الزعيم الثائر
وكما اصطدم الحلَّاج بالجنيد ومدرسته، اصطدامًا أساسه الاختلاف الجذري في فهم رسالة التصوف عامةً، وصلة التصوف بالحياة خاصةً، أخذ أيضًا يصطدم ويصارع كافة القوى التي تهيمن على بغداد، اصطدامًا وصراعًا أساسه الاختلاف الجذري أيضًا في فهم رسالة الإصلاح السياسي والاجتماعي للعالم الإسلامي.
لقد دخل الحلَّاج بغداد في نهاية عام ٢٩٦ﻫ، بعد أن طوف بمشارق الأرض ومغاربها، يبذر بذور مذهبه، ويدعو الناس إلى ربه، ويملأ آفاق الأرض، بألحان حبه، ومواجيد قلبه، دخلها وهي تمر بأيامٍ حاسمةٍ في تاريخها، وفي تاريخ الأمة الإسلامية كافةً.
لقد وصلت بغداد في نهاية القرن الثالث الهجري إلى المرحلة التي يسميها الفيلسوف اشبنلجر البرزخ الفاصل، بين قمة الحضارة، وبداية التحلل والانحدار.
فقد حُملت إلى بغداد كنوز الأرض وخراجها، وتدفقت إليها ثروات الدنيا ومتاعها، وهرع إليها أصحاب العقول والقلوب والمطامع والأهواء من كل لونٍ وجنسٍ وملةٍ ونحلةٍ!
وتدفق إليها سيلٌ لا ينقطع، من الجواري والإماء والعبيد والمغامرين، والمنجمين والمارقين والمبتدعين، وصناع النزوات والشهوات.
وأخذت الصلابة العربية تتهاوى، وأخذت الفكرة الإسلامية تلين وتتوارى.
وانطلقت بغداد وقد غدت عاصمة الدنيا تتبرج وتتزين وتعب من كل لذةٍ، وتقتات بكل شهوةٍ، وتبتدع ألوانًا من التفكير، وفنونًا من القول، لا تعرف القيود ولا الحدود!
وأسرفت بغداد على نفسها في الترف وفي الشهوات، إسرافًا قتل فيها الحيوية الخلَّاقة، ونال من الشخصية الإسلامية المؤمنة المهتدية، التي صنعت التاريخ المضيء لهذا الكوكب.
وأسرفت بغداد على نفسها في السفح الفلسفي، وفي الابتداع المذهبي، وفي الجدل العقلي، حتى أصبحت أنديتها أروقةً للسفسطة والحوار، وغدت مساجدها ساحاتٍ للعراك والقتال بين الحنابلة والأشاعرة والمعتزلة، والصوفية والمنجمين والسحرة والفلاسفة، فتمزقت وحدتها الفكرية، وانحلت أخوتها القلبية، وتبددت ثروتها الأخلاقية!
وأسرفت بغداد على نفسها في السياسة، فنجمت الأحزاب والشيع والفرق، مقنعةً وسافرةً، عربيةً وأعجميةً، مؤمنةً وملحدةً، ثائرةً ورجعيةً!
أحزابٌ للعسكرية التركية المغامرة تثير الفتن والقلاقل، وأحزابٌ للفرس والشيعة تتربص بالخلافة الدوائر، وأحزابٌ للرجعية الدينية تثير الشغب والقتال في الطرقات والمساجد، وأحزابٌ للرأسمالية الاحتكارية تمتص الحياة والدماء، وأحزابٌ للقصر تهيمن عليها الجواري والإماء.
وفي القمة من هذا المجتمع العجيب، الخليفة المقتدر، صبيٌّ ملتاثٌ عربيدٌ، يقول عنه المؤرخ الكبير الطبري وهو معاصرٌ له: «وأما المقتدر فرقيقٌ ركيكٌ، لاهٍ بما هو فيه من اللعب والسرف والتبذير، أحب جاريةً روميةً حسناء، أسلمها الدولة وأهدى لها فصًّا من الياقوت بثلاثمائة ألف دينارٍ.»
