السلطان الرابع والثلاثون
- أولًا: إعلان القانون الأساسي.
- ثانيًا: استشارة الوزراء في أمور الدولة.
- ثالثًا: تعيين ضياء بك وكمال بك كاتبين خصوصيين للمابين، وسعد الله بك باشكاتبًا؛ لأنهم من الأحرار الحريصين على إجراء أحكام القانون الأساسي.
وبعد شهر من جلوسه عُقد مؤتمر دولي مؤلَّفٍ من ١١ مرخصًا، ٢ من إنكلترا؛ وهما: السير هنري إليوت، واللورد سالسبوري، و٢ من فرنسا، و٢ من النمسا، و١ من إيطاليا، وواحد من ألمانيا، و٢ من الدولة؛ وهما: صفوت باشا، وأدهم باشا، فعقدوا الجلسة الأولى في ٢٣ ديسمبر سنة ١٨٧٦. وكانت الغاية من هذا المؤتمر النظر في الإصلاحات الواجب إدخالها في بلاد الدولة لتحسين الحالة، ورفع المظالم، ولم يتم افتتاح الجلسة الأولى حتى دوَّت أصوات المدافع إيذانًا بإعلان القانون الأساسي المتكفل بإعطاء الحقوق والحرية لجميع الرعايا بدون استثناء. وقد قصد السلطان عبد الحميد بإعلان هذا القانون إقناع الدول بعزمه على إجراء جميع الإصلاحات المطلوبة، فلا يبقى فائدة من أعمال المؤتمر؛ حيث إن الأمة تولت إصلاح شئونها بنفسها.
وكانت الوزارة تحت رياسة محمد رشدي باشا، فاستعفى وتولاها مدحت باشا، فشكَّل مجلسًا عاليًا تألَّف من الوزراء والمشيرين والرؤساء الروحيين والأعيان من مسلمين ونصارى ويهود، وعرض عليهم لائحة المؤتمر، وأفهمهم طلبات الدول التي بها استقلال الأمم البلقانية، وأن مرادها يؤدي إلى الحرب، فاجتمعت كلمتهم على رفض تلك الطلبات؛ لأن قبولها فيه إهانة عظمى لشرف الأمة، حتى إن الروم عزموا على تشكيل فرقة متطوعة لمحاربة الصرب مع عساكر الدولة.
فبناء على ذلك أجاب الباب العالي في ٢٠ كانون الثاني سنة ١٨٧٧ برد طلبات الدول، ورفض المؤتمر الدولي، إشارة لقطع العلائق بين أوروبا والباب العالي.
لم يكن غرضنا من إعلان القانون الأساسي إلَّا قطع دابر الاستبداد، وتعيين ما لجلالتكم من الحقوق وما عليها من الواجبات، وتعيين وظائف الوكلاء، وتأمين جميع الناس على حريتهم وحقوقهم حتى تنهض البلاد إلى معارج الارتقاء، وإني أطيع أوامركم إذا لم تكن مخالِفة لمنافع الأمة …
ونحو ذلك من هذا القبيل، فغضب السلطان من هذه الجرأة، وعزل مدحت باشا ونُفِيَ على الباخرة «عز الدين» إلى إيطاليا، ووُجِّهَتِ الصدارة إلى أدهم باشا.
وبعد خروج السفراء من الآستانة بعث البرنس غورجاكوف، ناظر خارجية روسيا، إلى الدول منشورًا في ٣١ يناير سنة ١٨٧٧، طلب فيه مداخلتها جمعاء في إجراء الإصلاحات بالممالك العثمانية، وإلا اضطر القيصر وحده إلى اتخاذ التدابير الفعالة، وأرسل الجنرال أغناتيف إلى عواصم أوروبا ليقنع الدول بأن الباب العالي بدأ بالإخلال في معاهدة باريس.
