السلطان التاسع عشر
وُلِدَ عام ١٠٥١، وجلس على تخت المملكة عام ١٠٥٨ وهو ابن سبع سنين، فكانت جدته ماهبيكر، المعروفة باسم كوسم سلطان، تدبِّر أمور المملكة طبق العادة المألوفة حينًا من الزمن، غير أنها ما استمرت طويلًا مستقيمة في التصرفات، وانبرت تتلاعب بالأحكام حسب الأهواء، فأشار بعض رجال الدولة على السلطان بقتلها فقُتِلَتْ. وكانت غنية جدًّا تركت بعد موتها عشرين صندوقًا من الذهب البندقي، و٣٠٠ شالًا من أفخر الشيلان، وعدة علب من الذهب منقوشة المينا بما يدهش العقول، فكانت مملوءة من الحجارة الثمينة النادرة الوجود، مثل: الزمرد والماس والياقوت. وأمر السلطان أيضًا بقتل قره مراد باشا، الصدر الأعظم؛ لفساد ألقاه، وعين مكانه حسن باشا، فلم يستقم، وعين مكانه سياوش باشا، ثم عزل لما ألقى في حقه الطواشي سليمان آغا من الدسائس والفتن، وعين بدلًا عنه كورجي محمد باشا، وكان عمره خمسًا وتسعين سنة، وغير أهل لسياسة الملك بالنظر لكبر سنه، فكثر الفساد، وعم الاختلال، وثار ذوو الأغراض؛ حتى إن السلطنة أشرفت على الاضمحلال. وفي ١٠٦٢، عزل محمد باشا، وأقيم مكانه طرخونجي أحمد باشا، فأخذ في إصلاح الأمور، ومداركة الاختلال، ونفي الطواشي سليمان آغا إلى مصر، فهدأت الخواطر. وفي سنة ١٠٦٤، ضربت عمارة الدولة عمارة مشيخة البندقية فدمرتها، وفي أثناء ذلك تجمع الجنود في فسحة آت ميدان، وأحدثوا هياجًا طلبوا فيه من السلطان إعدام بعض الكبراء، فأجاب طلبهم لتسكين الهياج، وأمر بقتل قزلر آغاسي، طواشي الحريم، وقبو آغاسي، كبير المماليك، فقتلوهما وطرحوهما إلى الجنود الثائرين، فعلقوهما مع ستة أشخاص آخرين بشجرة دلب في آت ميدان. وفي سنة ١٠٦٦، دخلت عمارة تابعة لمشيخة البندقية إلى جناق قلعة وضربت عمارة الدولة التي كانت في مياهها، فتغلَّبت عليها واستولت على بعض جزائر في البحر الأبيض تابعة للدولة.
وقد كانت الدولة في أوائل خلافة هذا السلطان معرضة لأخطار الانحطاط، تقذفها أمواج الاضطراب من جميع الجهات، فمن الجهة الواحدة كانت دول الأعداء تضرم عليها نار الحروب، ومن الجهة الأخرى كانت عمارة الأعداء قافلة بوغاز جناق ولا تسمح لمراكب الدولة بالخروج منها إلى البحر الأبيض، وكانت جزيرة كريت مجاهرة بالعصيان، وكانت وجاقات الأليكشارية والسباهية في تمرد وهياج وغير منقادين لأوامر ولاة الأمور، وكانت الخزينة خالية من النقود، والسلطان حديث السن لا يتجاوز الثماني سنوات، غير أن الباري جل جلاله لم يسمح باندثار هذه الدولة المشيدة الأركان، بالرغم عمَّا أَلَمَّ بها من الأخطار، فنشط السلطان إلى مداركة الأمر، واستدعى إليه كوبرلي محمد باشا، المشهور بسمو المدارك وحسن التدبير، فقلده منصب الصدارة، ووكل إليه الحل والربط، فأخذ الوزير بحل المصاعب، وتدبير الأمور، وإصلاح البلاد، وأخذ يجتهد في جمع الأموال، وتقوية الجنود؛ حتى يتيسر له في بحر خمس سنوات انتشال الدولة من المخاطر التي كانت محدقة بها، ويقال بأنه لم يجلس وزير على تخت الصدارة مثله، فإنه كان شجاعًا، صائب الرأي، ثابت الجأش، محمود السيرة، توصل بدرايته إلى تنظيم الأحكام، وبشجاعته إلى قهر المجر والقزق، وحارب مشيخة البندقية في سنة ١٠٦٧، فقهرها واستولى على جزيرتي تيندوس وليمنوس، وحارب بلاد السرب، وانتصر عليهم، وكبح جماح أبازه باشا والي الأناضول الذي جاهر بالعصيان، وحارب الأروام في بلاد الأفلاق الذين أثاروا نار الحرب، وقتلوا مأمور الدولة، واستولوا على مدينة تركويش، وقتلوا جميع من وجدوا بها من الإسلام. وفي تلك الأثناء، أرسل عساكر من التتر فضربوا جنود المسكوب، وقتلوا منهم في مدة ١٥ يومًا ٢٠ ألفًا، فاستأسروا منهم عددًا وافرًا، ثم أرسل ملاك أحمد باشا، والي بورصه، مع بعض الجنود لمحاربة المجر، فانتصر عليهم، وبتدبيره انتصرت عساكر الدولة جملة انتصارات أظهرت له الفضل والأبهة، فحسده الكثيرون من رجال الدولة، ولكي يستريح من شرهم قتل معظمهم، وهم: الوزير أحمد باشا والي حلب، ومحمد باشا صهر السلطان، وسعد الدين زاده أفندي قاضي القسطنطينية، والشاعر وجدي، وكامل زاده محمد، والشيخ صوفر والي مصر، ثم حصن البلاد العثمانية تحصينًا منيعًا.
