السلطان السابع عشر
ولد عام ١٠١٨، وجلس على عرش الملك عام ١٠٣٢ للهجرة وهو في سن الرابعة عشر من سنيه، ومع صغر سنه كان ذا عقل ثاقب، ورأي صائب، ومن أعظم أبطال ذلك الزمان، فاستبشرت به السلطنة بإصلاح شأنها، وانتشالها من هُوَّةِ الخراب المحدق بها. وفي اليوم الثاني من جلوسه، توجَّه إلى جامع أيوب وتقلَّد السيف حسب العادة، فحدث في أثناء جلوسه أن وقعت بغداد في أيدي العجم، وجاهر بعدوانه اثنان من خانات التتر محمد عزاي وشاهين عزاي، وطردا صاحب القرم من منصبه الذي أجلسته به الدولة، وقتلا معتمد المسكوب مذ كان آتيًا إلى القسطنطينية يحمل الهدايا إلى السلطان، ثم تقدمت فرقة من القزق إلى أطراف القسطنطينية ونهبت بعض البلاد، ثم عصى أبازه باشا، والي ديار بكر، ونشر بيرق العصيان في ضواحي آسيا الصغرى، وخلع نير الطاعة بكر الصوباشي، محافظ بغداد، فأرسلت الدولة لإذلاله شرذمة من الجند تحت قيادة حافظ باشا، ولما بلغه ذلك استدعى شاه العجم ليُسلِّمه بغداد، فأرسل إليه شنغاي خان ومعه ثلاثمائة نفر ليستلموا منه مفاتيح المدينة، لكن حدث قبل وصولهم أن وصلتها عساكر الدولة وأقامت عليها الحصار. وفي أثناء ذلك وصلها رسول العجم وقال لحافظ باشا: إن بكر الصوباشي صار تابعًا لجلالة الشاه، فإذا ابتغيت دوام الصداقة بيننا؛ فارحل عن بغداد. أما الوزير حافظ باشا، فقد استاء من ذلك القول، وأغلظ الجواب للرسول، وبعد ذلك نصب القتال بينه وبين المحاصرين، ولما رأى من جنوده العجز عن فتح بغداد لأنها كانت حصينة، وتواردت إليها بكثرةٍ جنودُ الأعجام، انقلب عنها عن طريق الموصل بعد أن نصب بكر الصوباشي واليًا عليها. وهذا الأخير أدرك غايته بهذه التولية، ونهض على جنود الشاه فقتلهم، وداس بأرجله العمامة التي كان أهداه إياها الشاه عباس. ولما بلغ الشاه هذا الأمر المنكر جرَّد جيشًا جرارًا جاء به إلى تحت أسوار بغداد، وطلب من بكر تسليمها، فجاوبه بإطلاق المدافع من الأبراج وطعنات الرماح، ثم أنجده حافظ باشا قائد جيوش الدولة بفرقة من العساكر تحت راية كور حسين باشا. ولما علم قائد عساكر العجم بقدوم عساكر الدولة طلب كور حسين باشا ليتحادث معه بأمر الصلح، فذهب مصحوبًا ببعض الضباط، وإذ كان سائرًا معهم إلى مقر المواجهة وثب عليهم جماعة من الأعجام كمنوا لهم في الطريق فقتلوهم، وقدموا رءوسهم إلى الشاه عباس فعلقها على شرفات السور.
ومكث الحصار على بغداد ثلاثة شهور طوالًا حتى تضور الأهلون من الجوع، فالتجأ أكثرهم إلى معسكر الأعجام، وكان لبكر الصوباشي ولد يُقال له محمد يشبه أباه في الخيانة ونقض الزمام، كان وقتئذ مستلمًا قلعة المدينة، فأرسل إليه الشاه عباس ليسلمه المدينة واعدًا إياه بأن يُوَلِّيه حكمها، فانخدع بذلك، وفتح له أبواب القلعة، فدخلتها الأعجام في الليل بضجيج عظيم وقبضوا على بكر وأتوا به إلى الشاه، ولما وصل أمامه رأى ولده جالسًا عن يمينه، وسمعه يوبخه على الخيانة التي وقعت منه بحق الشاه، ثم أخذوه ووضعوه في قفص من حديد طرحوه موقد نار كي يقرروه عن المكان الذي أخفى فيه أمواله، ثم أخذوا ذلك القفص ووضعوه في قارب مشحون بالزفت والكبريت وأشعلوه فيه. وبالنظر للخلاف الديني الكائن بين الأعجام وأهل السنة، حدث بينهم قتال شديد، وكفاح عنيف سُفكت فيه الدماء كثيرًا. وكان في بغداد خطيبان؛ أحدهما يُدعى نوري أفندي، والآخر عمر أفندي، فدعاهما الأعجام بعد أخذ بغداد وألزموهما بأن يجدفا على عمر وعثمان، ولما لم يقبلا بذلك علَّقوهما في نخلة هناك، وأطلقوا عليهما الرصاص. أما الشاه عباس الذي وعد ابن بكر بالولاية مكان أبيه مكافأة له على تسليمه المدينة، فخاف من خيانته، وأرسله إلى خراسان، وهناك سقاه كأس الحِمام.
أرسل لي أموالك وإلا أقطع رأسك.
إذا كانت الساعة لم تحضر بعدُ فباطلًا تخوفني، وإن لطخت يدك بدمي الطاهر، فتكون يدي كالطوق في عنقك يوم القيامة، واعلم أني الآن تجاوزت من العمر حَدَّ الثمانين، قضيت معظمه في خدمة الدولة بالصدق والإخلاص، ولا أتأسف على موتي، ولكن لو أنصف الدهر لكان الأجدر بك أن تموت جزاء خيانتك.
