مقام الفناء الصوفي وشبهات الاتحاد والحلول
وبالفناء يفقد الصوفية عالم الناس، ليعيشوا في عالمٍ آخر، هو عالم الجمال المطلق، والخير المطلق، والحق المطلق، وفي عالمهم هذا تُرفع الأستار عن الأسرار، وتتجلى لهم الحقائق، حق اليقين، وعين اليقين.
وهم في عالمهم هذا ليسوا على درجةٍ سواء، فمنهم من يشاهد الحبيب وهو في حالة رهبةٍ أو خشيةٍ، ومنهم من يشاهده وهو في حالة أنسٍ به، أو مناجاةٍ له.
وقد تزداد درجة القرب، ثم تزداد حتى يتحدث المحب عن الله بصيغة المتكلم، فقد غاب عن نفسه، وعن كونه، فلم يعد يرى إلا الأول والآخر والظاهر والباطن سبحانه، أو كما يقول الصوفية: يغدو الكلام إشارةً منه به إليه!
يقول معروف الكرخي: «إذا انفتحت عين بصيرة العارف، نامت عين بصره، فلا يرى إلا الله.»
ويقول الحلَّاج: «من أسكرته أنوار التوحيد، حجبته عن عبارة التجريد، بل من أسكرته أنوار التجريد، نطق عن حقائق التوحيد؛ لأن السكران هو الذي ينطق بكل مكتومٍ.»
ويقول شارح المواقف للنفري: «أقل علوم القرب — القرب من الله — أنك إذا نظرت إلى أي شخصٍ محسوسٍ أو معقولٍ، أو غير ذلك فسوف ترى الله فيه رؤيةً أبين من رؤية الشيء نفسه، والدرجات في ذلك متفاوتةٌ.
فبعض الصوفية يقولون: إنهم لا يرون شيئًا إلا ويرون الله قبله، وبعضهم يقول: إنهم لا يرون شيئًا إلا ويرون الله بعده، وآخرون يقولون: إنهم لا يرون شيئًا إلا ويرون الله معه، ويقول غيرهم: ما رأينا شيئًا غير الله.»
والفناء هو غاية الصوفية، ففيه يشربون رحيق الحب الأعلى، وينعمون فيه بمتعٍ ولذائذ روحيةٍ، تنسيهم دنياهم وأخراهم ووجودهم، وكلَّ شيءٍ سوى المحبوب الأعلى.
والفاني كما يقول الصوفية، لا يحس بما حوله، ولا يحس بنفسه، فقد فنى عمَّا سوى الله، ومن هنا جاء كلام الصوفية الذي لا يفهمه ولا يتذوقه سواهم، حينما يقولون في نشوة الفناء، ووقدة الحب، ليس في الوجود إلا الله.
ويصف أبو القاسم الجنيد الفناء: بأنه دخول صفات المحبوب على البدل من صفات المحب، أي التخلق بأخلاق الله وصفاته ليكون ربانيًّا.
والفناء كما يقول — الجامي — يتهيأ بجعل القلب واحدًا، وذلك بتطهيره وحبسه عن الاتصال بشيء خلا الله، سواءٌ في الإرادة أو العلم أو المعرفة، ورغبة الصوفي أو إرادته لا بدَّ أن تصرف صرفًا عن الأشياء جميعًا المرغوب فيها والمراد.
ولا بدَّ كذلك أن تطرد من خياله الواعي، كل موضوعات العلم والعرفان، ولا بدَّ أن توجه أفكاره جميعًا إلى الله لا غير، وألا يذكر معه غيره.
وبهذا ينبغي أن يفسر ما يقول الصوفية في الفناء، أنه ليس بموتٍ؛ لأن الذي يسمونه فانيًا يعيش على هذه الأرض، وليس هو حلول الله في الإنسان، كما في بعض النحل.»
وكما يقول العلامة ابن سبعين المرسي: «إن الفلاسفة الأقدمين رأوا أن الغاية المثلى هي التشبه بالله، بينما الصوفية يدأبون على الفناء في الله، وذلك بأن يكون الصوفي قابلًا لأن يدع السنن الإلهية تغمره وتفيض عليه، وأن يمحو انفعالات الحواس، ويظهر مشاعر الروح.»