ويقول المؤرخ ابن الأثير: «كان المقتدر الطفل الخليفة، لا هم له إلا أن يلهو في قصره بين عشرة آلاف خصيٍّ من الصقالبة والجواري والغلمان.
ومن فوق هذا الخليفة الطفل، والدته السيدة شغب التي أحالت الملك العريض إلى ألعوبةٍ في يدها، وبلغ من نفوذها واستهتارها، أن أمرت قهرمانتها أم موسى أن تجلس في مجلس القضاء للمظالم، ومن نفوذ هذه القهرمانة، أنها كانت تصدر أوامر المصادرات وإحصاء الأموال والتركات.»
ويقول الدميري في كتاب الحيوان: «وانطلقت الألسن في المقتدر وأمه ووزرائه وعمَّاله وقضاته، وكثر السبي والقتل، ودخل المنجمون والمتخرصون على الرؤساء والنساء، وقعد الدجالون للناس في الطرقات.»
ومن قلب هذه الحياة المتداعية، وعلى القمم العالية، من هذه التيارات المتصارعة، تجلَّت شخصية الحلَّاج، بما أُفيض عليها من جاذبيةٍ ومغناطيسيةٍ، وبما تملك من قوىً خارقةٍ أسطوريةٍ، وبما ترقرق حولها من بريق الروح وسناء الإيمان، وبما تمثله من بطولةٍ فدائيةٍ لا تلين ولا تهادن، وبما تقدم للناس من منهجٍ متكاملٍ، للدين والدنيا.
كانت شخصيةً تملأ عين من يراها سحرًا، وتملأ قلب من يشاهدها إجلالًا، وتملك فوق هذا وذاك قدرة الإيحاء الذي يطلق الأمل الحي في قلوب الدعاة المؤمنين، ويرسم الغد الجميل للقانطين واليائسين.
كان الحلَّاج يبشر بمنهجٍ فيه بريق التصوف وروحانيته وإشراقه، وفيه أهداف السياسة الإيجابية البناءة.
كما كان يقول المستشرق ماسنيون يهدف إلى قيام خلافةٍ ليس بينها وبين الجمهور نفورٌ سياسيٌّ، ويعمل كي يزيل من شعوب الدولة ما بينها من نفورٍ اجتماعيٍّ، ويزيل ما بين الفِرَقِ من نفورٍ دينيٍّ، ويحطم ما بين الطبقات من تفاوتٍ ماديٍّ.
منهجٌ إيجابيٌّ للإصلاح السياسي والاجتماعي، يظلله ويدعمه منهجٌ روحيٌّ، قوامه الدعوة إلى حكومة الأتقياء الأولياء الذين يملئون الأرض عدلًا وقسطًا، ويملئون القلوب إيمانًا وحبًّا، الحكومة الربانية المهتدية التي ستعيد عهد حكومة الرسول، بكل ما فيها من عدلٍ وقوةٍ، ومحبةٍ وعبادةٍ.
أو كما يقول الحلَّاج: «خلافةٌ ربانيةٌ تشعر بمسئوليتها أمام الله، مما يجعل الله يرضى عن قيام المسلمين بفروض دينهم، من صيامٍ وصلاةٍ، وحجٍّ وزكاةٍ.»
وبذلك يربط الحلَّاج بين صلاح الحكم، وقبول الله سبحانه للعبادة من عباده المؤمنين.
فلن يقبل الله عبادة عابدٍ، تحت ظل حكمٍ فاسدٍ — كما يقول — وأولياء الله حقًّا في منهجه، هم الذين يحملون أمانة الرسل في الإصلاح العام، وهم الذين يقودون الإنسانية إلى الله، وإن واجبهم أن يُستشهدوا، أو ينتصروا.
ذلك إيمان الحلَّاج، وتلك دعوته، التي انبثقت منها صيحته الكبرى ذات الرنين الخلاب.
صيحة الخلافة، التي يتولى القيادة فيها والزعامة، القطب الولي الأكبر، الذي له خلافة الظاهر والباطن، القطب الزعيم الذي ارتبط قلبه بالله، فقام به وتلقى عنه، القطب الذي يمشي على خطو الأنبياء ومنهجهم، ويحقق بأعماله رسالتهم.