أيها الأعيان والمبعوثان:
إنني أُبدي الامتنان بافتتاح المجلس العمومي الذي اجتمع المرة الأولى في دولتنا العلية، وجميعكم تعلمون أن ترقِّي شوكة واقتدار الدول والملل إنما هو قائم بواسطة العدالة، حتى إن ما انتشر في العالم من قوة دولتنا العلية، وقدرتها في أوائل ظهورها، كان من مراعاة العدل في أمر الحكومة، ومراعاة حق ومنفعة كل صنف من صنوف التبعة. وقد عرف الناس أجمع تلك المساعدات التي أبداها أحد أجدادنا العظام المرحوم محمد خان الفاتح في مطلب حرية الدين والمذهب. وكافة أسلافنا العظام أيضًا قد سلكوا على هذا الأثر، فلم يقع في هذا المطلب خلل بوقت من الأوقات، وغير منكَر أن المحافظة منذ ستمائة عام على صنوف تبعتنا وملتهم ومذاهبهم كانت النتيجة الطبيعية لهذه القضية العادلة. والحاصل بينما كانت ثروة الدولة والملة وسعادتها صاعدتين في درج الترقي في تلك الأَعصار والأزمان بظل حماية العدالة ووقاية القوانين، أخذتا بالانحطاط تدريجًا؛ بسبب قلة الانقياد للشرع الشريف وللقوانين الموضوعة، وتبدلت تلك القوة بالضعف … إلخ.
وقد تعين أحمد وفيق رئيسًا ﻟ «مجلس المبعوثان»، وانعقدت الجلسة الأولى تحت رئاسته، فدارت فيها المذاكرة على وضع العريضة الواجب تقديمها جوابًا على النطق الشاهاني، ثم حدث أن مرخصي الدول الست الذين تألَّف منهم مؤتمر الآستانة اجتمعوا في لوندرا، فوقَّعوا في ٣١ مارس سنة ١٨٧٧ على مضبطة بدون أن يكون معهم مرخص الدولة، طلبوا فيها من الباب العالي التخلي عن عشرين ناحية من أملاك الدولة إلى إمارة الجبل الأسود؛ بحجة أن لغتهم سلافية، فحضر ناظر الخارجية إلى «مجلس المبعوثان» وقرأ عليهم نص تلك المضبطة، مبينًا لهم أحوال السياسة الخارجية، وأفهمهم بأن رفض التسليم بما جاء في تلك المضبطة يؤدي إلى الحرب مع روسيا.
ومعلوم أن ليس للدولة معين من بقية الدول كما كان لها في حرب القرم، فاعترض أكثر المبعوثين على قبول المضبطة، وأظهروا من الحماسة والغيرة بالوطنية ما لا مزيد عليه، ورفضوا قبولها بالأغلبية، وعندئذٍ نظم الباب العالي احتجاجه على المضبطة المذكورة في ٩ أبريل سنة ١٨٧٧، وأسنده على أن محتويات تلك المضبطة مجحفة باستقلال المملكة العثمانية المصدق عليه في معاهدة باريز، وفي ٢٤ أبريل سنة ١٨٧٧ أُعْلِنَتِ الحرب، ودامت ثمانية أشهر، وأظهرت فيها الجنود العثمانية من الشجاعة والجلد ما دَلَّ على قوتها، ولكن قلة التجهيزات العسكرية، وسوء الإدارة، وفراغ الخزينة من المال، وصدور الأوامر المتناقضة من جانب السلطان إلى القيادة العامة أتاح النصر للروس في تركيه أوروبا، ثم في آسيا، فتجاوزت جنودهم نهر الطونه وجبال البلقان، واستولوا على القرص، وحاصروا أرضروم من جهة الأناضول، وفتحوا قلعة بلافنا، فأبلى عثمان باشا الغازي وعساكره بلاء حسنًا اندهشت له أوروبا.
أيها الأعيان والمبعوثان:
إنني مُمْتنٌّ من افتتاح المجلس العمومي ومشاهدة مبعوثي الملة، وأذكر لكم انتشاب نار الحرب بيننا وبين الروس، وإن الضرورة قد قضت علينا بهذه الحرب محافظة على الحقوق العمومية، وحق المساواة بين جميع سكان المملكة، وإدخال غير المسلمين في السلك العسكري، والمحافظة على القانون الأساسي، وإصلاح المالية، ثم إن إيجاد الحقائق في المسائل القانونية والسياسية، وتأمين منافع البلاد يتوقَّفان على مبادلة أرباب الشورى وأفكارهم بالحرية التامة، وبما أن القانون الأساسي يأمركم بذلك، فلا أرى احتياجًا إلى حثِّكم على ذلك.
