السلطان التاسع
وُلِدَ عام ٨٧٥ﻫ، الموافق سنة ١٤٨٠م، وجلس على تخت الملك سنة ٩١٨، وبعد جلوسه نازعه في الملك ابن أخيه علاء الدين، وجاء مدينة بورصه فافتتحها وضرب على أهلها الجزية الباهظة، ولما بلغه ذلك استخلف ولده سليمان، وذهب لردع علاء الدين بسبعين ألف مقاتل من البر، وسيَّرَ عمارة في البحر مؤلَّفَة من مائة وخمسين مركبًا. وفي تلك الأثناء، نهض أخوه أحمد، والد علاء الدين، واستولى على أماسيا، وقلَّد أخاه مصطفى تخت الوزارة، فأرسل السلطان شرذمة من الخيالة ليخطفوا حرم أخيه مصطفى، فصادفهم أحمد في الطريق واستخلص منهم الحرم وأسرهم. كل ذلك بلغ مسامع السلطان سليم، فأحدث فيه الغيظ الشديد، غير أنه تجلَّد على كتمان الغضب حتى مكنته الفرصة، فقتل سائر إخوته مع أولادهم حتى لم يبقَ منهم أحد، وإذ ذاك تواردت إليه التهاني من جميع الدول، ما عدا إسماعيل شاه العجم؛ لأنه كان متحزِّبًا لأخيه أحمد، فغضب واستشاط السلطان غيظًا؛ لأنه كان قد حمى عنده أولاد إخوته وحرَّض والي مصر على مناهضة الدولة العثمانية.
وفي سنة ٩٢٠، زحف إسماعيل شاه بجيش جرار على بلاد الدولة ومعه مراد ابن أخي السلطان سليم، فكتب إليه السلطان مستهزئًا به، وأرسل إليه عروة ومسواقًا وطيلسانًا يفهمه بذلك أنه ليس من سلالة الملوك، بل من سلالة المشايخ الذين يتمسكون بالبدع، فأجابه بفظاظة وأرسل إليه علبة ذهب ملأى من الأفيون، فغضب السلطان وركب في الحال بمائة وأربعين ألف مقاتل، وستين ألف جمل تحمل الأثقال والمهمات، أردفها بأربعين ألفًا تسير وراءها لحفظ خطة الرجوع. ولما أن تأكد ذلك شاه العجم شعر بعجزه، وأن ليس له طاقة لمناهضة الأتراك، فأحرق بلاده وأخلاها من الأطعمة والمنافع، وانهزم برجاله، ولما بلغتها العساكر العثمانية وجدتها خالية خاوية لا مأوى بها ولا مأكل، فتضايق الجند من ذلك، وتقدم أحد قوَّادهم المدعو حمدان باشا إلى السلطان يُعلمه بتذمُّر الجنود، فأمر بقتله، وكتب إلى إسماعيل شاه يعيره بهذه الهزيمة، وأرسل إليه ثياب امرأة دلالة على جبنه وخوفه، فأجابه إسماعيل شاه بأنه ينتظره في سهل شليدران، ومن ثَمَّ انطلق السلطان إلى ذاك السهل؛ حيث التقى بعدوه في غرة رجب من سنة ٩٢٠، فابتدره بالقتال، وأمر جيوشه بالهجوم فوثبوا على الأعجام وبدَّدوا شملهم في ساحات المعركة، فانهزموا شر هزيمة، وجُرِحَ إسماعيل شاه في يده ورجله، ثم سقط عن جواده، وما وصل الأرض حتى انقض عليه أحد الفوارس العثمانيين واستلَّ خنجره ليقتله، فانطرح عليه وزيره مراد صارخًا: أنا هو الشاه. فقبض عليه وأخذه أسيرًا، أما إسماعيل شاه فاغتنم تلك الفرصة، ونهض عن الأرض، وركب جواد أحد الجند فانطلق مسرعًا حتى وصل إلى تبريز، ومن شدة خوفه لم يأمن على نفسه فيها، واستأنف الهزيمة حتى درغازين، وفي تلك الأثناء اغتنم السلطان سلب الأعجام، فسبى حرم الشاه ونهب أمواله، ثم قتل جميع الأسرى الذين وقعوا في قبضة يده، ثم سار إلى تبريز، ولما دخلها امتثل أمامه بديع الزمان الذي من سلالة تيمورلنك، فخلع عليه وأكرمه وأجلسه على كرسي بجانبه، وفرض له نفقة يومية. وكان لإسماعيل شاه أموال غزيرة في تبريز، وجواهر ثمينة، وتحف وأقمشة وأسلحة، فاغتنمها السلطان، وتوجه منها إلى أماسيا، فضبط ولايتي الكرد والكرج، واستولى على جميع بلاد ديار بكر، وافتتح قلعة ماردين. وفي سنة ٩٢٢، عزم على محاربة قنصو الغوري، ملك مصر، فجرَّد الجنود وزحف إلى عربستان، فالتقى به في مرج دابق من بلاد سوريا، وهناك التحم الجيشان في موقعة لم تطل برهة حتى انجلت عن فشل المصريين وتبديد جمعهم، وسَقَطَ ملكُهم عن جواده فمات، وكان عمرُه ثمانين سنة، وحينئذٍ قطع رأسه ضابط من ضباط العساكر العثمانية وطرحه على أقدام السلطان سليم، فغضب من إهانة الدم الملوكي، وأراد قتل الضابط المذكور، فتشفع فيه الوزراء حتى عفا عنه، لكنه عَزَلَهُ من وظيفته.
