الحلَّاج وأدب السلوك الصوفي
كان الحلَّاج فوق رسالته الإصلاحية والربانية مربيًّا، وأستاذًا صوفيًّا، في القمة السامقة، سلوكًا ومعرفةً. ولقد التف حول الحلَّاج في حياته أكبر مجموعة صوفية، في تاريخ القرن الثالث الهجري — عصر التصوف الذهبي — حتى ليقول العلامة ابن كثير: «إنه كان يلازمه في سفره الشاق الطويل أكثر من أربعمائة من صفوة المريدين السالكين.»
وفي كل بقعةٍ في الشرق الإسلامي، من بغداد إلى أعالي الهند تكونت مجموعاتٌ حلَّاجيةٌ، ثم تحولت هذه المجموعات إلى جامعةٍ صوفيةٍ، دانت للحلَّاج بالزعامة والولاية، واتخذت منهجه معراجًا وصراطًا.
وقلب التصوف الإيماني، وروحه المثالي، ورسالته الخالدة تتجلى مبينة مشرقة في مدرسة «الشيخ والمريد»، تلك المدرسة المثالية، التي أنجبت المربِّين العالميين، الذين ابتدعوا سبلًا في التربية، وأسلوبًا في السلوك، تخشع حياله، وتلقى باليدين وهي صاغرة كل مدرسةٍ مهما سمت أدبًا، وكل جامعةٍ مهما عظمت منهجًا! لقد امتدت تلك الأيدي المتوضئة المؤمنة الملهمة إلى القلب الإنساني فدرسته، وتعمقت خوافيه، وجاست خلاله، وكشفت أسراره، وأحاطت بنوازعه وخوالجه، فمسحت بنور القرآن فجوره، وأشعلت بأدب الرسول تقواه، ثم عرجت بملكاته صعودًا حتى أشهدته تسبيحات الملأ الأعلى، وإشراقات الأفق الأسنى، فسجد عند ربه يقتات برضوانه، وينهل من فيضه وينعم بإلهامه.
ثم مشوا بنور ربهم إلى الروح الإنساني، فأطعموها نور الذكر، وسقوها رحيق الحب، وأشعلوها بالوجد، وبسطوها بالأنس، وصاحبوها في مقاماتها وأحوالها من النفس الأمارة إلى النفس اللوامة، ومن المطمئنة إلى الراضية.
وإنَّ لكل مقامٍ منهجًا، ولكل حالٍ علمًا وذوقًا، فأسكنوها نعيمًا مقيمًا، وجنةً عاليةً، في الأولى قبل الآخرة … لقد أحالوا مثاليات القرآن، وأدب النبوة إلى منهجٍ سلوكيٍّ تربويٍّ، أخرج للناس نماذجَ بشريةً مضيئةً، لم تعرف الإنسانية بعد الرسل والأنبياء من هم أهدى منهم خلقًا، أو أزكى نفسًا وأتقى قلبًا.
وقد أوجدت هذه التربية روحًا صوفيًّا له طابعه وخصائصه، وهذا الروح هو سر التصوف وأُفقه ومنهجه … فقد أخذوا دينهم بقوةٍ، وتميزوا بعزماتٍ صاعدةٍ؛ فهم أرباب العزائم لا الرخص، وهم الذين أيقظوا قلوبهم فلم تنم عن ربهم وهدفهم.
وهم الذين عاشوا في كل حرفٍ من القرآن، ومع كل خُلقٍ من الرسول، فكلماتهم حياتهم، وعقيدتهم وجودهم … قال صوفيٌّ لمحدث: «أخرجوا زكاة الحديث! قال: وما زكاة الحديث؟ قال: اعملوا بخمسة أحاديث من كل مائة حديث تحفظونها.»
والحلَّاج لم يستكمل تربيته الصوفية على أيدي المشايخ الكبار، لقد انفصم ما بينه وبينهم مبكرًا، فحلَّق منفردًا في القمم العالية، واصطلى وحده التجربة الصوفية كاملةً، وألزم نفسه ألوانًا من المجاهدة والرياضة، تعمَّد فيها القسوة والصرامة!
ومن هنا جاءت تلك البروق الشاطحة، وتلك الحرارة الدافقة، التي امتزجت بتعبيرات الحلَّاج، وطبعت مواجيده وألحانه! بل من هنا جاءت تلك الصلة الكبرى بين الحلَّاج وربه، تلك الصلة العالية الصوت في حياته، الصلة التي تجعلنا ونحن نقرأ للحلَّاج نحس برجلٍ يعيش أنفاسه مع مولاه، فهو أنيسه وجليسه، وحبيبه ومربِّيه …
يقول المستشرق ماسنيون في مقدمة كتاب الطواسين: «وليس هناك من متصوفٍ في التاريخ أكثر «عِشرة مع الله» من الحلَّاج الذي يتصل في حديثه معه «أنا» و«أنت» و«نحن» وليس هناك من شعرٍ صوفيٍّ أشدَّ حرارةً وأكثر بعدًا عن المادة من شعر الحلَّاج.»
يقول الحلَّاج، معبرًا عن منهجه في السلوك: «إنَّ الأسماء التسعة والتسعين تصير أوصافًا للعبد السالك، وهو بعدٌ في السلوك غير واصل.» ويقول: «من صدق مع الله في أحواله فهِم عنه كل شيءٍ، وفهم عن كل شيءٍ …»
ويقول — مصورًا للصوفي: «الصوفي يكون مع الله تعالى بحكم ما وجب، ولا يكون على سره أثرٌ من الأكوان، ويكون وجدانيَّ الذات، لم يُشهده الحق غيره، فهو أعمى عن الكون. ويكون له مع الحق نسبٌ يحمل به الواردات، ولا يذكر برؤية الكون غير الحق.»
