون، أمَّا الشعب فنقلهم إلى المدن من أقصى حد مصر إلى أقصاه … فقال يوسف للشعب إني اشتريتُكم اليوم وأرضَكم لفرعون» (سفر التكوين، ٤٧)، وفي نفس السفر كان يوسف يقول لإخوته «جواسيسُ أنتم، لِتَرَوا عورة الأرض جئتم» (تكوين، ٤٢)، وكان ينصحهم دومًا بالابتعاد عن المصريِّين «لأن كل راعي غنم رجسٌ عند المصريِّين» (سفر التكوين، ٤٦).
(٢-٢) الإسرائيليون يخرجون من مصر
هذه حكاية التوراة عن الدخول إلى مصر، فماذا عن الخروج؟ تقول التوراة: إن موسى قد وُلِد في مصر إبَّان أزمةِ الإسرائيليِّين بمصر، والقصة معروفة؛ فقد رُبِّي في القصر الملكي، وتبنَّته ابنة الفرعون وأَكرمَت مثواه، لكن الصبي يكبر فيقتل مصريًّا تعصبًا لبني جلدته، فيطلبه القصاص وتُطارِده العدالة فيهرب إلى مديان بسيناء، حيث يلتقي هناك برب سينائي يُدعى «يهوه» على هيئة نارٍ في عليقة، ويحمل منه أَوامرَ صريحة لبني إسرائيل، ليخرجوا من مصر تحت قيادة موسى إلى فلسطين. وعاد موسى إلى مصر بتلك الأوامر، وبالعصا الثعبان، مع وعدٍ إلهي يقول: «الآن تنظُر ما أنا فاعله بفرعون؛ فإنه بيدٍ قوية يطلقهم، وبيد قويةٍ يطردهم من أرضه … أنا أعطيهم أرض كنعان أرض غربتهم» (سفر الخروج، ٦).
وتتالى الأحداث فيضرب موسى بعصاته النيل ليتحول دمًا، وتصير مصر خرابًا، ثُم يضرب بعصاته ضرباتٍ متتالية، فتمتلئ مصر بالضفادع والبعوض والذباب والطاعون والجراد مع برد وظلام، ثم يهبط الرب يهوه بنفسه لتحقيق الضربة الأخيرة بقتلِ أطفالِ المصريِّين وذلك في النص «وقال موسى: هكذا يقول الرب: إني نحوَ منتصفِ الليل، أخرُج في وسط مصر، فيموت كل بِكرٍ في أرض مصر، من بكرِ الفرعون الجالس على كرسيه، إلى بكر الجارية التي خلف الرحى، وكل بكرِ بهيمة، ويكون صراخٌ عظيم في كل أرض مصر» (سفر الخروج، ١١).
وفي تلك الليلة «كان صراخٌ عظيم في مصر؛ لأنه لم يكن بيتٌ ليس فيه ميِّت» (خروج، ١٢). ولم ينسَ الإسرائيليون عادتهم في الخروجِ من مصر بالخيرِ الوفير، «فقد فعَل بنو إسرائيل بحسَب قول موسى، طلبوا من المصريِّين أمتعةً فضَّة وأمتعةً ذهبًا وثيابًا، وأعطى الرب نعمة للشعب في عيون المصريِّين حتى أعاروهم فسلَبوا المصريِّين، فارتحل بنو إسرائيل من رعمسيس» (خروج، ١٢).
ثم تأتي الضربة الحقيقة لإفناء المصريِّين، في رواية التوراة عن قيامِ ملكِ مصر وجيوشه بمطاردة الفارِّين بالذهب؛ حيث أدركوهم عند البحر، وهنا تحدُث المعجزة الكبرى «ومد موسى يدَه على البحر، فأجرى الرب بريحٍ شرقيةٍ شديدةٍ كل الليل، وجعل البحر يابسة وانشق الماء، فدخل بنو إسرائيل في وسط البحر على اليابسة والماء سورٌ لهم عن يمينهم وعن يسارهم، وتبِعَهم المصريون ودخلوا وراءهم … فمَدَّ موسى يده على البحر، فرجع البحر عند إقبالِ الصبح إلى حاله الدائمة … فدفع الرب المصريِّين وسط البحر» (خروج، ١٤). ويتوجه الخارجون من مصر إلى فلسطين ليغزوها ويحتلوها ويقيموا لهم هناك دولة، تلك الدولة التي قُيِّض لأحد ملوكها «سليمان» أن يحوز في مقدَّسات المنطقة شهرةً لا تُضارَع، ومع ذلك فقد قال «ﻫ. ج. ويلز» ونقل عنه الباحثون العرب مثل د. أحمد سوسة ود. أحمد شلبي قوله: «أمَّا الوصف الذي اعتاد الباحثون ترديده عن اتساعِ وامتدادِ حدودِ مملكة سليمان، فيَعُدُّه أكثر الباحثِين من قبيل المُبالَغات التي دَرجَت عليها دُويلاتُ تلك العصور، والحقيقة «أن مملكة سليمان التي تبجَّحَتِ التوراة بعظمتها كانت أشبهَ بمحميةٍ مصرية» مرابطةٍ على حدود مصر، قائمةٍ على حراب أسيادها الفراعنة … وكان سليمانُ يريد أن يُجاري الفراعنة في البذخ والظهور بما هو فوق طاقاته وإمكانياته الاقتصادية … فأثقل كاهل الشعب بكثرة الضرائب … ولمَّا عسُر على سليمان أن يحتل أرضَ فلسطين الساحلية طلب معونةَ فرعون مصر، فأرسل جيشًا مصريًّا صغيرًا احتلَّها وسلَّمها له مهرًا لابنته.» ثم يتساءل: «كيف صوَّر كتبة التوراة مملكة سليمان في صورةٍ تفوق الواقع بكثير؟ فسليمان لم يكن وهو في أَوجِ مجده إلا ملِكًا صغيرًا يحكم مدينةً صغيرة، وكانت دولتُه من الهُزال وسرعة الزوال بحيث لم تَنقضِ بضعة أعوامٍ على وفاته، حتى استولى شيشنق أولُ فراعنة الأسرة الثانية والعشرين على أورشليم.» ثم يتابع قوله: «إن أمور مصر في عهده كانت مرتبكةً فخفَّت هيمنتها على فلسطين وبلاد الشام، وكانت أمور الدولة الآشورية مرتبكةً كذلك، وقد منح هذا لسليمان شيئًا من الحركة والنشاط والتبسُّط في ممارسة السيادة. أمَّا ما جاء عن قصة مُلك سليمان وحكمته التي أَوردَها الكتاب المقدس، فقد تعرَّضَت لحشوٍ وإضافاتٍ على نطاقٍ واسع، على يدِ كاتبٍ متأخر شَغوفٍ بالمبالغة في وصفِ رخاءِ عصر سليمان، مُولَعًا بتمجيد حكمه … «وقد استطاعت هذه الرواية أن تَحمِل العالم المسيحي بل والإسلامي على الاعتقاد بأن الملك سليمان كان من أشد الملوك عظمةً وأُبهة، لكن الحق أنه إذا قِيسَت منشآت سليمان بمنشآت تحتمس الثالث أو رمسيس الثاني أو نبوخذ نصر، فإن منشآتِ سليمان تبدو من التوافه الهيِّنات»، أمَّا مملكته فهي رهينةٌ تتجاذبها مصر وفينيقيا، وترجع أهميتها في مُعظَم أمرها إلى ضعفِ مصر المؤقت.»
(٢-٣) ماذا يقول التاريخ؟
وهكذا يتضح أن الباحثِين عندما يُريدون الحديث عن أحداث التوراة حديث المؤرخِين، يُضطرُّون إلى المُقارَنات والاستنتاجات، بالنظر إلى أن تاريخ مصر، على كثرةِ ما اكتُشف منه، لا يشير إلا لِمامًا في لمحاتٍ سريعة إلى القبائل البدوية، بينما تتحدث التوراة بالتفاصيل عن مصر وملوكها ومدنها وطبائعِ أهلها، مما يُشير إلى معرفةٍ واضحة من جانب الإسرائيليِّين بِشئونِ مصر والمصريِّين، وهو أمرٌ طبيعيٌّ تمامًا حيث إن وضع إسرائيلَ كقبائلَ هامشيةٍ ما كان يشغل حيزًا هامًّا في المُدوَّنات المصرية، بينما كان المُدون الإسرائيلي لا يستطيع إغفال مصر.
المهم أن أول ذِكرٍ لإسرائيل في مُدوَّناتِ مصر جاء في قصيدةٍ منقوشة على لوحٍ تذكاري من الجرانيت الأسود، أُقيم في معبد الملك «مرنبتاح» الجنائزي، والقصيدة تتغنى ببطولات الملك وانتصاراته، حيث تقول: «الأمراء منبطحون أرضًا يصرخون طالبِين الرحمة، ليس بين الأقواس التسعة من يرفع رأسه، لقد دُمِّرت أرض التحنو (ليبيا)، وخاتي (تركيا) هادئة، وكنعان قد استُلبَت بقسوة، وعسقلون تم الاستيلاء عليها، وجازر قد أُخذت وينو عام أصبَحَت كأن لم تكن، وإسرائيل أَقفرَت وليس لها بَذر، وخوري (أرض فلسطين) عُدَّت أرملةً لمصر.»
وقد وقف علماء كثر مع هذا النص واعتبروه دالًا على حدث الخروج من مصر، حيث تَرِد كلمة إسرائيل في نصوص مصر لأول مرة، واعتبروا الفرعون «مرنبتاح» هو فرعون موسى والخروج، بينما ذهب آخرون إلى أن النص يتحدث عن حربٍ شنها مرنبتاح على عددٍ من الشعوب خارج مصر، وأنه هاجم أراضيهم وضمنها إسرائيل.
هذا كل ما ورد من التاريخ التوراتي المهول في تاريخ مصر «إسرائيل أَقفرَت وليس لها بَذْر» ويبدو أن الأمر لم يكن يستأهل الفخار به والإطالة بشأنه قياسًا على أعمال الفرعون الأخرى، فاكتفى بتلك الإشارة السريعة، التي قامت عليها ألوف الأبحاث في جامعات العالم، مقارنةً بالتوراة، ولم تزل.
أمَّا قول «ويلز» السالف، إن إسرائيل كانت مجرد دويلةٍ رهينةٍ لمصر، وإنها كانت تابعًا متقدمًا في آسيا للفراعنة، فهو استنتاجٌ يُطابِق أحداث التاريخ، وما وَردَ في تاريخِ مصر القديمة من وثائق، عن الحملات التأديبية التي كان يقوم بها الفراعنة على بدو آسيا، في حال أيِّ تمردٍ أو عصيانٍ مع تركهم على أحوالهم ويُحكمون فقط بوالٍ من قِبل الفرعون غالبًا ما يكون منهم، مع بعضِ كتائبَ مصريةٍ لمنع أيِّ شَغْب.
ومن المعلوم أن مصر ظلت ترعى فلسطين وتُزوِّدها بالميرة أيام القحط والجفاف، كما ظلَّت ملجأً آمنًا لأهلها عند أيِّ خطبٍ أو غزو خارجي، وهو بالضبط ما حدث زمن هجوم الملك الكلداني نبوخذ نصر على يهوذا، حيث لجأ أهلها بالألوف المؤلَّفة إلى مصر، التي استقبلتهم بالترحاب زمن الفرعون «واح إف رع» المسمى باليونانية «أفريس ٥٨٧–٥٦٨ق.م» أحد ملوك الأسرة السادسة والعشرين، وهو ما حكته التوراة في الإصحاح ٢٥ من سفر ملوك ثاني، وتأكَّد بوجودِ جاليةٍ يهودية تعيش بعد ذلك في جزر الفنتين جنوبي أسوان بمصر.
وتحكي لنا التوراة عن معركةٍ بين مصر وآشور وَقعَت في بلاد الشام، مما يشير إلى خروج الجيوش المصرية للدفاع عن بلاد الشام ضد غزوٍ آشوري، وتقول التوراة إن ملِك إسرائيل «يوشيا» اعترض طريق الفرعون «نخاو» ليمنعه عن نجدة سوريا فاضطُر الفرعون إلى قتل الملِك الإسرائيلي. كما اضطُر بعد ذﻟك لأسر ابنه «يهو آحاز» الذي تخابَر مع الآشوريِّين، وتم ترحيل الملك الإسرائيلي «يهو آحاز»، إلى مصر وهي رواية سفر الملوك الثاني بالإصحاح الثالث والعشرين، ولا نجد في مُدوَّنات التاريخ المصري نظيرًا للرواية، لكنَّا نجد ما يُصادِق عليها؛ حيث تم العثور على لوحٍ عليه نقشٌ ورسمٌ وكتابة عن شخصٍ باسم «يوده ملك» وترجمتها «ملك يهوذا»، وتعود إلى زمن الفرعون «نخاو»، وهو ما جعل المؤرخين يتأكُّدون أنه بعينه الملك الإسرائيلي الأسير «يهو آحاز».
وبينما كانتِ التوراةُ تصف مصر بأنها «جنة الرب أرض مصر» حيث الراحة والهدوء والرخاء والدعة، نجد أيوب النبي يحلُم بأيام مصر، «قد كنت مضطجعًا الآن ساكنًا، كنت نمت مستريحًا، مع ملوك «ومشيري الأرض، الذين بنَوا أهرامًا لأنفسهم»» (أيوب، ٣)، وفى سفر الخروج نجد الإسرائيليِّين يعانون الجوع بسيناء فيحتجُّون على موسى مُعبِّرين عن ندمهم لترك أُسرِ مَصرَ قائلِين: «ليتنا «كنا بمصر جالسِين إلى جوارِ قُدور اللحم».» وهي كلها الأمور التي تُفسِّر ما استقَر في نفوس الإسرائيليِّين تجاه المصريِّين، متمثلًا في نبوءاتٍ ترُدُّ لمصر الجميل.
(٢-٤) نبوءات التوراة لمصر
في الأزمنة الأخيرة لإسرائيل، زمن أنبياء إرميا وإشعيا، وقبل زمنِ تدمير الهيكل على يد طيطس الروماني وتشتيتهم في بقاع العالم، وقف أنبياءُ إسرائيل على عتبات النهاية، يتنبئون بعودة المجد السليماني وقيامِ دولةِ إسرائيل مرةً أخرى، وأنها حينذاك ستسود العالم، لكن قيامها كان يشترط أولًا وأخيرًا خرابًا تامًّا لمصر، وإذلالًا لها، وهو ما يُفصِح عن التكوين النفسي والعقلي ومدى التشوُّه الذي لحِق بنفوس القوم تجاه مصر.
يقول إشعيا في الإصحاح التاسعَ عَشرَ من سِفره: «وحي من جهة مصر، هو ذا الرب راكبٌ على سحابةٍ سريعة وقادمٌ إلى مصر … يذوب قلب مصر في داخلها … تنشف المياه من البحر ويجف النهر وييبس وتُنتِن الأنهار … والرياض على النيل على حافةِ النيل وكل مزرعةٍ على النيل تَيبَس وتَتبدَّد ولا تكون … في ذلك اليوم تكون مصر كالنساء، فترتعِد وترتجِف من هزةِ يدِ رب الجنود التي يهزُّها عليها، وتكون أرض يهوذا رعبًا لمصر.»
ثُمَّ يؤنِّب إشعيا بني جلدته الذين يلجئون إلى مصر وفيئها في المُلمَّات، بقوله في إصحاحه الثلاثين: «ويلٌ للبنين المُتمردِين يقول الرب … الذين يذهبون لينزلوا إلى مصر للمعونة ليلتجئوا إلى حصنِ فرعون «ويحتمون بظلِّ مصر»، فيصير لكم حصنُ فرعون خجلًا، والاحتماء بظل مصر عارًا.»
أمَّا النبي إرميا في الإصحاح ٤٦، فقد وقف يُعبِّر عن مكنونِ كلِّ إسرائيليٍّ تجاه مصر في قوله: «أخبروا مصر، وأسمعوا في مجدل، وأسمعوا في نوف (منف) وفي تحفنحيس، قولوا انتصب وتهيأ الآن، لأن السيف يأكل حوالَيك … نادوا هناك: فرعون مصر هالك … نوف تصير خربة وتُحرق فلا ساكن … ها أنا ذا أعاقب آمون نو وفرعون مصر وآلهتها والمُتوكِّلِين عليه.»
أمَّا حزقيال النبي فلم يبخل على مصر وهو يُوجِّه كلام الرب الإسرائيلي إلى الفرعون المصري المقبل، بالإصحاح ٢٩ حيث يقول: «ها أنا ذا المليك على أنهارك، «أجعل من أرضِ مصر خربةً مُقفرةً من مجدل إلى أسوان … وأُشتِّت المصريِّين وأُبدِّدهم من الأرض».»
(٣) فلسطين وإسرائيل: الخلل في التوراة أم في التاريخ؟
حدَث هذا أوائل القرن الثاني عشر قبل الميلاد، عندما انقضَّت موجاتٌ بشرية على الساحل الشرقي للبحر المتوسط، قادمةً من جزر البحر الإيجي، كان أكبرها تلك التي اكتسحَت العاصمة الحيثية «خاتوشاش/بوغاز كوي حاليًّا تركيا» ودمَّرتها، لِتترُكها خرابًا بلقعًا إلى الأبد، ثم تزحف منها جنوبًا لتقضي على «قرقميش/جرابلس حاليًّا شمالي حلب»، لتحتل بعدها «أوغاريت/رأس شمر الآن قرب اللاذقية»، ومن بعدها «أرواد»، لينحدر السيل الجارف جنوبًا باتجاه حدود مصر الشرقية عَبْر سيناء، مترافقًا مع جناحٍ بحري لمهاجمة شواطئ مصر الشمالية، مصحوبًا في الوقت نفسه بجناحٍ ثالث هبط على السواحل الليبية لِيُهاجم حدود مصر الغربية، وكان ذلك الهجوم الثلاثي أكبر كماشةٍ عسكرية تَعرضَت لها مصر.
ويحكي لنا «رمسيس الثالث» أحد المُحارِبين العظماء في التاريخ، أنه قد تصدَّى بجيوش مصر لهذا العُدوان الثلاثي، وألحق به هزيمةً مروعة، في ثلاثِ معاركَ برية وبحرية، وكان ذلك عام ١١٨٠ قبل الميلاد. أمَّا عِلم التاريخ فقد حاول تفسيرَ وجودِ عناصرَ من هؤلاء المُهاجمِين على الساحل الفلسطيني بعد ذلك، يعيشون هناك في شكلِ ممالكَ مستقرة، بأن انكسار الهجوم البحري الكاسح للمنطقة، الذي جاء من جزر البحر الإيجي وعاصمتها (كريت)، قد انكسر على الحدود المصرية انكسارًا شديدًا، لكن الفرعون المصري المُنتصِر، ترك لهم سواحل فلسطين لِيُقيموا بها، ويكونوا من رعايا الفرعون وجنوده، وفيالقِه المتقدمة في آسيا.
