السلطان السادس والعشرون
هو بِكْر السلطان أحمد الثالث. وُلِدَ سنة ١١٢٩، وجلس سنة ١١٧١ بالغًا من العمر ٤٢ سنة، وريثما استقر في الملك أخذ في تنظيم الأحوال، وسن الشرائع، وتوطيد دعائم الأمن في داخلية البلاد بمعاضدة الصدر الأعظم راغب محمد باشا، الذي تقلَّد عدة مناصب؛ منها: ولاية مصر التي انتشلها من أيدي المماليك بعد أن أبادهم.
وحدث في تلك الأثناء أن كاترينا، زوجة بطرس السادس قيصر الروس، خلعت بعلها عن كرسي السلطنة، وجلست مكانه، وطفقت تحشد الجيوش وتشعل الحروب تحت سماء أوروبا، ثم ساقت جيوشها إلى سكان بولونيا الذين ساروا ضد شيعة لوتر، وبواسطة ما استعملت من الدهاء والرشوة أجلست على هذه الحكومة الكونت بينياتوفسكي — أحد عشاقها في مدة صباها — فغضب السلطان من ذلك، واعتمد على إشهار الحرب ضد الروس، غير أن الملكة كاترينا تعهدت لجلالته بأن تنجلي بعساكرها عن بولونيا، وعقيب ذلك نهض خان القرم على بلاد السرب الجديدة، فأحرق فيها كل الأبنية الروسية، وأسر من الروس ٣٥ ألف رجل، وكان يستعد أن يبلي الروس ويبيدهم، بيد أن أجله لم يَطُل ومات مسمومًا، وعيَّن عوضه دولة غراي. وهذا كان قاصرًا في العقل والتدبير. وبعد ذلك تقدمت عساكر التتر لتعبر نهر دنستر، فمنعها الصدر الأعظم وحارب المسكوب في شوكسن فكسرهم، وهربوا إلى مدينة بندر، لكنهم استأنفوا القتال فظفروا بجيوش الدولة وشتَّتوها، وبعدئذٍ هيَّجت كاترينا شعب اليونان، ودفعتهم إلى طلب الحرية والاستقلال، مُذكِّرةً إياهم بحرية آبائهم ومجد أجدادهم، ومن كون شريعة المسكوب قريبة لشريعة اليونان، أرسلت كاترينا معتمدًا من قبلها إليهم، فتوجَّه أولًا إلى الموره وتحدث سرًّا مع بناكي، مستلم مدينة كلاماتا، وبعد جملة مخابرات تعاهد اليونانيون على طلب الحرية آملين نوالها بإسعاف المسكوب، واعتمادًا على ذلك عاد المعتمد إلى كاترينا، وأخبرها بأن اليونان ينهضون على قدم وساق حتى عاينوا عمارة المسكوب قادمة لمعاضدتهم؛ فاغترَّت كاترينا بذلك، وانتهزت هذه الفرصة لإخراج اليونان عن طاعة الدولة، وفي سنة ١١٨٣، سيَّرت قسمًا من العمارة إلى البحر الأبيض، فتوهمت الدولة من دخولها فيه أن القصد هو توقيف أهل السويد على حدودهم، وإذ كانت الدولة مطمئنَّة من هذا القبيل وفد الجنرال أسبيردون الروسي بعمارة إلى بحر السند، وهو مضيق الدانيمرك، ومنه دخلت البحر الأبيض من جهة جبل طارق، وطرحت أمراسها في بوغاز كورون من جزائر اليونان، ونزل منها من كان فيها من الجند إلى البر، وكانوا قليلي العدد، ولما شاهدهم الأروام تذمَّروا من قِلَّتِهِمْ؛ لأنهم كانوا بانتظار جيش كثيف، وكذلك تكدر المسكوب الذين اعتمادًا على مواعيد معتمدهم كانوا يُؤمِّلون أن يتوارد إليهم الأروام من كل الجهات متى علموا بقدومهم، أما بناكي فقد انتخب أربعة آلاف مقاتل وسار بهم لمحاصرة كورون، التي كان فيها فرقة قليلة من الجيش العثماني، وبعد حصار شهرين رجعوا عنها خائبين، وبعد ذلك تجمعت عساكر الدولة وسارت تقتفي أثر الأروام والمسكوب، فأحرقت بتراس ريبوليتزا وميغالو بوليس ولاقونيا، وعملت فيهم السيف، وأفنت معظمهم، غير أن جيوش المسكوب الذين صاروا على حدود نهر الطونا قد انتصروا على عساكر الدولة هناك وتغلبوا عليهم.
وفي سنة ١١٨٤ﻫ، استأنفت الجنود العثمانية الحرب والقتال مع عساكر المسكوب فقهرتهم وأرجعتهم إلى مدينة بطرسبورج خاسرين، وحينئذٍ تداخلت النمسا بين الدولتين بشأن عقد الصلح، فرفض المسكوب ذلك، وحشد الجنود وجُمع العساكر وساقهم إلى القتال، فالتقوا بعساكر الدولة في جوار حوتين وكسروها بعد أن استولوا على الفلاق والبغدان، ثم عاودت الدولة الحرب مع الروس على أمل استرجاع البلاد التي فقدتها، فلم تنجح بالنظر لعصيان الأليكشارية وعدم انقيادهم لأوامر قوادهم، وحينئذٍ قطع الروس نهر الطونه وامتلكوا وارنه وسائر جزر القرم، وأقاموا عليها حاكمًا من التتر، ثم اتحدوا مع البروسيان والنمساويين على تقسيم بلاد اللهستان، فتكدر السلطان من ذلك وعقد العزم على الذهاب إلى دار الحرب — وكان مريضًا — وبينا كان يحتفز للذهاب توفي رحمه الله، وكان ذلك عام ١١٨٧، بعد أن قضى في تدبير الملك نحو ١٦ سنة بالحكمة والمهارة.