السلطان الثالث
وُلِدَ عام ٧٢٦ للهجرة، ويفع على كرم الأخلاق وتمام الكمال، مُزْدَانًا بكرم الخلق، ووفرة الحلم، ولما بلغ أشُدَّهُ حضر جملة مواقع في محاربة والده لليونان، فأظهر بسالة لا توصف، وإقدامًا يسير بذكره الركبان، وقد جلس على سرير السلطنة عُقَيْبَ وفاة والده عام ٧٦١ﻫ، بالغًا من العمر خمسًا وثلاثين سنة، ولم يقبض على منصة الأحكام حتى شاقَه فتح البلاد توسيعًا لنطاق المملكة، فساق جيوشًا نحو بلاد أوروبا، فضرب أدرنه، وعندما افتتحها نقل إليها كرسي السلطنة واستقر بها عام ٧٦٣، ثم ساق جنوده نحو بلاد البلقان فتبوَّءوا مدنها، وافتتحوا حصونها، وبعد ذلك أبرم معاهدة صلح بينه وبين ملك اليونان، بيد أن تلك المعاهدة لم تطُل زمنًا؛ حيث اجتمع جيش جرَّار من اليونان وبوسنه والمجر والأفلاق، وحاصروا مدينة أدرنه، فوثبت عليهم الجنود العثمانية — وهم نيام — مهلِّلين مكبِّرين ضاربين الطبول، حتى استيقظ عسكر العدو مذعورًا من تلك الأصوات، فالتجأ إلى الفرار طارحًا نفسه في مياه نهر هناك. ثم وجَّه عساكره المظفرة إلى جهة آسيا، فافتتحت فيها جملة بلاد، وفي أثناء ذلك بلغه أن بعض اليونان شقُّوا عصا الطاعة، ورغبوا في العصيان، فزحف عليهم عاملًا بهم السيف حتى أخضعهم، واغتنم مدينة أنديجر، وحاصر مدينة سيذيبولي فأخضعها بعد زمن طويل، وقد عقد لولده بايزيد على بنت حاكم قرمان، بغية أن يجعل الألفة والاتحاد مع حكام آسيا الصغرى، وجرت حفلة النكاح بحضرة نواب سوريا ومصر، ووُزِّعَتْ بأثنائها على العلماء الكرام والرجال الفخام هدايا ثمينة من أوانٍ ذهبية وفضية مزركشة بالزمرد والياقوت.
وفي سنة ٧٩١، تألَّفت عساكر من الصرب وبوسنه وهرسك والأرناءوط والأفلاق والبغدان، وتعاهدوا على محاربة الجنود العثمانية، والاستيلاء على بلادها، ولما بلغ الخبر مسامع السلطان ألَّف مجلسًا من أمراء العساكر وكبار رجال الدولة للمداولة معهم فيما يجب اتخاذه من التدابير توصلًا لعاقبة محمودة، فأبطل ولده بايزيد كل مشورة وهتف قائلًا: الحرب الحرب، والقتال القتال. فدُقَّتْ حينئذٍ طبول الحرب، وسارت الجنود إلى ساحات الكفاح سير الذئاب الكاسرة، ولما بلغوا ميادين الوغى وثبوا على الأعداء وَثَبَاتِ الأبطال، والتحموا معهم في القتال التحامًا لم يعد يُرى معه إلا جماجم طائرة، وفرسان غائرة، ودوي سرح تدك الجبال الشامخة. وبعد عدة ساعات، انجلت المعركة عن فوز العساكر الشاهانية، عقَّبت أن أسروا قرال السرب، ثم بعد ذلك أخذ السلطان مراد يتمشى بين القتلى، وإذ كان ينظر إليها بعين الاندهاش، نهض رجل من بينها ملطخًا بالدماء وطعنه بخنجر، فسقط على الأرض يتخبَّط بدمه، ومات شهيدًا بعد بضع ساعات، لكن قبل وفاته أمر بقتل حاكم السرب المأسور، وتقطيع القاتل له إربًا إربًا، ثم نقلت جثته الشريفة إلى بروسه، وهناك دُفِنَتْ بكل تعظيم وتبجيل. أسكنه الله دار النعيم.
عاش خمسًا وستين سنة، وتوفي سنة ٧٩١ بعد أن تربَّع على تخت السلطنة مدة ثلاثين عامًا أعلى فيها شأنها، ووسَّع نطاقها، وأوجد العلم العثماني وهيئة الطغراء الشاهانية، وشاد أبنية عظيمة من جوامع ومدارس وقلاع وحصون وغير ذلك، ومن أشهر آثاره سراي أدرنه، وكانت غزواته وفتوحاته ٣٧.
كان رحمه الله شديد البأس، عالي الهمة، ثابت العزم، قويَّ الجأش، واسع العقل، ليِّن العريكة، محبًّا للرعية. رحمه الله رحمة واسعة.