ذلك هو المنهج الحلَّاجي، أو ذلك هو الحلَّاج الصوفيُّ! إنه مع الله بحكم ما أوجب، مع إرادة الله بحكم ما قضت، وليس بقلبه أثرٌ من الأكوان، وهو وجدانيُّ الذات، لا يبصر الكون، بل إن الكون لا يرى فيه غير الحق — غير الله — ثم إن له مع الحق لصلة من الحب والوجد والفناء، تعينه على تحمل الواردات، وتذوق الإلهامات، والقيام بالواجبات.
ونستطيع أن نتذوق منهج الحلَّاج في آداب السلوك الصوفي، تلك الأداب التي ألزم مريديه بها، من ذلك الدستور الذي وضعه لهم … ولقد حفظ لنا أبو عبد الله السلمي — المؤرخ الصوفي الكبير — زبدةً طيبةً من ذلك الدستور …
فالسلمي: يعرض لنا أدب المريد، ثم يقيم الشاهد والدليل من كلمات الحلَّاج ومذهبه … والعلامة الكلاباذي — في التعرف لمذهب أهل التصوف — قد حفظ لنا جملًا من هذا التراث، أدرجها تحت قوله: «قال بعض الكبراء.» لقد كانت محنة الحلَّاج الهائلة تُرْهِبُ الكتاب، وترهب رجال التاريخ، فتصرفهم عن اسمه، وعن تراثه!
يقول أبو عبد الله السلمي: «من آدابهم ترك التدبير، والرجوع إلى حال التسليم، قال أبو الحسين بن منصور: من سلم إلى الله أمره صنع به، وصنع له، ومن وجد الله لم يجد معه غيره، ومن طلب رضاه حباه الله بالمكنون من سره، وهو قوله ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا.»
ومن آدابهم: دوام التوبة مما عملوا ومما لم يعملوا مما جرى عليهم من الغفلات، كذلك حكي عن الحسين بن المنصور أنه قال: «التوبة مما لا تعلم تبعثك على التوبة مما تعلم. والشكر على ما لا تعلم يبعثك على الشكر على ما تعلم؛ لأنه حرامٌ على العبد الحركة والسكون إلا بأمرٍ يؤديه إلى أمر الله.»
ومن آدابهم الحضور وقت الذكر، ومجانبة الذكر على الغفلة؛ لذلك قال ابن منصور: «مَن ذكر الله وهو يشاهد غيره لا يزداد منه إلا بعدًا، ويقسو قلبه، ويكون مُستدرَجًا لا يهتدي.»
ومن آدابهم ترك التدبير، والسعي في طلب الرزق، والسكون في كل الأصول إلى مسوق القضاء وضمان الحق، كما قال الحسين بن منصور: «من أراد أن يتذوق شيئًا من هذه الأحوال فليُنزل نفسه إحدى منازل ثلاث: إما أن يكون كما كان في بطن أمه — مدبَّرًا غير مدبرٍ، مرزوقًا من حيث لا يعلم — أو كما يكون في قبره، أو كما يكون في يوم القيامة» … وقال أيضًا: «المتوكل رزقه من حيث لا يعلم بغير حسابٍ، ولا يكون عليه فيه سؤال …»
ومن آدابهم ترك لفظ «أنا» و«نحن» و«لي» وما أشبه ذلك، كما رُوي عن النبي ﷺ أنه استأذن عليه رجلٌ فقال: «من ذا؟» فقال: أنا — أنا — فكرِه ذلك رسول الله … وحُكي عن الحسين بن منصور أنه قال: «إذا قال العبد «أنا» قال الله تعالى: بل «أنا»، وإذا قال العبد: لا بل أنت يا مولاي، قال المولى: بل أنت يا عبدي، فيكون مراده مراد الله فيه …»
ومن آدابهم: العمل في الوقوف على ما يرد عليهم من الأحوال، حُكي عن الحسين بن منصور أنه قال: «حفظك أنفاسك وأوقاتك وساعاتك وما هو بك، وما أنت فيه، فمن عرف من أين جاء، عرف إلى أين يذهب. ومن علم ما يُراد منه علم ما له، ومن علم ما عليه علم ما معه. ومن لم يعلم من أين أتى وأين هو وكيف هو ولمن هو فذاك ممن لا يعلم، ولا يعلم أنه لا يعلم، ويظن أنه يعلم …»
ومن آدابهم: في معرفة الدواعي، قال الحسين بن منصور: «داعي الإيمان يدعو إلى الرشد. وداعي الإسلام يدعو إلى الإطلاق، وداعي الإحسان يدعو إلى المشاهدة، وداعي الفهم يدعو إلى الزيادة، وداعي العقل يدعو إلى المذاق، وداعي العلم يدعو إلى السماع، وداعي المعرفة يدعو إلى الروح والراحة، وداعي التوكل يدعو إلى الثقة، وداعي الخوف يدعو إلى الارتفاع، وداعي الرجاء يدعو إلى الطمأنينة، وداعي المحبة يدعو إلى الشوق، وداعي الشوق يدعو إلى الوله، وداعي الوله يدعو إلى الله، وخاب من لم يكن له داعيةٌ من هذه الدواعي! أولئك من الذين أهملوا في مفاوز التحير، وممن لا يُبالي الله بهم.»
