شعاعٌ على التاريخ
… بأية حماسة وحمية وجدانية قامرَ هذا العاشق الجسور برأسه كيما يظفر بجوهرة الجمال الإلهي!
منذ أكثر من ألف عامٍ، تركز سمع الدنيا وبصرها، على الخاتمة الفاجعة، لأعجب صراع شهده تاريخ الفكر، وتاريخ الحياة الروحية في الإسلام.
وتساءل الناس عن النبأ العظيم، وهم في غمرةٍ ذاهلةٍ من هول ما يترامى إليهم من همساتٍ وأحداثٍ، لقد غامرت الخلافة العباسية وقامرت بوجودها ومكانتها فألقت من أعلى مآذن بغداد برماد جثة رجلٍ … عُذب، وصُلب، وحُرق، في مشاهد مسرحيةٍ وحشيةٍ، لا تمتُّ إلى الإنسانية، أو الآدمية، بسببٍ أو نسبٍ.
وحملت أجنحة الهواء ذرات الرماد الشهيد إلى الآفاق، ومن ثم بدأ تاريخٌ عجيبٌ رائعٌ، ونبتت حياةٌ سامقةٌ شامخةٌ، فقد تحولت كل ذرَّةٍ من ذرات هذا الرماد، إلى مئذنةٍ ومنبرٍ، يُتلى عليهما في مسمع الدنيا ووجدانها وضميرها قصة هذا الشهيد، وحياة هذا المصلوب!
ويا لها من قصةٍ! ويا لها من حياةٍ، أراق عليها الخلود فتنته وبريقه، وأكسبها الاستشهاد سحره ونوره، وأضفى عليها الحب الإلهي جلاله وعطره، ومنحها مقام الفناء، بقاءً يُعجِز كل فناءٍ!
ومنذ أكثر من ألف عامٍ، وقصة هذا الشهيد، تعيش متلألئةً مشرقةً متجددةً في قلوب الناس وعواطفهم، وتحيا مقنعةً مبهمةً ملهمةً، في عقول المفكرين وأقلامهم! أشبه ما تكون باللحن الذي اهتزت أنغامه وتشابكت أوتاره، ولكنه مع هذا، نغمٌ فاتنٌ شجيٌّ، غنيٌّ ثريٌّ بالإلهام والخيال والأحلام.
وتحولت القضية والمأساة إلى أسطورةٍ مجنَّحةٍ، ترتاد الآفاق المتناقضة، وتمشي مع الخيال الأسطوري إلى القمم العالية السامقة، المجللة بالضباب والسحاب، فتزداد إبهامًا وغموضًا، كما تزداد سحرًا وبريقًا.
يقول المؤرخ الفرنسي مويزو: «إنَّ التاريخ هو ذاكرة البشرية، ولكنها ذاكرةٌ قد تضعف حينًا، وقد تصطنع الضعف أحيانًا.»
ولقد كانت تلك الذاكرة، أضعف ما تكون، أو فُرِضَ عليها أن تكون أضعف ما تكون، وهي تُقدِّم للناس عبر القرون، تاريخ الحلَّاج، ورسالة الحلَّاج.
لقد زُيفت ذاكرة التاريخ عن عمدٍ خبيثٍ، وعن تدبيرٍ هادفٍ، واصطنعت صورًا خادعةً مضللةً زائفةً، لأعظم حقبةٍ في تاريخ المعرفة الصوفية، ولأخطر رجلٍ في تاريخ الحياة الروحية.
ولقد عَرفتْ جميع اللغات، حياة الحلَّاج ومأساته، وامتلأت حقائب التاريخ العالمي، بألوانٍ من الأساطير، حول فلسفته الروحية، وتعددت في التراث الإنساني، صور حبه ومجاهداته القلبية، وسبحاته الوجدية، ولكنها صورٌ وَشَّاهَا الخيال، واعتنى فيها المصورون بالتلوين والظلال، عنايةً طمست الحقائق، وغيَّرت وجهها، وشوهت لونها، وانحرفت بها، عن جوهرها ورسالتها.
ولقد تحاشى مؤرخو الحياة الروحية في الإسلام هذه المأساة وسرها وما يدور حولها، تحاشاها القدامى تحت ظلال صيحات الرعب والهول التي أطلقها العباسيون، مدمدمة حول الحلَّاج وتاريخه، وحول من يلوذ به، أو يترنم بلحونه وأهدافه، حتى إن السراج الطوسي — وهو معاصر للحلَّاج أو يكاد، وهو أكبر المؤرخين للحياة الروحية، وسير أعلامها ورجالها — أهملها وتجاهلها، مع جلالها ومكانتها.
