فذلكة في تاريخ القسطنطينية عاصمة الخلافة الكبرى
من هي القسطنطينية
القسطنطينية: هي المدينة الكبرى عاصمة المملكة العثمانية، وتخت الخلافة العظمى، أسسها بيزنس، رئيس الماغريين قبل التاريخ المسيحي بألف ومائتي سنة، ودعيت بزنتية نسبة إليه، وكانت فيما غبر القرية الأولى بين تعداد قرى طراشيا التي هي الآن قسم من بلاد الروم إيلي. وقد ملكها داريوس الأول أحد ملوك الفرس عام ٥٢١ قبل المسيح، وجعلها نزهة للعين في حسن الرونق والانتظام، وعقيب وفاته التي وقعت سنة ٤٨٥ق.م استولى عليها أهل يونياس من شعب هالان — وهو جنس يوناني قديم العهد يسبق ظهور المسيح بخمسة عشر جيلًا — وبعد ذلك اغتنمها الملك أكسرخوس الأول، وهو الخامس من ملوك الفرس قبل المسيح من ٤٧٢ إلى ٤٨٥.
ثم خلفه في امتلاكها أهالي مدينة سبارط من بلاد الموره — وهي قاعدة بلاد لاكونيا — ولم يطل زمن امتلاكهم لها حتى انتزعها من أيديهم أهالي مدينة أثينا التي أسسها شيكروب المصري عام ١٦٤٣ قبل المسيح، وبعد ذلك بمدة طويلة استقلت القسطنطينية، وعظمت قواها البحرية حتى صارت من أعظم المدن منعة واقتدارًا؛ فتطاولت إليها أطماع الملوك وحصرها فيليب، ملك مكدونيا — وهو والد إسكندر الكبير المدعو الملك فيليب الثاني الكبير ابن أمنيتاس ثامن ملوك مكدونيا — فلم يستطع امتلاكها. ولما انتشبت الحرب بين الرومان وملك البنطس، ساعدهم أهالي القسطنطينية في ميادين المعركة إلى أن فازوا بالنصر. وفي سنة ١٩٣ب.م دخلت القسطنطينية تحت إمرة القائد الروماني المدعو بسنيوس فيجار، وفي عهده حاصرها نحو ٣ سنين الملك سبتيم سافار، أحد ملوك الرومانيين، فدخلها بعد حرب عنيفة وعاجلها بالدمار. ولم يتجدد بناؤها إلا على عهد الملك كركللَّا، ابن الملك سبتيم، الذي أقيم ملكًا عليها سنة ٢١١ب.م، غير أن رونقها البهيج لم يعاودها إلا في زمن قسطنطين، ملك الرومانيين الذي أكمل ترميمها في الجيل الرابع سنة ٣٣٠ب.م، وسميت القسطنطينية باسمه. وهو قسطنطين الأول الملقب بالكبير، ابن الملك قسطنطين من زوجته الملكة هيلانة. ولد عام ٢٧٤ب.م، وتوفي عام ٣٣٧ عن ثلاثة أولاد؛ وهم: قسطنطين وقسطنسوس وقسطان. ولقبها فروق؛ لأن فيها تفرقت القياصرة غربًا وشرقًا. وأقام بها وتملك على الرومانيين في الشرق، ثم جعلها تخت قيصاريته، فصارت كرسيًّا لملوك الشرق، وما لبثت أن فاقت على رومية التي كانت وقتئذٍ في مقدمة المدن بعظيم بنائها، ووفرة شعبها، وكثرة ثروتها، واتساع تجارتها.