القطب الذي سيقود العالم الإسلامي، بل الإنسانية كافةً، إلى معارج الكمال القرآني، وآفاق الحب الإلهي، فيصبح الإنسان جديرًا بخلافة الله.
تلك هي الخطوط الرئيسية لمنهج الحلَّاج، الذي دوى في سماء بغداد، فأطلق العواصف المرعدة، وأثار المعارك الملتهبة، وانقسم الناس حياله، كما يقول المستشرق نيكلسون إلى حلَّاجيةٍ، وخصومٍ للحلاجية.
يقول ماسنيون: «إن الحلَّاج أحيا بمنهجه هذا، وبحميته الثائرة، وبشخصيته الباهرة، الآمال العريضة، والأحلام الجميلة، التي كانت تعيش في أعماق الأمة الإسلامية، فالتفَّتْ حوله الجماهير، واندفع في تياره كثيرٌ من الأمراء والوزراء والقادة.»
وفي الناحية الأخرى، أحاطت بالحلَّاج الأحقاد والخصومات العنيفة الملتهبة، لقد جاء ليزلزل نظامًا، ويحطم حكمًا، ويحارب فسادًا شامخًا، وينتزع من الزعامات الفكرية والروحية مكانًا سامقًا!
لقد لقبه الإمام الجنيد من أجل هذا المنهج برَجُل المطامع، وهي كلمةٌ لها معناها ودلالتها وهدفها.
يقول الإصطخري: «إن كثيرًا من علية القوم رأوا حينئذٍ في الحلَّاج أنه الرئيس القطب.»
الرئيس القطب رجل المطامع، الذي ينشد الخلافة لنفسه، إن هذا وحده يكفل للحلَّاج عداوةً شامخةً مريرةً، من كافة القوى المنتفعة بالخلافة، وما يحيط بها وما يدور في فلكها.
وزاد من عنف المعركة، أن الحلَّاج كان بطبيعته المؤمنة الثائرة، مهاجمًا قاسيًا عنيفًا، لا يعرف المهادنة ولا يعترف بالتقية، ولا يرضى بأنصاف الحلول.
هاجم الشيعة وطالب بعزلهم عن الخراج، وإبعادهم عن بيت المال، لقد أرهقوا الناس، وأفسدوا الضمائر، واختلسوا الأموال، واحتكروا الأرزاق.
وهاجم المعتزلة؛ لأنهم حصروا أنفسهم في قوالب فلسفية، وأهملوا دعوة الإصلاح والحرية.
وحارب الوزراء الذين تخرجوا من المدارس النسطورية، وكانوا من أصولٍ نصرانيةٍ، كابن وهب، وابن نوبخت؛ لأن في قلوبهم بقية ملحدة تحارب الإسلام، ولا تؤمن بدعوته.
وهاجم الخلافة وأحزابها وقوادها وحجابها، لقد غَرِقُوا في الترف، وأسرفوا في المجون، وأشاعوا الفساد، واستبدوا بالعباد، وانحرفوا عن رسالة الإسلام!
وأخذ الحلَّاج يدعم معركته برسائلَ سياسيةٍ، تحدث فيها عن منهجه في الإصلاح العام، وأوضح بها واجبات الوزراء، وحقوق الرعية، كما تحدث فيها عن الخلافة الربانية، وما يجب أن يتوافر لها من شروط.
وهي رسائل لا تزال مخطوطةً متفرقةً في مكتبات العالم، بما تشتمل عليه من تصويرٍ رائعٍ لمرحلةٍ من أخطر المراحل الفكرية في تاريخ الأمة الإسلامية.
لقد تحدث الحلَّاج في هذه الرسائل عن الحرية الفردية، وعن الحقوق الاجتماعية، وعن المثالية الخلقية، كما تحدث عن السياسة المالية في الخراج والضرائب، وعن سياسة الحكم وتبعاته وأهدافه.
وبذلك سبق الحلَّاجُ بمنهجه الذي يمكن أن نسميه بالاشتراكية الديموقراطية الدينية، كافةَ الدعاة العالميين إلى هذا اللون المنهجي في الإصلاح الاجتماعي.