وحتى إنه ليستشهد في كتابه العظيم «اللمع» في أكثر من خمسين موضعًا بكلمات الحلَّاج في المعرفة والتصوف، دون أن يذكر اسمه، بل يصطنع تعبيرًا عجيبًا، فيقول: قال بعضهم! أو قال القائل!
وكذلك صنع المؤرخ الصوفي، العلامة الكلاباذي في كتابه «التعرف» فهو يروي كلمات الحلَّاج التي ترسم آفاق التصوف، وتحدد مناهجه، دون أن يذكر اسمه، بل يصوغ تعبيرًا بديعًا هادفًا بقوله «قال أحد الكُبَرَاء!»
وجاءت كتب الطبقات الصوفية، فتحدثت في إسهابٍ، وفي إسرافٍ عن كل ما يتعلق بالتصوف ورجاله، وقادته وأعلامه، ثم مرَّت سريعةً خفيفةً، بسيرة الحلَّاج، أو حوَّمت حولها، في حذرٍ مصطنعٍ، وتجاهلٍ متعمدٍ.
ثم جاء المحدثون من أصحاب الأقلام، فوقفوا حيارى ذاهلين أمام المأساة الحلَّاجية، أو العقدة الحلَّاجية، فقد زُيفت تلك المأساة تزييفًا فنيًّا رائعًا، فتقنعت أحداثُها بالغموض، واشتبكت صورها بالأهواء، وتضاربت فيها الأقوال، وامتلأت آفاقها بالأساطير والخيال.
فقد اشترك الجهاز العباسي العالمي بكل قواه، وبكل عملائه، من علماءَ وفقهاءَ وشعراءَ وكُتَّابٍ، في هذا التزييف الذي لم يَعْرِفْ له التاريخ مثيلًا.
وجاء رجال التاريخ الإسلامي، وجُلُّهُم من الحنابلة المُتَزَمِّتِين فألقوا بكل ما في صدورهم، من مَوْجَدَةٍ، ومن حقد على التصوف الإسلامي، على رأس الحلَّاج وتاريخه ورسالته.
وعجزت كلُّ هذه الخصومات، وكلُّ هذه الأباطيل والأساطير، عن أن تطفئ شعاع هذا الروح الكبير، وظلَّ شعاعه الروحي يُومِضُ في أفق الحياة ومضاتٍ تترك آثارها ولمساتها في القلوب والعقول، وفي الضمير الإنساني، والوجدان البشري.
والتاريخ كما يقول العَلَّامَةُ سبنسر: «لا يموت»، فإن حقائقه وإن توارت في زحام الأغراض، وصيحات الأقزام، تستعصي أبدًا على الفناء.
ومن هذه الحقائق المُتناثرة، التي أثقلت كَوَاهِلَهَا أكداسٌ هائلة من التزييف والتلفيق، نحاول أن نقيم حياةً، وأن نعرض هذه الحياة، بكلِّ ما أبدعت وابتكرت على الناس، وأن نجعلها على جبين الشمس واضحةً سافِرَةً.
والحلَّاج شخصيةٌ غنيةٌ خِصْبةٌ مُلْهِمَةٌ، شخصيةٌ تفتح أبوابًا للتفكير، ومسرحًا للخيالِ، ومجالًا للعاطفةِ، شخصيةٌ تعددت جوانبها، واتَّسعتْ آفاقها، واحتشدت فيها جميع الانفعالات النفسية والوجدانية، والإلهامات الروحية والقلبية، والرياضات العقلية والجسدية.
كما تمثَّلت في وقائعها كافة العناصر التي تصنع بطولات التاريخ ومعجزاته، بكلِّ ما في البطولة من عِزَّةٍ وسُموقٍ وعظمةٍ واستشهادٍ ونضالٍ وفداءٍ وقوَّةٍ.
وفي إطار هذه الشخصية الشامخة، نعاصر حِقبةً حاسمةً في التاريخ الإسلامي، الفكري والحضاري، فنرى الصراع المَشْبُوبَ الأُوَار، بين المعتزلة والحنابلة، والشيعة والقرامطة، والفقهاء والصوفية.
ونشهد حياة القصور العالية، وما فيها من إسرافٍ وترفٍ، وشهواتٍ وغواياتٍ ومؤامراتٍ، وكيف تتشابك العواطف بالأحداث، لتجعل من خلفاء العباسيين الذين دانت لهم الأرض، أُلْعُوبَةً في أيدي العبيد والنساء، وأشباه العبيد والنساء.