الحلَّاج والتصوُّف
كانت حياة الحلَّاج وما انبثق منها من إشعاعاتٍ وإشراقاتٍ، وما ابتدعت من مناهجَ في التفكير والتأمل والروحانيات، كانت كما يقول نيكلسون: لحظة جوهرية في تاريخ التصوف الإسلامي.
كانت حياته، من نقاط التحول والتطور في الأفق الصوفي، ومن مطالع النماء والخصوبة في التفكير الروحي، وإلى الحلَّاج ترجع الأصول الكبرى لذلك التراث الإسلامي العالمي، الذي شكل في محيط الفكر الصوفي، أعظم القوى الروحانية الإيمانية التي عرفها تاريخ الإنسان.
والتصوف عند الحلَّاج، هو انتساب الإنسان إلى الله سبحانه، لا إلى هذا العالم المادي الحيواني، هو ارتفاع الإنسان إلى الله في سفرٍ طويلٍ هائلٍ، لا تقدر عليه إلا عزمات الرجال الكبار، المصطفين الأحرار.
سفرٌ تفنى فيه الصفات البشرية، في الصفات الإلهية، فناء طاعةٍ وعبوديةٍ، وحبٍّ ووجدٍ، وذوقٍ وشوقٍ.
ويُقَسِّمُ الحلَّاج هذا السفر الطويل إلى أربع رحلاتٍ، تبتدئ أولاها بالمعرفة وتنتهي بالفناء، والثانية تبدأ أنوارها وإلهاماتها، حينما يعقب الفناء البقاء، وفي الثالثة، يوجه الإنسان الكامل اهتمامه لمخلوقات الله مرشدًا وهاديًا.
والرابعة وما أدراك ما الرابعة! قمةٌ سامقةٌ مشرقةٌ، يحلق الإنسان في آفاقها وقد غمرته الصفات الربانية، والأنوار الإلهية، فيصبح مرآةً تتجلى فيها حقائق الكون وأسراره، وهو موقفٌ لا مجالَ للحديث عنه، وحسبنا إلى أن نومئ هنا إلى كلمة الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي: «ليس في مستطاع أهل المعرفة إيصال شعورهم إلى غيرهم، وغاية ما في هذا المستطاع هو الرمز عن تلك الظواهر لأولئك الذين أخذوا في ممارستها.
ومن أراد فقهًا أكبر، فليتأمل قول سيد المرسلين في حديث الإسراء: «انعكس بصري في بصيرتي، فرأيت من ليس كمثله شيءٍ» أي رآه بالحاسة القلبية الروحية.
ومن هذا الأفق قول الشبلي للجنيد: «ما رأيك في من الحق نعته، حالًا ومقامًا؟» فقال: «هيهات يا أبا بكرٍ، بينك وبين أكابر الطبقة ألف طبقةٍ، في أولها ذهب الاسم.» أي لا يوجد أنا أبدًا.
ولقد حمل الحلَّاج أمانة المعرفة الصوفية العليا وعاشها بروحه وقلبه وحسه، وقدم دمه فداءً لها في بطولةٍ أسطوريةٍ لا يزال شعاعها وإلهامها يومض عبر التاريخ.
كانت تجربة الحلَّاج الصوفية من أصدق وأخلص ما عرف تاريخ التصوف، وهذا سرُّ ما فيها من عمقٍ، ومن حرارةٍ، ومن إلهامٍ.
لقد صعد في معارجها بجناحٍ جبار من أجنحة الحب والوجد، ووهبها كل ذرات روحه وهتافات قلبه، وأماني حسه، وحمل قيثارته ليهب للخلود، إلهامات حبه ومعرفته وتجربته.
يقول الحلَّاج مصورًا حبه ووجده:
ما للحلَّاج والناس؟ لقد سما فوق التراب والطين، وتطلع إلى مشارق الروح، ورب الأرباب.
فلما أحسَّ بي التفت وضحك في وجهي ورجع وقال لي: يا أبا الحسن، هذا الذي أنا فيه أول مقام المريدين، ثم زعق ثلاث زعقاتٍ وسقط وسال الدم من حلقه، وأشار إليَّ بكفه فذهبت وتركته، فلما أصبحت رأيته في جامع المنصور فأخذ بيدي ومال بي إلى زاويةٍ وقال: بالله عليك، لا تُعلم أحدًا بما رأيت البارحة.»
صلة الحلَّاج بالله
هذا الحلَّاج المحب الفاني، العابد المثالي، السابح في وجده، المحترق في تجربته، المشوق في قربه، الذي ملأ الدنيا بضجيج ضراعاته ومواجيده، قد امتلأت صحف التاريخ بالتهاويل والأباطيل، حول حبه وعقيدته، وحول إيمانه وصلته بربه!
وصفوه بأنه حلولي ينادي بالحلول، ويتخذ الحب والفناء معراجًا لغايته، وتنادوا بأنه اتحادي، يحاول برياضاته ومجاهداته وشطحاته، أن يتحد بموجده في تجربةٍ مهمةٍ غامضةٍ! وأنه اتخذ من الوجد والنشوة عند السماع والاستغراق سبيلًا إلى هدفه، حتى أصبح في سكره وسبحاته يقول في دعاوى عريضةٍ … أنا عوضًا عن هو! تأليهًا لنفسه وللإنسان المجتبَى المختار الكامل، الذي يجد في ذاته حقيقة … صورة الله!
فهل كان الحلَّاج كما قالوا؟ وهل كان الحلَّاج كما وصفوا؟ لنمشِ معه خطواتٍ في مناجاته لربه، وخطواتٍ في حديثه عن صلة الإنسان بخالقه.