أمَّا هيرودت أبو التاريخ، فيقول: إن هؤلاء المهاجمِين هم من حمَلوا اسم «البلست» ويضيف المؤرخون من بعدُ أن هيرودت اليوناني هو أول من أَطلَق على بلادِ كنعانَ شرقي المتوسط اسم «بلستيا» و«بالاستين»، نسبةً إلى هؤلاء الغزاة «البلست» لتحمل بعد ذلك اسم فلسطين.
(٣-١) موجات الهجوم
ويُعلِّمنا علم التاريخ من وثائقه، أن ذلك الهجوم الفلسطيني القادم من كريت والجزر الإيجية، قد هجم على منطقتنا في شكلِ موجاتٍ متتابعة، بعد أن شكَّلَت قبائل بحر إيجه اتحادًا قويًّا في نهاية ١٣٠٠ قبل الميلاد، وأن أول تلك الموجات قد اضطَرَّ مصر إلى التخلي عن مستعمراتها في سوريا وفلسطين، وأن أول الموجات قد تمكَّنَت تمامًا من احتلالِ ساحلِ فلسطين في زمنٍ قياسي.
وكان أول ذكر في وثائق التاريخ لهؤلاء «البلست»، هو ذلك الذي نقرأه في وثائق الفرعون «أمنحتب الثالث ١٣٩٧ / ١٣٦٠ قبل الميلاد»، ذلك الزمن الرخي الذي ضَمَّت فيه مصر دول الشرق القديم تحت جناحَيها وتدفَّقَت عليها الجِزى، منذُ زمنِ جدِّه الفاتح الكبير «تحتمس الثالث»، فكان عَصرُ «أمنحتب الثالث» عَصرَ رخاءٍ عظيم.
وقد تلي الموجةَ التي وَصلَت زمنَ «أمنحتب الثالث ١٣٩٧ / ١٣٦٠ قبل الميلاد» ذكرٌ لموجات أخرى كان تاليًا لها تلك الموجة التي وَصلَت زمن «رمسيس الثاني ١٢٩٢ / ١٢٢٥ قبل الميلاد»، ويبدو أن المصريِّين قد أَسروا منهم أعدادًا كبيرة؛ حيث نجدهم بعد ذلك يعملون كمرتزقةٍ في جيوشِ مصر، باسم الشردانيِّين (نسبة إلى جزيرة سردينيا).
وعلى نُصب عُثر عليه في «صان الحجر» بمحافظة الشرقية، نجد حكاياتٍ عن سفن البلست الضخمة، ونقوشًا تُصوِّرهم يلبسون خوذاتٍ ذاتَ قرون ويحملون دروعًا مستديرة، ويمتشقون سيوفًا طويلة ضخمة، وهو النصب الذي روى لنا كيف صد الفرعون «مرنبتاح بن رمسيس الثاني» هجومهم، لِيرُدَّهم عن الحدود المصرية.
أمَّا في فلسطين ذاتها فقد نظَّم «البلست» أنفسهم عندما دخلوها، في هيئةِ ممالكَ صغيرةٍ مستقلة في إدارتها، منها جرار وغزة وعسقلان وأشدود وجازر وغيرها، لكن ضمن اتحادٍ فيدرالي مركزه الرئيسي مدينة أشدود، أمَّا قوتهم العظيمة فتكمُن فيما نعلمه من نصوص مصر ومن التوراة، أنهم صَنَعوا أدواتِ القتال من الحديد، وأن الحديد كان عندهم مادةً اعتيادية ووفيرة حتى إنهم صنعوا منه عجلاتِهم المقاتلة.
وكل هذا إنما يعني ببساطة القول: إن الفلسطينيِّين جاءوا المنطقة كعنصرٍ دخيل، قادم من كريت وبحر إيجه، وهو أمرٌ يُشكِّل عمودًا لأعمالٍ بحثيةٍ كثيرة تُشكِّل الخلفية التاريخية للأحداث التي تجري في منطقتنا، منذ قيام دولة إسرائيل مرةً أخرى في عام ١٩٤٨م.
(٣-٢) ماذا تقول التوراة؟
إذا التاريخ قال: إن الفلسطينيِّين جاءوا مُهاجرِين من كريت إلى فلسطين، ليستقروا بها زمن الفرعون «رمسيس الثالث» حوالي عام ١١٨٠ قبل الميلاد؛ أي بعد خروج بني إسرائيل من مصر بحوالي خمسين عامًا، ومعلومٌ أن كُبرى المدارس البحثية قد استقَر رأيها على خروج الإسرائيليِّين من مصر زمن الفرعون «مرنبتاح ابن رمسيس الثاني» حوالي عام ١٢٢٩ قبل الميلاد.
ومِثل ذلك التاريخ وتلك التزمينات تستتبع عددًا من النتائج والدلالات؛ حيث تقول التوراة: إن الإسرائيليِّين قد سبق لهم أن استقروا بفلسطين قبل زمن الدخول إلى مصر بحوالي خمسة قرون، وهو ذلك الزمن الأسطوري الممتد من إبراهيم إلى إسحاق إلى يعقوب المُسمَّى إسرائيل، وأنه إذا كان الإسرائيلي والفلسطيني وافدَين على كنعان، غريبَين عليها، فإن إبراهيم كان داخلها الأول حيث سكن بين أهلها الكنعانيِّين وتكلم بلسانهم، وذلك قبل مجيء الهجرة الفلسطينية بحوالي ستةِ قرونٍ كاملة.
«هذا كلام، لكن التوراة نفسها لها كلام آخر وقول آخر فمادا تقول التوراة؟»
- أولًا: لقد جاء إبراهيم وأُسرته الصغيرة إلى أرضٍ تُسمِّيها التوراة أرض كنعان، قادمًا من موطنه «أوركسديم»، وإن إبراهيم قد تنقل في كنعان بين عدةِ مواضع، أهمها ذلك الموضع المعروف بمملكة «جرار» التي كان يحكمها ملك اسمه «أبي مالك»، وتصف التوراة تلك المملكة بأنها مملكةٌ فلسطينية، وذلك في قولها: «وتَغرَّب إبراهيم في «أرض الفلسطينيِّين» أيامًا كثيرة» (سفر التكوين، ٢١).
- ثانيًا: يتكرر ذكر جرار بذاتِ التوصيف في زمن إسحاق بن إبراهيم في قول التوراة «فذهب إسحاق إلى «أبيمالك ملك الفلسطينيِّين» إلى جرار، وزرع إسحاق في تلك الأرض فأصاب في تلك السنة مائة ضعف، فحسده الفلسطينيون» (سفر التكوين، ٢٦).
هكذا، ومع إبراهيم أولِ رجلٍ مُهم في التاريخ التوراتي، نجد مملكةً باسم «جرار» تُوصف بأنها فلسطينية، وهو ما يعني اعترافًا من جانب التوراة، بوجود العنصر الفلسطيني في فلسطين، قبل زمن الأب إبراهيم بزمنٍ أبعد، يسمح بإقامتهم ممالكَ مستقرة. ويصبح القول: إن «هيرودوت» أول من أَطلَق على أرضِ كنعان اسمَ فلسطين قولًا مردودًا بشهادة التوراة ذاتها، أمَّا عند خروج الإسرائيليِّين من مصر، فنجد نصًّا توراتيًّا صريحًا يُسمَّى أرض كنعان بكاملها وليس جرار وحدها باسم فلسطين، وذلك في قوله: «يسمع الشعوب فيرتعدون، تأخذ الرعدة سكان فلسطين» (سفر الخروج، ١٥)، وفي نبوءةٍ متأخرة للنبي اليهودي «صفنيا»، نجده يخاطب تلك الأرض بلسان اليهود قائلًا: ««يا كنعان أرض الفلسطينيِّين»، إني أُخرِّبكِ بلا ساكن» (سفر صفنيا، ٢).
هكذا اكتَسبَت أرض كنعان اسم أرضِ الفلسطينيِّين زمنَ خروجِ الإسرائيليِّين من مصر، رغم أن الفلسطينيِّين كانوا عنصرًا يقطن بساحلِ فلسطينَ ضمن عناصرها الأخرى، وقد حدَّدَت التوراة مساكن الفلسطينيِّين كمجموعةِ ممالكَ متحدةِ الساحل، بترتيبٍ يصعد من الجنوب إلى وذلك في قولها: «من الشيحور الذي هو أمام مصر إلى تخم عقرون شمالًا «تُحسب للكنعانيِّين، أقطاب الفلسطينيِّين الخمسة»: الغزي والأشدودي والأشقلوني والعقروني والعويين» (يشوع، ١٣)، وفي قولٍ آخر تمزُج فيه التوراة بين الكنعاني والفلسطيني نجد «وكانت تخوم الكنعاني من صيدون حينما تجيء نحو جرار إلى غزة» (تكوين، ١٠)، لكن الترتيب هنا كان من صيدا في الشمال إلى غزة في الجنوب.
وقد بات من المشكوك فيه عند الباحثِين الآن، أن يكون الإسرائيليون الذين خرجوا من مصر، لهم علاقة بذلك الرعيل الأول المُسمَّى بالبطاركة أو الآباء «إبراهيم، إسحاق، يعقوب، الأسباط»، ناهيك عن كون مسألة البطاركة برمتها — كما حكتها التوراة — تدخُل في عِداد الأساطير عند باحثِين مُحترمِين، إضافةً إلى جلَّةٍ محترمةٍ من باحثِين آخرِين، يَرَون أن قصة إبراهيم والبطاركة الأوائل لونٌ من الصياغة التي تمت متأخرة بعد الخروج لربط الخارجِين بتاريخٍ قديم، لإلقاء تاريخ إسرائيل المقدَّس في عمق التاريخ القديم، وأن كل الأمر ربما تَمَّ بعد قيام مملكةِ داودَ في أورشليم، بتدوين إسرائيل في خِضمِّ تاريخٍ أعرق، وأَبعَد في القدم، من باب إيجادِ موطئِ قدمٍ لإسرائيل في التاريخ القديم للمنطقة.
(٣-٣) مصداقية التوراة وخَلَل التاريخ
لكن تظهر هنا مشكلةٌ كبرى، تُثيرها مصداقيةٌ مُدهشة للتوراة، من حيث تطابُقها مع نصوص التاريخ الآثارية، حيث تنسب التوراة الفلسطينيِّين إلى أصولٍ من جزيرةٍ تُسمَّى مرة «كفتور» ومرة «كريت»، وتُسجَّل بهذا الشأن نُصوصُها من قبيل: «هكذا قال السيد الرب: ها أنا ذا أَمُد يدي على «الفلسطينيِّين»، وأستأصل «الكريتيِّين»، وأهلك بقية ساحل البحر» (حزقيال، ٢٥)، و«الرب يُهلِك «الفلسطينيِّين بقية جزيرة كفتور»» (إرميا، ٤٧)، و«ويلٌ لسكان البحر أمة الكريتيِّين، كلمة الرب تكون عليكم يا «كنعان» أرض «الفلسطينيِّين»» (صفنيا، ٢)، وفى تعبيرٍ واضح لا يقبل لبسًا يقول: «إن بعض الهجرات تمَّت بفعلٍ إلهي.» يقول النص: «قول الرب: ألم أُصعِد إسرائيل من أرض مصر، والفلسطينيِّين من كفتور، والآراميِّين من قير؟» (عاموس، ٩).
وهنا المشكلة، والخلل بعينه، فإذا كانت رواية التوراة ككتاب في التاريخ قد تطابَقَت مع المُكتَشَفات والسجلات الآثارية في هذه المسالة، وإذا كان كلاهما قد أكَّد قدوم الفلسطينيِّين من جزيرة كريت وبحر إيجه، فإن هناك خللًا يتمثل في: كيف نُوفِّق بين قول التاريخ باستقرارهم على الساحل الفلسطيني في عهد الرعامسة، حوالي القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وبين وجودهم حسب التوراة في فلسطين قبل خروج الإسرائيليِّين من مصر، ناهيك عن قول التوراة بوجودهم بفلسطين زمن البطاركة الأوائل؟
وبالحسابات يقول علم التاريخ: إن الفلسطينيِّين قد استقروا على سواحل فلسطين بعد أن سمح لهم رمسيس الثالث بذلك؛ أي بعد الزمن المفترض للخروج الإسرائيلي من مصر بحوالي خمسين عامًا. وبحسابات التوراة نعلم أن الإسرائيليِّين أقاموا بمصر ٤٣٠ عامًا حسب الرواية العبرية المازورية، ويُضاف إليهم أربعون عامًا زمن التيه في سيناء، فيكون المجموع ٥٢٠ سنةً كاملة، إضافةً إلى حوالي سبعين سنةً افتراضية بين إبراهيم وحفيده يعقوب، فيكون المجموع ستة قرونٍ كاملة، هي الفارق بين تزمين المؤرخِين وبين زمن الغزو البلستي التاريخي لفلسطين، وهذا إنما يعني وجود الإسرائيليِّين بفلسطين قبل وصول الفلسطينيِّين إليها بستة قرونٍ كاملة، وهو ما تقول به التوراة ذاتها، أليس ذلك خللًا حقيقيًّا؟
والإشكالية في محاولة إيجاد حلٍّ يتطلب أحد فرضَين؛ فإمَّا أن نتأخر بعصر الرعامسة ستة قرونٍ إلى الوراء قبل التزمين المتفق عليه حاليًّا بين المؤرخِين، وهو ما سيترتب عليه إشكالياتٌ كبرى؛ حيث سيلحق الخلل بكلِّ تاريخ المنطقة، الذي تم تزمينه قياسًا على تزمين التاريخ المصرى، وإمَّا أن نتقدم بزمن الخروج الإسرائيلي من مصر ستة قرون؛ أي يكون الخروج قد حدث عام ٦٠٠ قبل الميلاد، وهو غير ممكن علميًّا، لأنه سيتضارب تضاربًا صارخًا مع حقائقَ تاريخيةٍ ثابتة، وتفصيلاتٍ شتى لا تسمح بهذا الجموح في الافتراض المستحيل.
(٣-٤) إشكالية تبحث عن حل
نعود هنا مرةً أخرى لزمن البطاركة الأوائل، وقول التوراة بوجود الفلسطينيِّين في ذلك الزمن الأسطوري، زمن إبراهيم وإسحاق ويعقوب، لِنُدقِّق النظر مرةً أخرى، فنجدها إطلاقًا لا تذكُر أرض كنعان إلا باسم أرض كنعان، ولا ذكر لفلسطين ولا لفلسطينيِّين إلا عند الحديث عند مدينةٍ واحدة بالذات هي «جرار» التي يسكنها فلسطينيون، وهو ما يضعنا أمام واحدٍ من احتمالَين: فإمَّا أن يكون الكاتب التوراتي لهذا الجزء من التوراة — والذي كتب متأخرًا بعد الألف الأولى قبل الميلاد — قد استقر في ذهنه اسم فلسطين للدلالة على تلك الأرض فاستخدمه في غير موضعه من الزمن وأطلق اسم فلسطين السائد في زمانه على أرضٍ كانت تحمل فقط اسم كنعان في الزمن السحيق، وإمَّا أن تكون جرار تحديدًا ووحدها دون غيرها كانت موئلًا للفلسطينيِّين زمن البطاركة، وأن الفلسطينيِّين قد سكنوها كجندٍ مرتزقة أو جاليةٍ بموافقة الفرعون، وهو الاحتمال المُرجَّح لدينا؛ حيث نعلم من التاريخ أن حيًّا بكامله شمال شرقي مصر قد حمل اسم «الحي الجزري» زمن الرعامسة، لسكنى الإيجيِّين فيه، وكانت جرار أقرب المدن الفلسطينية إلى الشيحور المصري الواقع شرقي الحي الجزري تمامًا، وقد سُمي «الجزري» نسبةً للجُزر، وعُبدت هناك آلهة غريبة تمامًا على مصر، تليق بالأغراب الملتحقين بخدمة الفرعون.
والأسباب في وضع الاحتمالَين واستبعاد أن تكون فلسطين مسكونةً بجنس البلست زمن البطاركة، هو كما قلنا إن التوراة كانت تصفها بأرض الكنعانيِّين، وأنها لم تصف أي مكانٍ فيها بالفلسطيني سوى مدينة «جرار»، هذا إضافة إلى أن الأحداث التي رافَقَت زمن البطاركة لم يأتِ فيها ذكر الفلسطينيِّين إطلاقًا في أيِّ وثيقةٍ تاريخية، لا في مصر ولا في أيٍّ من دول المنطقة ولا بفلسطين ذاتها. علمًا أن ذلك الزمن لحِقَته أحداثٌ جسام، تمثَّلَت في غزو الهكسوس لمصر وتذهب جلةٌ محترمة من الباحثين إلى أن دخول بني إسرائيل إلى مصر قد حدَث زمن الهكسوس، وهو زمنٌ ما كان يسمح بدخول البلست؛ حيث كان الهكسوس قوةً كبرى تحتل مصر ذاتها وتقهرها، مع عدم وجودِ أي إشارةٍ لفلسطين بهذا الاسم ولا لهجرة باسم البلست في أركيولوجيا ذلك الزمن.
لكن التوراة من جانبها تُصِرُّ، زمنَ الخروجِ، على وجود الفلسطينيِّين في فلسطين كحقيقةٍ واقعة، والأمر هنا ليس — كما في عهد البطاركة — حديثًا عن مدينةٍ واحدة، بل عن مجموعةِ ممالكَ قويةٍ ومقتدرة للفلسطينيِّين بشكل لا يدع سبيلًا للشك فيه، بنصوصٍ غزيرة كثيفة ومتعددة، تُحدِّثنا عن قُراهم وأسماء زعمائهم، بل وشخصياتٍ هامة من بينهم، وقواد عسكريِّين، وشكلِ أسلحتهم، وحروبهم مع الإسرائيليِّين عند دخول الأرض، وعباداتهم، وآلهتهم، مما يشير إلى أن الفلسطينيِّين كانوا قد أصبحوا حقيقةً مسلَّمًا بها في فلسطين، حتى إنهم أعطوا أرض كنعان اسمًا جديدًا هو أرض الفلسطينيِّين، وأن ذلك قد حدث أثناء تواجُد الإسرائيليِّين في مصر.