والحلَّاج عند صوفية ما وراء النهر جميعًا، وعند الكثرة من رجال الاستشراق، أبرز وأقوى الشخصيت الصوفية التي عاشت هذا المقام، وتحققت به، وتذوقت إلهامه، وكشفت الأستار عن أسراره.
ثم يقول: «وهذه التجربة في تاريخ الرياضة الدينية في الإسلام، تجعل الإنسان كما قال الرسول يتخلق بأخلاق الله.
وقد عبر عنها بعباراتٍ، مثل: «أنا الحق» الحلَّاج، و«أنا الدهر» النبي محمد، و«أنا القرآن الناطق» علي بن أبي طالب.
وفي التصوف الإسلامي الرفيع ليس معنى أن إرادة الإنسان هي عين إرادة الله، أن النفس الإنسانية تمحو شخصيتها هي، بنوعٍ من الاستغراق في الذات غير المتناهية، بل الأحرى أن الذات غير المتناهية تدخل بين أحضان محبها المتناهي، وهي حياةٌ وقوةٌ لا حدَّ لها ولا عائق، تجعل الإنسان قادرًا على إقامة الصلوات آمنًا مطمئنًا، والرصاص يتساقط من حوله.»
لقد انتهت الرياضة الروحية الرفيعة بالصوفية، إلى مقام الفناء، وذاق الصوفية في هذا المقام بروق التجليات وأنوار الهبات، ثم تخلوا فيه عن إرادتهم ومشيئتهم وصفاتهم، ليفنوا في إرادة الله ومشيئته وصفاته، ثم ليتخلقوا بأخلاقه.
فخرجوا بذلك من نطاق البشرية الترابية، إلى أفق الربانية العلوية، التي تقوم بالله، وتتكلم بالله، وتتحرك بالله، ولا ترى في الكون سواه.
ومن هذا الأفق كانت كلماتهم التي عبرت عن الله سبحانه، بأنه الظاهر في كل شيءٍ، الباطن في كلِّ شيءٍ، فلا وجود للحقيقة لغيره.
ومن هذا المقام ومن أُفقه انطلقت الاتهامات المجنحة قديمًا وحديثًا، تحاول أن تحيل هذا المقام الروحي الإيماني إلى ما أسموه بالاتحاد والحلول حينًا، وإلى ما أسموه بوحدة الوجود أحيانًا.
وسر الاتهام هو عجز الأقلام المادية، مع علمها ومكانتها، عن تذوق فلسفة مقام الفناء.
إنها فلسفةٌ تنبع من السفر الصوفي الطويل، في الطريق المضيء الصاعد إلى الله.
وهي فلسفةٌ بُنيت على تذوقٍ، وعلى مشاهدةٍ، وعلى محبةٍ، فاستعصى فهمها على العقول، التي لم تتذوق، ولم تشهد ولم تحب.
يقول المستشرق نيكلسون: «إنه مقامٌ أعلن الذين تمرسوا به أنه فوق التعبير والتصوير، فهو غايةٌ لطريقٍ تتحرر فيه الروح شيئًا فشيئًا من كل ما هو غير ربانيٍّ، طريقٌ يتلاشى فيه الصوفي عن وجوده الحسي.»
ويقول العلامة الكلاباذي في التعرف: «مشاهدات القلوب، ومشاهدات الأسرار، لا يمكن العبارة عنها على التحقيق، بل تعلم بالمنازلات والمواجيد ولا يعرفها إلا من نازل تلك الأحوال.»
ويقول العلامة القوني في شرحه للتعرف: «إذا كمل انقطاع العبد إلى الله وفناؤه عن فعله، أصبح متحدثًا بلسان الحقيقة.»
ثم يقول: «وأكثر ما يقع في كلام هذه الطائفة من الإشارات، محمولٌ على هذا النوع من الاستعارات، ومن حملها على ظاهرها، أشكلت عليه معانيها، فأساء الظن بهم.
فأحيانًا يتكلمون بلسان الحقيقة، كقول الحلَّاج: أنا الحق، وكقول ابن الفارض:
وكقول الرسول — صلوات الله عليه — في حديث البخاري عن أبي هريرة: «ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا، ثم احتسبه، إلا الجنة.»
