الحلَّاج والحب الإلهي
مفتاح شخصية الحلَّاج هو حبه الإلهي، فهو سمته وطابعه، وهو الذي شكَّل ملامحه الروحية، وكوَّن معارفه الذوقية، وهو معراجه الذي صعد عليه، مستهدفًا الوصول إلى شيءٍ يدق على التعبير، ويسمو على التصور والتصوير، إلى الفناء في المحبوب الأسمى، فناءٌ يمنحه الخلود والبقاء، ويضفي عليه بهاء الرجل الإلهي.
عاش الحلَّاج بالحب وللحب، فهو قوته الروحي، وغذاؤه القلبي، وهو ملهب أشواقه، ومبدع مواجيده، ومطلق ألحانه، وهو أفقه الفسيح المتلألئ، الذي تترقرق فيه الأنوار، وتتجلى فيه الأسرار.
والحب هو التصوف، والتصوف هو الحب، ولقد حاول رجال المنهج الصوفي قديمًا وحديثًا أن يعرفوا التصوف، فابتدعوا وابتكروا كلماتٍ مضيئةً، تعبر عن الأخلاق، وعن الزهد، وعن التسامي، وعن العبادة، ولكنها عندي جميعًا إنما تعبر تعبيرًا جزئيًّا لا يصور المنهج الصوفي، ولا يحيط به.
فالتصوف في جوهره هو الصلة الدائمة اليقظة الحية بالله، هو محاولةٌ تجريبيةٌ لعودة الإنسان، بكل جزئيةٍ في كيانه الروحي، إلى مبدعه ومولاه.
هو إيقاظ عين القلب، لتتفتح بكل طاقاتها التي أودعها الله فيها، لتكون مبصرةً في عالم المشاهدة، فترى الله في كل شيءٍ، ومع كل شيءٍ، وقبل كل شيءٍ.
والصوفي في تجربته الكبرى مسافرٌ في ملكوت السماء والأرض، يسلك طريقًا روحيًّا تتوالى فيه وتتابع الأحوال والمقامات، بإلهاماتها وأذواقها ومعارفها، حتى يصل من المقام الأول، مقام التوبة، إلى المقام الأعلى، مقام الفناء بالله والبقاء به، ليغدو ربانيًّا سمعه بالله، وبصره بالله، وكل ما يصدر عنه، وينبثق منه، ويتحرك فيه، إنما هو لله وبالله.
وبراقه الصاعد، ومعراجه ودليله وهاديه في طريقه، هو حبه لربه، ذلك الحب الذي يحرق فيه كل ما هو ترابيٌّ، ليبقى كل ما هو روحيٌّ ربانيٌّ.
ذلك الحب الذي يغسل قلبه من الدنيا، ويطلق كنوز روحه العليا، ويمنحه مذاقات الأنس والقرب، وما إلى الأنس والقرب من هبات التجربة الصوفية وعطاياها.
ذلك الحب هو عنوان التصوف، وهو البذرة الأم، التي نمت منها أغصانه، وانبثق زهره، وأينع ثمره.
وقد جعل الصوفية من هذا الحب فلسفةً تحيط بكل شيءٍ في الكون، وتمتد أجنحتها إلى كل أفقٍ في الحياة.
فلسفةٌ تمسح من وجه الكون الكبير قناعه المادي، لتحيل الكون جميعه إلى أرواحٍ حساسةٍ عابدةٍ مسبحةٍ؛ لأنها بالحب خُلقت، وبالحب قامت، وبالحب تسبح وتهتف.
ثم تمشي إلى الأخلاق الإنسانية، فتنفخ فيها من روح الله، وتسمو بها إلى هداه ورضاه.
وعلى قدر محبة الصوفي لربه، تكون محبته لعباده ولكونه، بكل ما فيه، وبكل ما ينطوي عليه.
والحب الإلهي يضفي على الكون الجمال المطلق: الله نور السموات والأرض، ويضفي على أحداث الحياة الرضا، فكل شيءٍ جميلٍ؛ لأنه من قضاء الله، ومن إرادته، وقضاء الحبيب حبيبٌ.
والحب الإلهي هو المصدر الحقيقي الذي استمدت منه الموجودات وجودها، وهو سبيل المعرفة العليا، فإذا فنيت النفس عن أوصافها بالحب، انكشفت لها الأسرار، ورفعت عنها الأستار.