(٣-٥) محاولة حل
رغم أن آخر النظريات وأكثرها اعتمادًا في الأكاديميات العالمية، تلك التي تقول باضطهاد الإسرائيليِّين في مصر زمن الفرعون «رمسيس الثاني»، وبخروجهم من مصر في عهد ولده الفرعون «مرنبتاح»، فإننا لا نعلم كيف وجد هؤلاء السبيل «مثل بروغش وبيير مونتيه وغيرهم» كيف وجدوا السبيل إلى التوفيق بين ذلك، وبين الحقيقة التي تؤكِّد مجيء الفلسطينيِّين واستقرارهم على الساحل الكنعاني زمن «رمسيس الثالث»؛ أي بعد خروج الإسرائيليِّين من مصر حسب ذلك التزمين بحوالي خمسين عامًا، بينما التوراةُ التي تُعد لدى هؤلاء مرجعًا تاريخيًّا أساسيًّا في حسابات تزمينهم للأحداث، تقول إن الخارجين قبل خروجهم كانوا يُطلِقون على الطريق السينائي طريق فلسطين، وعلى كنعان كلها اسم الفلسطينيِّين، وأنهم عندما وصلوا إليها وجدوا الفلسطينيِّين قوةً قائمة في ممالك دخلوا معها حروبًا طاحنة قبل أن يستقروا إلى جوارهم هناك؟
ومن ثَمَّ لا يبقى أمامنا سوى اقتراحِ فرض لا ينزلق إلى الاصطدامِ بما استقر عليه علم التاريخ في تزمينه للأحداث وللأُسر الحاكمة في مصر، إنما هو فرضٌ يرجع قليلًا بزمن الخروج إلى الوراء؛ فنحن نعلم أن أول الهجمات البلستية قد حَدثَت زمن «أمنحتب الثالث» ١٤٠٥–١٣٦٧ قبل الميلاد، وهنا نفترض نجاح تلك الهجمة واستقرارها على الساحل الفلسطيني؛ أي إننا بوضوحٍ نستبعد الخروج زمن «مرنبتاح» ١٢٢٩ قبل الميلاد، ونرجع به إلى تلك الفترة الواقعة زمن خلو العرش بعد سقوط «إخناتون ابن أمنحتب الثالث» الذي حكم بين ١٣٦٧، ١٣٥٠ قبل الميلاد، وهو الزمن المناسب للخروج؛ لأن زمن مرنبتاح كان زمنَ قوةٍ مصريةٍ تسيطر على فلسطين ذاتها، أمَّا زمن خلو العرش بعد سقوط إخناتون فكان فترةَ ضعفٍ تسمح بوقوع أحداث الخروج، ومهاجمة الخارجِين لفلسطين التابعة لمصر، لكن ليجد الخارجون أن الفلسطينيِّين قد استقروا هناك زمن «أمنحتب الثالث» وربما قبله بقليل وأسَّسوا ممالكهم هناك.
وبالحسابات الافتراضية، نحن ندفع بزمن الخروج الإسرائيلي إلى الخلف إلى عامٍ يقع قبل ١٣٥٠ قبل الميلاد، وبإضافةِ زمن التيه في سيناء وهو أربعون عامًا، فإن وصول الإسرائيليِّين إلى فلسطين يكون قد حدث حوالي عام ١٣١٠ قبل الميلاد، وبذلك نكون قد أرجعنا زمن الخروج مائة وعشرين عامًا إضافيةً عن الزمن المفترض لخروجهم زمن مرنبتاح، وهو ما يعني أنهم قد دخلوا فلسطين قبل قرنٍ من زمن الفرعون مرنبتاح.
وإن فرضنا هذا سيحُل عددًا من المشاكل الكبرى في التاريخ غير المحلولة حتى الآن؛ فسيحل أولا مشكلة وجود الفلسطينيِّين بفلسطين قبل الخروج الإسرائيلي من مصر، وثانيًا سيعيد الاعتبار إلى المؤرخ المصري «مانيتون السمنودي/القرن الثالث قبل الميلاد» الذي أثبت مصداقيةً عالية في كثيرٍ مما أورده، ومع ذلك استَبعَد ما ذكره عن الخروج زمن فرعون باسم «أمنوفيس» لصالح فكرة الخروج زمن مرنبتاح، استنادًا إلى لوح مرنبتاح الذي يقول فيه إنه هاجم قومًا باسم إسرائيل ودمَّر بَذرتهم. وهنا بالتحديد يكمن الخلل في رأينا؛ حيث نحتسب أن لوح مرنبتاح كان يتحدث عن حملةٍ تمت بعد خروج الإسرائيليِّين واستقرارهم في فلسطين، ضمن الحملات التأديبية التي كان يشنُّها الفراعين على مستعمراتهم، بينما «أمنوفيس» الذي ذكره مانيتو كفرعون للخروج هو النطق اليوناني للاسم المصرى «أمنحتب» وكان إخناتون يحمل اسم «أمنحتب الرابع».
هذا ناهيكَ عن كونِ ذلك الفرض يجعل الخارجِين من مصر، ربما كانوا أتباعًا مُباشرِين لأخناتون كأول داعية للتوحيد في التاريخ، وهو ما يُفسِّر التوحيد الإسرائيلي بعد ذلك. إضافةً إلى حلِّ معضلةٍ كأْداءَ تقف دومًا في وجه القائلِين بالخروج زمن مرنبتاح وتتمثل في أن التوراة قد أكَّدَت أن الإسرائيليِّين عند غزوهم فلسطين، قد دمَّروا مدينة أريحا وأَحرَقوها بالكامل، وقد قامت بعثةُ حفائرَ بريطانية، بقيادة العالمة الأركيولوجية «ك. كينون» عام ١٩٥٠م بإجراءِ حفائرَ في مدينة أريحا للكشف عن أدلةٍ تشير لتدمير أريحا، ومدى صدق الرواية التوراتية.
وقد تأكَّد للبعثة البريطانية أن أريحا قد دُمِّرت بالفعل، لكن في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وهو ما شكَّل معضلة لأصحاب نظرية الخروج زمن مرنبتاح؛ لأن أريحا تكون بذلك قد دُمِّرَت قبل زمن مرنبتاح بقرنٍ من الزمان، وقد اعتَمدَت البعثة البريطانية في تزمينها لدمار أريحا، على ما عثَرت عليه من جعلان وكسراتٍ فخارية تحمل أسماء ملوكٍ مصريِّين، حكموا خلال القرن الرابع عشر قبل الميلاد، هذا مع آثار الحريق المدمر، وآثار التهديم الذي تعرَّضَت له أريحا.
ونقصد من هذا كله القول: إن العودة بزمن الخروج ١٢٠ سنة إلى الخلف، إلى فترة خُلوِّ العرش بعد سقوط إخناتون، يحُل معضلةً آثارية كبرى ومشكلةً تاريخية حقيقة، ويتطابق موعد دمار أريحا مع موعد دخول الإسرائيليِّين إليها، كما يحل مشكلةً مستعصية تُفسِّر وجود الفلسطينيِّين بفلسطين فبل دخول الإسرائيليِّين إليها، ولماذا حملت كنعان اسم أرض الفلسطينيِّين حتى في التوراة ذاتها، لكنها لم تحمل يومًا اسم أرض الإسرائيليِّين، وهو الأمر الذي لم يزل بعد قيد البحث في كتابنا: «النبي موسى وآخر أيام تل العمارنة».
(٤) تعقيب على لقاء نتانياهو بالمثقفين المصريِّين
ولا أقصد هنا التعقيب على الحوار أو على كلِّ ما قال السيد نتانياهو، لكن فقط على فِقرةٍ واحدة قالها في هذا اللقاء، وأَوردَها الأستاذ عبد الستار الطويلة في عدد روز اليوسف التالي للقاء مباشرة.
يقول الأستاذ عبد الستار: «وهو — أي نتانياهو — لا يعدم حجةً يقلب فيها حقائق التاريخ؛ فهو يقول في براءةٍ شديدة وهو يُبرِّر احتلال يهوذا والسامرة، كما أصر على تسمية الضفة الغربية بشكلٍ مستمر طَوالَ اللقاء: نحن لسنا الأمريكيِّين أو الفرنسيِّين الذين ذهبوا لاحتلال فيتنام والجزائر، هؤلاء غرباء عن الأرض والشعوب هناك، ولا حق لهم في ذلك، أمَّا نحن فهذه الأرض هي أرضنا، والذي حدَث أننا طُردنا منها ونُريد استردادها.»
وكنا نظن أننا قد تجاوزنا هذا المنطق من حقبة الستينيات لكن السيد نتانياهو بالتزامه العقدي الواضح والمُعلَن قد أعادنا مرةً أخرى إلى تلك المنطقة من التاريخ بمنطقٍ يدعي الحقوق المؤسَّسة على التاريخ.
لن أُكرِّر هنا القول المأثور: إن كان ذلك كذلك، وكان لا بد من إعادة الأراضي المسلوبة عبر التاريخ إلى أصحابها، فعلى العالم المتقدم الذي يأخذ بهذا المبدأ أن يُعيد القارة الأمريكية إلى الهنود الحمر.
ولن أُكرر هنا أن الحقوق الدينية لا تعطي حقوقًا في الأرض، وإلا كان للمسلم الأفغاني والصيني والإندونيسي حقوقٌ في أراضي الحجاز، وهو ما لم يدَّعِه مسلمٌ عاقل أو رشيد.
ولن أُكرِّر ما سبق وقلتُه في أعمالي المنشورة عن كون إسرائيليِّ اليوم أمرًا يختلف تمامًا عن بني إسرائيل التوراتيِّين، وإلا كان على السيد نتانياهو أن يُقدِّم لنا أهم وثيقة تؤكِّد تلك الحقوق، وأنه وَفْق منطقه هو عليه أن يُقدِّم لنا شهادة إثباتِ نسبٍ تعود به رأسًا للنبي يعقوب المعروف بإسرائيل.
نعم نحن نعلم أن في الأزمنة الخوالي كانت هناك العقود المكتوبة بين أفرادِ مجتمعات الأمم المُتحضِّرة لتؤكد الحقوق، أمَّا القانون كما في مصر القديمة فقد كان للدنيا مثلًا، ولكنا نعلم من توراة السيد نتانياهو أن أولئك الذين ينتسب إليهم لم يكونوا ممن يفكُّون الخط؛ لذلك عمل يعقوب مع خاله الآرامي رجمة حجارة لتكون علامةً شاهدة على عقدهما أسماها «يجر سهدوثا»، وأعطى ابراهيم سبع نعاج لأبيمالك ملكِ جرار الفلسطيني وزرع شجرةَ أثلٍ عند بئر سبع «لذلك سميت كذلك؛ أي إن بئر سبع سميت بهذا الاسم نسبةً للنعاج السبع والقسم) كي تكون شاهدةً على عقده مع أبيمالك حول ملكية أحد الآبار — وليس شيئًا كالنيل مثلًا — أو بالنص التوراتي «وأقام إبراهيم سبعَ نعاجٍ من الغنم وحدها، فقال أبيمالك لإبراهيم: ما هي هذه السبع نعاج التي أقمتها وحدها؟ فقال إنكَ سبع نعاج تأخذ من يدي لكي تكون لي شهادة بأني حفرتُ هذا البئر؛ لذلك دعا ذلك الموضع بئر سبع لأنهما حلفا كلاهما هناك، فقَطعا ميثاقًا بئر سبع … وغرس إبراهيم أثلًا في بئر سبع» (سفر التكوين، ٢١: ٢٨–٣١).
وهو ذات الأمر الذي تكرَّر مرةً أخرى مع أبيمالك الفلسطيني لكن البطل هذه المرة لم يكن إبراهيم بل ابنه إسحاق، وكان النزاع حول البئر التي سُمِّيَت بئر سبع أي بئر القسم/القسم الذي أقسموه على عهدٍ غير مكتوب فهي تعني الرقم سبعة كما تعني أيضًا القسم أو الحلف (انظر: سفر التكوين، ٢٦: ٢٢-٢٣).
مجرد بئر كانت البداية، وحولها تناقَضَت رواية التوراة مما يشير إلى بطلان القصة بكاملها من أول سردٍ لها بكتاب يُنعت بالمقدَّس.
نعم نحن نعلم أنهم لم يكونوا من بين الشعوب التي تعرف الكتابة حينذاك، حتى إن على ذمة التوراة بين إبراهيم وبين الله ليأخذ العهد الأعظم وهو المزعوم قد حدث على ذمة التوراة بين إبراهيم وبين الله ليأخذ أرض فلسطين من الله، كان بموجب عقدٍ مُوثَّق مختوم بخاتمٍ واضح، وكان أي ختم؟ وأي توثيق؟ كما تقول التوراة: «وقال الله لإبراهيم وأمَّا أنت فتحفظ عهدي أنت ونسلك من بعدك في أجيالهم، هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك، يُختتَن منكم كل ذكر في لحم غرلتكم (أي في القضيب الذكري) فيكون علامة عهد بيني وبينكم» (التكوين، ١٧: ٩–١١).
وبالطبع ليست تلك هي الوثيقة التي نطلبها من السيد نتانياهو ليؤكد الحقوق التاريخية التي يدَّعيها؛ فلا هو يستطيع إبراز تلك الوثيقة للإعلام العالمي، ولا أي محكمة يمكنها أن تأخذ بهذه الوثيقة المعتمدة بختم الطهارة (بالطبع هي غير الطهارة الثورية). ناهيك عن أنه إذ كان هذا الختم وتلك الوثيقة إعلانًا عن امتلاكِ بئرِ سبع (البئر فقط وليس المدينة) فلا شك أن المطالبين بحق الملكية وما يملكون من صكوكِ إثباتٍ لن تكفيهم آبار الدنيا (لِعلماء النفس رأيٌ في تلك القصة وهي عندهم تعبيرٌ عن الفعل الجنسي، فالقضيب معروف والبئر رمز الفرج).
- (١)
«فخرجوا معًا من أور الكلدانيِّين ليذهبوا إلى أرض كنعان» (تكوين، ١١: ٣١).
أي إن القبيلة الإبراهيمية جاءت إلى فلسطين وافدةً من أرضٍ أخرى وبلادٍ أخرى، وقد أثبتنا في كتابنا «النبي إبراهيم والتاريخ المجهول» أن أور الكلدانيِّين هذه تقع في بلاد أرمينيا الحالية ولا علاقة لها بالمنطقة.
- (٢)
وقال الرب لإبراهيم: «اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرضِ التي أُريك» (تكوين، ١٢: ١).
- (٣)
«أنا الرب الذي أخرجك من أور الكلدانيِّين ليُعطيكَ هذه الأرض لترثها» (تكوين، ١٥: ٧).
- (٤)
«لأكون إلهًا لك ولِنسلِكَ من بعدك وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك كلَّ أرضِ كنعان» (تكوين، ١٧: ٧-٨).
ولعل القارئ لاحظ — كما لا شك يعلم السيد نتانياهو يقينًا – أن التأكيد على غُربة تلك القبيلة عن أرضِ كنعان تكاد تتكرر في كل إصحاح، نكتفي منها بتلك الأمثلة لأن إحصاءها يحتاج صفحاتٍ طويلة من الملَل.
هكذا جاء السيد نتانياهو بافتراءٍ واضح على التاريخ بل على توراته ذاتها التي يعَضُّ عليها بالنواجذ. لقد وصل أسلافه قادمِين من بلادٍ بعيدةٍ غرباء على أرض كنعان. الرجل ذكي ومُذاكر توراة بشكلٍ جيد، سيرُد علينا نعم كان أهل الأرض كنعانيِّين وهم شعبٌ سامي لا يمكن لأحدنا أن يدَّعيه لنفسه دون الآخر؛ لأن كلَينا سامي. لكن لديك أيها السيد في توراتك ذاتها ما يُشير بوضوحٍ إلى أن الفلسطينيِّين قد سكنوا تلك الأرض قبل مجيء أجدادك إليها من أرمينيا أو من حيث أَلقَت، ولم يكن فقط سكانها الكنعانيون. لقد وصل إبراهيم وكانت تلك البلاد لا تُسمَّى بلاد الكنعانيِّين رغم سكن الكنعانيِّين فيها، لكنها كانت تُسمَّى أرض الفلسطينيِّين … هكذا بوضوحٍ فصيح تُسمِّيها التوراة أيها السيد المؤمن، وقد ورد ذلك في قصةٍ طريفة لا تستحي التوراة من ذِكرِها فلا حياء في الدين، والتوراة كما تعلمون أيها السيد لا تعرف الحياء.
كان إبراهيم جدك البعيد حسبما تزعم، وإن كنا في شكٍّ عظيم في ذلك لو ناقشناك، لكنا على يقينٍ في عدم نسبتك إليه دون أن نُناقشك؛ كان جدُّك هذا قد نزل مصر يستجدي القوت، بعد مجاعةٍ حلَّت ببلاد فلسطين، ونستمع معًا إلى تراتيل التوراة إذ تقول: «وحدَث جوع في الأرض فانحدر إبرام إلى مصر لِيتغرَّب هناك لأن الجوع في الأرض كان شديدًا. وحدث لما قرب أن يدخل مصر أنه قال لساراي امرأته: إني قد علمُت أنك امرأةٌ حسنة المنظر فيكون إذا راك المصريون أنهم يقولون هذه امرأته فيقتلونني ويستبقونك، قولي إنك أختي ليكون لي خيرٌ بِسببكِ وتحيا نفسي من أجلكِ» (تكوين، ١٢: ١٠–١٣).
ثم نفهم من بقية الراوية أن ادِّعاء سارة الأخوة لإبراهيم لم يكن اتقاء إبراهيم للقتل، إنما لسببٍ آخر ترويه التوراة تذكرةً للعالمين إذ تقول: «فحدث لما دخل إبرام إلى مصر أن المصريِّين رأَوا المرأة أنها حسنة جدًّا، ورآها رؤساء فرعون ومدَحوها لدى فرعون. «فأُخِذَت المرأة إلى بيت فرعون فصنع إلى إبرام خيرًا بسببها وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وأُتن وجِمال». فضرب الرب فرعون وبيته ضرباتٍ عظيمة بسبب ساراي امرأة إبرام، فدعا فرعون إبرام وقال: ما هذا الذي صنعتِ بي؟ لماذا لم تخبرني أنها امرأتك؟ لماذا قلت هي أختي «حتى أخذتُها لي لتكون زوجتي». والآن هو ذا امرأتك خذها واذهب، فأوصى عليه فرعون رجالًا فشيَّعوه وامرأته وكلَّ ما كان له» (تكوين، ١٢: ١٠–٢٠).