ومن أشهر هذه الرسائل، الرسائل الثلاث التي أهداها إلى أصدقائه من الوزراء، حسين بن حمدان، وابن عيسى، ونصر القشوري.
ثورة ابن المعتز
وعلى دوي كلمات الحلَّاج المزلزلة، أخذت العناصر الثائرة، الطامعة في الخلافة من بني العباس، ترفع رأسها، وتدبر أمرها، وتطمع في أن تثب في عنان هذه الحملة الحلَّاجية على عرش الخلافة لتنتزعه لنفسها.
وكان ابن المعتز الشاعر العباسي الكبير، من أبناء الخلفاء، وكان يرى أنه أحق بالخلافة من المقتدر.
وكان يلوذ به طائفةٌ قويةٌ من أبناء البيت العباسي، غضبوا من المقتدر ورأوا في مجونه ولهوه وتهالكه، وهيمنة النساء عليه نذيرًا يعرِّض البيتَ العباسي بأسره للزوال والفناء.
ورأى أدباء بغداد وشعراؤها في ابن المعتز، زميلًا شاعرًا أديبًا، فطافوا به، ومشوا في ركابه، واحتضنوا دعوته.
كما رأى الحنابلة المتعصبون المتزمتون في ابن المعتز، متنفسًا لحقدهم على الخليفة، الطفل العابث، فأسرعوا إلى ابن المعتز يحيطونه بهالةٍ من قداسة الدين وبريقه.
وأخذ بعض تلاميذ الحلَّاج من الوزراء والقواد ينضمون إلى ابن المعتز سرًّا، لقد رأوا في حركته سبيلًا قد يحقق لأستاذهم ما يدعو إليه، ويبشر به، وكان أكبر هؤلاء التلاميذ الأمير الحسين بن حمدان الذي تولَّى القيادة العسكرية للثورة.
ويرى ماسنيون: أن الحلَّاج كان الزعيم الروحي لحركة ابن المعتز، والقائد الحقيقي لثورته.
يقول ماسنيون: «وأدار الحلَّاج دعوته من وراء الحجب وفي سنة (٢٩٦ﻫ / ٩٠٨م) انفجرت المؤامرة الإصلاحية، وقامت خلافةٌ تحت رعاية الحلَّاج، تولاها ابن المعتز، ولكنها استمرت يومًا واحدًا ثم فشلت؛ لأنها لم تستطع الحصول على الأموال من الممولين اليهود في القصر، وقد كانوا متواطئين مع عمال الخراج الشيعة.
فأعيدت الخلافة إلى المقتدر، بمساعدة الشرطة، وابن الفرات، الذي تولى الوزارة وكان أول أمرٍ أصدره هو القبض على الحلَّاج وأتباعه.
ونجا الحلَّاج من القبض، واختفى لدى الحنابلة، ببلدة — سوس — من الأهواز.
وبعد ثلاث سنواتٍ من اختفائه، وبخيانة عامل مدينة واسط — حامد — قُبض على الحلَّاج وجيء به إلى بغداد، حيث ابتدأت قضيته العالمية.»
ولكن الحلَّاج نجا مما أُعدَّ له، لقد كانت له مكانةٌ شعبيةٌ تحميه وتعصمه من غضب الخليفة، وكان له أنصاره الأقوياء من الأمراء والوزراء ومن كبار رجال القصر.
أنصارٌ استطاعوا أن ينتزعوا من الخليفة المقتدر، أمرًا بالعفو عن الحلَّاج، وأن يكتفي بتحديد إقامته بدار حاجب الخليفة نصر القشوري تلميذ الحلَّاج المخلص.
الحلَّاج في قصر الخليفة
ثم أُطلقت حرية الحلَّاج كاملةً، فعاد إلى منهجه ورسالته، يقول ابنه أحمد كما يروي صاحب «تاريخ بغداد»: «إن والده وقع له عند الناس قبولٌ عظيمٌ، حتى حسده جميع من في وقته.
ثم بنى دارًا في بغداد واتخذ له عقارًا، ودعا الناس إلى فكرته فأجابه الخلق.