ونرى العالَم الإسلامي، وهو يتمزق بعد وحدةٍ، وتنتابه انتفاضاتٌ فكريةٌ وثوريةٌ، واقتصاديةٌ وثقافيةٌ.
ونطالع الحياة الروحية، في أزهى عصورها، وأنبل صورها، عصر النجوم المتلألئة، عصر المدارس الصوفية الكبرى، التي دفعت بمناهجها في المعرفة والسلوك، إلى ساحات الفكر الإسلامي، وأطلقت في جو عاصفة الجدل والحوار، والخصومات المذهبية الجامحة، أطلقت كلماتٍ جذَّابةً حلوةً، لها إغراءٌ ورنينٌ وبريقٌ، كلمات الحب، والوجد، والشوق، والأنس في الحضرة الربانية، والساحة القدسية.
وما تلهم هذه الكلمات النورانية، من أدب النفس، وسمو الحس، وطهارة القلب، ونبل الخلق، وتصعيد الأعمال كافةً إلى الله سبحانه، وإفاضة المعنى الروحي على كل شيءٍ في الوجود، وما يترقرق حول هذه المعاني، من أشواقٍ ورياضاتٍ، وأذواقٍ وإلهاماتٍ.
وفي قلب هذا الخِضَمِّ، بانفعالاته المتوترة الحية، وبأفكاره المتدفقة المحلِّقة، وبأحداثه الثائرة المضطربة، وبترفه وشهواته الجامحة، برزت شخصية الحلَّاج لتُحْدِثَ في الدنيا دَوِيًّا، وتُحْدِثَ في الجماهير سِحْرًا، وتلقي على كل شيءٍ مَسَّتْه حياةً وحرارةً وانفعالًا.
كان الحلَّاجُ عبقريةً من تلك العبقريات الاستهوائية، التي يعرفها التاريخ في لحظاته الحاسمة.
وبلغ من عظمة هذه الشخصية؛ أنها غدت النبأ العظيم في آفاق التصوف والمعرفة، كما كانت النبأ العظيم في آفاق الإصلاح والثورة.
كان الحلَّاجُ يملك قوةً روحيةً عالية، من تلك القوى التي يفيضها الله على مَنْ يشاءُ مِن عباده، وكانت تلك القوى الروحية تمنحه فيما تمنح، القدرة الموحية المؤثِّرة الصانعة في عواطف الناس وقلوبهم وأحاسيسهم، وتضفي عليه طاقةً تلهم الآمال الكبار، لكل من يلوذ به، أو يدنو منه، بل لقد شهد أُمَنَاءُ أتقياءُ، بأنه كان يؤثِّر بروحانيته العجيبة، في الجماد والنبات والحيوان.
ومن هنا تَوَهَّمَ أعداؤه فيه السحر والشعوذة، وتوهم أحبابه فيه القدرة الخارقة على صنع المعجزات، حتى لقد نسبوا إليه، إحياءَ الموتى، وبعْثَ مَن في القبور!
ويحدثنا شيخ الصوفية الأكبر محيي الدين بن عربي في الباب الثالث والستين وأربعمائة من كتابه «الفتوحات المكية»: «إن الحلَّاجَ كان يدخل بيتًا عنده يسميه بيت العظمة، فكان إذا دخله ملأه كله بذاته بأعين الناظرين، حتى إن بعض الناس ممن لا يعرف تطورات أحوال هذا المقام، نسبه إلى علم السيميا، لجهله بأحوال الفقراء في تطوراتهم.
ولما دخلوا عليه ليأخذوه للصلب، كان في ذلك البيت، فما قدر أحد أن يُخرجه من ذلك البيت؛ لأن الباب يضيق عنه فجاء الجنيد، وقال له: سلِّم لله تعالى، واخْرُجْ لما اقتضاه وقدَّره، فرجع إلى حالته المعهودة. فخرج فصلبوه.»
ويهتف خلصاؤه وتلاميذه يوم صلبه: «لم يمت الحلَّاجُ بل ارتفع إلى السماء، وسيعود!»
لقد عجز الموت في أبشع صوره، وأقسى ألوانه، أن ينتزع الهالة الكبرى، التي تحيط بتلك الشخصية الضخمة الرائعة.
ولكن هل حشدت الخلافة العباسية كل قواها لقتال الحلَّاجِ، وأعدَّت كل ما تملك من وسائل الجبروت الوحشي، والعنف البربري في عذابه ومحاكمته وصلبه، من أجل مواجيده وألحانه في الحب الإلهي، ومن أجل إلهاماته وفتوحاته، في مقامات الغناء الصوفي، وعجائبه وقدرته على الإيحاء والإلهام، وصنع الكرامات والمعجزات؟!