إنما قاله ﷺ حكايةً عن ربه، وإن لم يصرح به، وقال: وما منَّا إلا وله مقامٌ معلومٌ: فهذا على لسان الملائكة، وقال: وما نتنزل إلا بأمر ربك: فهذا على لسان جبريل، وهذا نوعٌ لطيفٌ حررت الكلام فيه في الإتقان، ومثال قول علي وفا:
فإن هذا قاله على لسان الحقيقة.»
ويقول الشيخ نجا في كتابه «كشف الأسرار»: «ذلك لأنه يشهدك تجلياته بسائر مخلوقاته، لكن بغير حلولٍ ولا مماسةٍ، ولا نوعٍ من أنواع التجسيم والتشبيه، كما وقع لسيدنا موسى في تجليه سبحانه على النار، التي رآها موسى عليه السلام في جانب الشجرة، حيث سمع النداء، إني أنا الله لا إله إلا أنا، فلم ينكر موسى عليه السلام تجليه سبحانه في النار، بل آمن وصدَّق.»
هنالك يصيح بأمثال تلك العبارة الوجدانية الإلهية المشهورة، التي قالها الحلَّاج: أنا الحق.»
ويقول الحلَّاج: «لا يستطيع أحدٌ أن يقول أنا على الحقيقة، إلا الله وحده.»
وإلى هذا أشار الحسين بن منصور الحلَّاج، حيث رأى الخواص يدور في الأسفار، فقال لي: ماذا أنت؟ فقال أدور في الأسفار لأصحح حالتي في التوكل. فقال الحسين: لقد أفنيت عمرك في عمران باطنك، فأين الفناء في التوحيد؟»
فكأن الخواص كان في تصحيح المقام الثالث، فطالبه بالمقام الرابع. ثم يقول الغزالي: «العارفون بعد العروج إلى سماء الحقيقة اتفقوا على أنهم لم يروا في الوجود إلا الواحد الحق، ولكن منهم من كان له هذه الحالة عرفانًا علميًّا، ومنهم من صار له ذوقًا وحالًا، وانتفت عنهم الكثرة بالكلية، واستغرقوا بالفردانية المحضة، فلم يبق عندهم إلا الله، فسكروا سكرًا وقع دونه سلطان عقولهم، فقال بعضهم: أنا الحق، وقال الآخر: سبحاني ما أعظم شأني، وقال الآخر: ما في الجبة إلا الله، وكلام العشاق في حال السكر يطوى ولا يحكى.»
ويفيض الغزالي في شرح الآية الكريمة، وفي شرح معنى القيومية، ثم يقول: «فمن حقق من الصوفية، وعلم وقوف الأشياء عليه، وأن الأمور لا قوام لها دونه قال: ما في الجبة إلا الله، وقال: أنا الحق، مبالغةً في التوحيد.»
ومن عجبٍ أن ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وهما علما السنَّة، يتحدثان عن مقام الفناء حديثًا يتفق ويتسق تمامًا مع المنهج الصوفي، بألحانه ومواجيده وتعبيراته.
وينشدون:
وهذه الحال تعرض لكثيرٍ من السالكين. ثم يقول: وأما قول الشاعر في شعره:
وقوله:
فهذا إنما أراد به الشاعر الاتحاد الوضعي، كاتحاد أحد المتحابين بالآخر، الذي يحب أحدهما ما يحب الآخر، ويبغض ما يبغضه، ويقول مثل ما يقول، ويفعل مثل ما يفعل، وهو تشابه وتماثل، لا اتحاد العين بالعين، إذا كان قد استغرق في محبوبه، حتى فنى به عن رؤية نفسه، كقول الآخر:
ولم أجد في الدفاع عن الحلَّاج وتبرئته من تهمة الحلول والاتحاد أبلغ من كلام ابن تيمية خصم الصوفية الكبير.
من هذا المقام الذي جلاه لنا ابن تيمية كانت ألحان الحلَّاج.
ومواجيده التي عبَّر فيها عن صلته بالله، تعبيرات حارة ملتهبة، تضج بوجده، وتنبض بفناء ذاته، وتدندن بالقرب الذي يبيح له أن يتكلم بلسان الحقيقة، فيهتف:
ثم يعود إلى لسان بشريته فيترنم:
وما أصدق هذا اللحن وأروعه: