سرُّ المأساة!
ذلك مصرع الحلَّاج، وتلك مأساته! ويوم المصرع عندي هو نقطة الانطلاق في حياة الحلَّاج، وهو سر خلوده وسحره التاريخي.
وإن كانت آراء الحلَّاج قد اختلف الناس فيها وتجادلوا، وأطالوا الاختلاف والجدال، فإن بطولة الحلَّاج وثباته الأسطوري المعجز، وإيمانه الصامد الصاعد في يوم مصرعه ليرسم صورة بطولةٍ خالدةٍ متألقةٍ، أعلى من أن يتجادل الناس فيها أو يختلفوا.
ومن أراد أن يحلِّق حول شخصية الحلَّاج، ويلمس إيمانه وحبه، وعقيدته ورسالته، فليبحث عن هذه المعاني الشامخة في يوم مصرعه، وليلتمسها على آلة صلبه وعذابه.
إن هذه البطولة الخارقة، وهذا الثبات المعجز، وهذا الإيمان الأعلى، إنها مذاقاتٌ ومقاماتٌ، لا تفاض إلا على الصديقين والشهداء، من أصحاب المبادئ والرسالات.
إنها مواقف ليست من عقائد الأرض، ولا من شهواتها، إنها من إيمانيات السماء ووحيها.
وما كان لأبناء الدنيا، وأصحاب الهوى في آفاقها، أن يثبتوا ثبات الحلَّاج، وأن يصمدوا لما صمد له.
وما أحسب أن تاريخ البشرية، الطويل العريض، ضمَّ بين صحفه وأحداثه إيمانًا وثباتًا تحت هول العذاب الصاعق، كثبات الحلَّاج وصبره وفدائيته وبطولته.
إن يوم المصرع هو عنوان الحلَّاج وتاريخه، وعنده يلتمس علماء النفس، وأساتذة الفكر شخصية الحلَّاج ومقامه في أروقة الخالدين، من المجاهدين المؤمنين.
إن يوم المصرع هو يوم النصر للحلاج، ويوم الهزيمة الكبرى للخلافة العباسية، بكل ما تمثله وتصوره في تلك الحقبة من التاريخ.
لقد هزم الحلَّاج الخلافة العباسية، في حياته واستشهاده، وفي حركة التاريخ وضميره، من بعد حياته واستشهاده.
لقد حرقت جسده وأحالته رمادًا، ثم نثرت هذا الرماد في أقطار السماء، تريد له الفناء، فكتب له البقاء.
البقاء الحي أشد ما تكون الحياة، وأعصى ما تكون هذه الحياة على الزوال والفناء.
لقد أطلقت الخلافة حول سيرته سرادقًا من نارٍ ودخانٍ، ثم أطلقت المنادين يأمرون الناس أن يحرقوا آثاره، وأن لا يبيعوا كتبه، وأن يمحوها من الوجود، وأطلقت من وراء هذا وذاك الأقلام المأجورة تملأ كتب التاريخ إفكًا وزورًا.
وعجز كل هذا الدخان والضباب، والتزوير والافتراء، عن أن يحجب عن عين التاريخ وذاكرته وصحفه البرق المتلألئ من أسطورة البطل الشهيد، والسنا المتألق من تراث العارف المحب.
وإننا لنتبين قوة هذا الرجل، وحيويته الروحية، من الأثر العظيم الذي كان له في نفوس الأجيال التي أعقبته.»
