بين يدَي الكتاب
كان الحلَّاج، نبأً عظيمًا، في أفقِ التصوُّف الإسلامي، ولا يزال الناس يتساءلون عن النبأ العظيم، الذين هم فيه مختلفون.
هبط به خصومه إلى هاوية السحر والشطح الآثم المتطلع إلى فناءٍ وخلود عن طريق الاتحاد والحلول!
وارتفع به محبُّوه، إلى أفق البهاء المقدَّس، وإلى معارج البطولة الخارقة للناموس!
فالحلَّاج عند شعراء ما وراء النهر، بطل ملحمة الخلود الكبرى، ورائد الحب الإلهي، الذي صعد على معارج الشوق والوجد، إلى سدرة النور السني، حيث يغشى هناك القلب ما يغشى من أذواق وهبات، ومعرفة وتجليات.
والحلَّاج في أقلام رجال الاستشراق، يربطه خطٌ نفسيٌّ مُضيءٌ بالمسيح عليه السلام، إنه الشهيد الوليُّ الربانيُّ، الذي تطلع إلى ميلاد كلمات الله المباركة في قلبه.
أما رواة التاريخ الصوفي، فقد دندنوا طويلًا، حول كراماته وآياته، وتحدثوا فأطالوا الحديث، عن عجائب مصرعه، وما اقترن به من خوارق، ثمَّ ذهب ببعضهم الخيال، فنسجوا قصةً روحيةً فاتنةً، تدور حول جثَّتِهِ التي أُحرقت بعد صلبها، ثمَّ أُلقي في دجلة برمادها، فأصبحت كل جرعةٍ، من ماء هذا الرماد المُبارَك، تنجب شيخًا من شيوخ الصوفية في بغداد، وتصوغ قطبًا من أقطاب المعرفة في العراق!
لقد أسرف خصوم الحلَّاج في بغضه وتجريحه، وأسرفت الخلافة العباسية في اضطهاده وتعذيبه، وأسرفت إسرافًا جنونيًّا وحشيًّا فيما أعدَّت من عذاب غليظ عنيف ليوم مصرعه، وفيما أقامت من ستارٍ حديديٍّ لحجب سيرته عن الحياة، وفيما اصطنعت لتشويه تراثه في التاريخ.
فأسرف أنصاره أيضًا في حبه وتقديسه، وفي الحديث عن أسراره ونفحاته وعلومه وعجائبه؟!
ومن ثمَّ انطلق الخيال الأسطوري التاريخي، يوشِّي هذه الصورة العجيبة المتناقضة، ويريق عليها مزيدًا من الجمال، ومزيدًا من الغموض!
ثمَّ أخذ ينسج حولها مشاهدَ ملوَّنةً متنافرةً، تتعاقب وتتواكب، حافلةً بأروع ما في الدنيا من عظمة الروح والإيمان حينًا، وبأقسى ما في قاموس الضلال من إلحادٍ ومروقٍ أحيانًا.
وبعد مرورِ قرابةِ ألفِ عامٍ على المأساة الحلَّاجية، لا يزال النبأ العظيم يتساءل فيه الناس وهم مختلفون!
ولقد فُتنتُ بسيرة الحلَّاج كما فُتِنَ بها غيري، وصاحبتُه طويلًا في تقلباته ومعارجه، ونَاجَيْتُه وذهبت معه في انطلاقاته، وتحسست ما في عواطفه وقلبه، وحاولت أن أدنو من شوقه ووجده، وثورته وتفكيره، وأن أجد الخط الروحي الخفي، الذي يربط ما بين المتناقضات التي تزخر بها حياة رجلٍ يذيبه ويحرقه الوجد المُلِحُّ العنيف، فينطلق في الفلوات والمقابر والآفاق، مذهولًا مأخوذًا، حتَّى يتذوق في نشوةِ رياضاته مقامًا من مقامات القرب، ويرى نورًا من أنوارِ الأُنس والقدس، ويغرق في بهاء القرب، وأنوار الأُنس، ويسبح ويسبح في معارج حبه، حتَّى يذهل عن نفسه، وعن وجوده، وعن كلِّ ما يحيط به، فلا يرى في الكون الفسيح، إلا وجه الله القريب الحبيب، الذي يذوب أمام سبحات أنواره، كل شيء، فلا يبقى إلا هو، ذو الجلال والإكرام، الأول والآخر، والظاهر والباطن.
وهو مع هذا الوَجْدِ المحرق، وبعد هذا الفناء المذهل، يطيل التأمل والتفكُّر، في واقع الأمة الإسلامية، فيرى انحرافها عن رسالتها، وابتعادها عن عبادتها، فيطلق صيحة الثورة على الخلافة المنحرفة، وينشر الدعوة، ويَعد العدَّة، لإقامة حكومة الأقطاب الروحانيين، التي يسوس أمرها الأولياء والأبدال، والتي تحيل الكون إلى محاريبَ للصلاة والتأمل، وذِكْرِ الله.
ولقد عانيت من قبلُ تجربة الدراسات الصوفية، وأعلم ما تحتاجه من جهدٍ، وما يصاحبها من إرهاقٍ، فهي لا تزالُ بِكْرًا لم تُمهَّد سبلها، ولم تُعبد طُرُقُها.
وأشهد أننى لم أجد رهقًا ونصبًا، في دراسةٍ صوفيةٍ، كما وجدت في دراسة الحلَّاج، فقد تمزق تاريخه، وتبعثرت آثاره!
وأشهد أيضًا أنني لم أجد متاعًا للقلب، وأنسًا للنفس، وزادًا للتفكير، كما وجدت في هذه الدراسة.
وللحلاج سحرٌ في كلماته، وسحرٌ في حياته، إنه من الشخصيات التي تملك قوة الإيحاء، وقدرة الاستهواء؛ ولهذا فسواءٌ كنت معه، أو كنت عليه، فلا تملك نفسك، من أن تحبه وتهواه.
ولقد حاولت جاهدًا، أن لا تتأثر هذه الدراسة بهذا السحر، وأن تنطلق إلى هدفها، مجرَّدةً من كل عاطفةٍ، إلَّا عاطفة البحث عن الحقيقة، الحقيقة المجردة لذاتها.
وبعد: فهذا هو الكتاب الأول الذي يصدر عن الحلَّاج في لغة الضاد، نقدِّمُ فيه للعالَم الإسلاميِّ، صورةً حيةً، من صور الحياة الروحية، في أزهى عصورها، ونصور فيه حياة رجلٍ من أئمة هذه الحياة الروحية، بل لعله نسيج وحده في هذه الحياة الغنية برجالها وأقطابها.
فإنْ أوفى الكتاب بعهده، فقدَّم الوجه الصحيح، للرجل الذي تساءل الناس عن نبئه واختلفوا في أمره، فنسجد لله شكرًا، على ما هدى وأَلْهَمَ.
وإنْ عجز الكتاب عن الوفاء بعهده، فحسبه أنه محاولة أخلصت وجهها لله.