ثم انعقد «مجلس المبعوثان» تحت رئاسة حسن فهمي أفندي، ودارت المذاكرات من ديسمبر سنة ١٨٧٧ إلى فبراير سنة ١٨٧٨، وكثر الجدال بشأن محاكمة المرتكبين، وقطع دابر الرشوة، وتحسين أحوال المحاكم، حتى قال أحد «المبعوثان»: «إن عساكر الضبط في الولايات تنهب الأهالي، وإن المحاكم ترتشي على إبطال الحق …» وغير ذلك من القول المؤلم.
ثم استُقدم مدحت باشا من أوروبا، وكانت الحرب الروسية في منتهاها؛ لأن عساكر الروس كانوا استولوا على أدرنه وما جاورها، فدولة النمسا طلبت وقتئذٍ عقد مؤتمر في فيينا من الدول الموقِّعات على معاهدة باريس؛ لوضع المعاهدة الجديدة بين تركيا وروسيا، وأرسلت إنجلترا أساطيلها الحربية إلى بحر مرمرا، وتداخلت أوروبا بالمسألة الشرقية لإرجاع الروس عن أبواب الآستانة، فاغتنم السلطان وقوع بعض الخلاف بين الدول واستغنى عن مشورة «مجلس المبعوثان»، فشكل في ١١ فبراير سنة ١٨٧٨ مجلسًا عاليًا من وكلاء الدولة وأعيانها والرؤساء الروحانيين. وهذا المجلس استدعى إليه خمسة أشخاص من «مجلس المبعوثان»؛ وهم: الرئيس، ووكيلاه، وأحد مبعوثي الآستانة، ومبعوث آخر إسرائيلي؛ للمداولة معه في الحالة الحاضرة، فمندوب الآستانة الحاج أحمد أفندي كتخدا أجابه بأن جملة مسائل حصلت بدون سؤال «المبعوثان» عنها؛ ولذلك فإنهم يلقون كل مسئولية الخراب على عاتق الوزارة.
ولما بلغ السلطان ذلك عدل عن سياسة والده المرحوم السلطان عبد المجيد، من حيث إجراء الإصلاحات، وإعطاء الحرية، وتطبيق القانون الأساسي، ورجع إلى سياسة جده السلطان محمود معتقدًا أن الشعوب التي وضعها الله تحت سلطته لا يمكن تسييرها إلا بالقوة والاستبداد، فأصدر إرادته في ١٤ فبراير سنة ١٨٧٨ بتعطيل «مجلس المبعوثان» لأجل غير مسمًّى.
ثم أوعز السلطان إلى اضطهاد رجال «المبعوثان»، فتبعثروا بين مصر وباريس والولايات المتطرفة، فمنهم خليل غانم، مبعوث بيروت، فإنه هاجر إلى باريس وانقطع فيها إلى تحرير القسم الشرقي في جريدة الدنيا، وفيه أماط النقاب عن سائر ما يُجريه السلطان ورجاله من المظالم والاستبداد، ولبث على هذه الخطة إلى أن توفي.
