السلطان الثاني والثلاثون
ولد عام ١٢٤٥ﻫ، وتبوَّأ كرسي الخلافة سنة ١٢٧٧ وعمره اثنان وثلاثون عامًا، فوجه عنايته إلى إصلاح العدلية والبحرية، وتعميم المعارف في سائر أنحاء السلطنة. وفي سنة ١٢٨٤ﻫ، الموافق ١٨٦٧م، سافر إلى أوروبا ليحضر المعرض الباريزي، فاحتفلت به الدول العظمى في جميع الجهات التي مرَّ بها، وأعدت لجلالته أبهر الزينات؛ كونه أول سلطان عثماني طاف عواصم الإفرنج ليرى رقيهم العصري ويدخله في بلاده.
ولما عاد من باريز أصدر أمره إلى نوابغ السياسة العثمانية؛ وهم: فريد باشا، وعالي باشا، وفؤاد باشا، بترجمة جميع النظامات واللوائح المتعلقة بالدستور الفرنساوي، فقامت البلاد وقعدت؛ لأن إدخال الدستور في تركيا يئول إلى قلب البلاد واكتساح سلطة الفرد. وهذا لم يكن موافقًا لعظماء البلاد وأمرائها. أما الفئة المتعلمة فلم تستطع التظاهر بسائر أفكارها، ولكنها كما وُفِّقت لاستمالة أوروبا في مؤتمر باريز عام سنة ١٨٥٦ في مساعدة إنكلترا وفرنسا وإيطاليا، وحملتها على الاعتراف باستقلال الدولة العثمانية، وعدم المداخلة في أمورها الداخلية، وُفِّقَتْ أيضًا إلى استصدار الفرمانات والخطوط الشريفة من السلطان عبد العزيز بشأن حرية الأهالي، ومساواتهم في الحقوق والمعاملات، ومنع الجور والظلم والاستبداد من سائر إدارات الدولة.
تتصور أوروبا أن المسيحيين وحدهم في تركيا خاضعون للمعاملات الاستبدادية، ولاحتمال أنواع الأذى والتحقير المتولد عن الظلم، وليس الأمر كذلك؛ فإن المسلمين ربما كانوا أكثر مظلومية وأشد انحناءً تحت نير العبودية من المسيحيين؛ لأن المسلمين ليس وراءهم دولة أجنبية تُحامي عنهم، فرعايا جلالتكم من جميع المذاهب مقسومون إلى صنفين: ظالمون ظلمًا لا حد له، ومظلومون بلا شفقة ولا مرحمة، فالأولون يجدون في الحكومة المطلقة التي تستعملها جلالتكم إغراء وتشويقًا على جميع الرذائل، والآخرون تفسد أخلاقهم بعلاقاتهم المضرة مع ساداتهم، وهم مجبورون على الخضوع دائمًا للشهوات الرذيلة، ولا يستطيعون إيصال شكواهم لأعتاب سدتكم الملوكية؛ لأن ظُلَّامَهُمْ يرون هذه الاستغاثة من أكبر المفاسد، فاعتادوا دناءة الأخلاق التي لا يمكن تصوُّرها. ا.ﻫ.
فحزب تركيا الفتاة يمكن أن نعتبر وجوده من سنة ١٨٦٢ ميلادية، وقتما تولَّى مصطفى فاضل باشا نظارة المعارف العثمانية.
وفي عام ١٢٧٨ هجرية، الموافق سنة ١٨٧١ ميلادية، توفي عمر باشا أشهر قواد الدولة، وعالي باشا أشهر سواسِهَا، وتولى مسند الصدارة محمود نديم باشا، وكان شديد التعصب للإدارة القديمة يكره الإصلاحات الجديدة، وقد تمكَّن بمكره من التقرب للسلطان عبد العزيز، فأسقط الرجال المشهورين بالميل إلى الإصلاح والحرية، واستبدلهم بالمرتكبين والغاشمين، وصارت أموال الدولة تُنْفَقُ بلا حساب؛ حتى اضطرت إلى الاقتراض من أوروبا من مصارف الآستانة بالفوائد الفاحشة، ولأجل تسديدها كانت توضع الضرائب على الفقراء من الأعشار والأغنام حتى وقعت البلاد في الفقر والشقاء.