وفي عام ٤١٣ب.م مادت بها الأرض في الطول والعرض، وحدثت فيها زلزلة هائلة فدكتها وصيَّرتها قاعًا صفصفًا، فجدد بناءها الملك تاودوسيوس الثاني، وفي عام ٨٥٧ حدثت فيها أيضًا زلزلة فدمرتها ثانية، فجدد بناءها عام ٨٥٨ قبيلة يونانية من مدينة أركوس، ثم تواترت عليها دهمات الملوك، وعاودتها الحروب، وأغارت عليها الدول من التتار والأعجام وأهل البلغار والصليبية وغيرهم حتى حل بها الخراب المرة بعد الأخرى؛ ففي سنة ٥٩٣ حاصرتها القبائل غير المتحدة من التتار، فلم يتمكنوا من الاستيلاء عليها، وفي عام ٦٢٥ حاصرها الفرس، ومن سنة ٦٧١ إلى سنة ٦٧٨ حاصرها العرب الذين أغاروا على إسبانيا، وفي عام ٧٥٥ حاصرها البلغار، وفي عام ٨٦٦ حاصرها شعب يُدعى فاريك — وهو نورماندي جاء من بلاد ناروج — ثم عقبه الصليبيون واستولوا عليها سنة ١٢٠٣، وأقاموا عليها ملكًا هو ألكسيس الرابع ابن إسحاق، الملقب بألكسيس الصغير — وكان عمه ألكسيس الملك قد طرد أباه إسحاق وأودعه السجن سنة ١١٩٥، فأنجاه منه ولده ألكسيس الرابع وجعل له حظًّا في الملك، ولما علم بذلك ألكسيس الملك تعاصى على أخيه إسحاق وانتزع من يده الملك عام ١١٩٥، وما فات من مدة ملكه زمن طويل حتى جاهر بعدوانه ابن أخيه ألكسيس الصغير وخلعه من الملك عام ١٢٠٣، وتربَّع مكانه مدة ستة أشهر — ثم خلعه ديكاي مرتزقل المدعو ألكسيس الخامس بعد أن أماته خنقًا، وفي أيامه عاد الصليبيون ثانية إلى القسطنطينية، وأسسوا فيها المملكة اللاتينية، ثم قلبوا ديكاي عن منصة الحكم وولَّوا مكانه «بدوان»، أمير مقاطعة قديمة في فرنسا تدعى فلاندر، وهذا الأمير كان قائدًا لجيش الصليبيين. وفي عام ١٢٦١ حضر الملك ميخائيل بالولوغوس الثامن، ملك مدينة نيس، واستولى على القسطنطينية بغتة. وهذا الملك هو مِن أوجه العائلات في الشرق. تولى الملك في مدينة نيسا من أعمال الأناضول، وتوفي عام ١٢٨٢ بينما كان يجهز جيوشًا ليسوقها إلى فتح طراشيا. ثم هجم على إسلامبول مرارًا عديدة السلطان أورخان سنة ١٣٣٧ والسلطان بايزيد والسلطان مراد الأول. أما السلطان أورخان فقد أخذ عدة مدن عنوة، من جملتها مدينة نيسا، وذلك عام ١٣٢٣، وسلب ما في ضواحي الآستانة عام ١٣٣٧، وسنَّ شرايع المملكة، ورتَّب القوانين. أما السلطان مراد الأول فقد أتم تحصين المملكة عام ١٣٦٢، وأحدث طريقة الإنكشارية. وقد استولت على الآستانة دولتُنا العلية، وانتزعتها من الدولة الرومانية في التاسع والعشرين من شهر مايو عام ١٤٥٣، الموافق لليوم العشرين من جمادى الأولى سنة ٨٥٧ﻫ، تحت راية السلطان محمد الثاني الملقب بالفاتح.