أما الحرب الروسية فقد انتهت في أواخر شهر فبراير من سنة ١٨٧٨، وكان الفوز فيها للروس، وعقد السلطان معهم شروط الصلح الابتدائية بالمعاهدة المعروفة بسان إستفانوس، ثم في ١٠ رجب سنة ١٢٩٥، الموافق ١٣ يوليو سنة ١٨٧٨، استبدلت بهذه المعاهدة معاهدة برلين، فاستقلت ولاية البلغار، وجعلت الروم إيلي الشرقية ولاية ممتازة، واستقلت السرب والجبل الأسود والأفلاق والبغدان، واحتلت النمسا بلاد بوسنه وهرسك، واحتلت إنجلترا جزيرة قبرص، وفي سنة ١٣٠٣ ثارت الروم إيلي الشرقية للتوصل إلى انضمامها للبلغار، فحصل لها الاتحاد النوعي، ثم أخذ السلطان يغير ويبدل في الوزارة إلى أن تولَّاها جواد باشا مع حداثة سنِّه، وعدم اختباره بأحوال المملكة؛ لأنه كان من أمراء العسكرية ولم يسبق له الاشتغال بأمور السياسة، فعلى عهده حصل اضطهاد الأحرار، وراج سوق الجاسوسية، وانتشرت الرشوة في سائر فروع المصالح والإدارات، وصارت الوظائف والرتب والنياشين تُباع بيع السلع. ولأن المادة ٦١ من معاهدة برلين أوجبت على الباب العالي السرعة في إجراء التحسينات والإصلاحات التي تقتضيها حالة البلاد في الولايات المأهولة من الأرمن لحمايتهم من الجراكسة والأتراك، فإنجلترا قامت تطالب السلطان بذلك، فانحرفت سياسته عنها واتجهت نحو ألمانيا، وبقي الأرمن يتألَّمون من صنوف الظلم التي تقع عليها، ولمَّا لم يجدوا لهم مغيثًا ألَّفوا في سنة ١٨٩٠ جمعية لتحريرهم، وكان رأس مالها ١٣٠٠٠٠ فرنك، فأحس بها أحرار العثمانيين، وتشاوروا معها خفيةً لإصلاح عموم الولايات العثمانية؛ لأن الظلم والغدر شاملان للأرمن والأتراك ولعموم المسلمين والمسيحيين، ويزيد المسلمون على غيرهم باحتمالهم أعباء الخدمة العسكرية التي تقعدهم عن زرع الأراضي والاتِّجار، ثم انتشرت فروع لهذه الجمعيات في أوروبا، فشعر السلطان بذلك، وأوعز إلى المقربين منه ليبثوا روح العداء بين الأكراد والأرمن، فاشتعلت نار الفتن بينهم في سنة ١٨٩٤، وحدثت مذابح ساسون وسواها، وخُرِّبت ثلاثون قرية من قرى الأرمن عن آخرها، وذُبحت النساء والأطفال ذبح الأغنام.
فهذه الحادثة قد شجعت الجمعيات الأرمنية مع جمعية رجال الأحرار فنهضوا، واشتدت نقمتها على السلطان، وبثوا روحهم بين تلامذة المدارس العليا في الآستانة، فاجتمع أربعة من تلامذة مدارس الطب؛ وهم: إسحاق سكوتي من ديار بكر، وعبد الله جودت وحكمت أمين من قونية، ومحمد أمين من قوقاسيه، وألفوا جمعية سموها جمعية الاتحاد والترقي، جعلوا موضوعها طلب الإصلاحات الدستورية للمساواة بين أصناف الرعية، والحصول على حرية القول والعمل، وضمانة الأرواح والأموال، وتقييد السلطان بالقوانين؛ فانضم إليهم كثيرون من تلامذة المدارس وأرباب الأقلام، واتخذوا في قبول الأعضاء وإدخالهم في هذه الجمعية طرقًا تشبه الطرق الماسونية، وزادوا عليهم أسلوبًا غريبًا يأمن به الداخل كشف أمره حتى بين إخوانه أعضاء الجمعية، بحيث إن العضو الواحد لا يعرف من سائر الأعضاء — ولو كانوا ألوفًا — إلا اثنين: العضو الذي أدخله، والعضو الذي توسط في إدخاله.
ثم إن فروع الجمعية المركزية كانت أولًا في الآستانة، ثم انقلبت إلى باريس، ثم إلى سالونيك، ومؤلفة من لجنة إدارية يتعارف أعضاؤها ويجتمعون، ثم يصدرون أوامر إلى اللجان الفرعية، فإذا عرف أعضاء الإدارة أحدًا من العثمانيين توسَّم فيه الذكاء والميل إلى الحرية وإصلاح المملكة، تدرَّج في إطلاعه على وجود الجمعية، فإذا طلب الانتظام في سلكها وعَده في النظر بطلبه، ثم خاطب اللجنة بشأنه، فإذا قبلته سلمته نمرة يعرف بها من سجلاتها، ودعته للحضور في جلسة سرية يحضرها أعضاء اللجنة متنكرين، فيقسم اليمين على الإنجيل والقرآن والمسدس، ويخرج ولا يعرف غير صديقه الذي أدخله.