يا أيها الباد شاه، يهلك ألف عبد نظير عبدك حافظ ولا تسقط شعرة من رأسك أو مسمار من كرسيك، فأتوسل إليك بحق جلالتك وسلامة قلبك أن تتركهم يقتلوني؛ كي أموت شهيدًا، ويسقط دمي المسفوك على رءوسهم، ولكن أطلب من إحسانك الملوكي أن تأمر بدفن جثتي في إسكودار.
بسم الله الذي لا إله إلا هو، إنَّا لله وإنا إليه راجعون.
وبعد نهاية كلامه، تقدم بوجه باشٍّ وقلب منكسر نحو الجنود ليقتلوه، فهجم عليه بعضهم وطعنه بخنجر، فخَرَّ على الأرض قتيلًا، ثم تحولوا إلى حسين أفندي، نديم السلطان، فأماتوه، وارتضوا بعزل المفتي، أما الدفتردار فهرب، وعقيب ذلك سكن الاضطراب. وكان خسرو باشا علة هذه البلايا مقيمًا في مدينة قونية ينتظر نتيجة شروره، وحينئذٍ صدر الأمر إلى مرتضى باشا أن يتوجَّه بالجنود واليًا على ديار بكر، ويقتل في طريقه خسرو باشا، ويستولي على أمواله، غير أن خسرو كان يبلغه سريعًا كل ما يحدث بالآستانة، فلما وقف على ذلك الأمر شرع يتحصن في منزله مع جماعته، ولما وصل مرتضى باشا إلى قونية أعلم القضاة بأمر السلطان، وقتل خسرو باشا، واستولى على أمواله التي بلغت نحو مائتي ألف ذهب دوكة، وأرسلها إلى السلطان.
وحدث بعد ذلك أن الأمير فخر الدين معن حاكم جبل لبنان شَقَّ عصا الطاعة وتمرد على الدولة، فعاهد ملك توسكان وسافر إلى فيورنسه ليؤيد العهد بذاته، بعد أن حارب عساكر السباهية التي كانت تحت قيادة خسرو باشا في دمشق وأعدم منهم عددًا وفيرًا، فأرسلت الدولة عسكرًا لتأديبه سلمت قيادته إلى كوشك أحمد باشا والي دمشق. وبعد قتال عنيف انخذلت جنود الأمير فخر الدين، واضطر إلى الهروب، فاختفى في مغائر نيحا الكائنة في أطراف مقاطعة الشوف من أعمال لبنان. وقد حاصره أحمد باشا هناك، وطفق يحتال على فتح منافذ لتلك المغائر، فصنع حراقات عظيمة ووضعها على تلك الصخور الحاجزة، وصار يصبُّ الخل عليها حتى تَفَتَّتَتْ وتمكن من فتح منفذ منها، وإذ ذاك أرسل الدخان من ذلك المنفذ إلى الداخل؛ حتى اضطر الأمير فخر الدين إلى التسليم، فأخذه أحمد باشا إلى القسطنطينية، ولما امتثل بين يدي السلطان عفا عنه حلمًا وكرمًا، ووضع ولديه الأمير مسعود والأمير حسين في مكتب المماليك في غلطه سراي. وبعد أن أقام فخر الدين مدة من الزمن، وردت الأخبار إلى إسلامبول بأن ابنه الأمير ملحم معن جاهر بعصيان الدولة، ونهب مدينة بيروت وصيدا وصور وعكا، وحارب جنود أحمد باشا والي دمشق وكسرهم، فغضب السلطان من هذه المنكرات التي حصلت بدسائس الأمير فخر الدين، فأمر بقطع رأسه، فقطعوه على باب السراي، ثم أمر بقتل ولديه، فقتلوا الأمير مسعود، أما الأمير حسين فقد اختفى في غرفة أحد المماليك، ولما ظهر عفا عنه وبعثه رسولًا من قبل الدولة إلى الهند.
ثم سار السلطان بالجنود إلى فتح بغداد وتخليصها من أيدي الأعجام، فوصلها بعد ثلاثين يومًا، وفي اليوم الثاني من وصوله إليها أمر الجنود بالهجوم، فوثبوا عليها وافتتحوها عُقَيْبَ مقتلة دموية. وبعد ذلك رجع السلطان من بغداد تاركًا بها عشرة آلاف جندي لمحافظتها، وفي عام ١٤٠٢ حصل حريق في القسطنطينية أتلف نصفها، ثم مرض بداء النقرس لسبب ما كابده من الأتعاب والمشاقِّ في فتوحاته، وتوفي في اليوم السادس من شوال سنة ١٠٤٩ هجرية.
عاش ٢٩ سنة، قضى منها ١٧ سنة سلطانًا، وكان أنيس المحاضرة، يحب البذخ وركوب الخيل، ويقال: إن معالف خيله كانت من الفضة الخالصة، وكذلك السلاسل والأرسان، وكان عنده من جياد الخيل نحو الثمانمائة حصان لركوبته، وثمانمائة أخرى لنقل أمتعته وقت السفر، وخمسمائة لنقل أمتعة دائرته، و٦٠٠ لنقل خزينته، و٨٨٠ لنقل الخيام، وكان كل واحد من مماليكه له ٣٠ فرسًا من جياد الخيل. رحمه الله رحمة واسعة.