وخرج عليه محمد بن داود الظاهري، وجماعةٌ من أهل العلم وقبحوا صورته.
وكلمة أحمد بن الحلَّاج تصور لنا تلك الحقبة من حياة الحلَّاج تصويرًا دقيقًا.
لقد واصل دعوته بتلك الحمية الثائرة التي أُثرت عنه، فأجابه الخلق، كما ثارت حوله الخصومات والعداوات من جديدٍ.
فخاصمه أول ما خاصمه ابن داود الظاهري، الفقيه الجامد المتعصب ومن يلوذ به من الفقهاء خصوم الحياة الروحية بكافة صورها وألوانها، وأخذوا ينشرون الشائعات حول الحلَّاج وعقيدته ودعوته.
ومن الناحية السياسية، خاصمه الوزير علي بن عيسى، خصومةً سياسيةً، من أجل نصر القشوري حاجب الخليفة، وخصمه السياسي.
وفجأةً حدث تحولٌ بعيدُ المدى في حياة الحلَّاج ودعوته، بل بعيدُ المدى في تاريخه ومأساته.
وجاء الحلَّاج فوضع يده على الموضع الذي كانت العلة فيه، وقرأ عليه فاتفق أن زالت العلة.
ثم يقول: «ولحق والدة المقتدر بالله، مثل تلك العلة وفعل بها ذلك فزال ما وجدته، فقام للحلَّاج بذلك سوقٌ في الدار، وعند والدة المقتدر والخدم والحاشية.»
ويقول عريب القرطبي في كتابه «صلة تاريخ الطبري»: «أحيا الحلَّاج ببغاء ولي العهد الراضي محمد بن جعفر المقتدر، فأحدث ذلك دويًّا في القصر وفي بغداد.»
ويحدثنا صاحب «تاريخ بغداد» حديثًا عجبًا عن الحلَّاج الذي أقام في قصر الخليفة، بأمر الخليفة، وكيف غدا صاحب الكلمة الأولى في القصر، ثم يقول: «وكانت بنت السمري صاحب الحلَّاج قد أُدخلت إليه، وأقامت عنده في دار السلطان.»
أي إن الحلَّاج قد انتقل بأسرته وخدمه ومعارفه إلى دار الخلافة.
أصبح الحلَّاج سيدًا مطاعًا مرهوبًا، عالي المكانة، مسموع الصوت، في قصر الخليفة.
وغدت والدة الخليفة المقتدر، السيدة شغب بسلطانها وجلالها ونفوذها، من أخلص تلاميذ الحلَّاج المؤمنين به، المدافعين عنه.
ومشى كثيرٌ من الوزراء والقواد والأمراء في موكبه، وحفوا به في مجالسه، واعتنقوا منهجه، إما عن اقتناعٍ به، وإما افتتانًا بشخصيته الساحرة، وإما تزلفًا وتقربًا لرجلٍ، أصبحت الأسرة الحاكمة ترعاه وتجله، وتؤمن به وتقدره.
وامتلأ قصر الخليفة الكبير، بالحديث عن كراماته وآياته، وما تصنع يداه من عجائب وغرائب، تكاد ترتفع فوق الكرامات والآيات.
وأسرف الناس كعادتهم في هذا الحديث، ولونوه ووشَّوه، وأضافوا إليه وزادوا فيه، حتى غدا الحلَّاج أكثر من أسطورةٍ، وأكبر من وليٍّ، في أفق بغداد، وسماء العراق.
وملأت الهمسات الملونة، أندية بغداد ومساجدها، وفقد خصوم الحلَّاج أعصابهم، فقد رأوا غريمهم، يرتفع شاهقًا فوق هاماتهم، فراحوا يملئون الدنيا صياحًا غاضبًا مجنونًا، حول الحلَّاج، الدعي الساحر الدجال حينًا، وحينًا تتناول الصيحات المرعدة، عقيدته الإيمانية، فترميه وتصفه، بالكفر والفسوق، والاتحاد والحلول!