سنفهم الآن المراد والمقصود عندما نعلم أن ذات الأمر قد تم تدبيره للملك الفلسطيني أبيمالك، فنقرأ: «وانتقل إبراهيم من هناك إلى أرض الجنوب وسكن بين قادش وشور وتغرَّب في جرار وقال إبراهيم عن سارة امرأته هي أختي، فأرسل أبيمالك ملك جرار وأخذ سارة» (تكوين، ٢٠: ١-٢)، وكانت النتيجة فأخذ أبيمالك غنمًا وبقرًا وعبيدًا وإماءً وأعطاها لإبراهيم ورد إليه سارة امرأته وقال أبيمالك هو ذا أرضي قُدَّامَك اسكن فيما حسُن في عينيك وقال لسارة: «إني قد أعطيتُ أُخيَّكِ ألفًا من الفضة»» (تكوين، ٢٠: ١٤–١٦). وتكرَّرَت القصة ذاتها مع ولده إسحاق بحذافيرها لكن لنسمع هنا القول: «فذهب إسحاق إلى «أبيمالك ملك الفلسطينيِّين» إلى جرار» (تكوين، ٢٦: ٢). التوراة هنا تنتهي إلى تعريف أبيمالك بأنه ملك الفلسطينيِّين. لقد كان الفلسطينيون قد استقروا في الأرض وأقاموا فيها ممالك أدت بالنبي صفنيا إلى مناداتها في سِفره «يا كنعان يا أرض الفلسطينيِّين» (صفنيا، ٢). حيث هناك زَعمٌ تُروِّجه جامعات العالم يقول: إن الفلسطينيِّين — أو كما ذكرهم التاريخ (البلست) — قد قدِموا من كريت إلى فلسطين؛ فحتى لو كان ذلك هو الحادث تاريخيًّا فإن التوراة تقول بمجيء أرومة العبريِّين إلى بلاد كنعان وقد عُرِفَت باسم أرض الفلسطينيِّين. «لقد كان البلست قد أقاموا في فلسطين زمنًا كافيًا قبل ذلك ليمنحها اسم الفلسطينيِّين».
ومع منظومةٍ أخلاقية كتلك المنظومة التي حدثتنا عنها التوراة لا يكون هناك مجالٌ للقول بنقاء الجنس الإسرائيلي مع هذه البداية التي لا تُبشِّر بخير، ناهيك عن كون هذه النقاء الجنسي ظلمًا لطبيعة الإنسان؛ فمن المستحيل أن تقنعنا بنقاء هذا السلسال خلال ألوف السنين، وأن البذرة الإسرائيلية ظلَّت تتناقل في أرحام الطاهرات حتى وصلت يهود اليوم؛ لأنه من جانبٍ آخر هناك مغالطة تتم بموجبها المطابقة بين مفهوم الدين اليهودي وبين العنصر أو الجنس الإسرائيلي، بحيث يبدو وفق تلك المغالطة أن يهودي الفلاشا الزنجي ويهودي روسيا الأحمر ويهودي المنطقة السامي ويهودي أمريكا المُهجَّن، هم جميعًا يعودون بالنسب إلى جدهم يعقوب إسرائيل.
فنحن كبشر لا نستطيع التسليم بلونٍ خارق من العفاف الجنسي المنقطع النظير عند بنات يهود، حتى تحمل البذرة الإسرائيلية خالصة، ولن نضرب هنا أمثلةً ضربناها كثيرًا في أعمالنا المنشورة عما يموج به الكتاب المقدَّس من صخبٍ جنسي وصهيلٍ شبقي لبنات صهيون على الشباب الفتي لأمٍّ غيرِ إسرائيلية (انظر مثلًا سفر إرميا، ٣٠: ٥٠، ١٣؛ وحزقيال، ١٦ … إلخ)؛ ولهذا السبب تحديدًا وَضعَت دولة إسرائيل قانونًا لا يعتبر الفرد بموجبه يهوديًّا إلا إذا كانت أمة يهودية.
لكن المشكلة أننا إذا طبقنا هذا المبدأ على مؤسس دولة إسرائيل الملك داود، ثم على أشهر ملوكهم الملك سليمان، فسنجد الأول حفيد راعوث، ولم تكن لا إسرائيلية جنسًا ولا يهودية دينًا إنما كانت موآبيةً أمَّا سليمان فقد رُزق به أبوه من امرأةٍ حيثية لا يهوديةٍ ولا إسرائيلية. وطبقًا للقانون وإعمالًا لبنوده فإن كلَيهما لم يكن يهوديًّا ولا إسرائيليًّا، وتكون المؤسسة الكبرى من البدء دولةً فلسطينية تم سلبها لصالح يهوذا.
يبدو هكذا أنه لم تصبح لدى السيد نتانياهو أيةُ وثيقة تعطيه حقوقًا في الأرض، حتى أساطيره لا تُسعفه، وبالطبع لن نقبل منه الوثيقة التأسيسية فلدينا منها الأقوى والأكبر والأكثر عددًا ونفيرًا.
(٥) الإسلام والقضية الإسرائيلية
«اتبعوني أجعلكم أنسابًا، والذي نفس محمد بيده لَتملِكنَّ كنوز كسرى وقيصر.»
كان ذلك نداء النبي ﷺ يجلجل في مكة يعد من يتبع صاحبة بكنوزٍ عظمى وفتوحات أعظم، وقد ظل هذا النداء يتكرر حتى بعد قيام دولة الرسول النبوية الصغيرة في يثرب، خاصة في المناطق الصعبة وهو ما حدث في غزوة الخندق والمدينة محاصرةٌ بالأحزاب قد يدخُلونها على أهلها بين فينةٍ وأخرى، وساعتها أعلن الرسول وعده للمُؤمنِين أن الله قد فتح عليه بلاد الفرس وبلاد الروم، وهو ما دعا مسلمًا أنصاريًّا هو «معتب بن قشير» ليُعقِّب في المساحة الواقعة بين الوعد وبين واقع الحال، فيقول: «كان محمدٌ يعِدُنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط!» والرد كما هو واضح ردٌّ ساخر ينعى همًّا حاضرًا لا يُنبئ بمثل ذلك الوعد العظيم. لكن خط سَير التاريخ كان مع صاحب الدعوة وأمله الكبير.
كانت مصر وساحل أفريقيا مع فلسطين وبلاد الشام جميعًا تقع حينئذ تحت ظلِّ عرش قيصر الروم، بينما كانت العراق وما والاها شرقًا تقع تحت مظلة كسرى الفرس، وكل الدلائل تُشير إلى فراغٍ سياسي واضح ناتج بالضرورة عن انهيار قوى الإمبراطوريتَين بعد حروبٍ دامت وطالت، ولا بد أن تملا هذا الفراغ قوةٌ جديدة.
وقد وعى عرب الجزيرة الدرس وقرءوه بإمعان وأدركوا دورهم التاريخي المنتظر، فكانت دعوة النبي ﷺ وكان الوعي النافذ لرجل من سادة الملأ القرشي عظيم، هو الشيخ «عتبة بن ربيعة» الذي كلَّلَتِ السنوات رأسه بالحكمة فقرأ خطواتِ التاريخ المقبلة قراءةً واضحة بوعي ضفَّره موقعه القيادي في دار الندوة، فقام يُحدِّد موقف الملأ القرشي من محمد ودعوته بندائه: «يا معشر قريش أطيعوني وخلُّوها بي وخلُّوا بين هذا الرجل وما هو فيه فاعتزلوه؛ فوالله ليكونَنَّ لقوله الذي سمعتُ منه نبأٌ عظيم. فإن تُصبْه العرب فقد كُفيتموه بغيركم، وإن ظهر على العرب فمُلكه مُلكُكم وعزُّه عزُّكم وكنتم أسعد الناس به.»
وهنا يطفر السؤال: هل كان معلومًا لدى صاحب الدعوة، وفى خطة الوحي أن بلاد الحضارات الشرق أوسطية القديمة، مثل مصر والشام والعراق، ستقع ضمن حدود الدولة الإسلامية الإمبراطورية المنتظرة؟ وأنها ستتحوَّل تمامًا لتصبح دولًا عربية تتبنَّى العروبة لغةً وثقافةً وقومية بل وربما عنصرًا؟
المشكلة أننا لو سلَّمنا بذلك لوقعنا في مأزقٍ حرج بين ما يطلبه الإيمان وما تطلبه همومنا الوطنية والقومية اليوم؛ فنحن اليوم في أزمةٍ حضاريةٍ طاحنة تستدعي تمسكًا شديدًا بالهوية مقابل الآخر الغاصب المُتفوِّق، والهوية في مصر مصريةٌ تضرب بجذورها آلافًا من السنين في أزمنةٍ غوابر، والهوية في العراق عراقيةٌ تضرب بحضاراتها المتعددة من كلديا إلى بابل وأشور وآكد في عمق الماضي فحازت العراقة لاسمها، وبلاد الشام بدورها لا يقل وجودها الحضاري القديم عن شأن جيرانها، ثم يجمع هؤلاء جميعًا رابطة العروبة التي تحقَّقَت خلال قرون بعد الغزو العربي لها. لكن مكمن المشكلة أن اعتزازك بذلك القديم العريق الذي يحفظ لك التماسك النفسي والروحي ويضمن لك عدم فقد الذاكرة التاريخية، سيتصادم فورًا مع موقف الوحي القرآني الذي كرَّم بني إسرائيل تكريمًا مقارنًا طَوالَ الوقت بأصحاب تلك الحضارات مع تسفيه هذه الحضارات لصالح التاريخ الإسرائيلي؛ لأنه يعتمد في موقفه على الإيمان والكفر وحدهما، وكانت تلك الحضارات حضاراتٍ كافرة برب الشعب الإسرائيلي؛ لذلك يغرق فرعون مصر وقومه المجرمون في لججِ بحرٍ ينشق بالعصا الحية؛ لأنه كفر برب موسى وهارون الإسرائيليَّين، وينهار برج بابل فوق نمرود وقومه لأنه جادل الحق الذي جاء به الخليل إبراهيم أرومة العبريِّين، ويموت جوليات الفلسطيني قتيلًا وهو يُدافع عن أرضه ضد الاستيطان الإسرائيلي لبلاده بقيادة الملك داود؛ لأن جوليات كان بدوره كافرًا. ومن هنا تطرأ الأسئلة المُلحَّة والمشروعة إيمانيًّا ووطنيًّا وقوميًّا، والتي تفرضها متغيراتُ واقع الأحوال منذ جاءت هذه المواقف وحيًا مع بَدْء دعوة النبي ﷺ وحتى الآن، أسئلة تبحث عن السواء النفسي والاتساق مع الذات ومع الإيمان ومع منطق الأحداث. تبغي التمدُّد في هويتها الحضارية القديمة العريقة احتماءً وتماسكًا، وتريد في الوقت ذاته احترام المقدَّس وقراره حتى تطمئن إلى ما وقر في القلب حتى يُصدِّقه العقل ويطابقه العمل. وحتى يمكن ذلك سنُحاوِل قراءةَ حركة التاريخ على مستويَين: الحركة الأولى إبَّان تواتُر الوحي في مكة والمدينة حتى وفاة الرسول ﷺ وتوقُّف الوحي، والحركة الثانية منذُ توقُّف الوحي، وحتى الآن.
(٥-١) وقائع الحركة الأولى
وعلى محور الحركة الأولى نطالِع الدعوة الناشئة في مكة وهي في بدئها تبحث عن ملاذٍ وحُلفاءَ وأتباع، وتمثل هذا البحث في سعي صاحب الدعوة إلى كسب الولاء لدعوته، بعرض نفسه على شتَّى القبائل وعلى المستوى الاستراتيجي كان أهم نقطتَين يجب التركيز على حلف أحدهما يتمثل في مدينتَين تقع كلتاهما على الخط التجاري الدولي الذي يُمسِك بعِنان تجارة عالم ذلك الزمان. المدينة الأولى هي الطائف التي تقع على عصب طريق الشتاء التجاري إلى اليمن، والثانية هي يثرب الواقع عند عنق طريق الإيلاف الصيفي إلى الشام.
- الأول: أن قريشًا قد أسقطت يثرب من حسابات مكاسبها التجارية نتيجة لضعف يثرب الشديد بعد مجموعة الحروب الأهلية التي دارت بين بطونها وأحلافها، حتى لم يعُد بإمكانها القيام بفعلٍ مناسب على طريق الإيلاف الشامي للضغط على قريش، حتى تنال نصيبها من تلك المكاسب التجارية الهائلة. وقد رأت يثرب أن التحالُف مع صاحب الدعوة هو الفرصة المثالية للوقوف ندًّا لمكة التجارية. بل وتشكيل تهديدٍ حقيقي تَمثَّل في قمته في قطع الطريق التجاري تحت قيادةِ زعيمٍ قرشي من قريش ذاتها، قريشِ مكة التي سبق وأهملَت يثرب من معادلتها الاقتصادية.
- أمَّا الأمر الثاني: الذي دفع يثرب إلى هذا التحالُف أو ساعد عليه بالأحرى، هو خئولة النبي وآل هاشم في بني النجار من الخزرج اليثاربة، تلك الرابطة القرابية التي دعت الأخوال في يثرب إلى استقبال ابن رحمهم الهاشمي، وفتح مدينتهم له لتكون نواة الدولة وعاصمتها المقبلة. ولا يغيب علينا دور الإيمان العظيم لأهل يثرب بالدعوة الجديدة، وهو الإيمان الذي هيأهم له معاشرتهم لفكرة التوحيد الإلهي عبر أهلها من يهود يثرب، لكن ذلك تحديدًا كان سببًا في جعل يثرب مدينةً إشكالية لوجود العنصر اليهودي بها، مما استدعى — في التعامل معها — تكتيكًا من نوعٍ خاص، أراد الله به إعطاء الدرس الموضوعي لِلمُؤمنِين.
من نافلة القول التأكيد أن يهود يثرب إنما كانوا عربًا بكل معنى الكلمة، فقط كانوا يدينون باليهودية. ومثلهم مثل بقية يهود الشتات كانوا ينتظرون نبيًّا من بني إسرائيل، يُعيد لإسرائيل مجدها ويُقيم لها دولتها الغابرة التى أنشأها داود وولده سليمان، وعلى أن يكون هذا الآتي من نسل تلك الشجرة وحين ظهوره سيتم مسحه بالزيت المقدَّس «مسيحًا» ليُقيم عمد دولته ويُعيد بناء الهيكل الذي دمَّره طيطس الروماني عام ٧٠ ميلادية.
وقبل ذلك بزمانٍ عانت الدولة السليمانية من قوة جيرانها؛ فقد وجَّه الفرعون شيشنق لها أُولى الضربات زمن رحبعام بن سليمان، ثم تبِعه الآشوريون الذين قضَوا على النصف الشمالي من دولة إسرائيل، لِيُنهي الأمر نبوخذ نصر البابلي باحتلاله نصفها الجنوبي وسبي أهلها. وهنا لم يبقَ أمام أنبياء شعب الرب سوى استمطار اللعنات على أعداء إسرائيل المتمثِّلِين في حضارات المنطقة القديمة، والتنبُّؤ بانتقامٍ سيقوم به المسيح الممسوح الآتي بعد أن يُقيم دولةَ إسرائيل على أنقاضِ دول المحيط المعادي لها. ومن هنا كثُرت نبوءات الكتاب المقدَّس بنبيٍّ آخر الزمان الآتي من سجف الغيب.
وعندما ظهر النبي محمد ﷺ في مكة، أرسل إعلانه يُدوِّي بين فيافي الجزيرة ليصل من يهمُّهم الأمر، يؤكِّد أنه نبوءة موسى وبشرى عيسى وأنه أحمد النبي المنتظر. وتم دعم ذلك بقصة الذبح التي كاد يتعرض لها أبوه عبد الله لِتتناغمَ مع قصة الذبح التي كاد يتعرض لها إسماعيل ابن إبراهيم، حيث كان الذبح علامةً على التواصُل مع السماء. وقد تم تعويض ذلك الذبح في اليهودية بذبحِ شاةٍ أو بذبحٍ جزئي للطفل بجراحة الختان، التي أكَّدَت التوراة أنها بصمة العقد الذي تم بين إبراهيم ونسله وبين الله. وبموجب هذا الختان/الختن/الختم تَمَّ توثيق العقد والوعد بوراثة النسل الإبراهيمي الإسرائيلي للأرض ما بين نهرِ مصر إلى نهرِ الفرات.
ولكن لأن شرط النبوة التوراتية أن تكون في بني إسرائيل، ولأن النبي محمد ﷺ ليس من بني إسرائيل، فقد أمكن إيجاد الصلة مع الوعد بإرجاعه سلفًا ليس إلى يعقوب المُسمَّى بإسرائيل، لكن إلى الأب الخليل صاحب الوعد والعقد الأول، إلى إبراهيم نفسه؛ وحيث إن إسماعيل كان أول من اختُتن قبل شقيقه إسحاق، أمكن القول بإمكان مجيء نبيٍّ آخر الزمان من الفرع الإسماعيلي، دون اقتصاره على الفرع الإسرائيلي من نسل إبراهيم. وهكذا تم ربط صاحب الدعوة بالمشروع الإسرائيلي، ليكون مُحقَّق الوعد لكن عبر النسل الإسماعيلي.
وهو الأمر الذي وعاه مؤرخونا الإسلاميون الأوائل وعبَّروا عنه بهذا المعنى.
لا زلنا على محور الحركة الأولى التي حدَّدت علاقة النص المقدَّس بواقع الأحداث التي أصبحت تاريخًا، إبَّان تواتُر الوحي في مكة وقبل الهجرة إلى يثرب، في دفعاتٍ متتالية من الآي القرآني الكريم للتأثير في يهودِ يثرب توطئةً لهم لقبول دعوة النبي، بل وقبوله هو نفسه في يثرب؛ فجاءت آيات الكتاب الكريم تتحدَّث عن مكانة بني إسرائيل في التاريخ السياسي والديني للمنطقة، وكيف فضَّلهم الله على العالمين، مع تأكيد أن محمدًا إنما هو استمرارٌ للنبوات المتوارثة في البيت الإبراهيمي، مع تكرار لقصص أولئك الأنبياء منذ نوح وإبراهيم عبورًا على إسحاق ويعقوب والأسباط وموسى وانتهاءً بداود وسليمان وعيسى، باعتبارهم كانوا توطئةً لخاتم النبوات. ومن جانبها كانت الأحاديث تؤكِّد أن محمدًا ﷺ كان غرةً بيضاء في جبيِن آدم تناقلتها أصلاب الأنبياء والطاهرِين التي شخصت بميلاده.