لقد أعجز الحلَّاج الخلافة العباسية، حيًّا ومصلوبًا وشهيدًا، وأحدث أثرًا خالدًا في التاريخ، حتى التهم البغيضة الغليظة، التي قذفوا بها الحلَّاج يوم المحاكمة، أخذت تتساقط سطرًا فسطرًا، لتفسح الطريق لوجه الفجر الصادق، يمحو بنوره كل فجرٍ كاذبٍ، وكلَّ ادِّعاءٍ فاجرٍ؛ لتفسح الطريق للحقيقة، الكامنة وراء المأساة الدامية، فلم تكن الخلافة العباسية لتصب كل هذا الهول الفاجر على الحلَّاج، لشطحه الصوفي، أو لمروقه الإلحادي، أو لقوله — أنا الحق! كما حاولت أن تكرِه الشهود، وأن تكره القضاء، وأن تكره التاريخ على هذا البهتان والتزوير، بل صبت هذا الهول الغليظ الفاجر، دفاعًا عن نفسها، وعن وجودها، وعمَّا تمثله ويمثله وجودها، من شهواتٍ وفجورٍ، وفسادٍ واستغلالٍ، ومحاربةٍ للدين والإيمان.
كانت محاكمةً سياسيةً، وكان قتلًا سياسيًّا، لبس زورًا ثوبَ الدين، وتقنع كذبًا بقداسته وحمايته.
يقول المستشرق ماسنيون: «فلولا أن الحلَّاج قد زجَّ بنفسه في التيارات السياسية المضطربة في عصره، واتصل بالسياسة ورجالها، لما حدث له ما حدث، من تعذيبٍ وصلبٍ، وما كانت الاتهامات الدينية إلا اتهاماتٍ رسميةً؛ لتكون تكأةً يستند إليها السلطان.»
ولكن يظهر أن هذين الكتابين قد فُقدا مع الأسف، ولم ينل هذا الشرف — أعني تخصيص كتابٍ في حياة رجلٍ — إلا العدد القليل بين رجال الإسلام.»
وكما لمس رجال الاستشراق سرَّ المأساة الحلَّاجية، وأنها مأساةٌ سياسيةٌ لا دينيةٌ، لمس هذا السر أيضًا بعض رجال التاريخ الإسلامي، من قدامى ومحدثين، لمسوه رغم الجهود الهائلة التي بذلتها الخلافة العباسية، لتشويه تاريخه، وتزوير أحداثه، وتمزيق تراثه.
وأما صاحب «ظهر الإسلام»، فيفسح صفحاتٍ للمأساة، متهمًا الخلافة العباسية بالتزوير والافتراء.
ثم يقول: «ويظهر أن أكبر تهمةٍ وجِّهت إليه، هو أنه من شيعة أهل البيت، الذين يريدون أن ينحوا الخلفاء العباسيين ومن إليهم، ويوسعوا دائرة خلافة أهل البيت، فانتشرت دعوتهم في العراق وخراسان وجزيرة العرب وغير ذلك!»
ثم يقول: «فنعتقد أن هذا سرُّ قتله لا غير ذلك، فدعوةٌ كهذه تُقُضُّ مضاجع خلفاء بني العباس ووزرائهم، فلا يبعد أن يكون الخليفة العباسي ووزيره حامد قد رتبا هذه المؤامرة ضده، وزوروا الشهود، واستحثا القضاة على قتله، وإلا فما بالهم قد تركوا الصوفية الآخرين، كالجنيد، وأبي يزيد البسطامي، وذي النون المصري من غير قتلٍ، فهي مسألةٌ سياسيةٌ بحتةٌ، اتخذت شكلًا دينيًّا، لعلمهم أن الدين أفعل في الشعوب من السياسة.
فكم من صوفيةٍ ادَّعوا وحدة الوجود، فلم يُلتفت إليهم، وتُركوا وشأنهم!
ومما لفت عامة المسلمين إليه ما تواتر عن الحلَّاج من إتيانه بالأعاجيب، فيظهر أنه كان له قدرةٌ كبعض الأشخاص اليوم على استحضار ما يريده من الأشياء من أماكنها، كالذهب، والمسك، والفاكهة، وأنه كان له قدرةٌ على التنويم المغناطيسي، وقدرةٌ أخرى كيماويةٌ بهر الناس بها لجهلهم بالكيمياء.
وعلى العموم، فهو شخصيةٌ قويةٌ كشخصية ذي النون وأشد منها، كان له أثرٌ كبيرٌ في المسلمين.»
ذلك ضمير التاريخ، أو ذلك بعض ضميره.