والحلَّاج في آفاقه بعيدًا بعيدًا عن هذا الدوي، لقد ملكت عليه رسالته الإصلاحية أقطار تفكيره، وملك عليه حبه لربه، وجدانه وقلبه، فراح يجاهد في الميدانَيْن، بما أُثِرَ عنه من حماسٍ ملتهبٍ، وبما عُرف به من عزماتٍ لا تلين.
ولكن الذي كان يمزق قلب الحلَّاج حقًّا، ويملأه بالأسى المرير هو موقف أحبابه وأساتذته وتلاميذه من الصوفية، من أبناء مدرسة الجنيد، لقد حاربوه في رسالته، وبارزوه العداوة في منهجه، وسلقوه بألسنة حداد في حبه وإيمانه.
وهذا الموقف العدائي من الإمام الجنيد ومدرسته، قد أرَّقه وأهمه، وحرق قلبه، ونرى أثر هذا الموقف في الكلمات الباكية الحزينة، التي أخذت تترى على لسان الحلَّاج، في مواجيده وابتهالاته.
لقد أخذت تتسلل إلى قلبه شيئًا فشيئًا، فكرة الاستشهاد في سبيل حبه، وفي سبيل عقيدته.
لقد آمن من قبل بأن الوجد والعذاب في الحب، هما معراجه إلى الوصول والقرب، واليوم أخذ يؤمن بأن الاستشهاد هو طريقه إلى النصر، النصر الشامخ المتلألأ لفكرته ومنهجه.
إن استشهاده في سبيلهما، لهو صورة إيمانه، وآية صدقه، وصراط قربه، وعلامة قبوله عند ربه.
بل لقد راح في نشوةٍ روحيةٍ عاليةٍ، يتنبأ بمصرعه، ويرى مشاهد هذا المصرع، جليةً مبينةً.
فلما أحسَّ بي، قعد مستويًا وقال: ادخل ولا عليك، فدخلت وجلست بين يديه، فإذا عيناه كشعلتي نارٍ، ثم قال: يا بني، إن بعض الناس يشهدون عليَّ بالكفر، وبعضهم يشهدون لي بالولاية! فقلت: يا شيخ، ولمَ ذلك؟ فقال: لأن الذين يشهدون عليَّ بالكفر تعصبًا لدينهم، ومن تعصب لدينه، أحب إلى الله ممن أحسن الظن بأحدٍ، ثم قال لي: وكيف أنت يا إبراهيم حين تراني، وقد صُلبت وقُتلت وأُحرقت، وذلك أسعد يومٍ من أيام عمري جميعه؟ ثم قال لي: لا تجلس واخرج في أمان الله.»
فلما كان يوم صلبه بعد ثلاث عشرة سنةٍ، نظر إليَّ من رأس الجذع وقال: يا أحمد، نُورِزْنا: فقلت: أيها الشيخ، هل أُتحفتَ؟ قال: بلى، أُتحفتُ بالكشف واليقين، وأنا مما أُتحفتُ به خجلٌ، غير أني تعجلت الفرح.»
ثم بكى حتى أخذ أهل السوق في البكاء.»
ولم يهنأ الحلَّاج طويلًا بمكانته في القصر، ولم تتحقق له الآمال الإصلاحية العريضة، التي راودته وهو يلج قصر الخليفة، لقد بدأت الدسائس والمؤامرات تحيط به وتواثبه، وتضيق حوله النطاق وتطارده!
لقد كان وجوده في قصر الخليفة، أمرًا مخالفًا لطبيعة الحياة، ولطبيعة المعركة التي يقودها.
فهو بإيمانه ورسالته، يختلف اختلافًا جذريًّا عن سكان القصور، وهو بخلقه ونسكه ومبادئه، يختلف اختلافًا منهجيًّا عن الطبقة الأرستقراطية الحاكمة.
وكان الاصطدام حتمًا مقضيًّا بين الحلَّاج وبين الحاشية، لقد رأى بعض الوزراء والقواد والأمراء، أن مكانتهم قد تزلزلت، ورأى المستغلون والمنتفعون والمرتشون، وأرباب النزوات والأهواء والشهوات، الذين هيمنوا على الخليفة في الماضي، أن رأس مالهم الأكبر قد طار من أيديهم.
