الحلَّاج والحقيقة المحمدية ووحدة الأديان
ولا جدال في أن الحلَّاج قد وجه خطو الحياة الروحية في الإسلام، إلى معارج وآفاقٍ لم تعرفها من قبله، وكان في طليعة هذه المعارج والآفاق، فكرة الحلَّاج أو نظريته عن الحقيقة المحمدية، أو النور المحمدي.
فلأول مرةٍ في تاريخ التصوف نرى الحب الإلهي عند الحلَّاج يتجاوز ذات الله سبحانه، إلى أول مخلوقاته، وهو نور محمدٍ صلوات الله وسلامه عليه.
وتنادي النظرية الحلَّاجية، بأن للرسول عليه السلام صورتين مختلفتين، صورته نورًا قديمًا كان قبل أن تكون الأكوان، ومنه يستمد كلُّ علمٍ وعرفانٍ. وصورته نبيًّا مرسلًا، وكائنًا محدثًا، تعين وجوده في زمانٍ ومكانٍ محدودين.
وتجعل النظرية النور المحمدي مصدر الخلق جميعًا، فمنه صدرت الموجودات، ومن نوره ظهرت أنوار النبوات، وما سائر الأنبياء إلا صورٌ من ذلك النور الأزلي، وقد كانت الصورة الكاملة في سيدنا محمد خاتم النبيين، وأول خلق الله أجمعين.
وقد عقد الحلَّاج لشرح هذه النظرية فصلًا في كتابه «الطواسين» أسماه: طاسين السراج، قال فيه: «طس سراج من نور الغيب بدا وعاد، وجاوز السراج وساد، قمرٌ تجلى من بين الأقمار، برجه في فلك الأسرار، سماه الحق «أميًّا» لجمع همته، و«حرميًّا» لعظم نعته، و«مكيًّا» لتمكينه عند قربه.
شرح صدره، ورفع قدره، وأوجب أمره، فأظهر بدره، طلع بدره من غمامة اليمامة، وأشرقت شمسه من ناحية تهامة، وأضاء سراجه من معدن الكرامة.
ما أخبر إلا عن بصيرته، ولا أمر بسنته إلا عن حق سيرته، حضر فأحضر، وأبصر فأخبر، وأنذر فحدد.
ما أبصره أحدٌ على التحقيق، سوى الصديق؛ لأنه دافعه، ثم رافعه، ما عرفه عارفٌ إلا جهل وصفه الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.»
ثم يقول: «أنوار النبوة من نوره برزت، وأنوارهم من نوره ظهرت، وليس في الأنوار نورٌ أنور وأظهر من نور صاحب الكرم، همته سبقت الهمم، واسمه سبق القلم؛ لأنه كان قبل الأمم.»
ثم يقول: «العلوم كلها قطرةٌ من بحره، الحِكم كلها غرفةٌ من نهره، الأزمان كلها ساعةٌ من دهره.»
فرسول الله إذن في نظرية الحلَّاج هو أول تعين من تعينات الذات الإلهية، وعنه فاضت المخلوقات الأخرى، فهو أصل الوجود وعماده، ولولاه ما كان شمسٌ ولا قمرٌ، ولا نجومٌ ولا أنهارٌ.
ولو لم يُبعث محمدٌ — صلوات الله عليه — كما يقول الحلَّاج، لم تكمل الحجة على جميع الخلق، وكان يرجو الكفار النجاة من النار.
وعن الحلَّاج تطورت هذه النظرية، على أيدي الصوفية، حاملةً أسماءً مختلفةً، مثل الإنسان الكامل، أو القطب الباز، ولكن جوهر النظرية ظلَّ كما وضعه الحلَّاج في القرن الثالث.
وقد أثرت هذه النظرية في توجيه المدائح النبوية، إلى تلك الصور التي تتسق مع هذه النظرية، فمُدَّاح الرسول عليه السلام يستقون — كما يقول ماسنيون — من معين الحلَّاج، وينسجون على منواله.
ومن المعارج والآفاق التي ابتكرها الحلَّاج وأضافها إلى المعرفة الصوفية قوله بوحدة الأديان؛ فهو يرى أن الأديان وجهات نظرٍ إلى حقيقةٍ واحدةٍ؛ لأن أهل كل دينٍ قد نظروا إلى الله نظرةً تخالف نظر الآخرين، والجميع ينشدون شيئًا واحدًا، وهم في ذلك محقُّون؛ لأن الاختلاف لا بدَّ أن يكون اختلافًا في الأسماء والألقاب، والمقصود في الجميع لا يختلف.
وقد انبثقت من هذه النظرية نظريةٌ حلاجيةٌ أخرى في الجبر؛ لأنه نتيجةٌ طبيعيةٌ لهذه الوحدة.
فالحلَّاج يرى أن الله شغل بكلِّ دينٍ طائفةً، لا اختيارًا منهم، بل اختيارًا عليهم، فمن لام أحدًا ببطلان ما هو عليه، فقد حكم بأنه اختار ذلك لنفسه.
والجبر يقتضي الفرق بين الإرادة والأمر، والحلَّاج لهذا لا يقسو على إبليس بل يشفق عليه في رفضه السجود لآدم؛ لأن الله سبحانه أراد عدم السجود في الأزل، رغم الأمر بالسجود، وإبليس رأى أن هذا الأمر ظاهريٌّ فقط، وهو في حقيقته ابتلاءٌ! والله وحده سبحانه هو الحقيق بالسجود له.
وإبليس عند الحلَّاج من أهل الفتوة؛ لأنه هُدد بالعذاب الخالد فلم يرجع عن دعواه التي آمن بها!