وبعد ذلك بمدة سار إلى حلب الشهباء، واستولى عليها وصلَّى في جامعها الكبير، حيث لقبه الخطيب بخادم الحرمين الشريفين (وهذا اللقب كان يختص بسلاطين مصر)، فخلع عليه حلة ثمينة، ثم سار إلى حماة وحمص وطرابلس فالشام، وفيها رفع العلم العثماني، وأقام نحو أربعة شهور انقاد إليه بأثنائها أمراء العرب وأكابر سوريا ووجوه جبل لبنان. وكان يطوف بالجامع الأموي المشهور متفرجًا على الآثار القديمة. أما الجامع المذكور فيبلغ طوله ٥٥٠ قدمًا، وعرضه ١٥٠ قدمًا، وهو مبني على أعمدة عظيمة من الحجر السماقي والرخام المختلف الألوان، وفي قبته يوجد ٦٠٠ قنديل معلقة بسلاسل من الذهب والفضة، وفيه أربعة محاريب لأصحاب المذاهب الأربعة؛ وهم: الحنفية والشافعية والحنبلية والمالكية.
في سنة ٩٢٢، توجه إلى مصر لمحاربة طومان باي الذي جلس بعد الغوري وشق عصا الطاعة، فقاتله عند غزة وقهَر جنوده، ثم تقدَّم واشتبك مع مماليك مصر بعدة وقائع قتل فيها منهم نحو ٢٥ ألفًا، ولما أن وصل السلطان بجيوشه إلى مصر القاهرة حاصرها ثلاثة أيام، وفتحها في اليوم الأخير، وقد قبض على ثمانين ألفًا من أهاليها وقتلهم جميعًا.
أما طومان باي فكان هرب إلى شرقي الديار المصرية، وبعد مدة لَمَّ شمله، وجمع من بقي من المماليك، وضم إليهم ستمائة ألف من العرب وكَرَّ على القاهرة، فتغلب على العساكر العثمانية وأخرجهم منها عُقَيْبَ مقتلة عظيمة.
وكان السلطان سليم قد ضجر من كثرة الحروب وهدر الدماء، فأمر مصطفى باشا، أحد قواده، أن يطلب الصلح من طومان باي، بشرط أن يكون تحت سلطة الدولة، فلم يقبل بذلك وفتك بالرسول وأورده حياض المنون، وحينئذٍ جَدَّدَ السلطان الحرب على المماليك، فظفر بهم، واقتفى أثر طومان باي المنهزم حتى أدركه، وذلك سنة ٩٢٥.
وبعد إقامته في الديار المصرية مدة طويلة عاد إلى القسطنطينية، وطفق يكثر المهمات الحربية، ويجدد المراكب، ويجمع الجيوش وينظمهم، إلا أنه أدركته المنية في اليوم الثامن من شهر شوال لسنة ٩٢٦، فأخفوا موته إلى أن يحضر ولده سليمان الذي كان وقتئذٍ في سروخان مكان ولايته.
عاش أربعًا وخمسين عامًا، قضى منها على تخت السلطنة ٨ سنوات، وكان طويل القامة، قصير الرجلين، عظيم الجثة، كبير العينين، غليظ الحاجبين. وهو أول سلطان لم يُطلق لحيته، وكان رجال الدولة يعيبونه بذلك. وكان عالمًا يحب رجال الآداب، وشاعرًا يميل إلى حسن النظم، وله ديوان أشعار بالتركية والفارسية والعربية. رحمه الله وجعل الجنة مأواه.