ويدعوها الأتراك ﺑ «إسلامبول»، وهي من أحسن مدن العالم موقعًا، وأجملها مركزًا، كائنة على خليج البحر الأسود، ومُشادَة على سبع تلال من أطراف أوروبا، يفصلها عن آسيا مضيق من البحر عرضه نحو ميل، وهو معروف بالبوغاز، وتبعد عن باريس عاصمة الفرنسيس ٦٦٠ ميلًا، وعن ويانه عاصمة النمسا ٢٧٥ ميلًا، وعن سان بطرسبورج عاصمة بلاد الروس ٤٧٥ ميلًا، يحيطها من جهة الشمال ثلاثة أسوار قديمة، ومن بقية الجهات: البحر. عدد سكانها قد جاوز المليون ونصف، الثلثان منهم إسلام، والباقي نصارى ويهود. وتنقسم باعتبار وضعها إلى أربعة أقسام؛ الأول: هو المدينة الكبيرة القديمة، والثاني: غلطه، والثالث: البوغاز، والرابع: إسكودار. أما المدينة الكبيرة فهي ذات الأبنية العظيمة، والقصور الشاهقة، والقشال الواسعة، وفيها الجوامع العظيمة، التي تنطح السماك، ذات المنارات البديعة المصفحة من النحاس المذهب. وأشهر هذه الجوامع جامع أجيا صوفيا، الذي كان كنيسة عظيمة أيام النصارى بناها المعلم أنتيموس إلى الملك قسطنطين في بحر ثماني سنوات، وهي من أحسن الأبنية القديمة. وقد كان لها قبة عظيمة أخربتها الزلزلة، ثم صار تجديدها فلم تأتِ كما كانت من حيث ارتفاعها وحسن استدارتها واستوائها، ولأجل زيادة تمكينها وضع تحتها بين العضائد الكبيرة عدة من أعمدة الصب القديمة المصرية، وعقدت عليها قناطر تعتمد عليها القبة، وفي هذه القبة ٢٤ شباكًا ينفذ منها الضوء إلى الداخل، ويليها قبتان لطيفتان وست قبب صغار.
وإسلامبول بعيدة عن الوصف، كساها مركزها الطبيعي الهيبة والوقار، وأكسبها البهجة وحسن الرونق، فإنها واقعة على خليج البحر الأسود وبين بحر مرمرا، وكائنة بين أوروبا وآسيا على البوغاز الذي يصل بحر مرمرا بالبحر الأسود. أما بحر مرمرا فيصله بوغاز الدردانيل ببحر جزائر الروم والبحر المتوسط، ويفصل المدينة عن آسيا مضيق من البحر عرضه نحو ميل، له منظر يشرح الصدر، ويبهج الناظر، وهي ممتدة على لسان في البحر مثلث الزوايا موقعه على الشاطئ الغربي من مدخل البوغاز الجنوبي المعروف بالبوسفور، وفي الجانب الشمالي من المدينة فرع من البوغاز يدعى القرن الذهبي، وهو المعروف بالميناء، التي عند آخرها محل يقصده الناس للترويض يدعى كاغد خانة، كائن بالقرب من الترسخانة في بقعة خضراء طولها نصف ميل تجري إليها المياه العذبة في قناة تكتنفها أشجار الحور والسرو والزيزفون وغير ذلك. وفي هذه الروضة قصر للانشراح تحيط به حديقة غَنَّاء مطرزة بأشكال الزهور والرياحين، بناها الطيب الذكر السلطان أحمد الثالث عام ١٧٢٤، وفي تلك القناة يتدفق الماء زلالًا، وفي وسطها حاجز تنفجر المياه بالقرب منه، وتصب في ثلاثة مجارٍ مرصوفة بالصدف حتى تنتهي إلى بركة عليها حوض من النحاس الأصفر، وعليه ثلاث حنفيات تجري المياه من أفواهها، وعلى ذاك الحاجز ثلاثة كشوك من الرخام الأبيض مُغَشَّاة بالنحاس المُموَّه بالذهب، ومن هناك تأخذ القناة في الضيق بالتتابع إلى أن تختلط مع ماء آخر. وهذا ما يُدعى القرن الذهبي؛ حيث تسير الزوارق حاملة رجالًا ونساء بقصد التنزه والانشراح في ذلك الوادي، ولا سيما يوم الجمعة.
ثم إن مرسى المينا لفي غاية الطمأنينة والسعة، ويفصلها مضيق من البحر طوله نحو ميلين، وعرضه نحو نصف ميل، وفيها ترسو السفن، وهي من أحسن مراسي الدنيا موقعًا وأمنًا، وعلى جانبها المحلات الخارجة عن المدينة، وهي المعروفة بالصوائح الخارجة الكبيرة، وهي بيريه وغلطه ومحلة الطوبخانة وقاسم باشا والفنار محلة الأروام. أما بيريه المشهورة باسم بك أوغلي، فهي محلة الإفرنج واقعة في الجهة الشمالية، وبها مركز التجارة، ولا يقطنها إلا الوجوه من الغرباء؛ كقناصل الدول ونحوهم، وبها كنائس الإفرنج والأرمن والمطابع ومستشفيات الإفرنج والمدارس والمراسح والفنادق، وفي وسط هذه المحلة غلطه سراي، وهي مدرسة الطب التي احترقت عام ١٨٤٨ب.م، وأمامها محل تياترو واسع الأرجاء، متقن البناية، يقصده مشخصو الإفرنج من عواصم أوروبا.