ومن هنا جاءت الآيات تترى تؤُكِّد ليهود يثرب الذين يترقَّبون: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ (المائدة: ٤٤)، إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ (الصف: ٦). مع احترامٍ واضح حتى للتفاصيل التوراتية الصغيرة وتوقيرها والإشارة إليها في الآيات. كذكرِ شعيرة اليهود المقدَّسة التي كانوا يحملون بموجبها تابوتًا يعتقدون أن ربهم يرقُد بداخله، وجاء ذكر هذا التابوت في الآيات: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ (البقرة: ٢٤٨)، أو مثل كتابة الله للتوراة (بإصبعه فيما تقول التوراة) على ألواح الشريعة: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً (الأعراف: ١٤٥). ثم تلا ذلك الموقف العملي للنبي عند حلوله كريمًا على يثرب لتستنير به وتحمل اسم مدينة الرسول المنورة؛ فقد استقبل مع أتباعه قِبلة اليهود في الصلاة بل وصام معهم يوم كيبور/الغفران/«يوم غرق المصريِّين» وخروج بني إسرائيل من مصر، ثُم عقد الصحيفة مع يهود يثرب للتعاون والدفاع المشترك، مع كفالةٍ تامةٍ لحرية الاعتقاد. وإعلانِ عدمِ التناقُض العقدي بين ديانةِ يهود وبين ما جاء به محمد، وهو ما تنطق به آياتٌ كثيرة من قبيل: وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ (البقرة: ٩١)، وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ (البقرة: ١٣٩). وكان ذلك بالنسبة ليهود يثرب لونًا من ممكناتٍ مستقبلية تُحوِّل مركز الجزيرة وقلبها عن مكة إلى يثرب، وما سيعود نتيجة ذلك من منافعَ عظيمة، لكنهم أبدًا لم يَرَوا محمدًا النبي هو المسيح الإسرائيلي المنتظر، بينما كانت خطوات النبي تلك تُسجِّل على الجانب الآخر تباعُدًا مؤقتًا عن أهل مكة في إنذارٍ واضحٍ لقريش كي تُغيِّر موقفها.
وبمرور الوقت لم يَبقَ وِداد الودِّ على حاله؛ فقد استمر يهود يثرب يهودًا دون اندماجٍ كامل يضمن لدولة المدينة تماسُكها، ثم تأتي غزوة بدر الكبرى لتضع بيد المسلمين القوة المادية سلاحًا ومالًا، وتمنحهم الثقة النفسية والقوة المعنوية، وهكذا أذن فجر الأيام البدرية بمغرب مرحلةٍ آن لها أن تغرب. وأخذت آيات القرآن تترى تحمل روح سياسة جديدة، تنسخ ما قد سلف من حريةِ اعتقادٍ تم السماح بها في ظرفها، آتيةً بجديد يُوطِّئ لخلاص يثرب الكامل لدولة الإسلام؛ لأن الدين قد أصبح عند الله فقط هو الإسلام: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ (آل عمران: ١٩)، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ (آل عمران: ٨٥).
وأخذت الجفوة في الاتساع لتتحول إلى عداءٍ جهيرٍ صحِبَته معاركُ طاحنة انتهت بخروجِ يهود من يثرب نهائيًّا، مع إيضاحٍ جديد تحيطنا به الآيات علمًا في قولها: مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ (النساء: ٤٦)، وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ (البقرة: ٧٥)، ناهيك عن تقرير القرآن أن القائلِين بأن الله ثالثُ ثلاثةٍ قد كفروا، قد صحِبَته معلومة لم تكن معلومةً بالتوراة، وهي أن يهود تقول عن الله الذي لم يلد ولم يُولد أنه قد أنجب عزيرًا ابن الله.
هكذا كانت حسابات الجدل المُتفاعِل بين صدق الواقع وبين الوحي الصادق الذي طابق الواقع وتحرَّك معه في درسٍ عظيم من البرمجة والتخطيط، بدأ على أمرٍ وانتهى إلى أمر، وَقفَت بعده دولة الرسول موحدةً شامخة بعد الخلاص من المُنكر الإيماني الحي لدعوة الرسول (يهود يثرب).
لكن ما علاقة كل هذا بسؤالنا التأسيسي عن أزمةٍ مُؤرِّقة بين ما يمليه الاعتقاد وبين همومنا القومية والوطنية؟ الإجابة رغم وضوحها فإنها سيبين فيها الخيط الأسود من الخيط الأبيض مع قراءة المحور الثاني للحركة التي تبدأ من وفاة الرسول ﷺ وتوقُّفِ الوحي حتى الآن.
(٥-٢) وقائع الحركة الثانية
عملًا بخطة الرسول ﷺ التي استنَّها بنفسه قبل رحيله إلى عالم البقاء، قامت الخلافة من بعده بحروب الفتوحات الكبرى التي انتهت بإدخال دولٍ غيرِ عربيةٍ تحت مظلة الدولة الناشطة، بل وتَمَّ استعرابُ سكان البلدان المفتوحة لغةً وثقافة وعقيدة ومنهج حياة، فكان أن دَخلَت في ضفائر العروبة بلدانٌ ذات حضاراتٍ عريقة، كان لها مواقفُ عدائية مع اليهود الغوابر، وفي الوقت نفسه تتلو في مقدَّسها مواقفَ تشين جذورها الحضارية وتقتلعهم منها، عَبْر الإيمان بكفر أصحاب تلك الحضارات من أجدادٍ كانوا لنا عنوان الفخار، ومع وجوب الإيمان بصدق الآخر الإسرائيلي وتبجيله إزاء الوطني العريق. خاصة مع مرورِ زمانٍ تمكن فيه يهود العالم من إقامة مجد داود وسليمان في أورشليم مرةً أخرى باقتطاع أرضٍ عربية من أهلها لصالح شعب الرب والدولة الموعودة بالكتاب المقدَّس.
لقد كان الموقف قبل انجلائه في بدر، يسعى لتأكيد العلاقة مع التوراة وأصحابها، بسردِ القصص التوراتية في آياتٍ قرآنية تؤكد تصديق نبوة النبي ليهود يثرب، وضمن تلك القصص تم تكفيرُ حضارة مصر ممثلةً في قومِ فرعون الذين أجرموا في حق بني إسرائيل فغرِقوا عقابًا واستحقاقًا، كما انتَصرَت الآيات للملك دواد الإسرائيلي وهو يقتل جالوت الفلسطيني ويقيم على أنقاض الفلسطينيِّين دولة إسرائيل، ثُمَّ تم الوقوف من حضارة العراق القديم ذات الموقف لأن ملكها النمرود جادل إبراهيم أرومة العبريِّين في أمر ربه فاستحق هو وآله دمار برجِ بابل والعذاب.
السؤال المِلحاح لا يتحرج ولا يتراجع عن الاجتراء الحر يتساءل: ألا يُكفِّر هذا الموقف فينا نصف هويتنا إن لم يكن معظمها، ويكفر الأسلاف والتاريخ، ويقطع مع الماضي، ويُفقِدنا الذاكرة الوطنية؟ وإذا كانت خطة الوحي قد استدعت، مصالحةَ يهود وكل ما ارتبط بها من آيات، فإن الحكمة الإلهية لصالح الموقف الجديد المعادي لليهود، لم تُدخِل ضمن خطة النسخ بقية البنود المرافقة لقصص مثل قصص فرعون وجالوت ونمرود، آيات ناسخة أو حتى رافضة أو حتى مراجعة لهذا الرتل من الإسرائيليات، أفلا يشرخ ذلك في الذات القومية تجاه الآخر المعادي المتفوق المحتل؟
فكيف نحل هذه الإشكالية دون أن نستهين بأي عنصرٍ في ديننا الحنيف الجليل، ودون أن نفقد تواصُلنا مع أصولنا الحضارية القديمة العريقة الأصيلة التي تُشكِّل هويتنا؟
لا أتصور حلًا يليق بجلال الوحي وتوقيره سوى إعادةِ قراءته غيرَ منزوعٍ من سياقه، مرتبطًا بواقعه وأحداثه لنعلم حكمة السبب، حتى لا يتصادم الإيمان مع العزة الوطنية بأسلافنا العظماء، ولا يتضارب الوطني مع القومي، ولا يتناقض القومي مع الإيماني.
وهذا النوع من القراءة هو وحده الكفيل الآن برفع الالتباس في علاقة الإيماني بالقومي أو ما يمكن تسميتُه فكَّ اشتباك. ومن جانبٍ آخر يُحقِّق مصلحةً ضرورية هي رفع الانتهازية والاستخدام النفعي للدين ونصوصه حسب مصالحِ ذوي النفوذ؛ فنحارب إسرائيل بآيات ونصالحها بآيات، ونبني الاشتراكية بآيات ونفتح المجتمع الحر على السوق بآيات، وكي يظل النص القرآني في مكانه اللائق من ثقافتنا دون مصادماتٍ تُفرِز الأسئلة الصعبة، وربما نكون قد أصبنا، وربما نكون قد أخطأنا، لكنا نحاول لوجه الوطن ما نبغي سوى الفهم وهو مطلبٌ إنساني طبيعي.
(٦) حول خطاب الحق الديني في القدس٣
هناك حقيقةٌ لا يجادل فيها عربي (على الأقل)، وهي أن إسرائيل استعمارٌ إحلالي يقوم بإحلال اليهود محل الفلسطينيِّين. ومن هنا يجب مقارنته باليانكي وهو يغزو الشرق والغرب الأمريكي ويُبيد هنوده الحمر، ومن بقي منهم كان من باب الحفاظ على فصيلةٍ من الانقراض، لكن ما لا تفوت ملاحظته أن الهنود الحمر كانوا عبر السنين في أمريكا، ولم تقم أمريكا كدولة ثم دولةٍ عظمى إلا بعد هجرة الرجل الأبيض إليها محملًا بالناتج الحضاري المادي والمعنوي لزمنه. فحمل معه الثورة العلمية والمنهج الحر في التفكير والممارسة. أمَّا ما تجب ملاحظته بشدة فهو أنه مع هذه المقارنة يجب أن نُقارِن أنفسنا بالهنود الحمر، وأن نترقب مصيرًا مشابهًا إن بقينا عند ثوابتنا الكبرى المرفوعة أعلامًا. وقد سبق واحتل العرب أرض الأندلس احتلالًا استيطانيًّا، وهو أخف وطأة من الإحلالي. لكن مع رفع الأعلام الثوابت أجهض المشروع العلمي الرشدي وذهب ابن رشد إلى أوروبا فحاز ما يناسبه من تقدير وحاز العرب أيضًا موقفهم من الحريات، فخرجوا من الأندلس. بينما أصبحت أمريكا قوةً عظمى وإسرائيل قوةً كبرى. من الحقائق أيضًا أننا خضنا معاركنا دفاعًا عن حقوقنا، وهي حقوق وليست أوهامًا دينية كما تفعل إسرائيل، وليست كما يُحوِّلها البعض إلى المستوى الديني فتصبح أوهامًا. ولأن الحق مع العرب فقد رفضوا قرارَ تقسيمِ فلسطينَ إلى دولتَين، واحدة فلسطينية والأخرى إسرائيلية، وقرروا إعلان الحرب.
اللوحة التاريخية تقول إنه رغم أننا أصحاب حق، فقد تمت هزيمتنا هزيمة نكراء … لماذا؟ معرفة الأسباب تكمن في الإجابة على سؤالٍ آخر أهم: هل كان العقل حاضرًا إبَّان سعينا وراء حقوقنا؟ نقول العقل مجردًا الآن وليس ما يستتبعه من حرياتٍ ومناهجِ تفكيرٍ علمية وفكرٍ نقدي بلا تحريمات … إلخ، فقط نسأل: هل كان العقل كتفكيرٍ مجردٍ حاضرًا؟
قبل ذلك كان المستوطنون اليهود قد بلغ عددهم في فلسطين حوالي ستمائة ألف نسمة، ما بين رجلٍ وامرأة وطفل. جاءوا من أصقاعٍ شتى ليتعرفوا على أرضِ فلسطين، وسط قسوة خطوات الاستقرار المعيشي الأول في المهجر. ومع ذلك كان في قُدرتهم أن يُجيِّشوا لهذه الحرب ٦٧٠٠٠ مقاتل، سبق وتدرَّب معظمهم تدريبًا عالي الكفاءة في الحرب العالمية الثانية، ويحملون معهم الفكر المدني إلى جوار القدرة القتالية. واندرجوا جميعًا رغم تمايزاتهم المتباعدة الطازجة تحت قيادةٍ عسكرية واحدة. وإبَّان المعركة أسَّسوا مجتمعهم المدني بتأسيسِ أول برلمانٍ ديمقراطي في أرضهم الجديدة.
فماذا كان على الجانب العربي؟
تَعداد العرب والحمد لله كان خمسين مليونَ نسمة، وقد دخل الحرب من الدول العربية والحمد لله سبع دولٍ عربية هي الأكبر. لكنهم والحمد لله الذي لا يُحمد على مكروهٍ سواه لم يتمكنوا من حشد أكثر من واحد وعشرين ألف مقاتل (؟) معظمهم من الأميِّين (!)، ومع أسلحةٍ أقل عددًا وكفاءة مما بيد الجانب الآخر.
وكالعادة التاريخية التي هي فيما يبدو من الثوابت الأعلام بدورها، لم يتنازل الإباء والشمم العربي لقائدٍ واحد يقود جيوشهم، فذلك عار وشنار، وأَسفَر الأمر عن خمسِ قياداتٍ عربية متناحرة، رغم أنهم دخلوا الحرب مُتعنصرِين بالعنصر العربي الواحد، ومُتَّشحِين بالإسلام وأعلنوها حربًا مقدَّسة (وهنا المشكلة المستعصية لأن العرب ليسوا كلهم من دينٍ واحد)، فإذا كان الحال كذلك، وكانوا يعرفون ممكنات الطرفين جيدًا، فلا شك (حسب المنهج) أنهم تَصوَّروا حدوث معجزاتٍ كمجيء الملأ السماوي، أو ظهور الطير الأبابيل، وهو الأمر الذي لم يزل منهجًا سائدًا في شعار يتكرر حتى اليوم: إذا كانت أمريكا معهم فالله معنا (؟!) وهناك من لا يفهم كيف يكون الله مع قومٍ لا ينتجون ولا يبدعون ولا يكتشفون ولا يخترعون، فقط يُبسملون ويُحوقلون؟
النتيجة الواضحة أن طرفًا يملك أرضه منذ قرونٍ طويلة ولم يستطع أن يصنع خلاصة، وأن طرفًا آخر جاء يريد أرضًا ومعه خلاصة.
وكان غياب العقل عندنا، والحريات بمعناها الصادق والكامل (وليس السياسي فقط)، وعدم إجراءِ حسابات المكسب والخسارة والهزيمة والنصر، العامل الأساسي الذي أدَّى إلى قيام دولة إسرائيل، بينما لم تقمِ الدولة الفلسطينية التي نص عليها قرار التقسيم، بل وكان دخول العرب المعركة دافعًا لاستيلاء إسرائيل على أرض خارج خطوط التقسيم، وإهدار دماء المُواطنِين العرب الأبرياء من سبعةِ أقطار فقط للطنطنة والشنشنة، والمنافسات العربية العربية، وإكرامًا لذكرى عنتر بن شداد، بلا مقابل؛ لأن المواطن في بلادنا هو بين لكن الدماء كانت بلا ثمن، آخر الأمور التي يتم النظر بشأنها.
وأفضت حرب ٤٨ إلى سلسلةِ انقلاباتٍ انتهت باستيلاء العسكر المحلي على الحكم. تحت قياداتٍ لا نشُك أبدًا في إخلاصها وطهارة أيديها ووطنيتها الصادقة، بالضبط كما لا أشك أنا أن السيدة والدتي تتمتع بتلك الصفات بشكلٍ مبهر ومحترم، لكن هذه الصفات بالتأكيد لا تكفي لتسليمها رئاسة الجمهورية.
إلا أن بعض القادة من هؤلاء تتمتع أيضًا بالكاريزما، والقدرة على حشد الجماهير وتعبئتها، وأمكنهم عسكرة المجتمع بكامله، وأقنعونا أن إسرائيل دويلة يمكن لمصر وحدها ركلها في أيام. لكن يبدوا أن تلك الصفات بدورها لم تكن كافية؛ لأن النتيجة كانت كابوسًا مُرعبًا مُروِّعًا بهزيمة ١٩٦٧م، التي انتَصرَت فيها الديمقراطية الإسرائيلية انتصارها الأعظم، وأضافت إلى أراضيها أضعافَ مساحتها، وهزمت فيها الفاشية العربية هزيمةً شنعاء.
كل هذا واضح بالطبع، ومع ذلك لا زال مُثقَّفونا ينتظرون إلى اليوم: القائد قلب الأسد؛ إي والله «قلب الأسد»، بعد أن تأكد الدكتور مصطفى محمود أكرمه الله (أهرام ٩/١٦ /٢٠٠٠م) بتفسيره لآياتٍ قرآنية أن «قلب الأسد» على وصول، وهو قادمٌ آتٍ، لكن لأن الله هو الذي سيختاره؛ فالدكتور مصطفى لا يعلم متى سيأتي ولا كيف؟ إذن انتظروا يا عرب مجيء «قلب الأسد المختار» بالعناية الإلهية، واطمئنوا يا سادة فالدكتور يجزم بصحة ما وصل إليه، ولا بأس أثناء فترة الانتظار تلك أن تبكوا أحيانًا على أطفال الفلسطينيِّين، لكن على العقل العربي يجب أن تندبوا. وكي تندبوا بحرقة أُحيطكم علمًا أني بينما أقول لكم قولي هذا، يتأهب حزب التحرير الإسلامي إلى إعلان الخلافة من «قرقيزيا؟ …»
حكاية قرقيزيا «هَم يضحك» والحاج مصطفى «هَم يبكي».