ويروي لنا إمام الحرمين الجويني: «إنَّ الحلَّاج كان يريد قلب الدولة، والتعرض لإفساد المملكة.»
ويقول المستشرق نيكلسون في كتابه «الصوفية في الإسلام»: «إنَّ قتلَ الحلَّاج أملتَه دوافعُ سياسيةٌ لا تعرف الرحمة.»
ويقول العلَّامة جولدزيهر في كتابه «محاضرات عن الإسلام»: «لقد أثَّرت صيحة الحلَّاج الصوفية — معرفة الله — تأثيرًا عميق الأثر، في الحياة العلمية الإسلامية.»
ثم يقول: «لقد أخذ الحلَّاج يتدخل في حياة المجتمع الإسلامي تدخُّلًا شديد الوطأة.»
وإذن فصَيحة الحلَّاج الصوفية الإصلاحية، ودعوته إلى إقامة حكومةٍ ربَّانيةٍ مثاليةٍ، هي سرُّ المأساة الكبرى، أو إحدى أسرار تلك المأساة الكبرى.
ومأساة الحلَّاج، كوَّنتها عناصِرُ تاريخيةٌ ونفسيةٌ وخلقيةٌ، وفي طليعة تلك العناصر، الرهبة التي استشعرها العباسيون من القوى الصوفية النامية، التي أخذت تهيمن على العراق في القرن الثالث الهجري.
تلك هي مكانة التصوف في العراق خلال تلك الحقبة من التاريخ، لقد غدا أتباعه، القوة الحية النامية في المحيط الممزق المضطرب.
وكان في بغداد، عمالقة من الأئمة الروحانيين، وزعماء من القادة الصوفيين … كان هناك أبو القاسم الجنيد، والشِّبْلِيُّ، وسهل التستري، وعمر المكي، والسَّرِيُّ السقطي، وغيرهم من الأقطاب الكبار.
ولكن الحلَّاجَ، كان أقواهم شخصيةً، وأوسعهم نفوذًا، وألصقهم بالجماهير، وأكثرهم قدرةً على حملِ راية الكفاح والنضال.
كان الحلَّاج يحمل روح ثائرٍ، وقلب قطبٍ، وعقلَ زعيمٍ، وروح محبٍّ عابدٍ، وكان يؤمن بالتصوف القرآني الإيجابي؛ الذي يسهم في الأحداث ويوجهها، ويترك طابعه عليها.
وكان يبشِّر عن عقيدةٍ ثابتةٍ لا تتزلزل، بحكومة الأقطاب الروحانيين، كما كان يؤمن بأثر الصلاة والعبادة ومحبة الله، في إصلاح المجتمع، والارتفاع بالجماهير إلى أفقٍ أنبل وأعلى.
ومن هنا كان الحلَّاجُ في نظر الخلافة العباسية، هو الزعيم الصوفي الذي يهدد سلطانها ونفوذها، ويؤلب الجماهير ضد مظاهر الترف والإسراف والشهوات العالية الصوت في محافلها وقصورها.
يقول الإصطخري: «إنَّ كثيرًا من عِلْيَةِ القوم في بغداد رأوا في الحلَّاج، أنه هو الرئيس القطب المنقذ.
وفي طليعة من آمن به من الوزراء: علي بن عيسى، وحمد القنائي، والدولابي، ونعمان، ومحمد بن عبد الحميد.
ومن الأمراء: الحسين بن حمدان، ونصر القشوري. ومن ولاة الأمصار: أبو بكر الماذرائي، ونجح الطولوني. ومن دَهَاقِين فارس وأشراف الهاشميين: أبو بكر الربعي، وأحمد بن عباس الزينبي.»
ثم يقول: «وكانت له معهم مراسلاتٌ مما هيَّأ لهم الهداية، وهيأ له الخوض في السياسة، وواجبات الوزراء.»
وتلك الصورة التي رسمها لنا الإصطخري تدلُّ دلالةً كبرى على مدى الأثر الكبير، والنفوذ الواسع، الذي ظفر به الحلَّاج، في الدوائر العليا للخلافة العباسية.