والحب الإلهي ليس شرعةً عامةً للناس جميعًا، إنما هو هبة الله للصفوة المختارة، التي سبق له منها الحسنى.
ويقول أبو القاسم الجنيد: «سألني السري السقطي يومًا عن المحبة؟ فقلت: هي الموافقة، وقال قومٌ: الإيثار، فأخذ السري جلدة ذراعه ومدها فلم تمتد! ثم قال: وعزته تعالى لو قلت: إن هذه الجلدة يبست على هذا العظم من محبته لصدقت، ثم غُشي عليه.»
والحب في منطق الصوفية هو أسمى العبادات وأزكاها، وهو معراج المعرفة، وبراق القرب، يقول فريد الدين العطار: «ما لم أتجه بقلبي إليك أعد صلاتي غير جديرةٍ بأن تعد صلاةً.»
ويقول الشبلي: «لأن تحس أنك واحدٌ مع الله خيرٌ من عبادة الناس جميعًا، من بدء الدنيا إلى غايتها.»
والحب الإلهي في التصوف الإسلامي يدين للحلاج دينًا كبيرًا، فقد ترك في المحبة وما يتصل بها، ويدور حولها ثروةً خصبةً حيةً غدت مادة الصوفية في هذا المنهج، ودستورهم المتلألئ في هذا الأفق.
بل يرى ماسنيون: أن الحلَّاج هو الشخصية الكاملة التي تمثل أصدق تمثيلٍ أسمى ما وصل إليه الحب الإلهي في التصوف الإسلامي.
كما استتبع كلامه في الحب الإلهي كلامًا آخر في — النور المحمدي — لأن من أحب الله فقد أحب حبيبه محمدًا، وانتهى به كلامه في الحب إلى القول بوحدة الأديان.
وهكذا ترك الحلَّاج في الحب الإلهي وما يتصل به ثروةً ضخمةً من بين منظومٍ ومنثورٍ.»
ويقول المستشرق بروان: «كان ظهور الحلَّاج إيذانًا ببدء مرحلةٍ جديدةٍ في التصوف الإسلامي، نثره وشعره على السواء، خاصةً في الحب الإلهي.»
ولا جدال في أن أخلد صفحات الحب الإلهي في التصوف الإسلامي هي الصفحات التي كتبها الحلَّاج نثرًا ونظمًا، كتبها بذوب قلبه، وبقطرات روحه، وبأشد حرقةٍ ووجدٍ، عُرفا عن محبٍّ أفنى وجوده وكيانه وروحه في محبوبه الأسمى.
يقول الحلَّاج: «حقيقة المحبة، قيامك مع محبوبك بخلع أوصافك والاتصال بأوصافه.»
لقد استهدف الحلَّاج بحبه الفناء الكامل، ليخرج من بشرية صفاته، إلى بهاء التحلي بأوصاف القدس الأعلى.
استهدف الارتفاع بالبشرية إلى مرتبة الحقيقة الربانية، التي يكمن وراء سترها المقدس سر الوجود، وسر الخلق.
فالخلق أصلًا برز من عالم الغيب بالحب، وخُلق بالحب، وتشكلت حقائقه وصفاته بالحب، ومن هنا أصبح الحب هو سرُّ الكون.
وبهذا الحب وحده يمكن الإنسان أن يتصل بالحقيقة العليا، وبالمعرفة العليا، وأخيرًا يمكنه به أن يحقق في ذاته الإنسان الكامل، الإنسان الذي يتخلى عن تُرَابِيَّتِه، ليتحلى ببهاء الرجل الرباني، الذي يعيش في فيضٍ من نور ربه وحبه.
يقول الحلَّاج: «كان الله قبل أن يخلق خلقه، يتحدث إلى نفسه في أحديته، حديثًا حمديًّا، وهو يتأمل روعة ماهيته، وتأمله لذاته في بساطةٍ هو الحب.
والحب في ماهيته هو ماهية الماهية، وهو فوق كل تشكلٍ بأشكال الصفات، وهكذا يحب الله ذاته في انفراده بحمد ذاته، ويتجلى في الحب.
وعن هذا التجلي الأول للحب، في المطلق الإلهي، ظهرت صفاته وأسماؤه.
وهذا ارتفاعٌ بالإنسان والإنسانية، تنبثق منه فلسفةٌ إيمانيةٌ ربانيةٌ، هي الفلسفة التي شكلت أبدع وأضوأ جوانب الحياة الروحية في تاريخ التصوف الإسلامي.
