السلطان الرابع
ولد عام ٧٦١ﻫ، وجلس على كرسي الملك بعد وفاة والده الطيب الذكر عام ٧٩١ وله من العمر ثلاثون عامًا، ولقب بالبرق لخِفَّتِهِ ومهارته بالحرب، وكان أخوه الأكبر يعقوب خان أولى بالخلافة منه بالنظر لكونه الكبير، ولكي يأمن من منازعته قتله، فلامه رجال السلطنة على ذلك وشدوا عليه النكير باللوم والتعنيف، فقال لهم: إن أمير المؤمنين الذي هو ظل الله في أرضه يجب أن يكون واحدًا في الأرض كما أن الله واحد في السماء. ومن ذاك الوقت جرت العادة بين ملوك آل عثمان بقتل إخوة السلطان أو سجنهم في محابس مُعَدَّةٍ لهم تحت الحفظ، ولم تنسخ تلك العادة إلا على عهد الطيب الذكر السلطان عبد المجيد خان.
وبعد أن جلس السلطان بايزيد على تخت السلطنة جرَّد جيشًا كثيفًا زحف به إلى السرب، فاستولى على مدينة أزبورنا وويدين، ولمَّا تقدم حتى يمتلك مدينة سكوب خاف ملك السرب، وعقد للسلطان بايزيد على أخته تقرُّبًا منه وتوددًا، وليأمن شر غائلته تعهَّد له بتقديم جانب له من العساكر، وخراجًا له سنويًّا من المال وافر المقدار. وفي تلك الأثناء وقعت منازعة بين «جوان» ملك القسطنطينية، وبين ابنه أندرونيكوس وولد ابنه بشأن الملك، ولما حبسهما الملك جوان استغاثا بالسلطان بايزيد، فأنقذهما وقلَّدهما الملك، فتعهدا لجلالته بأن يدفعا إليه قناطير مقنطرة من المال في كل عام، ثم سجن مكانهما في برج هناك الملك جوان وولده عمانويل، غير أن الملك جوان فلت مع ولده من السجن، وامتثل بين يدي السلطان بايزيد، وعاهده على أن يقدم له فورًا مقدار الذهب المتعهد به ابنه أندرونيكوس، علاوة على ذلك ٦٢ ألف مقاتل، فقبل منه السلطان ذلك، وأجلسه على كرسي الملك، ونفى ابنه أندرونيكوس إلى جزائر البحر الأبيض.
وفي تلك الأثناء وقع الصلح بين السلطان بايزيد وملك السرب، وتعهد هذا الأخير ببناية الجوامع والمدارس والمحاكم. وفي عام ٧٩٤ أمر ببناء جامعه الشهير في مدينة أدرنه، وخصص لمصاريفه بعضًا من دخل مدينة الأشهر التي اغتنمها من أيدي اليونان، وشاد بها جملة جوامع ومدارس، ثم هجم على بلاد علاء الدين، حاكم قرمان، فاستولى على ولاية قونية وسيواس وملاطية، وبعد أن أخضع البلاد في جهة الأناضول عبر البحر للجهة الثانية من قارَّة أوروبا، طلب من جوان ملك القسطنطينية ما عاهده به، فلبَّى الطلب، وبعث إليه بقسم من عساكره تحت قيادة ولده عمانويل. وفي ذلك الزمان، توجهت العمارة العثمانية فاستولت على جزيرة رودوس وعلى عدة جزر خلافها، فاستاء الملك جوان من ذلك، وشرع يحصن أسوار القسطنطينية ويستعد للدفاع، ولما بلغ ذلك السلطان بايزيد أعلمه بقوله: إما أنك تهدم أسوار القسطنطينية، وإما أني أطفئ نور عيني ولدك عمانويل. فهاله هذا التهديد، واضطُرَّ إلى السمع والطاعة، ولم يلبث طويلًا بعد ذلك حتى مات كئيبًا حزينًا، ولما علم عمانويل بوفاة والده غافل السلطان بايزيد وجاء القسطنطينية يتولى مكان والده، فأرسل السلطان قسمًا من جنوده لحصار القسطنطينية، وقسمًا آخر لمحاربة البلغار الفلاق، فاستولوا على عدة مدن منها، ثم أخضع البلاد الجنوبية من جهة الأناضول، وانتقل منها فامتلك جهات قاضي بهران الدين وعلى المقاطعات العشر السلجوقية.
وفي عام ١٣٩٤ ميلادية، الموافق سنة ٧٩٦ﻫ، عقيب أن أخمد الفتن في جهات الأناضول، حشد الجيوش وأَعَدَّ مهمات الحرب لفتح القسطنطينية، فقطع إلى جهة أوروبا، واستولى على مدينة سالونيك وتمركز فيها، ثم ساق الجيوش إلى الجهة الشمالية في بلاد البلغار. ولما بلغ ذلك سيزمان، قرال البلغاريين، خاف كثيرًا وجاء إلى أوردي علي باشا، وزير السلطان بايزيد، ومعه ولده، ووضع كل منهما في عنقه منديل الأمان، فأمَّنهما على حياتهما، وأرسل الأب إلى مدينة فيليبولي، وأبقى الولد في معسكر السلطان، ولم يلبث مدة حتى اعتنق دين الإسلام، ولما علم سيجموند، ملك المجر، افتتاح السلطان بايزيد بعض مدائن البلغار التي تحت لوائه، أنفذ للسلطان رسولًا يقول: من أين لك الحق أن تستولي على البولغارستان؟ فلما امتثل الرسول بين يدي السلطان أراه حزمة من القوس والنشاب وقال له: اذهب وأخبر مولاك بما نظرت. وكان هذا الجواب دليلًا على مقاومة الجنود العثمانية، فانطلق حالًا إلى مدينة رومية، وانطرح على أقدام البابا بونفياس الثاني طالبًا منه المعونة والإسعاف، فأنجده البابا مع كارلوس الثالث، ملك فرنسا، بعشرة آلاف مقاتل، وأنفذهم إليه تحت قيادة الشاب نافار ابن ملك بورغونيا. وقد انضم إلى أولئك الجنود شيفالير سنجان في القدس الشريف، وصاحب الفلاق مع جنوده حتى توفَّر لدى صاحب المجر ثمانون ألف مقاتل زحفوا على عساكر الإسلام، وأقاموا على حصار نيكوبولي.