وانضم إلى هؤلاء وهؤلاء، السياسيون المحترفون من خصوم السيدة شغب أم الخليفة، وخصوم نصر القشوري الحاجب، وهما أكبر أنصار الحلَّاج، وأخلص تلاميذه.
وفي رجال القصر براعةٌ في الدس والنفاق، وكفاءةٌ في التلوين والتآمر وهم تاريخيًّا أقدر الناس على هذا الضرب من الحياة، وأبرعهم فيه.
يقول المستشرق نيكلسون: «لقد ضاق كبار رجال الدولة بنفوذ الحلَّاج وصيحاته وشعبيته الحارة، التي تهدد بثورةٍ تطيح بهم وبنفوذهم.»
وابتدأت الحاشية تهمس في براعةٍ قادرةٍ مدربةٍ في أذن الخليفة، بأن الحلَّاج يُعِدُّ العدة لضربته الكبرى، الضربة التي ستطيح بالخليفة، ليتولى هو الأمر من بعده!
أليس هو صاحب نظرية القطب الزعيم الحاكم؟ أليس هو المنادي بحكومة الأقطاب والأولياء، التي يحبها الله ويرضى عنها؟
أليس يجمع حوله الكتاب والشعراء والصوفية ورجال الفكر، ومن وراء هؤلاء جميعًا جماهير بغداد، ثم أليس الحلَّاج هو الولي الأكبر، والمنقذ الأعظم عند هذه الجماهير؟!
وزاد الهمس في أذن الخليفة، وزادت الاتهامات وتضخمت، حتى أرعبت الخليفة، وأنسته نفسه، وأنسته صداقته للحلَّاج، واستضافته له.
وابتدأ الخليفة يضيق بالحلَّاج، ويعطي له وجهًا غير وجهه الأول، وابتدأ خصوم الحلَّاج في القصر يوسعون نطاق مؤامراتهم، ويمدون حبالهم إلى خارج القصر، ليشركوا معهم الخصوم التاريخيين للحلَّاج.
واستُدعي إلى القصر، المهرة المدربون على الهمسات والشائعات، ولكن مكانة الحلَّاج الشعبية كانت دائمًا تُرهب خصومه، وتنال من اندفاعهم، إن له لقداسةً وسحرًا لا يقاومان بين العامة.
ومن هنا ابتدأ التفكير في تحطيم هذه الهالة الشعبية، وتمزيق هذه القداسة الدينية.
وفكر رجال القصر وقدروا، ثم فكروا وقدروا، فاهتدوا إلى سلاحٍ تاريخيٍّ رهيبٍ، جُرب فأثبت صلاحيته وإيجابيته.
يجب أن يحارب الحلَّاج باسم الدين وبسلاحه، لقد شاد مكانته السابقة لدى الجماهير باسم الدين والقداسة الروحية، فيجب إذن أن يُحطَّم باسم الدين، وباسم الدفاع عن القداسة والمقدسات الروحية!
ومن ثم بدأت حملةٌ من أكبر حملات التزييف في التاريخ، حملةٌ انقلبت إلى عاصفةٍ لا تزال ريحها تدوي عبر القرون، تتهم الحلَّاج بالمروق والإلحاد، والحلول والاتحاد، وغير هذا وذاك من المسميات والنعوت!
وأخذ سيلٌ من الرسائل والكتب يتدفق من الأقلام المأجورة لمهاجمة الحلَّاج! وابتدأ الدسَّاسون يحرِّفون كَلِمَهُ عن مواضعه، وينسبون إليه ما لم يقله.
بل ابتدءوا يجمعون ويدربون الشهود الزور، الذين سَيَتَقَوَّلُونَ الإفك، ويشهدون على الحلَّاج يوم محاكمته.
ويقول نيكلسون: «لقد اشترك في المعركة ضد الحلَّاج مزيجٌ عجيبٌ من المرتشين والقوادين والزنادقة ومُسْتَغِلِّي النفوذ.»
ثم أخذت آفاق السياسة العامة للعراق تضطرب، وأخذت أحزابه تتصارع وتتقاتل، وعلى قمة هذا الصراع، بدأت محاكمة الحلَّاج ومأساته.