وفي الآستانة عدة مدارس لنشر العلوم والفنون؛ منها: طبية، وأخرى حربية، ومكاتب للملاحين، وما ينوف عن خمسمائة وثلاثين مدرسة تحوي نيفًا وأربعين مكتبة، فيها مؤلَّفات شتى أكثرها بخط اليد، وفيها عدة مطابع، وجملة معامل لصنع الطرابيش والجوخ وخلاف ذلك. أما غلطه فقد شادها أهالي جينوا، وما برحت إلى اليوم محاطة بالسور المنسوب إليهم، ومحيطه مقدار ٨٠٠٠ قدم، وموقعها في القسم المجاور للبحر على الجهة الجنوبية من بيريه، وسكانها أغلبهم من الأروام واليهود، وفيها محل للجمرك، ومخازن لشحن الوابورات، وبها الجوامع الكثيرة، وترسخانة الطوبخانة، ومعامل لسبك المدافع ومعدات الحرب والدمار، وفيها برج يدعى برج المسيح — أو برج الحرس — علوه ١٤٠ قدمًا، بناه أهالي جينوا عام ١٤٤٦ بعد المسيح، والغرض من بنائه كان التنبيه على أهالي القسطنطينية عند حدوث الحريق بما يتفقون عليه من العلامات، إشارةً إلى أن الحريق في موضع كذا.
وفي محلة قاسم باشا توجد الترسخانة الكبيرة والترسخانة البحرية وحوش البحرية، والمسافر عند دنوه من المدينة بحرًا ينظرها ذات منظر بهج ورائق؛ إذ يشاهد رءوس المآذن المذهبة، وقبب الجوامع المسنمة، وشوامخ الأبنية الجميلة، والأبراج المزخرفة، والمنابر العالية، وفي معاليها أكاليل من ورق السرو الأثيث، وما شاكل ذلك من الأشجار التي تظلل المدافن العظيمة المحتفرة في جوانب الأسوار، غير أن المسافر عندما يدخلها ويتوغَّل فيها يتعذر عليه أن يعرف من أين دخل وكيف يخرج.
أما أبنيتها فأكثرها من الأخشاب والقرميد واللبن، ثم إن البوغاز المعروف بالبوسفور يفصل بين آسيا وأوروبا، ويصل البحر الأسود بالبحر الأبيض، وهو ممتد على مسافة ٢٠ ميلًا بالطول وبالعرض من ميل إلى ميل ونصف، ينحدر فيه الماء بشدة منصبًّا في بحر مرمرا المتصل بالبحر الأبيض، وعلى ساحله من كلتا الجهتين قرًى شهيرة كل قرية منها تضاهي مدينة صغيرة، وفيها من السرايات الأنيقة، والمنازل الفاخرة، والأسواق الرحبة، والحدائق البديعة، والمتنزهات الجميلة ما يقر النواظر، ويشرح الخواطر، وفيها سفارات الدول الأجنبية خلا سفارة دولة إيران، فإنها بالقرب من الباب العالي. ومجمل القول: إن هذا البوغاز على جانب عظيم من حسن الموقع، ووفرة الانتظام، يقصر المقام عن سرده؛ فإن بناياته وافرة الاتفاق، تعلوها الروابي النضرة القائمة فوقها الأشجار الوارفة الظلال، والحدائق الأنيقة التي تجلي عن القلوب صدى الكروب.
وقد يقصده السُّوَّاحُ من أقطار الأرض ليشاهدوا غريب موقعه، ويتمتعوا بجودة هوائه. وفي الجهة اليمنى منه يوجد حوض ماء ضمن قبوة يدعى حوض القديسة صوفيا، يزوره قوم كثيرون من النصارى والمسلمين قصد التبرك، وفي الجهة الشمالية يوجد قصر مبني على الشاطئ، وحوله حديقة لاحقة بأملاك الحكومة المصرية هناك، كان القصد من بنائه إيواء المسافرين من المصريين، وفيه ترسو البارجة العظيمة (المحمودية) ذات المائة والعشرين مدفعًا.