ومن هنا كانت نظرية الحلَّاج، التي اعتنقها الصوفية جميعًا، تلك النظرية التي جعلت الحب، والحب وحده هو المعراج الموصل لمعرفة الله.
يقول الحلَّاج: «لا سبيل إلى معرفة الله بالعلم، بل إن الحب هو الطريق إليها،؛ إذ ليست المعرفة الفكرية للقضاء الإلهي هي التي تقربنا من الله، بل إنما هو خضوع القلب للأمر الإلهي في كل لحظةٍ.»
ومن هنا يقول الحلَّاج: «ما من أحدٍ يعبد الله بفعلٍ يكون أحب إلى الله من حبه تعالى.»
وقد عبد الحلَّاج ربه سبحانه بهذا الحب، عبادةً حارةً مضيئةً أحاطت بحياته، وبثت فيها مذاقاتٍ وإلهاماتٍ، وعرضت على عين قلبه صورًا من التجليات والمشاهدات، جعلته في شوقه ووجده يحس إحساسًا روحيًّا بأنه مع من يحب، بل يحس إحساسًا لا شعوريًّا في حيرته وذهوله، أن بشريته قد احترقت وفنيت في هذا المحبوب الأسمى.
ثم يقول: «وليس هناك من شعرٍ صوفيٍّ أشد حرارةً، وأكثر بعدًا عن المادة من شعر الحلَّاج.»
لقد فنى الحلَّاج عن كلِّ شيءٍ، وأعرض عن كلِّ شيءٍ، واستغرقه حبه لربه، استغراقًا جعله يحس بأن هذا الحب قد ملأ وجوده وقلبه وروحه.
إنه ليحب بكل ذرةٍ من ذرات جسده، وبكل طاقةٍ من طاقات روحه، حتى لم يعد كيانه كله إلا حبًّا وتجليًّا لمولاه وحبيبه.
والحلَّاج لا يكتم حبه، فأطيب الحب وأعذبه ما سار الحديث به، وتناقلته الرواة.
وهو قلقٌ في حبه، تتقاذفه أمواج الوجد والشوق، إلى محيطاتٍ ليس لها شطٌّ.
والحلَّاج في حبه يخاطب محبوبه الأسمى مواجهةً، يقول ماسنيون: «إن أسلوب الحلَّاج في الحب أسلوبٌ مجردٌ من المظاهر المادية، فهو لا يستعمل الطريقة الرمزية — ليلى، لبنى — التي تتخذ شكلًا من أشكال الحب الدنيوي.»
ثم يوغل الحلَّاج في حبه، وفي قربه، وفي طاعته، وفي أنسه بربه، حتى يكون الله سبحانه بصره وسمعه، ويده وبدنه، فيهتف في نشوة وجده، وحرقة فنائه:
ويمشي خطواتٍ على لهيب وجده المقدس، معتزًّا فخورًا بتحليقاته التي عجزت عنها أجنحة المحبين من قبل.
لقد وسم الحب قلبه بميسم الشوق العنيف الجبار، حتى غاب عن شهود ذاته، لقد استغرقته أنوارٌ لا يرى معها سواها:
وحُب الحلَّاج هو كل آماله وأحلامه، هو دينه ودنياه، إنه حبُّ قلبٍ أبصر فعشق فاحترق.
ثم يقول مترنمًا:
ومن مناجاته:
ومن ألحانه:
ومن ترنيماته:
ومن مواجيده:
وفي لحظات يقظته الروحية يشرح لنا في أدق عبارةٍ، وأبين منطقٍ، حقائق كلماته، في سبحات نشوته، واحتراقات وجده، ولحظات فنائه عن ذاته.
إنها كلماتٌ من استغراقات المشاهدة، لا تقصد لذاتها، وإنما تعبر في لحظات التجلي عن فناء صفاتها في لهيب وجدها، فلا ترى في الكون إلا هو سبحانه.
ومنهج الحلَّاج في الحب هو العذاب لا اللذة، هو التضحية، التضحية الكاملة بالنفس، وهذه التضحية هي أسمى درجات الحب؛ لأنها أكبر الآيات على صدق المحب في حبه.
ثم يقول: «محبة العبد لله تعظيمٌ يحل الأسرار، فلا يستجيز تعظيم سواه، ومحبة الله للعبد هو أن يبليه فلا يصلح لغيره!»