وقد نَمَتْ هذه الجمعية ودخل في سلكها عدد كثير من ضباط وأمراء العسكرية، وأنشئت لها جملة فروع؛ منها فرع الآستانة تحت رئاسة شفيق بك من كبار الياوران، وفرع في بساماتيا تحت رئاسة الشيخ الناقلي، وفرع في سالونيك، وآخر في بيروت، ثم في دمشق تحت رئاسة شفيق بك العظم، وفرع في رودس، وآخر في مصر.
واشتهر مراد بك الداغستاني أنه من رؤساء هذه الجمعية، وهو كاتب بليغ له مكانة رفيعة بين أرباب الأقلام، ولما أنشأ جريدة ميزان زادت شهرته، ونهضت الجمعية على أيامه حتى بدأت تجاهر بمطالبها، فكتب مراد بك تقريرًا في الحالة الحاضرة ورفعه إلى السلطان، فكانت النتيجة تأجُّج نار الغضب عليه، فانتبهت الجمعية المركزية للخطر المحدق برجالها، وعزم أعضاؤها على مفاجأة مجلس الوكلاء في أثناء اجتماعه بالباب العالي، وخلع السلطان عبد الحميد، وإعادة السلطان مراد أو تولية ولي العهد، وعوَّلوا في تنفيذ طلبهم على كاظم باشا، قائد الفيلق الأول في الآستانة، وبينما هم يتحفزون إلى العمل اعترضهم نجيب باشا، سفير تركيا في مدريد سابقًا؛ لأن القوة التي كانت بيد كاظم باشا لم تكن كافية، فأخَّروا القرار إلى وقت آخر. وهذا التأخير أوجب مناقشات حادة، حتى إن نادر بك، سكرتير الجمعية المركزية، اعترض على التأخُّر بصوت جهوري، فوصل صداه إلى بعض المُتلصِّصين، فوشى به إلى السلطان، فجمعهم بقوة الضابطة، وأنزلهم في باخرة مع عائلاتهم لتوزيعهم على جهات بعيدة، وهكذا تشتَّتَتْ هذه الجمعية ولم تقُم لها قائمة إلا عندما غضب الداماد محمود باشا، صهر السلطان عبد الحميد، وخرج من الآستانة مع نجليه: البرنس صباح الدين، ولطف الله أفندي، وذلك في شهر ديسمبر عام ١٨٩٩، واستوطنوا باريس، فالتف حوله رجال الأحرار، وعادوا إلى الاشتغال في قلب دولة الظلم والاستبداد، وظهر في مقدمتهم أحمد رضا بك، وهو رئيس «مجلس المبعوثان» الآن، فإنه نشأ في عهد مصطفى باشا وعالي باشا، وتشرَّب منهما روح الحرية والوطنية، وهو ابن المرحوم علي بك إنكليز؛ لأنه كان قد تعلم الإنكليزية، ووقف على المدنية الأوروبية. وقد حضر إلى باريس عام ١٨٩٠، وحرر إلى السلطان لائحة مفصلة مشتملة على وسائل إصلاح الإدارة والمالية والزراعة والتجارة والعدلية، فنقم عليه السلطان عبد الحميد، وخصوصًا عندما ترأَّس شعبة باريس ونشر جريدته (منشورات) بالتركية والعربية.
ثم جددت شعبة مناستير أعمالها، وأخذت تنشر مبادئ الجمعية بين ضباط الجنود، فانتظم فيها كثيرون منهم، وأشهر أعضاء هذه الشعبة طلعت بك ومدحت بك، وكانت المخابرات مُتَّصلة بينهما وبين الجمعية المركزية في باريس.