وفي ٧ ربيع الأول لسنة ١٠٧٢، انتهت حياة هذا الرجل العظيم بعد أن مكث في منصب الصدارة خمس سنوات وثلاثة أشهر وعشرة أيام. وكان السلطان جاء يتفقده قبل مماته، ولما ودَّعه أخذ يوصيه قائلًا له: احذر من مداخلة النساء وتسلُّطهن على الأحكام، وأوصاه أن يقيم صدرًا كثير المال، وأن يشتغل دائمًا في الفتوحات والغزوات، فسأله السلطان عن رجل يرى فيه اللياقة لمنصب الصدارة، فأجابه أنه يرى اللياقة في ولده أحمد، فأقامه صدرًا وقلَّده زمام الحكم، فسار على سنن أبيه في تحسين شئون الدولة. وفي سنة ١٠٧٦، قتل حكام قبرص وساقز بالنظر لوفرة ظلمهم وفسادهم، وفي سنة ١٠٧٧، جرد العساكر لافتتاح قلعة كريت، وكانت هذه السنة من أنحس السنين، حدثت بها جملة حروب وزلازل قوية أخربت عدة بلاد، وحدث فيها طاعون شديد، وأمطرت السماء بردًا غريبًا بلغت زنة البردة ٢٤٠ درهمًا، وظهر في مدينة أزمير رجل يهودي يدعى سبتاي لاوي، زعم أنه المسيح المنتظر من اليهود، وتظاهر بالوداعة، وأخذ يُحدِّث الناس بدنو الأوان، فسار من أزمير إلى القدس، وهناك طفق يخابر اليهود الموجودين في المملكة العثمانية، ويعلنهم بمجيئه، فآمن به أكثر اليهود، وحضروا إلى أورشليم ليتباركوا منه، وكانوا يحدثون عنه أنه يعمل العجائب، ويفعل المعجزات التي تقصر عن إدراكها الأفهام. ولما بلغ خبره والي أزمير أرسل معتمدين من قبله ليقبضوا عليه، وقد بلغه ذلك فسار من أورشليم إلى القسطنطينية بجمع غفير من تلامذته، وقبل أن يدركها أرسل الصدر الأعظم فقبض عليه من المركب الذي كان حاضرًا به من نواحي جناق قلعة، وزجَّه في السجن.