أما السلطان بايزيد فقد ابتدرهم بالهجوم، واشتبك معهم في الصدام والكفاح في معركة جرت بها الدماء أنهرًا وسيولًا، وانجلت عن فوز العساكر العثمانية، بعد أن استأسروا من الأعداء ١٠ آلاف أسير، ولما أحضروهم أمام السلطان ذبحوهم أمامه، إلا الشاب نافار فإنه لم يقتل بأمر السلطان بالنظر لشجاعته وبسالته. وعقيب هذه النصرة أغار بايزيد على بلاد المجر، وفتح فيها جملة حصون، ثم قهر جوان ملك القسطنطينية، وضرب عليه جزية قدرها عشرة آلاف ريال، وأمره بقيام جامع، وتنصيب قاضٍ للإسلام.
وبعد جملة انتصارات وعدة فتوحات عاد مُظَفَّرًا منصورًا إلى مدينة بورصه، وهناك أقام يتمتع باللَّذَّات مدة من الزمان، وبينما هو على تلك الحال إذ وفد إليه رسول من قبل الملك تيمورلنك ملك التتر ينهيه من هذه الغفلة، فأغلظ له الجواب، وانصرف الرسول مخذولًا، فتحزَّب ملك القسطنطينية مع بعض ملوك أوروبا واستنجدوا تيمورلنك، الذي كان يفتح حينئذٍ البلاد في جهة خوارزم وبين النهرين لمقاتلة السلطان بايزيد. فلما علم السلطان بايزيد بعزائم المذكورين جمع جيوشه، وتقدَّم بهم حتى قطع البحر من جهة أوروبا وحاصر القسطنطينية عاقدًا العزم على فتحها. وفي أثناء ذلك، بلغه زحف عساكر التتر إلى أطراف بلاده، فشق عليه الأمر، وبالأخص عندما علم بخذلان أبطاله في مدينة سيواس، حيث استظهر عليها تيمورلنك وقتل ابنه أرطغرل، لكنه بعد أن تدبر للأمر استصوب رفع الحصار عن القسطنطينية، وحشد جيوشه التي كانت متفرقة في جهات أوروبا وآسيا عائدًا بها إلى بورصه. أما انتصارات تيمورلنك فقد ملأت الأسماع، وألقت في قلوب العساكر العثمانية الخوف والرعب، بالنظر لما كانت تأتيه من القساوة في معاملة الأسراء، فمن معاملته السيئة أنه عندما افتتح سيزاوار بنى فيها برجًا من أجساد محاربيه، وأنه أخذ نحو ألفين من الرجال الأحياء ثم وضع بعضهم فوق بعض نظير الحجارة، وبناهم بالطين واحدًا فوق الآخر، وفي واقعة سيواس أخذ فرسان الأرمن، وأحنى رءوسهم بين أرجلهم وألقاهم في خنادق واسعة وردمهم بالتراب.
أما السلطان بايزيد فانتقامًا لدم ابنه زحف بجنوده على تيمورلنك، والتقى به في سهل أنقرة، وكان قواد عساكر تيمورلنك أربعة من أولاده، وقواد السلطان بايزيد خمسة من أولاده؛ وهم: موسى وسليمان ومحمد وعيسى ومصطفى، فانتشب بينهم القتال من الصباح إلى المساء، غير أن أكثر جنود السلطان بايزيد، وبالأخص الآلايات المؤلفة من التتر خانوه منضمين إلى عساكر تيمورلنك، فلما نظر ذلك عوَّل على الانهزام، وفي أثناء هربه سقط عن ظهر جواده، وأُخِذَ أسيرًا في ١٩ ذي الحجة سنة ٨٠٣ﻫ، الموافق ٢٠ يوليو سنة ١٤٢٠ ميلادية، فلما رأى ولده موسى أنه أُخِذَ أسيرًا تبعه، وانهزم أخواه سليمان ومحمد، أما مصطفى فقد اختفى ولم يذكر عنه المؤرخون شيئًا، بل لقَّبوه بالضائع، ولما وصل السلطان بايزيد أمام تيمورلنك اقتبله بما يليق به من الإجلال والتعظيم، ثم أجلسه إلى جانبه، وأمَّنه على حياته، وأمر بأن تنصب له ثلاثة صواوين، وأمر حسن برلاص أن يكون له نديمًا. وكان تيمورلنك قد قدم إلى تلك الأطراف بسبب أحمد جليار، سلطان العراق، الذي كان أغار عليه فهرب والتجأ إلى السلطان بايزيد، ولما طلبه منه ولم يرد أن يسلمه إليه أغار على بلاده منتقمًا منه؛ لإغاثته بعض ملوك أوروبا وملك القسطنطينية الذين استنجدوه عليه.
وبعد هذه الحادثة بثمانية شهور توفي السلطان بايزيد في آق شهر عام ٨٠٥، فنقل ابنه موسى جثته إلى بروسه، حيث دفنه قرب ضريح أبيه السلطان مراد الأول تغمدهما الله برحمته ورضوانه.