وأنت تَعْلم ولا تُعْلم، وتَرى ولا تُرى، وتخبر عن كوامن أسرار ضمائر خلقك، وأنت على كل شيءٍ قديرٌ.
وأنا بما وجدت من روائح نسيم حبك، وعواطر قربك، أستحقر الراسيات، وأستخف الأرضين والسموات، وبحقك لو بعتَ مني الجنة، بلمحةٍ من وقتي، أو بطرفةٍ من أحر أنفاسي لما اشتريتها، ولو عرضتَ عليَّ النار بما فيها من ألوان عذابك لاستهونتها في مقابلة ما أنا فيه من حال استتارك مني، فاعفُ عن الخلق ولا تعف عني، وارحمهم ولا ترحمني، فلا أخاصمك لنفسي، ولا أسألك بحقي، فافعل بي ما تريد.
فلما فرغ قام إلى صلاةٍ أخرى وقرأ الفاتحة، وافتتح بسورة النور وبلغ إلى سورة النمل، فلما بلغ إلى قوله تعالى: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ صاح صيحةً عظيمةً وقال: هذه صيحة الجاهل به.»
ومن الكلم الذي تخفق له القلوب، ويشع منه النور، تلك المناجاة الحلَّاجية: «… إلهي وإله الموجودات والمعقولات والمحسوسات، يا واهب العقول والنفوس، ومخترع الأركان والأصول، يا واجب الوجود، ومفيض الجود، يا جاعل القلوب والأرواح، يا فاعل الصور والأشباح، يا نور الأنوار، ومدبر كل الدوار، أنت الأول الذي لا أول قبلك، وأنت الآخر الذي لا آخر بعدك، الملائكة عاجزون عن إدراك جلالك، والناس قاصرون عن معرفة كمال ذاتك.
اللهم خلصنا من العوائق الدنية الجسمانية، ونجنا من العوائق الردية الظلمانية، وأرسِل على أرواحنا شوارف آثارك، وأفضْ على نفوسنا بوارق أنوارك.
العقل قطرةٌ من قطرات بحار ملكوتك، والنفس شعلةٌ من شعلات جبروتك، ذاتك ذاتٌ فياضةٌ تَفِيضُ منها جواهرُ روحانيةٌ، لا متمكنة ولا متحيزةٌ، ولا متصلةٌ ولا منفصلةٌ، مبرأةٌ عن الأحياز والأين، معراةٌ عن الوصل والبين، فسبحان الذي لا تدركه الأبصار، ولا تمثله الأفكار، لك الحمد والثناء، ومنك المنع والعطاء، ولك الجود والبقاء، فسبحان من بيده ملكوت كل شيءٍ وإليه تُرجعون.»
قال ابن سودكين راويًا عن شيخه: «رأيت الحلَّاج في هذا التجلي، فقلت له يا حلَّاج: هل تصح عندك عِلِّية له وأشرت، فتبسم وقال لي: أتريد قول القائل: يا علَّة العلل، ويا قديم لم يزل؟ قلت له نعم. قال: هذه قولةُ جاهلٍ، اعلم أن الله تعالى يخلق العلل وليس بعلةٍ، كيف يقبل العلِّية من كان ولا شيءَ معه، وأوجد من لا شيء، وهو الآن كما كان، ولا شيء جلَّ وتعالى!
لو كان علةً لارتبط، ولو ارتبط لم يصح له الكمال، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا! قلت له هكذا أعرفه. قال: هكذا ينبغي أن يُعرف فاثبت.»
ويقول الحلَّاج واصفًا للمتحققين بالله في وجدهم: «إن لله عبادًا اختارهم من خلقه، واصطفاهم لنفسه، وانتخبهم لسرِّه، وأطلعهم على لطيف حكمته، ومخزون علمه، أفناهم عن أوصافهم الناشئة عن طبائعهم، ولم يردهم إلى علومهم المستخرجة بحكم عقولهم، ولم يحوجهم من المرسوم من حكمة الحكماء، بل كان هو لسانهم الذي به ينطقون، وبصرهم الذي به يبصرون، وأسماعهم التي بها يسمعون، وأيديهم التي بها يبطشون، وقلوبهم التي بها يتفكرون.
بان عن حلولٍ في ذواتهم، فأبدى الأشياءَ فيما بينه وبينهم، قهر كل موجودٍ، وغمر كل محدودٍ، وأفنى كل معهودٍ، ظهر لأهل صفوته، ولم يجعل للعلم إلى كيفية ذلك سبيلًا، ولا إلى بحث ذلك تمثيلًا.»
ومن الكلم الطيب الذي يصعد في معارج النور إلى مقام الإلهام قول الحلَّاج: «مَن عرفه ما وصفه، ومن وصفه ما عرفه، عنت الوجوه لعظمة كبريائه في أرضه وسمائه، وأنست قلوب أوليائه بشهود جلاله وجماله وبهائه، وكَلَّتِ المقاول عن شكر آلائه وأفضاله ونعمائه، وقصرت المعارف عن ذاته وصفاته وأسمائه، وحارت العقول في نزوله وارتفاعه واستوائه!
فقومٌ جحدوا وألحدوا، وقومٌ أشركوا وعددوا، وقومٌ أنكروا الصفات فعطلوا وبطلوا، وقومٌ أثبتوها ولكن شبهوا وشكوا.
ولم يُصب شاكلة الحق إلا من آمن بالذات والصفات، وكفر باللات والآلات، ولازم التوحيد والتنزيه، وأثبت الصفة ونفى التعطيل والتشبيه.»
صلته القوية بالله
وغشى مع الحلَّاج خطواتٌ في آفاقه الذوقية، وفي مواجيده وحبه للذات الإلهية، وفي تلك المجالات الروحية التي ابتدعها حول صلات العبد الولي المختار، بمفيض الوجود ومبدعه وملهمه.
وصلة الحلَّاج بالله سبحانه، تدور على قطبين: الحب الواله القوي الغلاب المذهل، والفناء في هذا الحب فناءً شاملًا يذوب فيه كل شيءٍ ماديٍّ دنيويٍّ ويحترق ليخلد.
ثم مرحلة السير في هذا الحب، ومجالات هذا السير الروحية، بما فيها من إلهاماتٍ وتجلياتٍ، ومواجيدَ وأشواقٍ وحيرةٍ ودهشةٍ وعذابٍ.
والمحب هنا في عذابٍ ملهمٍ، يُعذب في بحثه عن مولاه، ويُعذب في حبه له، ويُعذب في حيرته حيال جبروته وآياته.
والعذاب في الحب الإلهي أكبر خيرٍ يفيضه الله سبحانه على عبده ووليه المحبوب.
وإن لله سبحانه لنظراتٍ وإشراقاتٍ وزياراتٍ للقلب المحب المعذَّب المحترق، زيارات تَهَبُ ولهًا مقدَّسًا، يعقبه هجران يدفع إلى دهشةٍ محلقةٍ.
ومن كل هذه الانفعالات تنبثق مواجيد المعرفة العليا، وتسبيحات الولاية العظمى، وينبثق فوق هذا وذاك في قلب المحب، فيضٌ إلهيُّ يعبر عن الإرادات الإلهية، ويقتبس من نورها وهداها.
وروح المحب الولي، هو وحده الذي يظفر بهذا الحب الإلهي، لا عن طريق الحلول التحيزي، بل بوساطة الفيض النوراني الذي يرفع أرواح الأولياء المحبين إلى المراتب القدسية.
وخلال هذا الفيض أو هذا الاتصال، تحدث الجذبة الروحية التي تصورها لنا تلك المناجاة المشعة المستمرة بين روح المحب ومحبوبه الأسمى الذي تشعر بوجوده في أعماقها.
وحينئذٍ تتوالى ضراعات الروح وترتفع إلى مولاها بكل آلامها وآمالها وأشواقها في لغةٍ فوق لغة الألسن، وفي تصويرٍ لا يمت إلى العلائق الدنيوية بصلةٍ أو نسبٍ.
يقول الحلَّاج: «اعلم أن العبد إذا وحَّد ربه فقد أثبت نفسه، ومن أثبت نفسه فقد أتى بالشرك الخفي، وإنما الله تعالى هو الذي وحَّد نفسه على لسان من يشاء من خلقه، وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللهَ رَمَىٰ.»
والذين لا يستطيعون متابعة مثل هذا الروح في عروجه وسلوكه وحبه وعذابه وتجربته، لا يستطيعون أن ينكروا أنها محاولةٌ في المعرفة الذوقية، وفي الحب والإيمان اليقيني، ليست أقل شأنًا في تاريخ العقل الإنساني من مسلك الفلاسفة، ومنهج المتكلمين.
يقول الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي: «إذا كان وجود الخالق ووجود المخلوق واحدًا، فلا معنى لقيام حوار العشق بينه وبين الله.»
وهذه آية الآيات على نفي الوحدة، ونفي الحلول في منهج الحب الإلهي الصوفي.
والحلَّاج من أكبر من تغنوا بالحب الإلهي، ولعله أكبرهم عاطفةً، وأشدهم وجدًا وولهًا.
يقول الحلَّاج: «إن المسافة بين النفس وبين الله تتوقف في مقدارها على صفة العشق الإلهي.»
ويقول: «إن شهادة الحمد هي شهادة حبٍّ، وإن القلب الذي يعرف الحب لا يموت أبدًا.»
إن عذاب الحلَّاج في حبه، وفي صلته بربه لتقدم لنا أروع نماذج الإيمان الصوفي.
لقد عاش الحلَّاج في وجدٍ وعذابٍ، وفي سبحةٍ علويةٍ من إلهامات حبه وشوقه وذوقه.
وإنها لمواجيد حقٍّ وصدقٍ، وإن عجزت عنها فهوم الأكابر.
والوجد والعذاب فيضٌ ربانيٌّ على المصطفين الأحبة؛ ولهذا فهو لا يصطنع في وجده ما يلهبه ويثيره من سماعٍ أو ذكرٍ كما يصطنع غيره:
وكل شيءٍ في الوجود مادي أو معنوي، هو حجابٌ دون رؤية الله سبحانه، يجب الفناء عنها، كما يجب أن يفنى الإنسان عن نفسه أيضًا.
إن تجربة الحلَّاج الصوفية في المعرفة الإلهية لتجربةٌ فذةٌ عليها طابعه وحده، لقد شارك الصوفية في مواجيدهم وأذواقهم، ثم ابتدع منهجًا خاصًّا به هو سره الأكبر، لقد جعل من الآلام شيئًا مقصودًا لذاته.
يقول ابن الخطيب، في تاريخ بغداد: «إن ابن عطاء لما سمع هذا الشعر قال: هذا مما يتزايد به عذاب الشغف، وهيام الكلف، واحتراق الأسف، وشغف الحب، فإذا صفا ووفا، علا إلى مشربٍ عذبٍ، وهطل من الحق دائم سكب.»
والحب لذةٌ لا يعرفها إلا الصفوة من المحبين.
ونحن ندنو رويدًا من فلسفة الحلَّاج العليا في الحب الإلهي.
