السلطان السادس
وُلِدَ عام ٨٠٦ للهجرة، وجلس على كرسي الملك عام ٨٢٤، وبعد جلوسه أعلم بذلك ملك المجر وملك اليونان وأمير مانتشا وكرماني، فهنَّأه أمير كرماني وسيسموند، وطلب إليه أن يهادنه خمس سنوات، ثم طلب منه ملك القسطنطينية إتمام المعاهدة التي ارتبط بها مع والده المغفور له السلطان محمد خان، وتأمينًا على إتمامها يلزم أن يرسل إليه أخويه على سبيل الرهن، أما إذا أبى فإنه يطلق سراح مصطفى ابن السلطان بايزيد الملوذ به في سالونيك، ويعلم بوجود دول الإفرنج، فأغلظ السلطان له الجواب بواسطة وزيره بايزيد باشا، ولم يخشَ له وعيدًا ولا تهديدًا. ولما أن سمع الجواب استشاط غيظًا، وأطلق للحال سبيل مصطفى، ثم مدَّه بقوة حربية تحت شرط أن يعيد إليه مدينة كاليبولي وبعض مدن أخرى انتزعها من يده سلاطين آل عثمان في الكفاح والقتال، ففلت مصطفى من مربضه، وساق عشرة مراكب حربية تحت إدارة ضباط من قبل عمانويل، ملك القسطنطينية، ثم سَيَّرَ جنودًا بَرِّيَّةً، ولما أشرفوا على كاليبولي سلمت لهم ما عدا القلعة فحاصروها، وإذ ذاك أرسل السلطان مراد وزيره بايزيد بثلاثين ألف مقاتل، فناهضهم مصطفى حتى تغلَّب عليهم، وقبض على قائدهم بايزيد وقتله.
وحدث بعد فتح المدينة أن ضباط ملك القسطنطينية طلبوا من مصطفى أن يقيم بوعده، ويسلمهم إياها، فأجابهم بأنه يجاهد لمنفعته وليس لمنفعة ملكهم، فلما سمعوا منه ذلك خاب منهم الأمل، وأخبروا ملكهم بما كان، فندم على ما فعل. أما السلطان مراد فعندما بلغه قتل بايزيد، وانفشال جنوده، نهض لمحاربة أخيه بنفسه، غير أن مصطفى عرض له في تلك الأثناء رعاف شديد أوقفه عن المحاربة مدة ثلاثة أيامٍ انضم في خلالها أكثر جنوده إلى عساكر أخيه السلطان مراد، ولما كان رأى ذلك هرب إلى كاليبولي، ثم فر منها إلى الفلاق، فخانه بعض أتباعه على الطريق وقتلوه، فخمدت بموته نيران الفتن، وانطفأت الحروب الداخلية، وأعاد السلطان مراد لسلطنته ما كان لها من الرونق والبهجة.
وبعد ذلك زحف على القسطنطينية، ولما أن صار على مقربة من أسوارها نادى بالحرب، وأباح للعساكر السلب والنهب والسبي، فكرُّوا عليها جملة كَرَّاتٍ وارتدُّوا عنها دون أن يدخلوها بالنظر لمنعة أسوارها، ثم سار السلطان إلى بلاد آسيا وامتلك منها جملة مدن، ثم استولى على مدائن واقعة على شاطئ البحر الأسود، وعقد الصلح مع أهل السرب والفلاق، وشن الغارة على البلغار، فلم ينتصر عليهم، واستشهد من جنوده نحو العشرين ألفًا، بيد أن انخذاله لم يضعف منه العزيمة، فجهز ثمانين ألف مقاتل أرسلهم تحت إمرة شهاب الدين باشا، فقاومه ملك البلغار وأخذه أسيرًا، واستأسر من جماعته نحو ٥٠٠، ثم جرَّد عسكرًا آخر وتولى الحرب بنفسه، فلم يظفر بأعدائه، وانكسرت عساكره وأُسِرَ منهم نحو أربعة آلاف جندي، فارتدوا إلى وراء البلقان، وعقد مع الأعداء هدنة صلح على عشر سنين، وتنازل عن الملك لولده محمد البالغ من العمر ١٤ سنة، وأناط الوزراء بتدبير مهام السلطنة، وانعزل في مدينة مونيزيا. وقد تنحى عن الملك بسبب الحزن الذي استولى عليه لوفاة ولده علاء الدين، أما ملوك الأعداء فلما علموا بتنازله لولده أخلفوا وعودهم، وانطلق قوم من الفلاق فأحرقوا ٢٤ مركبًا من المراكب السلطانية، واستولوا على جملة قلاع من قلاع مدائن الدولة، وفتحوا مدينة وارنو. ولما استفحل أمرهم، وعظُم خطبهم، أسرع رجال الدولة في استدعاء السلطان مراد لينقذ البلاد من الوقوع في أيدي الأعداء، فلبَّى طلبهم، وسار إلى محاربة سلطان المجر بأربعين ألف مقاتل، فهزم جيوشه ومزَّقهم شر مُمَزَّقٍ، ثم رمى سلطانهم بجريدة فألقاه عن ظهر جواده، وأسرع إليه أحد الإنكشارية فقطع رأسه ووضعه على سنان رمحه مناديًا بعساكر المجر بقوله: ها هو رأس ملككم. فانخذلوا عند علمهم بذلك، ولجأوا إلى الإدبار والفرار، ولما هدأت الحال رجع السلطان إلى مونيزيا، ومكث في التكية متعبِّدًا، وما فاتت مدة حتى احتاجت إليه المملكة؛ لأن الإنكشارية لاستخفافهم بولده أحدثوا شغبًا في المدينة، وأحرقوا بعض المنازل والأسواق ناهبين فاتكين دون رأفة وشفقة. ولما أن حضر أرسل ولده إلى مونيزيا، وكبح جماح الإنكشارية، وردعهم بسيفه البتار عن التمرد والعصيان، ثم ركب على قسطنطين، أمير الموره، وعلى بلاد الأرناءوط بستين ألف مقاتل فأخضعهم.
وفي عام ٨٥٥ﻫ، الموافق عام ١٤٥٠م، تُوفِّي بداء النقطة، فأسفت المملكة على موته أي أسف، وكان قبل ذلك قد أوصى ولده السلطان محمد الثاني بفتح القسطنطينية.
عاش ٤٩ سنة قضى منها على تخت السلطنة ٢١ سنة، وكان تقيًّا صالحًا، وبطلًا صنديدًا، محبًّا للخير، ميَّالًا للرأفة والإحسان.