يقول ماسنيون: «لقد طالب الحلَّاج بإصلاح الإدارة الحكومية في جرأةٍ غير مسبوقةٍ، ونادى بإقامة حكومةٍ إسلاميةٍ حقًّا، ووزارة كما يقول: تحكم بالحق والعدل بين الناس، وهاجم عمَّال الخراج، وطالبَ كما يقول: بخلافةٍ تشعر بمسئوليتها أمام الله جلَّ جلاله، مما يجعل الله يرضى عن قيام المسلمين بفروض دينهم، من صلاةٍ وحجٍّ وصيام.»
تلك بعض الومضات التي تومئ إلى بعض جوانب الرسالة التي نهض بها الحلَّاج، والتي سنعرض لها بالتفصيل والبيان.
ولن يضيرَ الحلَّاج، أن النجاح لم يُكتب لرسالته، وأنه قدَّم حياته فداءً لتلك الرسالة، فقد يكون الاستشهاد في سبيل الفكرة والعقيدة أسمى ألوان النجاح، وأعلى ضروب النصر.
أو كما يقول ابن أبي الخير في ملحمته الحلَّاجية: «إن الموت على مصلب الحلَّاج ميزة الأبطال.»
ويقول حافظ الشيرازي، شاعر التصوف الإسلامي، في إحدى قصائده: «إن تصلبني الليلة، فإن دمي يخط على الأرض — أنا الحق. مثل منصور الحلَّاج.»
ولما أراد جلال الدين الرومي، عبقري الشعر الفارسي الصوفي، أن يصعد بفريد الدين العطار، في معارج الحب الإلهي. وفي مجالات البطولة الخالدة قال: «إن روح الحلَّاج تجلَّت في العطار.»
ثم عقَّب بقوله: «لقد بلغ الحلَّاج قمة الكمال والبطولة، كالنسر في طرفة عين.»
لقد كانت تضحية الحلَّاج هي سرَّ خلوده، فقد صعد الحلَّاج بتلك البطولة الفدائية إلى قمَّة الكمال كالنسر الجبار الجناح، وغدا في قلوب المتصوفة وعقولهم، محجَّةً ومنارةً ترشد إلى المثل الأعلى في إشراقاته وإلهاماته.
وأصبح الحلَّاج بهذا الاستشهاد الأسطوري الملهم الأكبر لمواجيد الشعراء وألحانهم وأغانيهم في الأفق الصوفي.
فهو في الشعر التركي، الولي الأكبر، وهو لدى الهنود: شهيد الحق. وهو الملهم الأول لعباقرة الشعراء الفارسيين العالميين، حافظ الشيرازي، وجلال الدين الرومي، وفريد الدين العطَّار.
وامتدَّ إلهامه عبر القرون، فنشأت الفِرَق الصوفية الكبرى، على وقع نغماته ودعواته، وهدى تفكيره وآدابه، حتَّى إن البكتاشية التي هيمنت على تركيا وألبانيا، قرونًا عديدةً، ترجع في أصولها إلى الحلَّاجية.
ثم يقول: «كان الحلَّاج، نموذج الولي الذي مجَّده الشعب التركي المجاهد الذي أقبل على الإسلام في أعقاب مصرع الحلَّاج.»
ويتحدث فريد الدين العطار عن مدن العشق السبع، ثم يقول: «الحلَّاج ذلك الشهيد العالمي، الذي قدم للدنيا صورة الولاية الكبرى، وقد بلغت أَوْجَهَا في تضحيةٍ حربيةٍ، مليئةٍ بالرجولة، مليئةٍ بالإلهام.»
ويستعرض ماسنيون الامتداد الروحي للحلَّاج. فيقول: إن دم الحلَّاج يعتبر بذرةً روحيةً تضمن استمرار الإلهام لمحبِّيه. ثم يقول: «والحلَّاج يُدعى في الدعوات الشخصية، خصوصًا في بلاد الترك لوقف بكاء الأطفال الصغار، ولا يزال قبره التذكاري الخالي من رفاته الذي أُقيم له في بغداد كعبة الزائرين.
والمزمار الرئيسي في الحفلات الموسيقية الروحية عند المولوية يدعى باسمه — نادي منصور.»
لقد كان الحلَّاج دائمًا يقول في دعواته: «يا معين الفناء عليَّ أعني على الفناء.»
وسواء كان يقصد فناء الحبِّ، أو فناء الامتداد الروحي، فقد استجاب الله الدعاء، فاستعصى الحلَّاج على الفناء، وحلَّق خالدًا في آفاق الشهداء، وستبقى قطرات دمه بذرةً روحيةً، تضيف في كل يومٍ إلى التصوف الإسلامي قوةً ونماءً.
وذلك خلود من ظفر بجوهرة الحب الإلهي، واستشهد في سبيلها.