إنه كما يقول المستشرق دي بور يحاول أن يتذوق بروحه ما يحاول المتكلمون والفلاسفة أن يصلوا إليه بالنظر العقلي.
وإنه للحب العالي، الحب الذي تعجز الكلمات عن تصويره أو كما يقول سحنون لا يعبر عن شيءٍ إلا هو أرق منه، ولا شيء أرق من المحبة فيما يعبر عنها.
يقول الحلَّاج:
ومن الكلم المضيء الذي يكشف عن منهج الحلَّاج وإيمانه الذوقي، تلك الدراسة التحليلية الرائعة التي أدارها الحلَّاج حول كيفية معرفة الإنسان لربه وخالقه.
ومن قال: عرفته حين جهلته، فالجهل حجابٌ، والمعرفة وراء الحجاب لا حقيقة لها.
ومن قال: عرفته بالاسم، فالاسم لا يُفارق المسمَّى؛ لأنه ليس بمخلوقٍ.
ومن قال: عرفته به فقد أشار إلى معروفين؟ ومن قال: عرفته بصفته، فقد اكتفى بالصنع دون الصانع، ومن قال: عرفته بالعجز عن معرفته فالعاجز منقطع، والمنقطع كيف يدرك المعروف!
ومن قال: كما عرفني عرفته، فقد أشار إلى العلم فرجع إلى المعلوم، والمعلوم يفارق الذات، ومن فارق الذات كيف يدرك الذات!
ومن قال: عرفته كما وصف نفسه، فقد قنع بالخبر دون الأثر.
ومن قال: عرفته على حدين، فالمعروف شيءٌ واحدٌ لا يتحيز ولا يتبعض.
ومن قال: المعروف عرف نفسه فقد أقر بأن العارف في البين متكلفٌ به؛ لأن المعروف لم يزل كان عارفًا بنفسه، يا عجبًا ممن لا يعرف شعرةً من بدنه، كيف تنبت سوداء، أم بيضاء، كيف يعرف مكون الأشياء!
من لا يعرف المجمل والمفصل، ولا يعرف الآخر والأول، والتصاريف والعلل، والحقائق والحيل، لا تصح له معرفة من لم يزل.
سبحان من حجبهم بالاسم والرسم والوسم! حجبهم بالقال والحال والكمال والجلال، عن الذي لم يزل ولا يزال.
القلب مضغةٌ جوفانيةٌ، فالمعرفة لا تستقر فيها؛ لأنها ربانيةٌ.
من قال: عرفته على الحقيقة، فقد جعل وجوده أعظم من وجود المعروف؛ لأن من عرف شيئًا على الحقيقة فقد صار أقوى من معروفه حين عرفه.
ويقول الحلَّاج عن الخواص العارفين: «فالخواصُّ عباده الذين محاهم عن شواهدهم، وصانهم عن أسباب الفرقة، باستهلاكهم في شهوده، واستغراقهم في وجوده، فأيُّ سبيلٍ للشيطان إليهم! وأيُّ يدٍ للعدو عليهم! ومن أشهده الحق حقائق التوحيد، ورأى العالَم معترفًا في ثقة التقدير، لم يكن نهبًا للأغيار، فمتى يكون للغير عليه تسلطٌ!»
الحلَّاج وأعلام التصوف في عصره
ومن صلة الحلَّاج بالله، تكونت فلسفته الذوقية والإيمانية، التي عُرفت في التاريخ بالحلَّاجية، تلك الفلسفة التي طبعت التصوف في عصره الذهبي — عصر الحلَّاج — بطابعها، والتي غدت كما يقول نيكلسون الراية التي تأتم بها العصور التي تعاقبت من بعده، والتي جعلت رجال الفكر الأوروبي، يطلقون على الحلَّاج لقب «المفتي» في الأمور الصوفية، كما يقول العلامة ليبنتر.
ومن صلة الحلَّاج بالله، انبثقت شخصية الحلَّاج، تلك الشخصية التي تلاقت فيها، العملاقية الجبارة الرهيبة، بالروحانية المشعة الحبيبة.
تلك الشخصية التي تشكلت وخطت في التصوف الإسلامي أروع آياته، وأخلد مواقفه.
وشخصية الحلَّاج عندي من ألغاز التاريخ، ومن مواقف العقول.
فهي شخصيةٌ في ملامحها العقلية والإيمانية عمقٌ يندفع جبارًا إلى أغوارٍ، ليس من السهل على الباحث أن يلاحقها في اندفاعها، وأن يتابعها في مسالكها.
وفي آفاقها الذوقية والخلقية، انفساح وشمول، تقصر أجنحة الدارسين عن الدنو منها، والإمساك بآثارها.
إن الحلَّاج يفهمه القلب، أكثر مما يحيط به العقل، ويدركه الحس، ويدنو منه الوجدان، أكثر مما يحلله الفكر والبيان.
إنه في حاجةٍ إلى أن نرتفع بأذواقنا ومواجيدنا، وأن نتلمس بأرواحنا وأشواقنا، الطريق الذي نطل من نوافذه على أسرار ذلك الروح الكبير، الذي حاول في عظمةٍ شاهقةٍ، أن يكون صورةَ الولي الكامل المعبر عن الله.
والذي حاول في بطولةٍ خارقةٍ، أن يكون الشهيد الذي يكتب بدمه آية الفداء لحبه وعقيدته.
الشهيد الذي وقف على آلةٍ صلبةٍ، يتحدى الدنيا فلما قُطعت أعضاؤه، وتدفق دمه، أخذ يتوضأ بهذا الدم، فلما سُئل ماذا تفعل، قال: «ركعتان في العشق لا يصح وضوؤهما إلا بالدم.»