الذي لم نرَهُ أبدًا أنه كلما تصارعَت دولتان إحداهما ديمقراطية، والأخرى أي شيء آخر، كان النصر حليف الديمقراطية؛ فلا نصر بدون تقدُّم ولا تقدم بدون ديمقراطيةٍ حقيقية. والديمقراطية بالمناسبة ليست الشورى بأي حال، وليست مجرد صندوقِ انتخاباتٍ نزيه فهو وحده كارثةٌ كاملة؛ الديمقراطية هي التفكير العلمي في شئون الحياة، ويستلزم بالضرورة كي يولد، مقرطة المجتمع كله من التعليم إلى الإعلام والسلوك الحضاري واحترام العمل والإنتاج واحترامٌ كامل للقانون المدني من جميع الأفراد مهما كانوا مُتبايِنِين؛ هي أيضًا دستورٌ ديمقراطي بالأساس؛ هي حرية النقد الكاملة؛ هي حرية انتقال المعلومات؛ هي حرية التعبير والرأي والاعتقاد، مرجعية الجميع في ظلها هي العقل العلمي وليس الطاعة. هي كلٌّ لا انفصام فيه؛ لذلك لا تزدهر في مجتمعات الرأي الواحد والثوابت الأعلام، حيث يسود الجهل والتخلف.
•••
لقد كرِه العرب عدوهم بعمق، والكراهية إزاء الكراهية مشاعرُ مشروعة، لكن الطرف الآخر مارَس الكراهية وأعمل العقل والعلم والديمقراطية، أَعمَل العقل ليعرف عن أعدائه ما يريد، عبر مراكزَ بحثيةٍ ومؤسساتٍ علمية أهلية ورسمية وجامعية، ليُقدِّم أبحاثه الدقيقة والمفصلة، حتى عن أحوالنا النفسية والعاطفية، إلى وسائل إعلامه وتعليمه وجيشه بالطبع، ليتم تفعيلها لا وضعه على الأرفف. ليعرفوا كيف يُفكِّر عدوهم وما هي ردود أفعاله وما هي سماته الشخصية والنفسية. أمَّا الكراهية عندنا فقد أجَّجَها خطابٌ أوحد يُمجِّد الزعيم الأوحد والأمة الواحدة، ويُعلن دومًا عن ممكناته العسكرية كأكبر قوةٍ ضاربة في الشرق الأوسط، دون أن يقدم للناس أية معرفةٍ حقيقية بإسرائيل السياسة والاقتصاد والتفكير والمنهج والمجتمع. لأن ذلك سيستدعي بالضرورة مقارنات فاضحة لمؤسساتنا الحاكمة ولمجمل مناهجه. وكان ناتج عدم المعرفة الذي نرتاح إليه من باب الكسل العقلي التاريخي المرتبط بحول منهجي بالضرورة، كل هذا كان لا بد أن يُفضي بشكلٍ طبيعي إلى كارثة ١٩٦٧م، التي لا زالت توابعها الاهتزازية فاعلة حتى اليوم.
ومع هذه المعركة أدرك العالم مدى تخلُّف العرب الحضاري والثقافي، بل ومدى كذبهم على أنفسهم وعلى الجماهير وعلى العالَمِين، عندما كانت وسائل إعلامنا تُصدِر البيانات العسكرية المظفَّرة تتوالى، بانتصاراتنا الساحقة، وساعتَها أعلن أحمد سعيد مذيع صوت العرب الأشهر أننا سنصلي الجمعة غدًا في تلِّ أبيب. وكان بعضنا يتعجل السفر ليشرب القهوة هناك قبل أن تبرد، وقبل أن يبرُد نهر الدم المنتظر، مع نصيبِ كلٍّ منا في بنات صهيون في أحاديث المصاطب المشيخية. بخطاب كان طَوالَ الوقت غرائزيًّا يستحث الرغبات في الدم والمكاسب الدونية. بخطاب فقط وليس أفعال. في الوقت الذي كان فيه العالم يشاهد في تلفزته عمليات التطهير التي تقوم بها إسرائيل للأراضي الهائلة التي استولت عليها، وجنود إسرائيل يشربون قهوتهم الساخنة على الضفة الشرقية للقناة.
لم يأسف المُحلِّلون علينا حتى من الدول التي كنا نعتبرها صديقة، وقالوا لا يأسف أحد على هتلر إلا أمثاله، وقال بعضهم إن العرب ليسوا فقط مُتخلِّفين بل مرضى عُصابيِّين أيضًا. وقال آخرون إن العرب في مرتبةٍ تطورية أدنى من البشرية، في مرحلةٍ تجاوزتها الإنسانية على سُلَّم التطور. مجرد كائناتٍ عدوانية لا تعقل وتحتاج إلى قوةٍ تلجمهم.
ولم يستطعِ العرب تدارُكَ هزائمهم الكونية الكامنة أصلًا في المنهج وليس في العمل العسكري، حتى جاءت حرب ١٩٧٣م ببعض الأمل على المستوى القتالي، لكن ليأتي الإرهاب المُسلَّح الدموي في الجزائر ومصر، ثُمَّ يخرج صدَّام من مغامراته مع إيران إلى أُم المعارك، ثم تظهر طالبان محسوبةً على العرب فقط؛ لأنها مسلمةٌ لتُعطي العلم بقية مساحيق التشويه ولتثبت للعالم أن الصورة التي قدَّمتها الصهيونية للدنيا عن العرب، لها أصولُها في سجل العرب.
بعضُ مُفكِّرينا القوميِّين أكَّدوا لنا قديمًا ولا زالوا يؤكدون أن إسرائيل ستسقط بفعلِ عواملَ ذاتيةٍ داخلية، بعد فشلنا القومي الذريع في إسقاطها، وألبسوا الأوهام ثياب التنبؤ العلمي؛ فهي مزيجٌ مُتباين المَشارِب لِبشرٍ مُختلفِين في نسقٍ اجتماعيٍّ شديد التعدُّد؛ نظرًا لاعتقادنا (منذ الخلافة الأُموية والعباسية والشركسية والديلمية والسلجوقية والعثمانية والهابُّ والدابُّ يحمل راية الإسلام)، أن الوحدة الاندماجية الكاملة في أمةٍ واحدة متجانسة بالكامل هو القوة والنصر: الفرض الجبري للتوحُّد على التبايُنات العرقية والمذهبية والدينية والقطرية، بتفكيرٍ لا يُعير التفاتًا لحقوق البشر ولا الأقليات بحسبانهم مواطنِين، ولا لمعنى الحريات. فقط الأمة الواحدة القوية هي الهدف ولو على حساب الإنسان. لكنها أيضًا القوة المجرَّدة بالمعنى العسكري بأرض السودان وأموال البترول وثقل مصر السكاني، هي القوة بمقاييس تجاوَزَها للزمن، وبفهم عشرةِ قرونٍ مضت؛ فقاموس التقدُّم اليوم ليس فيه معنًى لتعبير الثقل السكاني مثلًا ولا لكلِّ شعاراتنا.
هذا بينما أدرك المشروع الصهيوني مُبكرًا أن التنوُّع في ظل مناخِ حرياتٍ تعدُّدي هو الغنى والثروة والقوة، وكان نموذجه الواضح هو الولايات المتحدة الأمريكية، التي يجتمع فيها أكثر من ألفِ ديانةٍ وعنصر. أمَّا عندنا فإن التنوُّع والتمايُز وحق الاختلاف في المذهب والدين والرأي في حريةٍ متناغمة مرفوضٌ ومُجرَّم، إما لأنه يهدف لشق الصف الوطني، أو أنه شعوبية يدعو لها عملاء الاستعمار، وربما خيانةٌ وطنية وتخابر مع الأعداء … يجوز!
العالم وقف أيضًا يُشاهد إسرائيل تحت الحصار العربي سياسيًّا واقتصاديًّا، وهي تزيد معدلاتها التنموية سنويًّا بشكلٍ مذهل، حتى بلغ دخل الفرد السنوي ١٥٠٠٠ دولارٍ سنويًّا، وهو ما يعني أن ستين مليونِ مصري ينتجون ٤٥ مليارَ دولار في السنة وأن خمسة ملايين إسرائيلي يُنتجون ٧٥ مليار دولار في السنة.
إن هذا النموذج يُفسِّر لنا وحدتنا وغربتنا ونحن أصحابُ الحق بين العوالم نبحث عن مساندٍ ومؤيد؛ فهو نموذج أصاب العالم بلوثة الإعجاب حتى تحوَّل أصدقاؤنا التاريخيون إلى أصدقاءَ لإسرائيل، من دول أفريقيا وآسيا التي حَضرَت مؤتمر باندونج الأشهر، إلى الهند والصين وتركيا وإندونيسيا وماليزيا …
النموذج الإسرائيلي أبهر العالم، لكنه أثار عند الأمريكان الولَه والصبابة، بل والشعور بالمسئولية تجاهه. ليس فقط لأنه كما يعلنون واحةُ الديمقراطية وَسطَ محيطٍ من الفاشية، ولكن لأنه أيضًا يُعطي الأمريكي العلاج النفسي الناجع لأوجاع ضميره المُثقَل بدماء الهنود الحمر. وفي هذه المرحلة الرجراجة لحقوق الإنسان وهي في أزمة النضوج الختامي، أَوجعَت الأمريكان أثامُ الماضي، فجاءت إسرائيل لهم بالبلسم الشافي. فحضرت أمريكا كلها مؤتمراتٍ ومحاضرات وتحقيقات وأفلامًا وثائقية، كان نجمها اليمين الإسرائيلي واللوبي الصهيوني في أمريكا، لتأكيد أنه لا خطيئة ولا هم يحزنون؛ فالعرب والهنود مُجرَّد كائنات، كائناتٍ غير مسالمة بل ضارة كالعقارب والثعابين التي كان المستوطنون الأوائل يجدونها في أمريكا وإسرائيل قبل أن يُعملوا فيها أدوات الحضارة؛ هم كائناتٌ متخلفة وغبية كالهنود الحمر تمامًا، وكلاهما لا يستحق شفقةً أو رثاء. وهو كله ما يُفسِّر لنا الوقفة الأمريكية الكاملة ضد الحقوق العربية؛ فالأمور عندهم ليست حقوقًا، بل هي استحقاقات الإنسان الحُر المنتج؛ وعليه يجب أن نفهم خطاب السياسة الأمريكية ولَومَ مادلين أولبرايت للطفل الفلسطيني الضحية؛ لأنه يرمي الدبابة الإسرائيلية … بحجر!
وختمها صدَّام بأم المعارك الكارثة، وكان مذاقها حنظلًا ونتائجها رصيدًا مُرًّا يُضاف إلى هزائمنا وتخلُّفنا وفاشيتنا. ومع ذلك لم يستخدم العرب عقلهم في هذا الدرس الذي مَرَّ عليه عشر سنين كان يمكن فيها أن نعمل الكثير … لكننا لم نفعل. وتعالَوا نحاول أن نفهم بمثالٍ بسيط ماذا كان يمكن أن نستفيد.
نحن نعلم حسب القواعد الإيمانية أن الله قد أكرم بني آدم فكان أرقى المخلوقات جميعًا. وجعل له عينَين ولسانًا وشفتَين، وعقلًا يميز به ليرتقي أكثر. لكن في الحقبة الزمنية حَدثَت تطوراتٌ عظيمة ارتقت بالإنسان إلى منطقة احترام قيمة الإنسان لذاته وليس لأن تلك القيمة ممنوحةٌ له من قوةٍ خارجية، فأصبح مُقدَّسًا بحكم القانون والدستور المدني في بلادهم. ورغم أن القُدسية عندنا قد مُنِحَت للإنسان من الله فلم يحترم الإنسانَ في بلادنا أحد، ولم يجعل هذا الإيمان من مواطنينا مواطنِين كُرماء في أوطانهم؛ فالكرامة هي فعل المواطنة المدني الناضج، الكرامة ليست نصًّا …! المهم أن ظهور قيمة الإنسان لذاته تبِعها ضرورة الحفاظ على حياته التي هي أثمنُ من كل شيءٍ بحق المواطنة في وطنٍ منتج لكن التاريخ مَرَّ خارج حدودنا؛ هكذا كان الأمريكي يُفكِّر وهو مقبل على أم المعارك: حياة المواطن أثمن من كل شيء، بينما كان صدام يحشد لأول مرة في تاريخ العرب أعظمَ آلةٍ عسكرية (حصلوا عليها … لم ينتجوها)، ويحشد من بني الإنسان ذي العينَين واللسان والشفتَين أكثر من مليون إنسانٍ ومع أول طلعة للطائرات الغربية انتهت أُم المعارك على نسق الخامس من يونيو، بعدما ضَربَت الطائرات مراكز الاتصالات العراقية وتركَت حشود بني الإنسان ذي العينَين على جبهات القتال عمياء … صمَّاء … بعد أن فَقدَت اتصالها بقيادتها. لا تعرف ما المفروض أن تفعل، إزاء رُعبٍ آخرَ غيرِ رعب المعركة نابعٍ من تخوُّف ضباط الجبهة من اتخاذِ قراراتٍ قد لا تُعجِب الرفيق القائد المهيب الركن … إلخ.
في ذات اللحظات كانت قِطعٌ من الحديد الضخم تعبر أجواء العراق (كروز وأخواته)، تعلو فوق بناءٍ عالٍ وتمر فهو ليس المطلوب، وتنحرف عن شجرة تعترضها، لتنفجر فقط عند هدفها المُحدَّد. لقد قرَّر الإنسان الراقي أن يحمي إنسانه الراقي ومواطنه المنتج؛ لأن قيمة الإنسان أثمنُ من كل مال؛ لذلك أرسل بدلًا منه قطع الحديد التي تكلَّفَت المليارات، بعد أن وضع لها العينَين ومنحها الذكاء والفهم، وكان الدافع لاختراعها أصلًا هو الحرص على قيمة الإنسان، فهلَّا تساءلنا في بلادنا عن قيمة الإنسان؟ وعن الإنسان في بلادهم، وعن الإنسان في إسرائيل التي لا تهدأ حتى تحصل على مُواطنيها الموتى لِتُكرمهم؛ فهو إنسانٌ كريم في حياته كريم في مماته؛ فهو الصانع المنتج الحر، هو الأمة في واحد. هذا بينما المهيب الركن يحتفل بعيد ميلاده ودماءُ مواطنيه لم تجِفَّ بعدُ، فالمواطن يمكن تعويضه دومًا، أمَّا العرش فصعب؟! ثم كيف بالزعيم المُلهَم إذا أزعج نفسه لا قدَّر الله وتكدَّر لمصاب شعبه؟
كذلك يمكن تعويض محمد الدرة ورفاقه من أطفالِ وصبايا وشبابِ وشيوخِ الانتفاضة، هم في نظرنا أدواتُ رجمٍ تثبت أننا صامدون أمام العدُو المتغطرس من باب الراحة النفسية. ليسوا أبدًا قيمةً عُظمى في ذاتهم يمكن استثمارُها لنبني بهم مستقبلًا أفضل حين نُقرِّر احترام الإنسان لذاته، وأن نفتح عليه أبواب العلم ونوافذ الحرية.
لقد درَّسَنا الإسرائيليون درسًا عميقًا وعرفوا كيف نُفكِّر وما هي ردود أفعالنا، ومن هنا دفع اليمين بشارون بالتحديد وبالذات لزيارة المسجد الأقصى مستغلًّا قانون حماية الوزراء، في حراسةِ ألفِ جندي، أو أربعة آلاف في روايةٍ أخرى، والله أعلم … بعد أن تمكَّن الفلسطينيون من الوصول مع الإسرائيليِّين إلى بحث قضايا اللاجئِين والحدود والمستوطنات، وقبلها مبدأ قيامِ دولةٍ فلسطينية، مع اعترافٍ إسرائيلي مُوازٍ بها، وتراجُع إسرائيل عن استخدام تعبير «يهوذا والسامرة»، مع الانسحاب على مراحل، إلى التفاصيل الدقيقة بشأن الحدود وتوزيع المياه وغيرها. وهو ما ألهب اليمين الإسرائيلي الذي يرى منافعه مع الغرب المُتقدِّم، ولا يرى أيةَ ميزةٍ في سلام أو علاقات مع العرب، من حزب شاس إلى ليفي إلى المفدال. ومع بدء باراك المحادثات بعد فوزه الديمقراطي من أجل السلام أو الأمن، قدَّم اليمين السلفي عدة مشاريع لحجب الثقة عن حكومته حتى انتهت بلا أغلبيةٍ برلمانية. لقد أنجز اليمين الإسرائيلي خطته بزيارة شارون للمسجد وترك الباقي للعرب يتكفَّلون به. وعندما حدَث ردُّ الفعل العربي، وقف عالم العرب والإسلام عند المسجد الأقصى يزأر (يزأر فقط)، بينما لجأ باراك للقمع العنيف إنقاذًا لحكومته كما فعل سلفُه بيريز في قانا فسقط، ويبدو أن باراك سيَلحَق به لِيُطل علينا شارون القبيح، وساعتها نكون قد جلَبنا لأنفسنا النكسة الكُبرى.
يا سادة إن لم يكن التغيير في بلادنا ممكنًا الآن من أجل إنسانٍ كريم في وطنٍ عزيز ومن ثَمَّ قوة وتقدم، فلا يمكن ترك الفلسطينيِّين يُذبحون بلا ثمن. ومن هذا الفَهم لا بد من العمل العاقل الرشيد والدءوب باستخدام الديمقراطية الإسرائيلية في الداخل لتأتي لنا بأنصار السلام على رأس الحكومة. إلى أن نتمكن من إقامة حُلمنا في مجتمعاتنا المدنية على المدى البعيد. وحتى يحدث ذلك فقضيةُ فلسطين قائمة والانتفاضة تستنزف دماءَ أبناءِ فلسطين ومن هنا لا مناصَ من العودة بشكلٍ مُنظَّمٍ ومدروس إلى طاولة المفاوضات، لِنمارس المعادلة الموجعة المُضطَرة؛ فيجب ألا تتوقف الانتفاضة وبمعنًى آخرَ يجب ضبط إيقاع الانتفاضة وفق الاجندة الفلسطينية للمباحثات، وأن يتم توزيع الأدوار بين الفصائل والسلطة بذكاء وحصافة، حتى يكون لكلِّ نقطةِ دمٍ ثمنها المناسب.
لا مفَرَّ يا سادة من العودة إلى طاولة المفاوضات حتى لا نترك القرار لإسرائيلَ وحدها تُنفِّذه حسب مشيتها ولو كره المسلمون. مفاوضات تستند إلى قوة الشارع الفلسطيني وإرادته وتصميمه الذي لا يجب أن يخمُد أبدًا، قبل الاستناد إلى شرعيةٍ دولية لا نملك قوة تفعيلها.