ولما تمكَّنت الجمعية من انضمام ضباط وأمراء الفيلقين الثاني والثالث المعسكرين في سالونيك ومناستير وأسكوب وأدرنه وأزمير مع ضباط وأمراء الفيلق الرابع المُعسكِر في أرضروم، أخذتْ في تأليف العصابات الوطنية في مقدونية؛ لمقاومة كل حركة عدائية. وأول من باشر تأليف العصابات كان نياظي بك البطل المشهور، ثم اقتدى به زميله أنور بك، وكلاهما من الفيلق الثالث، وتبعهما كثير من الضباط، فانتشر كل منهم في جهة من جهات مقدونية وألَّف عصابة لإعداد الأهالي لقبول روح الحرية والاستقلال، وإعادة «مجلس المبعوثان»؛ لأن الإسلام يأمر بالشورى.
ولما كانت البلاد قد سئمت من الظلم والاستبداد، فقد استقبل الأهالي نياظي وزملاءه بكل ارتياح، وأقسموا لهم اليمين على الإخلاص لهم، وأنهم معهم ضد كل من يقاوم الحرية والإصلاح وإعادة القانون الأساسي.
وقد حاول السلطان كثيرًا إمحاق هذه الروح من بلاد السلطنة، ولكن بعد أن أعيته الحيل، وتظاهرت الفيالق الثلاثة بتعضيد رجال الأحرار، جمع الوزراء وشيخ الإسلام والشيخ أبو الهدى وشاورهم في شأن الجمعية، من حيث إعادة القانون الأساسي، فأشاروا عليه جميعًا بإعادته.
وفي يوم ٢٤ يوليو سنة ١٩٠٨، الموافق ٢ جمادى الثاني سنة ١٣٢٦، أصدر السلطان إرادة شاهانية بإعادة «مجلس المبعوثان» الذي صدر به القانون الأساسي سنة ١٨٧٦، وعينت وزارة هذا العهد الجديد مُشكَّلة من سعيد باشا كجك للصدارة، وعمر رشدي باشا للحربية، ولبث باقي الوزراء في مناصبهم.
وقد أقيمت حفلات فخيمة في سائر أنحاء السلطنة بلغت فيه مظاهرات التآخي بين جميع أصناف الأمة منتهى مظاهرها، وقام الخطباء ونوابغ الشعراء يتبارون في إطراء الحرية، والتغني بالدستور، حيث أجادوا في وصفه بأنه منبت الحرية والمساواة، ومصدر العدالة والمصافاة، وأنه السيف القاطع لأيدي الظلام الواقي من أعساف الحكام، الحاقن للدماء، والدافع للبلاء، وغير ذلك من نفيس القول.
أما السلطان عبد الحميد، فبعد إعلان الدستور، فقد استعمل كل حيلة ودهاء ليؤكد للدستوريين أنه أصبح دستوريًّا أكثر منهم، وأعلن ذلك مرارًا، كما أعلن أنه كان مغرورًا بالمقرَّبين إليه، لكنه سعى سرًّا في تأليف جمعية باسم الجمعية المحمدية، مشكَّلة من الأشراف والعلماء مرماها بأن الشورى تعم المساواة بالعباد على مبدأ الشريعة المطهرة، فأقبل الناس على الدخول فيها. وفي مدة قليلة تألَّف لها شعب في عموم الولايات العثمانية، وقامت في أول أعمالها في يوم عيد المولد النبوي الشريف، حيث تجمهر عدد كبير من الصفطاء وعامة الشعب مع أفراد الجنود، وقاموا بمظاهرة كبرى أمام الباب العالي و«مجلس المبعوثان» طالبين إجراء حصول الشريعة، فأحدثت هذه المظاهرة الخوف والاضطراب في الآستانة.