أما اليهود الذين كانوا يعتبرون هذا الاضطهاد كتتميم للنبوات السابقة عن المسيح، فإنهم شرعوا يستأذنون الوزير ليرخص لهم بمقابلة مسيحهم لتقبيل مواطئ قدميه، وبعد اللتيَّا والتي سمح لهم بذلك، بعد أن ضرب عليهم مبلغًا من المال يدفعونه إلى الخزينة، ومن ثَمَّ ساروا يتواردون إلى السجن مقر مسيحهم حتى غصَّ بهم. وكان السلطان وقتئذ في مدينة أدرنه، ولما اعتلم بأمره أراد أن يراه ويسأله عن ذاته، فعندما امتثل بين يديه طفق يتكلم بالتركية عن غير دراية بها، فقال له السلطان: إن كلامك بالتركي لا يستفاد منه أنك تعرف هذه اللغة، على حين يجب على مسيح نظيرك أن يكون فصيح اللسان بجميع اللغات، ثم قال له: هل تفعل شيئًا من العجائب؟ فأجابه: نعم، ولكن في بعض الأوقات، فقال له السلطان: أرغب أن أمتحن فيك هذه الأعجوبة، ثم أمر بأن يعرَّى من ثيابه ويوقف في فسحة الميدان، وترميه الجنود بالنبال؛ فإن أصابته ولم تلحق به أذًى يكون صادقًا في دعواه، ماذا وإلا يكون دجالًا ذميمًا. ولما أن سمع ذلك انطرح على الأرض وطفق يتوسل إلى السلطان بقوله: أرجوك عفوًا عن حياتي؛ فإن قوتي لا تقدر على هذه الأعجوبة؛ فأمر السلطانُ بقتله، وحينئذ ترامى على أقدامه وطلب الدخول في دين الإسلام، فقبل إسلامه، ومن ذاك الحين صار يعظ اليهود ليعتنقوا الدين الإسلامي، فأسلم منهم كثيرون. وفي السنة ذاتها ظهر رجل من الأكراد يدَّعي المهدوية، والتف حوله جمهور عديد، فقبض عليه والي الموصل وأرسله إلى القسطنطينية، ولما تمثَّل بين يدي السلطان أمر أن يُفعل به ما كان يريد أن يفعله مع المسيح الكذاب، فارتضَى ومات قتيلًا بالسهام.
ثم جهز السلطان جيشًا كثيفًا سيَّره إلى فتح قلعة كريت تحت قيادة أحمد فاضل باشا، ولما دنا منها انضم إلى الجنود التي كانت محاصرة تلك الجزيرة من نحو ٢٢ سنة، وفي تلك الأثناء أرسل السلطان خطًّا شريفًا إلى أحمد فاضل باشا يستنهضه إلى الإسراع لفتح الجزيرة، فشدد الحصار عليها، ومن شدة ما تضايقت جمهورية ونديك حاكمة الجزيرة المذكورة استنجدت بملوك الإفرنج، فأنجدتها دولة فرنسا وحكومة البابا ومالطة، فأرسلوا لها عددًا كثيرًا من المراكب والجنود، وبعد مواقع كثيرة استظهرت عليهم العساكر العثمانية، وقتلت القائد الفرنساوي، واستولت على الجزيرة استيلاء تامًّا. وبعد ذلك توفي أحمد باشا، وعُيِّن بدلًا عنه مصطفى باشا.
وفي رمضان من سنة ١٠٨٤، ولد للسلطان ولد سماه أحمد، وافتتحت الدولة في السنة ذاتها جملة مدن وقلاع، وحاربت ملوك الإفرنج وقهرتهم، وفي سنة ١٠٩٢، جرد مصطفى باشا عسكرًا حارب به دولة النمسا فقهرها، وزحف على بلادها حتى بلغ ويانه وحاصرها، وإذ ذاك حضر ملك بولونيا لإغاثة النمسا، فهجم على عساكر الدولة بغتةً فغلَبهم وقهَرهم وشتَّتَهُم، وحينئذٍ انهزم مصطفى باشا إلى بلغراد. وبعد هذه الحروب نشط الأعداء في كل الجهات، وجاهروا بعدوان الدولة، فزحفت عساكر النمسا إلى إستراغون وبودن وبوسنه، وعساكر مشيخة البندقية تقدمت نحو الهرسك والموره والأرناءوط، وطفق البابا إينوشنسيوس الحادي عشر يحرض أهالي أوروبا على طرد المسلمين من بلادهم، فطردوهم من بلاد المجر والبغدان وسواحل البحر الأبيض ودلماسيه وباقي الجهات. ولما بلغ السلطان ذلك ساق الجنود وأنجدهم بالمهمات والذخائر، فلم يستطيعوا الثبات والمقاومة؛ لأن عساكر الأعداء استظهرت عليهم في جملة مواقع وقتلت معظمهم. وفي نهاية حكم هذا السلطان حصل قحط في بلاد الدولة أهلك نصف سكانها، وحدث حريق في إسلامبول دمَّر فيها عدة منازل، وكان السلطان إذ ذاك يتلاهى في الصيد والملذَّات، فثار عليه وجاق الأليكشارية وخلعوه، وأقاموا في سنة ١١٠٠ أخاه السلطان سليمان مكانه. وفي سنة ١١٠٤ توفي ودفن في تربة أجداده.