أمَّا الدعوة إلى الحرب فقد أجاب عليها الرئيس مبارك بصدق ووضوحٍ كاشف وأمانة وشفافيةٍ تامة، وهي جرأة لزعيمٍ وقائدٍ يعرف معنى الحرب الآن وفي ضوء الظرف المحلي والدولي. رؤية تفتح باب الأمل في الاعتراف العربي بالأخطاء ومُراجَعة الأمراض الدفينة في مناهجنا، قبل التفكير في البناء السليم، فما بالكم بالحرب؟!
(٧) أدلتنا التاريخية
كتب الدكتور «عز الدين عناية» في صحيفة القدس العربي (١٢ / ١٠ / ٢٠٠٠م) يقول: «إذا حضرت الأيديولوجيا وغاب الإنسان، تجد النواة الأولى التي ينبني عليها التاريخ — الفرد الإنسان — أكثر الأشياء دونية وترزيلًا عندنا، مع أكثر ممارسات التفنن في اغتيالها، مما حول الإنسان إلى منسي. لذلك فالشيء الوحيد الذي يتخلف عندنا هو التقدُّم، حتى أصبح المجتمع العربي بمقتضى ذلك، يحتل أدنى درجات التردِّي. ليس بفعل قصورٍ حضاري ذاتي، بل نتاج تأهيلٍ خاطئ مُورس عليه، مضادٍّ لكافة أشكال النماء والتقدُّم … من كذب الذات على نفسها، إلى كذبها على الآخِرين، والتي تقف فيها اﻟ… نحن … عاريةً سافرة أمام التاريخ. طارحة السؤال الثقيل على نفسها، سؤال ضياع الكينونة ولَفظِ التاريخ لها.»
وتصديقًا لكلام الدكتور عناية، ومصداقًا له، نحاول أن نبحث عبثًا عن الإنسان في الخطاب العربي السائد الآن، مع انتفاضة التحرير المُسمَّاة انتفاضة الأقصى، فلا تجد الإنسان أبدًا قدْر ما تجد نهاية طرف الخيط للخطاب القديم في تاريخنا التليد سنحاول هنا اختيار أكثر الأقلام وسطية في صحفنا، لاكتشاف بنية التفكير إزاء عدُوٍّ غاشم واحتلالٍ أغشم.
بعد أن يُقدِّم لنا الأستاذ «صلاح الدين حافظ» في الأهرام (٦ / ٩ / ٢٠٠٠م) أدلته على حقوقنا التاريخية الدينية في القدس وفلسطين، يثني بالقول: «إن الحكم اليهودي للقدس خلال الثلاثة آلاف عامٍ الأخيرة لم يستمر سوى ٦٠٠ عام مُتقطِّعة. بينما أسطورة الهيكل المقدس … كانت قد انتهت منذ ألفَي عام، وتحديدًا منذ عام ٧٠ ميلادية، عندما هدم جنود الإمبراطور الروماني هيرودس ما كان اليهود يعتقدون أنه الهيكل. ولكنهم ظلُّوا معلَّقِين بالأسطورة التلمودية فجعلوا من الحائط الغربي للمسجد الأقصى — حائط الدراق — أثرًا باقيًا من آخر آثار الهيكل، أسمَوه حائط المَبكَى. وادَّعَوا أن أساساتِ الهيكل تقع تحت المسجد الأقصى.»
وبغض النظر عن خطأ الأستاذ صلاح حافظ في تسمية الشخصية التاريخية التي قامت بتدمير الهيكل (والمُرجَّح أنه لونٌ من السهو المباح)؛ حيث كان مُدمِّر الهيكل هو القائد الروماني طيطس، أمَّا هيرودس فشخصيةٌ تاريخية أخرى حكمت في فلسطين منوبةً من الرومان زمن المسيح عليه السلام فإن هناك أسئلةً أكثر شرعية تطرح نفسها إزاء هذا الخطاب، ومن بينها: هل تعود مشروعية امتلاك الأرض إلى مدة حكم طائفةٍ بعينها أو عرقٍ من عروق سكان الأرض أو من خارجها؟ وما موقف مصر التي لم يحكمها مصريٌّ واحد لأكثر من ألفَي عام؟ أم إنه يجب نسبة الأرض لشعبها وناسها الذين منحوها عَرقَهم ودمائهم وجعلوها أرضًا منتجة بغض النظر عن الطائفة أو العنصر، حاكمًا أو محكومًا أم دخيلًا؟
وإذا وصفنا المعبد الذي أقامه الملك سليمان المعروف بالهيكل بأنه أسطورةٌ انتهت منذ عام ٧٠ ميلادية، فالمعلوم أيضًا أن وصف «أسطورة»، يصف به طرفٌ طائفي يؤمن به طرفًا طائفيًّا آخر من معتقدات وأحداث تخرج عن نواميس الطبيعة وقوانين العقل السليم بينما تكون في نظر المؤمنِين بها معجزات. فإذا كان حديثنا عن حقوقٍ دينية لنا هناك بسبب حادثة الإسراء والمعراج، وهي حدثٌ يخرج بالتمام عن كل قوانين الطبيعة والعقل لأنه محل إيمانٍ فقط أفلا يحق لهم أن يصفوا معتقداتنا بالأساطير؟ ونقف نهتف لبعضنا: أساطير، خرافات، هاتوا الأرض!
وقد يتساءل يهوديٌّ ساذج: إذا كان هيكل سليمان وهو المعبد الذي بناه لله أسطورة فلماذا تؤمنون به كنبي؟ بل وتؤمنون بحكاياتٍ تفوق ما ورد عنه بالكتاب المقدَّس، من حيث كسرها لكلِّ قواعد العقل وقوانين الكون؟
نكتب نحن لا نلتفت إلى أن الإيمان مسألةٌ قلبية، وليس أداةً من أدوات الصراع اليوم؛ لأنه لم تُخترَعْ بعدُ أجهزةٌ لقياس كمية الإيمان ووزنه ومساحته ومصداقيته وما يدَّعيه كل مؤمن من حقوق؛ فالحقوق أمورٌ عينية ووثائقُ ومُدوَّنات، وبعضها يُصبِح لا لزوم له (حتى لو كان بالحق حقًّا) أمام تغيُّر المفاهيم بدوران الأزمان وتغيُّر القواعد الحقوقية، وأحيانًا لا يُصبِح لحديث الحقوق هذا أيةُ قيمةٍ أمام فلسفة القوة والضعف.
مع ذلك يتقدم الأستاذ محمد سلماوي في أهرام (٢٣ / ١٠ / ٢٠٠٠م) — مع كامل احترامي لشخصه — ليمد العرب والمسلمين بالدليل المادي على حقوقهم الدينية في القدس، والدليل منذ زمن الدعوة الإسلامية، حيث كان الأستاذ سلماوي يُدلِّل على أن تعبير (حائط المبكى) تسمية تهويدية للحائط الذي يحمل اسم (حائط البراق)، أو كما قال بالنص: «لأنه المكان الذي حط فيه البُراق الذي حمل النبي ﷺ ليلة الإسراء والمعراج، «والذي تولَّى فيه جبريل ربط البراق في الحلقة الحديدية التي ما زالت قائمةً في السور»، أو هكذا كانت حتى يونيو ١٩٦٧م.»
هاكم إذن الدليل الملموس والتاريخي الديني على حقوقنا في القدس … حديدة؟! … دليلنا على حقنا الديني بالمحسوس الملموس موجود إذن يؤكد هذا الحق، حلقةٌ من الحديد في الجدار الخارجي للمسجد الذي هو جزء من السور الهائل الغربي للحرم. ويتوجَّس الأستاذ سلماوي شرًا من مكائد اليهود، الذين ربما كانوا يعلمون سِر الحديدة، وربما قاموا بإزالتها بعد ١٩٦٧م، لمحو الأثرِ الواضح الفصيح البيِّن لرحلة الإسراء والمعراج، تلك الرحلة التي تعطي المسلمين حقًّا قُدسيًّا في المسجد الأقصى.
إنه الخلط بين الحق الوطني في أرضٍ محتلةٍ بالاغتصاب وبالقوة المسلحة، وبين الدين، الذي يؤدِّي إلى خلطٍ آخر بين المُسلمِين المُنتشرِين في الدنيا بحسبانهم أصحابَ هذا الحق (وهو أمرٌ غيرُ حقيقي وإلا كان للمسلم الصيني حقه في أرض الحجاز)، وبين الفلسطينيِّين الذين هم أصحاب هذه الأرض مسجدًا أم كنيسة أم هيكلًا أم معبدًا بوذيًّا؟ إنها أرضٌ يُوجَد بشأنها وثائقُ ملكية ووثائقُ وقفية مُدوَّنة ومُسجَّلة ومُشهَرة ومعلومة، وبلغةٍ حقوقية تفهمها قوانين العالم اليوم. لكننا نأخذها بأيدينا من الملف الحقوقي الصادق لِنُلقي بها في رحمٍ عميقٍ عقيم.
وبفرض أن الحديدة لا زالت موجودة، ولم يلتفتِ الإسرائيليون لكلام الأستاذ سلماوي ليُزيلوها بسرعة، وغفَلوا عن خطورة تأثيرها على قراراتِ مجلس الأمن والرأي العام العالمي، فماذا الذي يعنيه هذا الأمر برُمَّته في النهاية؟
هذا مع عدم الالتفات إلى يهوديٍّ آخر من النوع الخبيث قد يُلقي علينا السؤال: ولماذا ربط جبريل البُراق في الحلْقة الحديدية؟ هل خشِي أن يبرطع فارًّا أثناء تواجُده مع ضيفه في السماء؟ وهل كانت تلك الحديدة وهذا السور مُخصَّصًا للبُراق وحده منذ بناء السور (بالمناسبة باني السور هم العثمانيون)، وحتى يأتي جبريل ليربطه في هذه الحديدةِ لمرةٍ واحدة في التاريخ، ليختفي ذكر هذا الكائن بعد ذلك من كُتبنا التراثية جملةً وتفصيلًا على كَمِّها الهائل وثرائها الهائل وتفاصيلها الجمَّة؟ حتى تبقَى الحديدة لنا دليلًا عبر الأزمان؟ أم إنها كانت مربطًا للبُراق في رحلاتٍ أخرى لم نعلم منها سوى رحلة الإسراء؟ أم إنها كانت مربطًا عموميًّا؟
من وِجهةِ علماء الأركيولوجيا، أبدًا لن يجدوا في الحديدة — إن وجدوها — ما يُشير إلى الحدث الجليل ولا إلى تاريخه؛ فهي مجرَّد حديدة، قد تخص أي شخصٍ في أي زمن؛ لأن قيمة الأثر التاريخي عند هؤلاء العلماء لاحتسابه دليلًا، تبدأ من التدوين وتنتهي بالسمات التي تَنسِب الأثر إلى عصره إذا كان خاليًا من التدوين. كالفرق بين التشكيل الفني للفخَّار الذي ساد في عصر البرونز وبين التشكيل الذي اتسم به في العصر الهلِّيني … وربما سلَّم لنا الإسرائيليون الحديدة دون حربٍ ولا حتى مفاوضات (عايزين حديدتكم؟ … خذوها).
هذا بينما يُورِد الأستاذ سلماوي بذات الموضوع، تقريرَ اللجنة البرلمانية البريطانية إبَّان الانتداب، للتحقيق في ملكية الحائط الغربي من سور الأقصى، إبَّان النزاع الذي نشأ بين المسلمين واليهود حوله. يقول التقرير (ولننصت بدقة إلى لغة التقرير): «لِلمُسلمِين وحدهم الحق العيني فيه، لكونه يُؤلِّف جزءًا لا يتجزًأ من ساحة الحرم الشريف التي هي أملاك الوقف. ولِلمُسلمِين أيضًا تعودُ ملكية الرصيف الكائن أمام الحائط، وأمام المنطقة المعروفة بحارة المغاربة باعتباره موقوفًا.»
هنا لغةُ وثائقَ حقوقية، بعد رجوع اللجنة البرلمانية البريطانية للوثائق والمحفوظات والخرائط والتوقيعات والتصديقات، لكنها بِدَورها تضمَّنَت خطأً فادحًا، عندما قالت: إن الحائط مِلكٌ للمسلمين هكذا على التعميم؛ فهذه بدَورِها لغةٌ طائفية تسمح بتمييع الحقوق وسيولتها، ولا تعطي الحق لأصحابه بلغةٍ قاطعة إنما تمنحه لمُلَّاكٍ هُلاميِّين، وربما لو قالت لِمُسلمي فلسطين لكان أوقع (لكنه أيضًا ليس أحق).
فالحائط والسور وكل ما هو داخل السور المحيط بالحرم مثله مثل أيِّ قطعةِ أرضٍ فلسطينيةٍ أخرى خربةً كانت أو عامرة؛ فهو في المقام الأول وفي أي مقام، وفوق وتحت وقبل وبعد كل المقامات، هو أرضٌ فلسطينية. بهذا الخطاب نجد للأرض أصحابًا لهم كامل الحقوق، أمَّا التعبير «مِلك المُسلمِين» فإنه يحيل الحق إلى مَشاعٍ هائل لا مُحدَّد، فتُصبِح حقًّا ضائعًا تشبه الدعوة لجعل القدس مِلكًا لله حتى لا يتصارع حولها المؤمنون من كل دين؟ فإذا كان ذلك كذلك، وتلك لغة الحقوق، فلماذا لا تتركون المسجد لله يُدافع عنه، وتفعلون فِعل عبد المطلب بن هاشم صادقِ اليقين وهو يقول لأبرهة الحبشي «رُدَّ عليَّ إبلي فللبيت رب يحميه»؟!
إن تديين القضية بالقول إن للقدس وضعًا خاصًّا بسبب قُدسيتها الإسلامية، يُعطي للطرف الآخر ذات الحق والمُبرِّر بجعلها ذاتَ وضعٍ خاصٍّ بسبب قدسيتها اليهودية. خاصة وأن هذا الآخر لديه حقوقٌ أوضح من وجهة نظر عالم اليوم؛ فمُقدَّسنا ولشديد الأسف لا يفهمه أحدًا سوانا. أمَّا عندما يتحدث اليهود رطانة الدين فإن هذا العالم يسمع ويفهم ويتفهم، خاصة مع النجاح الذي حقَّقه التواجُد اليهودي على خريطة الإعلام العالمي، واجتهاده الذي يفضح قصور الإعلام العربي ويُخزيه … هذا إضافةً لما هو أهمُّ وأخطر بكثير (؟).
إن خطاب الحق الديني المرفوع الآن في مظاهرات الشارع العربي، بتوجيهٍ أحمقَ من وسائل التثقيف، من التلفاز، إلى الصحافة، إلى كافَّة المنابر الإعلامية، ينسى أمرًا شديد الأهمية وهو في دروشته الدينية وخطاباته المسجوعة البلاغية. وهو أنه في الوقت الذي كان يقوم فيه الإسرائيليون من المهاجرِين الأوائل بمذابحهم الرهيبة في فلسطين (من مذبحة بلدة الشيخ إلى قرية سعسع إلى أبي كبير إلى دير ياسين إلى أبي شوشة إلى اللد إلى عيليون إلى دير الأسد إلى قبية إلى كفر قاسم إلى خان يونس) … هرب الفلسطينيون العُزْل أمام الرعب ونهر الدم. لكنْ هناك آخرون أَصرُّوا على البقاء، فقَدوا الأحبة لكنهم استماتوا هناك يعَضُّون على الأرض. هم عرب الداخل الذين يُسمِّيهم الأعلام «عرب إسرائيل»، الذين يُشكِّلون لإسرائيل مشكلةً مزمنة متفاقمة. وبين تلك القلَّة الباقية حوالي ربعِ مليونِ مَسيحيٍّ فلسطيني، فقدوا من هاجر ومن تشتَّت ومن استُشهِد مع إخوانهم المُسلمِين إبَّان المَجازِر الصهيونية؛ لأن القنبلة الإسرائيلية عندما كانت تنطلق من المدفع أو الدبابة لم تكن تُميِّز بين المسلم الفلسطيني والمسيحي الفلسطيني. تُرى أين نضع المسيحيِّين الآن من أهل فلسطين أو من العرب عمومًا على خريطة خطابنا الإسلامي الديني الحقوقي في القدس؟ وهم من سجَّل قبل ذلك مواقفَ وطنيةً شُجاعة، من المطران كابوتش إلى بابا الكنيسة المصرية صاحب الموقف المُعلَن الواضح. لقد اختار المسيحيون الوطن، رغم أن مُقدَّسهم الإنجيلي يُلزِمهم تقديس كتاب اليهود (العهد القديم)، حتَّى إنهما يُجمعان في كتابٍ واحد هو المُقرَّر المسيحي المقدس. ولأن المسيح قال «ما جئتُ لأنقُض الناموس، بل جئتُ لأُكمل.» وهذا الناموس هو ناموس الحق الديني اليهودي في فلسطين يومًا بيوم وسردًا لملوكهم ملكًا ملكًا عبر أسفارِ الملوك وحتى مجيء المسيح الذي وُصِف في الأناجيل بأنه «ملك اليهود» (متى، ٢: ٢)، و«ملك إسرائيل» (يوحنا، ١: ٤٩)؛ فقد وقف المسيحيون العرب موقفًا حداثيًّا مدنيًّا من قضية الوطن رغم أن الكتاب المقدَّس لا يُعطي اليهود فلسطين وحدها بل «من نهرِ مصرَ إلى النهر الكبير نهر الفرات» بالنص.
وها نحن نرفع في وجوههم خطابنا الطائفي العنتري الذي يتجاهَل وجودهم تمامًا، لِيشعروا أنهم غرباءُ في وطنهم مرتَين، مرةً بالاحتلال البغيض، ومرةً باستلابهم التاريخي من قِبل إخوانهم المُسلمِين على أرض فلسطين.
هو الخطاب الذي وقف صريحًا واضحًا لا يُكن ولا يحتشم ولا يخزى عند المُلتحِين من مُسلمِي الداخل الفلسطيني، الذين أصروا على بناء مسجدِ شهاب الدين في حومِ أرضٍ مسيحية مُقدَّسة منذ زمن المسيح هي كنيسة المهد؛ لِنستعديَ العالم المسيحي كله ضدنا، ولأننا حسب المثل الشعبي المصري (لم يقدر على الحمار فانهار ضربًا على البردعة). ودون أن نتساءل عن موقفنا لو أراد المسيحيون العرب (من باب التجاوُز والمحبة كما قال الخطاب اللئيم في أزمةِ كنيسةِ المهد) أن يُقيموا كنيسة في مكة أو في المدينة؟ اللطيف في الأمر وغير المُدهِش أبدًا أن إسرائيل أعطت للمسلمين حق الترخيص ببناء المسجد بينما تَحرِمهم من تراخيصِ بناءِ بيوتٍ للمأوى (؟).