ولسنا هنا بصدد تحليل تلك الشخصية الخارقة، فلهذا مكانه من تلك الدراسة.
وإنما نقدم لمحاتٍ، ترشد وتومئ إلى شخصية الحلَّاج، وتلقي شعاعًا من الضوء على أسرارها.
وتلك اللمحات التي نقصدها، هي موقف أعلام التصوف الإسلامي في عصر الحلَّاج من الحلَّاج، وموقف الحلَّاج منهم.
ومع هذا كله، فإن عددًا من أعلام التصوف الإسلامي في عصره، قد خاصمه ولم يناصره في أهدافه وصيحاته، ولم يسانده في محنته واستشهاده.
لقد جاء الحلَّاج ليضيف جديدًا إلى التصوف الإسلامي، في صلته بالله، وفي صلاته بالحياة.
لقد جاء الحلَّاج لا ليكون صورةً مكررةً من الناس أو العلماء، أو سطورًا متلألئة في كتب التاريخ بجانب السطور التي خطها المفكرون أو العابدون.
جاء ليكون كتابًا وأمةً، جاء ليقيم منهجًا، ويرسم طريقًا، ويفتح أفقًا، ويجعل من نفسه بعد هذا، صورةً صادقةً معبرةً وقائمةً بمنهجه وطريقه وأفقه.
جاء ليصنع من تاريخه معالمَ وصورًا، تهتدي بها الإنسانية، في سيرها المضيء إلى الله، وفي جهادها العنيف للكمال والتسامي.
كان الحلَّاج ينشد في المعرفة، أن يظفر الصوفي، بحظٍّ من الفيض الإلهي، ليعبر دائمًا عن الإرادة الإلهية.
فإذا عبر عنها ارتفع إلى أفقها وقداستها، فأصبح قوله، صورة إيمانه في دنياه ودينه.
ومن هنا جاءت عظمة العقيدة الحلَّاجية، التي أخذت كل شيءٍ بقوةٍ وعزمٍ وبقداسةٍ، ولم تقبل أبدًا، تساهلًا، أو ترددًا، أو تقيةً.
يقول الحلَّاج: «الواجب على أولياء الله، أن يتوجهوا إلى الله وحده، ويتحققوا بمعنى العبودية الكاملة، ويطيعوا أمره مهما كلفهم ذلك، من عنتٍ وشقاءٍ.»
والولاية عند الحلَّاج: تبلغ كمالها عن طريق الابتلاء، واحتمال الألم، وتبلغ جلالها، بالجهاد والتضحية.
فالصوفي المحب، هو الذي وهب نفسه لله، وصبر على ابتلائه في دنياه، صبره على امتحانه في حبه وإيمانه.
يقول الكلاباذي: (١) سمعت بعض مشايخنا يقول: سمعت محمد بن سعدان يقول: «خدمت أبا المغيث — الحلَّاج — عشرين سنةً، فما رأيته أسف على شيءٍ فاته، أو طلب شيئًا فقده.»
ويقول: (٢) وكان أبو المغيث لا يستند ولا ينام على جنبه، وكان يقوم الليل، وإذا غلبته عينه، قعد ووضع جبينه على ركبتيه، فيغفو غفوةً، فقيل له: ارفق بنفسك! فقال: «والله ما رفق الرفيق بي رفقًا فرحت به، أما سمعت سيد المرسلين يقول: أشد الناس بلاءً، الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل.»
ويقول: (٣) سمعت بعض أصحابنا، يقول: سمعت بعض الكبراء — الحلَّاج — يقول: «ربما أغفو غفوةً وأنادي: أتنام عني؟ إن نِمتَ عني، لأضربنك بالسياط.»
والصوفي المحب لله، هو الذي يقوم بكلمات الله في الأرض، مجاهدًا مناضلًا مضحيًا بكل شيءٍ، حتى تعلو كلمة الحق. وتمشي الإنسانية، على الصراط المستقيم.
إن المحبة هي التضحية وهي الجهاد، والصوفي المحب لله، هو من كانت كلماته صورة في عمله في الدين والدنيا.
ومن هنا لم يكن زهد البسطامي، ولا تقية الجنيد، ولا سلبية المكي، ولا تردد الشبلي، مما يرضى عنه الحلَّاج.
لقد ثار الحلَّاج في عنفٍ، وفي قداسة، على ولاة عهده، وفساد عصره.
كما ثار في عنفٍ وقداسةٍ، على السلبية الزاهدة التي عاشها كبار المتصوفة من معاصريه، الذين قنعوا بعبادة الله وحبه، غير ناظرين إلى واجباتهم حيال خلقه.
لقد عاب الحلَّاج على أبي يزيد البسطامي زهده العنيف الذي اتخذه طريقًا للوصول وقنع به، فالوسيلة هنا ليست هي الأداة الكاملة، وليست هي غاية التصوف أو سبيله.
إن الصوم والصلاة ليست طرقًا موصلةً إلى الله، بذاتها، كما أن الذكر لا يعتبر وسيلةً تفرض النتيجة على الله سبحانه.
إنما هو الحب، الحب الذي يقربنا إلى الله، الحب تحترق فيه شهواتنا ونزواتنا وأرضيتنا، الحب الذي يزورنا الله خلال لهيبِ وجده، ويمد يده إلينا ويباركنا ويلهمنا، الحب مع التضحية الكاملة، ومع القيام الكامل بحق الله علينا في عبادته، وبحق الله علينا حيال عباده.