وفي يوم الأربعاء ١٠ فبراير سنة ١٩٠٨، شاع أن الصدر الأعظم عزل رضا باشا ناظر الحربية، وعارف باشا ناظر البحرية؛ اتقاء لمؤامرة ضد السلطان، فقدَّم شيخ الإسلام مع ناظري الداخلية والعادلية مع رئيس مجلس الشورى استقالتهم؛ لعدهم ذلك العزل مخالفًا للقانون الأساسي، على أن الناس اشتد هياجهم على أثر ذلك، واعتقدوا أن الصدر الأعظم لم يعزل ناظري الحربية والبحرية إلا عندما تأكَّد أن هناك مؤامرة ضد السلطان، وأن مدبريها هم أعضاء جمعية الاتحاد والترقي بما فيهم ناظر الحربية، فأصبح السخط عامًّا على هذه الجمعية؛ لأن الشعب أصبح يحب السلطان بعد أن تظاهر بمظهر الدستوري، ومخافة أن خلعه يؤدي إلى فتن قد تسبب إلغاء الدستور، ثم حدث أن عساكر الآستانة تمردت على ظباطها، وطافوا في الشوارع معيثين بالأمن، فانضم إليهم جملة آلاف من العامة، وهجموا على «مجلس المبعوثان»، فأطلقوا على نوافذه رصاص بنادقهم. أما طلباتهم فكانت قاصرة على أن يكون الدستور وجميع الأحكام منطبقة على التربية الإسلامية، وقد انتدب شيخ الإسلام سماحة ضياء الدين أفندي لمفاوضتهم وإقناعهم بالكَفِّ عن التمرد، فلم يسمعوا.
وفي ١٣ أبريل سنة ١٩٠٩، اجتمع مئات من الجنود بسلاحهم وقصدوا ميدان جامع أجيا صوفيا دون ظباطهم؛ لعرض بعض المطالب على مجلس الأمة، فأرسلت الحكومة فصيلة من الجنود لصدهم، فاقتتل الفريقان قتالًا شديدًا، وبسببه أقفلت العاصمة، واستولى الرعب على السكان، وتفاقم الخطب حتى أصبحت الآستانة ميدانًا للفوضى، وتعطلت المصالح والمدارس ونظارات الحكومة، واختفى معظم أعضاء «المبعوثان».
واقتُضي لتسكين هذا الهياج وتأييد الدستور زحف جنود الاتحاد من سالونيك ومقدونيا تحت قيادة شوكت باشا إلى الآستانة، فحاصروها واحتلوا مواقعها وقبضوا على الجنود الثائرين في يوم الجمعة ٢٣ أبريل سنة ١٩٠٩. وفي يوم السبت ٢٤ أبريل سنة ١٩٠٩، استيقظ الناس على دَوِيِّ المدافع من جهة يلدز؛ لأن السلطان أصر على المقاومة، فحصرت السراي، وبعد مدة أرسل قومندان الاحتلال إلى جواد بك قائد جنود يلدز إنذارًا بالتسليم فسلَّم، ولكن بعض الجنود الذين بداخل السراي لم يقبلوا بالتسليم. وفي صباح يوم الأحد حملوا ستين مدفعًا وطافوا في الشوارع، فضربتهم جنود الاتحاد وفتكت بهم عن آخرهم. أما السلطان فسلم يوم السبت مع رجاله من طاهر باشا إلى نادر أغا وعبد الغني أغا وكل أغوات القصر، وقبل التسليم طلب التأمين على حياته فأجيب طلبه، وعند ذلك نقل إلى سراي «طولمه بغجة»، وأعلنت الأحكام العرفية في الآستانة، واستلم أحكامها محمود شوكت باشا قائد الجنود الفاتحة.
واجتمع مجلس النواب في سان إستفانوس وقرروا خلع السلطان عبد الحميد، بعد أن صدرت الفتوى بذلك، وأعلن خلعه في يوم الثلاثاء ٢٧ أبريل سنة ١٩٠٩، الموافق ٧ ربيع الآخر سنة ١٣٢٧، ونودي بحضرة رشاد أفندي سلطانًا باسم السلطان محمد الخامس، ثم نقل السلطان عبد الحميد المخلوع من الآستانة إلى سالونيك، وهناك وُضِعَ في سراي اللاتيني تحت الخفارة مع أربعة من نسائه، وهو باقٍ فيها إلى الآن، وعين له المرتب اللازم بعد أن صودرت جميع أملاكه وأمواله ومجوهراته، فسبحان الدائم الذي لا يتغير.