ومن الغلطات السياسية أنَّ محمود نديم باشا استصدر من السلطان عبد العزيز فرمانًا بفصل الكنيسة البلغارية عن الكنيسة الرومية، وتعيين أكسارخوس للبلغارية مستقلة عن بطريرك الروم في القسطنطينية، وكان ذلك بمساعي الجنرال إغناتيف، سفير الروسية، تمهيدًا لإيجاد الدولة البلغارية في المستقبل، مع أن الباب العالي كان يعتبر هؤلاء الأمم الصغيرة والصرب والأفلاق والبغدان والجبل الأسود والهرسك تابعين لبطريركية القسطنطينية؛ لاشتراكهم في الدين الأرثوذكسي.
ومن الغلطات المالية أيضًا إعطاء البارون هرش النمساوي امتياز سكة حديد الرومللي. وهذه الغلطات قد عرفنا نتائجها اليوم؛ حيث استقلت البلغار، واستولت دولة النمسا على سكة حديد الرومللي.
ولما استحوذ الخلل على سائر فروع الإدارة، تصادف أن مدحت باشا نُقِلَ من ولاية بغداد إلى ولاية أدرنه، فمرَّ بالآستانة وطلب مقابلة الحضرة السلطانية، ولما امتثل بحضرتها أعرض لها طرف الخلل، وسوء الإدارة، ووخامة العاقبة في بلاد السلطنة، فعُزل محمود نديم باشا من الصدارة، وعين مكانه مدحت باشا، لكنه لم يبق فيها إلا ثلاثة أشهر حتى عزل، وبعد إبدال وتغيير عاد محمود باشا نديم إلى الصدارة، وراج سوق الارتكاب، وبيع الرتب والنياشين والمزايدة في الوظائف والمناصب، حتى هاجت الأقطار، واجتمع من طلبة العلم في جوامع الآستانة ستة آلاف طالب، وهجموا على الباب العالي في ٢٢ مايو سنة ١٨٧٦ للفتك بمحمود باشا نديم، وتولية محمد رشدي باشا مكانه، فأجيب طلبهم، وتشكلت وزارة رشدي باشا منه للصدارة، ومن حسين عوني باشا للحربية، وقيصرلي أحمد باشا للبحرية، وراشد باشا للخارجية، وخير الله أفندي لمشيخة الإسلام. وفي أثناء ذلك أشعلت نار الثورة في الجبل الأسود والأفلاق والبغدان، فتحزَّبت لهم دولة الروس وتظاهرت بعدوان الدولة.
أما حزب تركيا، فقد أدرك حرج الموقف، واتَّحد مع أعضائه الذين أدخلوا في الوزارة، وهم: حسن فهمي باشا، وشاكر باشا، وسعد الله باشا، واستمالوا إليهم أمراء الحربية وشيخ الإسلام، واستصدروا الفتوى بخلع السلطان في ١٧ جمادى الأولى سنة ١٢٩٣، الموافق ٣٠ مايو سنة ١٨٧٦، ونادوا بابن أخيه السلطان مراد سلطانًا على الممالك العثمانية.
وقد نُقِلَ السلطان عبد العزيز من سراي «طولمه بغجة» إلى «طوب قبو» المقابلة لها على ساحل البحر، ثم نقل إلى سراي «جراغان» المجاورة لطولمه بغجة على ساحل البوغاز، وبعد خمسة أيام أشيع موته، واختُلف فيه؛ لأنه قيل: إنه قتل عمدًا، وقيل أيضًا: إنه انتحر بقطع شرايين ذراعه بالمقص، وإن من كشفوا على الجثة وجدوها في الدور الأسفل من السراية ملقاة على سجادة بقرب الباب، وعلى كلٍّ فإنه مات في جمادى الأولى سنة ١٢٩٣، وخلفه السلطان مراد خان.