أما القسطنطينية فهي محاطة بالأسوار الكبيرة المربعة، وسور عالٍ جدًّا، وبأبراج كبيرة مربعة يبلغ عددها نحو ٢٠ برجًا — كان قد شادها ملوك اليونان منذ الجيل الخامس عشر — ولم يزل بعضها إلى اليوم متينًا. أما قلعة السبعة أبراج المتصلة بالأسوار، فهي مُعَدَّةٌ اليوم حبسًا عموميًّا للحكومة، على حين كانت قديمًا من جملة أبواب المدينة، ويقول المؤرخون: إن القسطنطينية كان لها ثلاث وأربعون بوابة، ثم صارت إلى اثنتين وعشرين بقي منها إلى الآن سبع بوابات. وقال مؤرخو الإنكليز: إن فيها أربعمائة وخمسة وثمانين جامعًا، وفيها مآذن كثيرة شاهقة في الجو، وبها ما ينوف عن الألفي حمَّام، وأشهر هذه الجوامع جامع أجيا صوفيا المتقدِّم الذكر. ولأجل زيادة الإيضاح نقول: إن الذي بناه هو الملك جوستينيان الأول، أحد ملوك الشرق، سنة ٥٣١ب.م، وتم في سنة ٥٣٨. وقد اشتغل فيه مدة سبع سنوات ونصف مائة مهندس مع مائة قلف وعشرة آلاف فاعل، وطوله ٢٧٠ قدمًا، وعرضه ٢٤٣. وهذا الجامع — كما تقدم القول — كان كنيسة عظمى في أيام النصارى من أحسن كنائس الدنيا، ويوجد خلافه سبعة جوامع ملكية كلها مزينة من الداخل بالرخام، ومن الخارج بالمناهل، ولأكثرها مستشفيات ومكاتب لإغاثة الفقراء، ثم إنه يوجد في الآستانة ما ينيف عن مائتي مستشفًى للمرضى، وتسع مارستانات للمجانين. وخارج جامع أجيا صوفيا توجد ساحة مربعة فيها أربع مآذن، وفي وسطه قبة عظيمة وسطها يعلو الأرض ١٨٠ قدمًا، وقطرها ١١٥، وأسفلها محاط برواقين محمولين بين اثنين وستين عامودًا، وقد خربتها الزلازل التي دمرت المدينة في أوقات مختلفة، فتجددت ثانية.
وأبواب هذا الجامع من النحاس الأصفر منقوش عليها تماثيل قديمة من عهد بانيه، ولم يزل على سقفه آثار من الصور؛ منها: صورة سيدنا عيسى عليه السلام، وصورة الملك قسطنطين، ويوجد في داخله ١٧٠ عمودًا جميلًا من الحجر السماقي والرخام، وعلى كل منها تاج قد زاغ عن أصله الهندسي بالنظر لما حصل فيه من التغيير والتبديل. ويُظن أن هيكلًا عظيمًا كان هناك فهدم، وعلى دائره ممشًى يصعد عليه بسلم حلزونية عجيبة، وفوق المنبر يخفق سنجق السلطان محمد الفاتح. أما الآن فقد تبدَّلت الهيئة القديمة، ولم يبقَ منها إلا الأثر بعد العين، وقد كانت جدران هذا الجامع مزدانة بالنقوش المذهبة التي لما نظرها الطيب الذكر السلطان محمد الفاتح أمر بأن تُغشَّى بالآجُرِّ كي لا تُرى. وفي عهد السلطان عبد المجيد خان نزع عنها الكلس، وترمم ما فقد من الجامع المذكور حتى عاد إلى رونقه الأول، ثم إن كثيرًا من المائة والسبعين عامودًا المذكورة قد جلب من هيكل الشمس في بعلبك، ومن هيكلي الشمس والقمر في هاليبولي من مصر، ومن جامع ديانه المشهور في أفسس، ومن أثينا ومن جزائر بحر الروم.