ويروي لنا علي بن أنجب الساعي، عن أبي محمد الجسري، المعاصر للحلَّاج، قصةً تاريخيةً، تعطينا صورةً عن خصومات الحلَّاج مع صوفية عصره، وكيف بدأت تلك الخصومات.
عن أبي محمد الجسري قال: «رأيت الجنيد ينكر على الحلَّاج، وكذلك عمرُو بن عثمان المكي وأبو يعقوب النهروجوري، وعلي بن سهل الأصبهاني، ومحمد بن داود الأصبهاني.
أما أبو يعقوب فقد رجع عن إنكاره في آخر عمره، وأما عمرو بن عثمان، فكان علة إنكاره أن الحلَّاج دخل مكة ولقي عمرًا، فلما دخل عليه قال له: الفتى من أين؟ فقال الحلَّاج: لو كانت رؤيتك بالله لرأيت كل شيءٍ مكانه، فإن الله تعالى يرى كل شيءٍ، فخجل عمرو وغضب عليه، ولم يظهر وحشته حتى مضت مدةٌ، ثم أشاع عنه أنه قال: يمكنني أن أتكلم بمثل هذا القرآن!
وأما علي بن سهل فدخل الحلَّاج أصفهان وكان علي بن سهل مقبولًا عند أهلها، فأخذ علي بن سهل يتكلم في المعرفة، فقال الحسين بن منصور: يا دسوقي تتكلم في المعرفة وأنا حيٌّ؟ فقال علي بن سهل: هذا زنديقٌ!
وأما الجنيد، فكنت عنده، إذ دخل شاب حسن الوجه والمنظر وعليه قميصان، وجلس سويعةً، ثم قال للجنيد: ما الذي يصد الخلق عن رسوم الطبيعة؟ فقال الجنيد: أرى في كلامك فضولًا! أي خشبة تفسدها.
فخرج الشاب حزينًا وخرجتُ على أثره، وقلت: رجلٌ غريبٌ قد أوحشه الشيخ، فدخل المقابر، وقعد في زاويةٍ، ووضع رأسه على ركبتيه.
فأتيت الشاب وجلست بين يديه ألاطفه وأداريه، ثم قلت: الفتى من أين؟ قال من بيضاء فارس، إلَّا أنني ربيت بالبصرة.
فاعتذرت لديه للجنيد، فقال: ليس له إلا الشيخوخة، وإنما منزلة الرجال تُعطى، ولا تُتعاطى …»
ثم تغلظ هذه الخصومة، كلما اندفع الحلَّاج إلى الثورة على فساد عصره، وإلى الدعوة إلى حكومة الأولياء والأقطاب كما كان يسميها الحلَّاج.
وأخذ الحلَّاج في عنفٍ وفي قداسةٍ يتحدى أعلام المتصوفة في عصره.
إنه رجلٌ عقيدته صورة قوله، فلا مجاملة عنده فيما يعتقد أنه الحق.
روى الكلاباذي في التعرف: «أن الحلَّاج حفر حفرةً وأوقد فيها النار ووضع هاوون حتى صار كالجمر، وقال لمن يجادله من الصوفية، ومن كبار العارفين: «من كان صادقًا بالله فليتقدم ويقف على الهاوون داخل النار، فلم يقدر على ذلك أحد.»
ثم أنه تقدم ووقف عليه فذاب تحت أقدامه، حتى صار كالماء.»
إنها السلبية عند غيره، والإيجابية عنده، قال الشبلي: «كنت أنا والحسين بن منصور شيئًا واحدًا إلا أنه أظهر وكتمت.»
والإيجابية الحلَّاجية التي تجعل الحلَّاج يدخل مسجد بغداد وأبو القاسم الجنيد يتكلم على المنبر، والجنيد هو الجنيد مكانةً وعلمًا.
يقول الحلَّاج في عزة الواثق في نفسه: من تكلم عن غير معناه، فقد تحمر في دعواه، ثم تلا قوله تعالى: كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا.
لقد حمل الحلَّاج أمانة الرسالة الصوفية كاملةً، ولم يستطع ذلك غيره، أو كما يقول ماسنيون: «لقد عاش في صوفيته تمامًا.»
ويكثر تحدي الحلَّاج للجنيد خاصةً، إنه سيد الطائفة، وفي يده القيادة والزعامة، فيوجه إليه يومًا سؤالًا متعمدًا هادفًا عن قيمة الإلهام الباطني، بوصف أنه قاعدةٌ من قواعد التقوى والعبادة. ويرفض الجنيد الإجابة، ويكرر الحلَّاج السؤال، فيسميه الجنيد برجُل المطامع، ويضحك الحلَّاج ساخرًا!
وابتدأ الصراع بين الرجلين العظيمين، ورددت محافل بغداد ومساجدها، صدى هذا الصراع العنيف، وابتدأ الجنيد يهاجم الحلَّاج جهرةً، في غضبٍ، وفي تطرفٍ، ويرميه بالسحر والشعوذة!
ويمضي الحلَّاج في تحديه للجنيد، وتعقبه في مساجد بغداد، يطالبه بأن يخرج من سلبيته إلى إيجابية الدعوة الصوفية، فما يملك الجنيد في لحظة غضب، إلا أن يرمي بنبوءته الصادقة … ستقتل!
ويضحك الحلَّاج، ويعقب بنبوءةٍ أخرى صادقةٍ أيضًا … نعم، وستمضي على قتلي!
رجلان عظيمان، لكلٍّ منهما عقيدته ومنهجه، ولكنهما اختلفا، ولو اتفقا لتغير وجه التاريخ.