أمَّا بقية العالم، فهو إن اعتاش على الدين كل ساعات حياته مثلنا وتَراجَع عن الحداثة، فإنه سيعطيها كاملةً خالصةً ليهود على أي مساحةٍ بين نهر مصر وبين نهر الفرات، وبضميرٍ مرتاح؛ لأن معظم العالم القوي الآن يدين بالمسيحية التي تدين أيضًا بالعهد القديم مُقدَّس يهود، ناهيك عن انتشار المسيحية الصهيونية وتوغُّلها الآن في الغرب المسيحي.
(٨) وخطاب مولانا أيضًا
ليس بيني وبين شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي إلا كل المودة والاحترام بل والإجلال من جانبي لشخصه ولمواقفه من قضايا الوطن، بحسبانه بين أكثرَ من جلس في هذا المكان الرفيع استنارة. لكن ذلك كله لا يمنعني من نقد خطابه عندما لا يكون في إطار المصالح التي نرجوها، وهو خطابٌ خرج فيه مولانا عما يعلم إلى ما لا يعلم.
كتب الإمام الأكبر مقالًا مطولًا في (أهرام ٢ / ١١ / ٢٠٠٠م) ليجيب عن السؤال الذي جعله عنوانًا لمقالة «هل المسجد الأقصى تحته هيكل سليمان عليه السلام؟» والهدف منه كما قال فضيلته دحضٌ «لأقوالٍ لا أساس لها من الدين القويم ولا من العقل السليم ولا المنطق القويم».
أول الملاحظات أن خطاب مولانا لا يصلح لسوانا، وأن مسألة الدين القويم هذه سيُخالفه فيها مليارات البشر من مختلف الملل والنحل؛ ومن ثَمَّ فإن بناء استنتاجات حول حقوقنا المبنية على مصادرها في الدين القويم من وجهة نظرنا، لن تقنع أحدًا سوانا، ونحن مسلمون ومؤمنون سلفًا.
هو ذات الخطاب الذي يقوم بتديين القضية، خطابٌ ذاتي يرى أنه يستند إلى الدين القويم بين أديان البشر، يملك الحقيقة الكاملة والنهائية والمطلقة، التي تفرض نفسها على جميع الناس بقدراتها الذاتية. وإن خالفونا حولها فإن علينا فرضَها عليهم اتباعًا لأوامر الدين القويم، حيث قال خاتم المرسلين ﷺ: «بُعِثتُ لِأُقاتلَ الناسَ حتى يشهدوا ألا إله إلا الله …» لكن سيصبح كلامُنا هكذا بدون قوةٍ تدعمه وتُحقِّقه مجرد كلام، وتقف حقيقتنا عاريةً من إمكانات القبول والتحقق.
ثم يقول فضيلته: إن الثابت في الحديث الشريف أن المسجد الحرام بمكة هو أول بيت وضع في الأرض، وأن الثاني هو الأقصى، وجاء بعده بأربعين عاما … شكرًا! …
وماذا بعد؟
نتابع، نستعجل المنطق والنتائج القويمة، لنقرأ قوله: «وقد أجمع المحققون من أهل العلم على أن المؤسس والمنشئ للمسجد الأقصى، هو يعقوب عليه السلام … وهو نبي بن نبي بن نبي … وإذا كان إبراهيم عليه السلام هو الذي رفع قواعد البيت الحرام الذي بمكة، فإنه من المعقول أن يكون حفيده يعقوب هو الذي أسس وأنشأ بأمر ربه الأقصى، وأن تكون المدة الزمنية بين الجد وهو إبراهيم عليه السلام وبين حفيده عليه السلام هي أربعين سنة … ويعقوب عليه السلام أطلق عليه القرآن الكريم أيضًا اسم إسرائيل.»
هنا يقف العقل دهِشًا يتساءل لأنه بالأساس «عقل» لا يهضم أي شيء بمجرد الإلقام، ولا يتزحزح يريد مقصد مولانا ﺑ «المُحقِّقِين من أهل العلم الذين أجمعوا» أولًا، حتى نهتم بما أجمعوا عليه ثانيًا. خاصة وهو خطاب يتناسل أو يتناسخ ذاتيًّا ومن داخله فقط؛ فالمقدمة حديث للنبي والاستنتاجات المعقولة المبنية عليه مصادرات إسلامية بدورها.
إذا كان يقصد ﺑ «المُحقِّقِين من أهل العلم الذين أجمعوا» المؤلِّفِين الإسلاميِّين أو حتى رُواة السيَر والأخبار، فلا بأس. لكن ذلك لن يغيِّر شيئًا في أي شيء؛ فهو لا يقنع سوانا كما اتفقنا، ونحن بحمد الله ونعمته مسلمون، بل إن الإسلام هو أشد الأمور وضوحًا في بلادنا، من مناهج التعليم إلى الإعلام، إلى ألوف المآذن إلى الميكرفونات المتجاورة، إلى سلوك الناس اليومي، إلى مصطلحاتهم وتعبيراتهم، إلى مواقفهم، إلى فهمهم للأشياء وللدنيا … إلى آخره.
إذن هل قصد بهم أهل التوراة مثلًا؟ إنهم أبدًا لا يقرون مولانا على ما قال، بل يؤكِّد مُقدَّسهم أن في فلسطين كان هناك عددٌ من بيوت الآلهة المعبودة من بيت إيل إلى بيت لحم إلى بيت يراه إلى بيت شماس إلى بيت البعل، حتى جاء الغزو الإسرائيلي لها، وأسس أحد ملوكهم «سليمان» معبد الرب اليهودي «يهوه» الذي يُعرف في التاريخ باسم الهيكل. وأنهم قبل ذلك لم يكن لهم بيوتٌ مُقدَّسة هناك وإلا أصروا على تأكيدها إمعانًا في إثباتِ حقهم في عُمق التاريخ، «لكن مولانا يجد لهم هذا العُمق نيابةً عنهم زمنَ يعقوب قبل سليمان بست قرون». المهم حسب التوراة (العهد القديم) كان الهيكل أول معبدٍ أو هيكلٍ أو مسجدٍ يسجدون فيه في فلسطين، بعد أن تحوَّلوا عن البداوة إلى الاستقرار في فلسطين. وخلال تَجوالهم الطويل كانوا يحملون الرب معهم في تابوت يرقُد فيه، وعندما استقرُّوا بنوا الهيكل ووضعوا فيه تابوتهم. وقد وردت إشارة للتابوت في القرآن الكريم في قوله تعالى: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ (البقرة: ٢٤٨).
والمعلوم في أسفار الكتاب المقدَّس أن أول ملك لهم في فلسطين هو شاءول، وتبعه داود المؤسس للدولة ثم ولده سليمان الذي أصبح أشهر ملوك الروايات المقدَّسة.
والكتاب المقدس يعترف صراحة أنهم قد أخذوا أرض فلسطين اغتصابًا باحتلالٍ استيطاني، ولديهم مبررهم العقائدي، فالأمر ببساطة «أن الرب قال لهم خذوها» … فأخذوها. وما دام قد منحها لهم فقد سمح لهم بالقتل المحاذر حسب الشريعة بما تكتظ به التوراة من أخبار حروبهم الطويلة مع أصحاب الأرض الكنعانيِّين في الداخل والفلسطينيِّين على الساحل. وهو منطقٌ أولُ مَن يجب عليهم تفهُّمه هم المسلمون؛ لأنهم أيضًا قد فتحوا البلاد بأمر الله ليخرجوها من الظلمات إلى النور ويضموها إلى تبعيتهم أيضًا وأخذوها واستوطنوها وأسلموها … إلخ.
وهنا لا بد أن يطفر السؤال المستغرب يطرح نفسه ببراءة: هل علينا مثلًا أن نرتاح لقيام مملكةٍ إسرائيلية على أرضٍ مغتصبة إذا آمنا أن داود وسليمان كانوا مسلمين؟ ولا نرتاح لهذا الاغتصاب إذا كانوا إسرائيليِّين؟ أو يمكن التساؤل بذات المعنى لكن على الوجه الآخر للعملة: هل لو كان الذين ارتكبوا المجازر في فلسطين مسلمِين (أتراكًا أو إيرانيِّين أو أفخازيِّين أو أفغانًا مثلا) كان من الممكن ألا تَهتزَّ ضمائرنا لمجازرهم؟ أو هل كان الحزن العربي سيهبط إلى مستوياتٍ أقل مما هي عليه الآن؟
لقد كان موسى قائدًا لليهود في الخروج إلى فلسطين، وأكمل يشوع ما بدأه موسى، حتى تمكَّنوا من إقامة مملكة يهودية حكمها سليمان، واستخدم اليهود إبَّانها — حسب التوراة — وسائل قتلٍ أشدَّ بشاعةً مما نراه اليوم، المجازر التي تحتاج للقلب البارد والقاسي؛ فاليوم هناك منطقٌ حقوقي عالمي يضمن بعض الحماية الإنسانية، وليس الإبادة كما تقرؤها من أوامر الرب بالكتاب المقدَّس في نصوص تحتشِد بها بالذات أسفار الخروج والتثنية ويشوع، ولنا بهذا الشأن دراساتٌ مُطوَّلة منشورة.
وقبل دخولهم مصر وخروجهم منها، كانوا قد جاءوا فلسطين أغرابًا على أهلها، وهو ما تُردِّده التوراة ببساطة. الإيمان بأن دينهم قويم أيضًا وما أمر به الرب هو الحق كله، لقد منحهم أرض فلسطين وهم أغرابٌ عليها. وهو ما تُردِّده التوراة في أكثر من موضع نضرب منها مثلًا واحدًا فقط بين مئات الإشارات، وهو قول الرب لخليله إبراهيم: «وأُقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك وأُعطِي لك ولنسلِكَ من بعدكَ «أرض غربتك أرض كنعان» ملكًا أبديًّا وأكون إلههم» (سفر التكوين، ٧: ٧-٨).
هل يرى أصحابُ خطابِ الحق الديني أين يكمن لهم فخُّ التاريخ الديني؟
إن مشكلتنا لم تعُد أبناء فلسطين المُشرَّدِين في العالم أو المحاصَرِين بالقتل والتدمير، لأننا رحنا نُدافع عن مسجد له رب يحميه، ولم تُحرِّكنا الأرض فهي محتلة منذ ٦٧ وقبلها منذ ٤٨، أمَّا انتفاضة التحرير فقد حوَّلناها إلى انتفاضة الأقصى. المسجد أصبح هو الموضوع والشاغل؛ لذلك أصبح همُّنا أن نُثبِت للعالم أن الهيكل مجردُ خُرافة كما أراد الأستاذ صلاح حافظ، أو أن نثبت أن بانِيَه ليس سليمان إنما بانيه هو يعقوب … ما الفرق يا سادة بين يعقوب وسليمان؟ أليس يعقوب هو من حمَل اسمَ إسرائيل وأصبح أبناؤه من بعده بني إسرائيل الموعودِين بأرض غربتهم في القصص التوراتي مُعضَّدًا بالقصص الإسلامي؟ ثم نفهم بعد ذلك أننا أصحاب الحق الديني؟ … كيف؟! سيصبح حقُّنا محصورًا في ليلةٍ واحدة من التاريخ هي ليلة الإسراء والمعراج التي لا يؤمن بها سوانا، بل ربما لحظة في تلك الليلة حيث عاد الرسول عليه الصلاة والسلام منها ليجد فراشه بعدُ دافئًا.
هل تَرونَ أيها الناس إلى أين تذهبون بخطاب الحق الديني؟ هل تدرون أنه مهما قلتم عمن أقام المكان المقدَّس إن كان آدم أو يعقوب أو سليمان، فإن من أقامه لو سألتَ أيَّ رجل في شوارع الدنيا أو طفل لأجابك بأن بانيه هو سليمان.
وتقول كتبنا الإخبارية إن الخليفة عمر بن الخطاب عند فَتحِ فلسطين رفَض أن يُصلي في كنيسة القيامة حتى لا يُحوِّلها المسلمون من بعده إلى جامع، لكنه صلى عمدًا فوق الصخرة وأمر ببناء مسجدٍ عليها أتمَّه عبد الملك بن مروان من بعده، وكان الخليفة عمر قد منَع أي يهودي من دخول المدينة … وهذا هو بالتحديد ما يأخذه الباحثون الإسرائيليون من تُراثنا ويَعرِضونه على العالمين.
يا سادة يا كرام، إن حائط المبكى كان — أو حائط البراق إن شئتم أو الأقصى أو بقايا الهيكل كما تقول يهود — وسواءٌ كان هيكل سليمان خيالًا أو حقيقةً موجودة في التوراة وكتبنا التراثية جميعًا، وسواء كان هذا الخيال أو الحقيقة تحت المسجد الأقصى أو تحت مسجد القُبة أو في موضعٍ خال بساحة الحرم أو خارج الأسوار، فهو ما دام يقع في فلسطين فهو أرضٌ فلسطينية، كما أن مكة أرضٌ سعودية، وكما أن قُم أرضٌ إيرانية، وكما أن النجف أرضٌ عراقية. هي أرضٌ فلسطينية تم احتلالها بالقوة المسلَّحة قوةً واقتدارًا، ولا حق ليهود فيها إلا قلبيًّا، كما لا حق لمسلمٍ غير فلسطيني فيها إلا قلبيًّا، واختصار القضية جميعًا في القدس وتحويلها إلى فضاء الدين ضياعٌ لكل الحقوق؛ لأن حقوق اليهود بمنطق الدين أوضحُ في نظر العالم المسيحي من أيِّ حقوقٍ ندَّعيها، والأطرفُ أنها أكثرُ وضوحًا في خطابنا الديني وفي مأثورنا الإسلامي بالجملة.
إذن … ولا زلنا نتساءل …
هل قصَد فضيلته ﺑ «المُحققِين من أهل العلم الذين أجمعوا» مدارس نقد الكتاب المقدَّس المنتشرة في العالم، بحسبان مُحقِّقِيها من أهل العلم، هم أشهرُ وأعلمُ من سلك هذا الدرب؟ وأصبح لها كراسي أستاذيةٍ في جامعات العالم المتقدم، دون غضاضة، ولا محاكماتِ تكفير وخروجٍ عن المعلوم من الدين بالضرورة، وليس عندهم مجمع كمجمعنا الأزهري لِيُصادر الفكر ويُجرِّم الرأي ويُحرِّم الكلمة، رغم أن هذه المدارس تستخدم المنهج العلمي بمنتهى الصرامة مع الكتاب المقدَّس دون أن تُجامل أو تُحذِّر. وقد أحال معظمها حكايا الكتاب المقدَّس إلى فضاء الخُرافة.
هنا لن نجد بالطبع مقصد مولانا ﺑ «المُحقِّقِين من أهل العلم الذين أجمعوا»؛ لأنهم إن أجمعوا أو لم يجمعوا فهو فكرٌ مُستنكَر من أصحابِ خطاب الحق الديني المسلمين قبل اليهود، بل إن بين هؤلاء الأساتذةِ المُحقِّقِين نُقَّاد المقدس في الجامعات العالمية عددًا لا يُستهان به من اليهود أنفسهم؛ فقد تَحرَّك التاريخ بالإنسان في العالم المتقدم في الشمال، وتركَنا في زمنٍ غير زمانهم رغم أننا نعيش على كوكبٍ واحد. وبينما نُردِّد مقولات العزلة والخوف على الهُوية من الغزو الثقافي، تحولنا إلى «جيتو» مُغلَق يتحدث إلى نفسه، وبينما انفتح الجيتو اليهودي على العِلم والحداثة والعالم، وبينما نُحكِم نحن الأقفالَ على الأدمغةِ خشية الفيروسات القادمة من البلاد المتقدِّمة، تَحركَتِ الدنيا إلى فضاءٍ معرفي ومنهجي جعل الهُوة بين زماننا وزمانهم سحيقة.
إذن فهل قصد مولانا المؤرخِين بالمعنى العلمي والدقيق للكلمة؟ لكن في علم التاريخ كعلمٍ لن نجد مبتغانا بالمرة؛ لأنه حسَب قواعده الدقيقة وما بيده من معرفةٍ هائلة أكثرُها مَدَّته به منطقة الشرق الأوسط، لن نجد لديه وثيقةً تاريخية واحدة ولا مُدوَّنًا على حجر أو على خشب، ولا في حفائره الأركيولوجية (رغم الهوس الحفري الأركيولوجي الإسرائيلي بهذا الشأن)، لا شيء عن قصة يعقوب، ولا داود ولا سليمان ولا أبيهم الأبعد إبراهيم. ورغم الإسهاب الشديد الذي لحِق بملك سليمان وحديثِ مأثورنا الإسلامي عن خضوعِ الأرض كلها لحكمه من الطيور إلى الوحوش إلى الإنس والجن والعفاريت والحشرات، فإن التاريخ المُدوَّن بوثائقه لا يعرف عن هذه الأمور شيئًا البتةَ بينما تجِد لأجدادنا الملعونين بالمقدَّس بدل الصرح الشاهد آلافًا، هذه لغة العلم لكنك لو صرحتَ بها في مواجهة الإسرائيليِّين «سيُواجهك المسلمون نيابةً عنهم» وتُصبح من المارقِين، وسيُحاكمك الأزاهرة كما سَبقَ وحاكَموا صاحب هذا القلم أمام محاكم الدولة؛ لأنه قام يرُدُّ على الصهاينة بمنطقِ العلم وحده.
أترَونَ إلى أين وصل الالتباس؟ يبدو أننا بدايةً نحتاج إلى فضِّ اشتباك بين المُقدَّسَين اليهودي والإسلامي، وحتى نفعل ذلك، أو لا نفعل، فإن علماء إسرائيل يُدركون حقيقةَ عِلمِ التاريخ وأنهم لا يملكون دليلًا ماديًّا واحدًا على مزاعمِهم؛ لذلك يسحبوننا إلى المنطقة التي يكسبون فيها بالنقاط وبالقاضية، منطقةِ الحقوق الدينية والتاريخية التي هي أوضحُ عند العالَم من حقوقنا. وحتى يتم إفراغ القضية من محتواها الحقيقي؛ الناس، والإنسان، صاحب الأرض المطرود من بيته وأرضه وناسه، ينفُخ يدَيه في هذا البردِ القارص، بردِ انصرافِ الدفء الإنساني مِن حوله، حتى ممن يتصوَّرهم أهلَه وأصحابَ قضيته، إلى الدفاع عما يقولون إنه من أملاك الله، والله غالب.