أما جامع السلطان سليمان العظيم الملقب بالسليمانية، فهو أجمل ما يكون في القسطنطينية، بُنِيَ في أواسط الجيل السادس عشر، وكمل عام ١٥٥٦ب.م. أما الجوامع المشيدة، وتحسب من الطراز الثاني بالنظر إلى كبرها، فهي جامع السلطان أحمد ومحمد الثاني.
وفي القسطنطينية ساحة عظيمة تدعى ساحة آت ميدان كانت مُعدَّة لسباق الخيل طولها ٩٠٠، وعرضها ٤٥٠ قدمًا، وفيها مسلة من حجر الصوان بقطعة واحدة، جيء بها قديمًا من مدينة سيبس قاعدة مملكة الفراعنة ملوك مصر. وهذه المسلة قد بناها ثاوادسيوس الكبير، أحد ملوك الرومانيين. وفي الساحة الكبيرة يوجد العامود المتعطل لقسطنطين الملك معرًّى ومنزوعًا عنه تمثاله النحاسي المصبوب صب رمل من عمل الأتراك في أول ما اغتنموا المدينة. وبين المسلة وعمود قسطنطين عامود آخر من نحاس أصفر على شكل حبل ملفوف، ويسمى عامود الحية؛ لأن عليه ثلاث حيات عظيمة متشابكة مع بعضها البعض، أقامه اليونانيون رصدًا لتنفير الأفاعي، كما جرت العادة عندهم في بعض الخرافات. وكانت الحيات حاملة الكرسي المصنوع من ذهب في هيكل مدينة دلفي على ثلاثة قوائم كان يجلس عليها في الأزمنة القديمة الكاهن وأحد العرافين؛ لأخذ الوحي من الوثن جوابًا على ما يُسأل من أمر مهم يختص بمعرفة المستقبل، وكان يجلس على هذه الكراسي عدد معلوم من النساء، وقال بعض المؤرخين: إنهن عشرة كن يخبرن بروح النبوة، ويسكنَّ في عدة أقسام مختلفة من بلاد العجم واليونان وإيطاليا.
وفي قسم آت ميدان من الجهة الشرقية يوجد الباب العالي؛ حيث يجلس الصدر الأعظم ورجال الدولة الفخام، وبالقرب منه السرايا المعروفة بطوب قبو سراي، وهي السراي التي جدَّدها السلطان محمد الفاتح المنفصلة عن المدينة بسور متين، ولها ثمانية أبواب بعضها من جهة المدينة، وبعضها من جهة البحر. وطول هذه السراي نحو ستة آلاف ذراع، ومبنية على مركز وقاعدة البزنتيوم، وتُعَدُّ من السرايات الشهيرة العظيمة. تحيطها جنينة فسيحة تشب فيها الأشجار الشامخة في الجو، وعلى أطرافها الباب الهمايوني، وهو مدخل للسراي الخارجة المباح للجميع أن يدخلوا إليها، وهو عظيم الارتفاع على شكل دائرة تغشاها الكتابات العربية، وقائم عليه خمسون بوَّابًا خفراء، وعلى أحد طرفي الباب كان هرم يدعى هرم الجماجم، كانت تعلق عليه رءوس المجرمين مكتوبًا عليها ما يدل على ماهية الذنب الذي بسببه حكم على صاحبها بالقتل، وعند أطراف تلك السراي فسحة رحبة يقوم عليها بناء يشتمل على قبة قديمة شادها الملك قسطنطين الكبير، وهناك دار الأسلحة يوجد فيها جميع أنواع الأسلحة القديمة العهد معلقة على الترتيب، وهي مؤلَّفة من دروع وزرديات وسيوف ورماح وآلات إطلاق البارود وما شاكل ذلك من أدوات الحرب، وهناك أيضًا أربعة أشخاص من الخشب عليها ملابس حديدية التي كانوا يلبسونها قديمًا؛ أحدها مرتدٍ بزي الشراكسة، والثاني بزي أهل الفلاح، والثالث بزي الإنكشارية، والرابع بزي العسكر العثماني، ثم وبالقرب من تلك الفسحة توجد بقعة أخرى فيها الديوان الكبير، وأمامه سماط من شجر السرو على صفين ينتهي إلى قاعة الديوان المشيدة من الرخام المزدان بالنقوش الذهبية، وفيما يليها توجد دار عظيمة فيها كرسي الحضرة الفخيمة الشاهانية تحت قبة عالية مصنوعة من حجر الرخام، وعلى جانبها سراي الحرم المصون، وهناك حمَّام السلطان سليم الثاني وفيه ٣٢ حجرة، ومن هناك تنظر الخزينة الملكية والضربخانة ودار الكتب وباب المالية والأوقاف. أما الحدائق المحاطة بالسراي فحدِّث عنها ولا حرج؛ فأغصان أشجارها تتدلى على مماشيها بنوع يبهج الناظر، وينابيع المياه المنبجسة من أعمدة الرخام القائمة فيها تتدفق كأنهار تجري في جنة غَنَّاء. أما زخرفة السراي العثمانية فلا شيء يفضلها في الجمال، لا سيما ما يختص بالذات الشاهانية؛ فإن حجرة عظمتها فيها مُنْتَهَى التأنق والتحسين، وهي مغشات بالقماش الصيني الفاخر، وأرضها مفروشة بالطنافس الثمينة والتخت من فضة الكانوبا، والوسادات والأفرشة السفلى وملاءات اللحاف كلها وثائر منسوجة من قماش ذهبي.
