السلطان الثامن
وُلِدَ عام ٨٥١ للهجرة، وجلس على سرير السلطنة في سن ٣٥ من عمره، أي عام ٨٨٦، وذلك عقيب موت والده الطيب الذكر، فنازعه أخوه جم على السلطنة بدعوى أنه وُلِدَ عام ٨٠١ قبل جلوس والده على كرسي الملك بسبع سنين؛ ولذلك يعتبر كأحد الرعايا، ومن ثَمَّ جَرَّدَ فرقة من الجنود وساقها إلى نواحي بورصة، فالتقى بألفي مقاتل من أليكشارية أخيه السلطان بايزيد، فاشتبك معهم في موقعة دموية انجلت عن فوزه وانتصاره، ودخل المدينة فنودي به سلطانًا عليها، وأمر الخطباء بأن يخطبوا في الجوامع باسمه. فلما علم السلطان بايزيد بذلك ألَّف جنوده، ونزل معهم بذاته إلى ساحات الحرب، فالتقى بعساكر أخيه في سهل يكي شهر، وبعد أن ناهضهم طويلًا هزمهم شر هزيمة. وإذ كان جم راكضًا مهزومًا التقى بجماعة من التركمان فسلبوا منه ثيابه، وجرَّدُوه من سلاحه، فاستعار ثوبًا من وزيره، وسار إلى مصر، وعندما وصلها تلقاه جركس قايد بك بكل اعتبار وأكرم وفادته.
ثم بعد أن مكث في مصر أربعة شهور ذهب لتأدية فريضة الحج الشريف، وغِبَّ عودته عاد لمنازعة أخيه، فأرسل أخوه يقول له: بما أنك اليوم قد قمت بواجباتك الدينية في الحج، فلماذا تسعى إلى الأمور الدنيوية؟ ومن حيث إن الملك كان نصيبي بأمر الله، فلماذا تقاوم إرادة الله؟ فأجابه بقوله: هل من العدل أن تضطجع على مهد الراحة والنعيم، وتقضي أيامك بالرغد واللذات، وأنا أُحْرَمُ من اللذة والراحة، وأضع رأسي على وسادة من الشوك؟ ثم جرَّدَ شرذمة من الجنود وناهض عساكر أخيه، فانكسر وهرب ثانية إلى مكان يُدْعَى كاش إيلي. وإذ ذاك بعث إليه السلطان يعرض عليه الصلح، فقبل تحت شرط أن يعطيه بعض أقاليم في بلاد الأناضول، فأجابه السلطان: إن الخطبة لا يمكن تجزئتها إلى اثنتين، وعوض أن تصبغ قوائم جوادك وأطراف ردائك بدماء المسلمين، فالأجدر بك أن تذهب إلى مدينة القدس، وتقتنع بالمعيشة فيها من إيراداتك، ماذا وإلَّا يحل بك الويل والثبور. فحينئذٍ قام جم وتوجَّه إلى جزيرة رودس، فلاقاه الشفالرية الذين كانوا يتولَّونها، ونصبوا له جسرًا مفروشًا بالنسائج الثمينة من الشاطئ إلى المراكب ليخرج من البحر بحصانه، ولما خرج ساروا به إلى القصر الذي أعدُّوه له. ومذ بلغ السلطان بايزيد ذلك، أخطر حاكم رودس بقوله: إنه إذا أراد استمرار الصلح بينهما؛ فعليه أن يسلمه أخاه جم، فرفض حاكم رودس تسليمه، إنما خوفًا من غضب السلطان أنزله في مركب أبحر به إلى مدينة نيس، من أعمال إيطاليا في ذلك الزمان، ثم انتقل منها إلى مدينة روسليون، من أعمال فرنسا على عهد الإمبراطور لويس، ثم طلبه البابا إينوشنسيوس من إمبراطور فرنسا؛ ليكون عنده رهنًا حتى يأمن من إغارة العثمانيين على إيطاليا. وعلى عهد البابا إسكندر السادس توفي جم في مدينة نابولي مسمومًا.
وفي سنة ٨٩٧ بعث السلطان بعمارة إلى أساكل بلاد الأرناءوط، وجرَّد عسكرًا وسار به إلى تلك الأصقاع، وبينما كان مارًّا في طريق ضيق قابله رجل بهيئة درويش وهَمَّ أن يضربه بخنجره، فابتدره من كان حول السلطان بطعنة كانت القاضية، ومن ذاك العهد جرت العادة أن لا يقابل أحد السلطان بسلاحه.
وفي سنة ٩٠٣ زحف على بولونيا، وأسر منها في موقعة واحدة عشرة آلاف أسير، وضبط بلاد الإرنبودوهرسك، وفي عام ١٥٠٩م زلزلت الأرض زلزالها في القسطنطينية، فأخربت ألفًا وسبعين بيتًا، ومائة وتسعة جوامع، وجانبًا عظيمًا من السراي الملوكية وأسوار المدينة، وعطلت مجاري المياه، وصعد البحر إلى البر فكانت أمواجه تتدفق فوق الأسوار. ولبثت تلك الزلزلة تحدث يوميًّا مدة ٤٥ يومًا، ولما أن سكنتْ جَمَعَ السلطان ١٥ ألفًا من الفعلة وأمرهم بإصلاح ما هدم.
وفي سنة ٩١٨، سلم زمام الملك لابنه السلطان سليم، وتوفي وهو ذاهب إلى ديمتوقه، فنقل نعشه إلى إسلامبول حيث دفن بجوار جامعه الشريف.
عاش سبعًا وستين عامًا، وكان قوي البنية، أحدب الأنف، أسود الشعر، رقيق الطبع، محبًّا للعلوم، مواظبًا للدرس، وشاعرًا أديبًا، ورعًا تقيًّا يقضي العشر الأخيرة من شهر رمضان في خلوة بمفرده، أو مع الشيخ محيي الدين ياوز في التعبدات الدينية. أقام في مدة ملكه جملة مدارس وجوامع، وكان يرسل إلى الكعبة كل سنة مبلغًا وافرًا من المال، وكان بارعًا في رمي السهام، ويباشر الحروب بنفسه، وعند رجوعه من الغزوات يجمع الغبار عن رجليه وثيابه حتى صنع منه لبنة أوصى أن تُوضع بعد وفاته تحت رأسه تمسُّكًا بحديث الرسول ﷺ:
«من تغطت رجلاه بغبار طريق الله لا تمسه النار في الآخرة.»