وبالقرب من آت ميدان يوجد نفق تحت الأرض يدعى بينك برديراده، أي ألف عامود وعامود، كان قيسارية قديمة معروفة بقيسارية ألف عامود وعامود، وهي طبقتان مركبة على أعمدة غليظة من الحجر، وأكثر أعمدتها مطمورة بالتراب، وبالقرب منها يوجد العمود المحروق، وهو غليظ وطويل، ومن الحجر الرملي عليه تماثيل أشخاص وكتابات قديمة، ويقال: إن قومًا من اليهود اشتروه من أحد الملوك العثمانيين؛ لظنهم أنه مصنوع من معادن ذهبية توهُّمًا منهم بكثرة لمعانه، ثم أحرقوه ليستخرجوا ما فيه من الذهب؛ ولذلك دُعِيَ بالعمود المحروق، وقد شاده الملك قسطنطين الكبير، وكان علوُّه أولًا ١٣٠ قدمًا، وفوقه تمثال أبولون من نحاس، وهو بمثابة رجل عظيم البنية مثل الجبار، ويقال بأن صانعه كان فيدياس النقاش الشهير، ولما حدثت الزلزلة في إسلامبول عام ١١٥٠ تعطَّل ذلك العامود وسقط، ولم يبقَ من عُلُوِّهِ إلا ٩٠ قدمًا. وأبولون هو إله اليونانيين والرومانيين القدماء كانوا يعبدونه، ويعتقدون أنه الشمس مصدر الحرارة والضياء، وأنه المتولي صنعة الرمي بالقوس، وأمر النبوة، وصناعة الطب، وفن الموسيقى.
ومما يستحق الذكر أيضًا في القسطنطينية الخانات المشاعة التي شادتها الحكومة لينزل فيها المسافرون من التجار، ويقيمون بها مجانًا؛ ترغيبًا لهم في جلب السلع والبضائع توسيعًا لنطاق التجارة. أما أسواق المدينة فهي فسيحة جدًّا، وأشهرها سوق البازستان، وهي مبنية بالحجارة، ولها أبواب لا تفتح إلا في أوقات معلومة من النهار، وفيها أقدم تجار المسلمين وأغناهم، وبها تباع الأسلحة الثمينة، والملابس الفاخرة، والتحف النفيسة، ويلاصق هذه السوق عدة أسواق شهيرة، مثل: قلبجي جارشوسي وأذروجارشو.
أما أهالي هذه المدينة فهم على جانب عظيم من الرقة والدعة يؤانسون الغريب، ويكرمون مثوى الضيف، مشهورون في الفنون والصنائع، ولهم حسن محاضرة ومذاكرة. امتازوا بصون اللسان عن سفاسف الكلام، والمدينة اليوم هي مطمح الأنظار، ومحط رحال السياسة، أدام الله مولانا أمير المؤمنين نورًا لبهجتها، وقمرًا يسطع عليها ما كرَّت الأيام، وتوالت الأعوام.