السلطان السابع
هو ابن السلطان مراد، وُلِدَ في مدينة أدرنه عام ٨٣٣ﻫ، وصعد على تخت الملك عام ٨٥٥، وحال جلوسه وضع نصب عينيه تنفيذ وصية والده القاضية عليه بفتح القسطنطينية، فشرع في بناء القلاع على شاطئ بوغاز القسطنطينية، وإعداد جميع ما يلزم من مهمات الحرب، ولما بلغ ملك القسطنطينية ذلك هاله الأمر، وبعث رسله على الفور إلى السلطان محمد خان يستجلي منه حقيقة نواياه. ولما لم يكترث السلطان به أو يلتفت إلى رسله؛ طلب الإمداد من دول الإفرنج، ووعدهم مكافأة لهم بضم الكنيسة الرومية إلى الكنيسة الرومانية، فأرسل البابا وملك نابولي ومشيخة جينوا عددًا عظيمًا من الجنود لينضمُّوا إلى عساكره في ساحات القتال، غير أن اليونان لما عرفوا بأن مساعدة دول الإفرنج لهم مبنية على ضم كنيستهم إلى الكنيسة الرومانية استاءوا كثيرًا، وكمنوا البغضة في قلوبهم لملكهم قسطنطين دراغايس ابن الملك عمانويل؛ لأنه سيكون السبب بضم تينك الكنيستين، وكانوا يزعمون أن الله سوف يخرب القسطنطينية حتى يصيرها قاعًا صفصفًا، وأن المدافعة عنها تعد منهم من باب الكفر والإلحاد. وكان أحد وزرائهم المدعو نوتاراس ينادي في شوارع المدينة قائلًا: أود من سويداء القلب أن أشاهد في القسطنطينية تاج السلطان محمد من أن أرى بها إكليل بابا قلنسوة كردينال. وبناء عليه تألَّف اليونان قلبًا وقالَبًا واتحدوا على إخلاء المدينة، فخلوها ولم يبقَ فيها من يدافع عنها إلا جنود الإفرنج.
وفي أول شهر أبريل لعام ١٤٥٣، زحف السلطان محمد إلى القسطنطينية بجيش كثيف يبلغ مائة وخمسين ألفًا، وسيَّر عدة مراكب حربية إلى أمام البوغاز، لكنها لم تتمكن من الدخول فيه لوجود سلسلة حديدية منيعة، فبسط ألواحًا ودهنها بالشحم، ثم وضعها فوق السلسلة، وسحب ثمانين مركبًا في ليلة واحدة مسافة ميلين، ولما نظرها أهالي المدينة في اليوم التالي تولَّاهم العجب من دخول تلك المراكب إلى المينا، وقد تقدم القبطان ليحرقها؛ فأطلقت عليه كلة أصابت مركبه فأغرقته بجميع من فيه، وحينئذٍ أمر السلطان محمد ببناء جسر من البراميل تضم إلى بعضها بشناكل من حديد، ويوضع فوقها ألواح مسمَّرة حتى يشدد بواسطته الحصار على المدينة. وبعد حصار خمسين يومًا، وهدم أربعة أبراج وتخريب سور مار رومانس، أرسل السلطان لملك القسطنطينية يقول: إن سلم يسلم. فلم يقبل بذلك، فأمر السلطان بالهجوم دفعة واحدة على المدينة من البر والبحر في اليوم التاسع والعشرين من شهر مايو، بيد أن الملك قسطنطين جمع جنوده في عشية ذلك اليوم، وأخذ يخاطبهم بكلام محزن متأسفًا على انقراض الدولة الرومانية، وصار يُحرِّضهم ويَحثُّهم على الكفاح والقتال بعبارات محزنة يرق لها الجماد، وبعد حديث طويل أخذوا بالبكاء والعويل، وطفق يقبِّل بعضهم بعضًا قبلات الوادع، ثم ذهبوا نحو الأسوار، وذهب الملك إلى كنيسة أجيا صوفيا يزورها حتى يكون مستعدًّا للموت. أما جنود السلطان محمد خان فقد أوقدوا الأنوار في تلك الليلة المعهودة، وضجوا بالتهليل والتكبير، وقبل أن يبادروا إلى الهجوم بلغهم حضور نجدة من المجر وإيطاليا فتوقفوا، وبعد ذلك بيومين استنأنفوا التضييق على المدينة، فدخلها منهم نحو خمسين نفرًا من أحد الأبواب، ثم اقتفاهم بعض الجنود فانكسر من أمامهم الأهلون، وأغلق الحراس الأبواب وألقوا مفاتيحها في البحر.
أما الملك قسطنطين الذي كان يحارب على السور بنفسه، فلما شاهد شمل عساكره تمزَّق غاب عن رشده وصوابه، وعندما يئس من الفوز تجرد من أسلحته المذهبة خوفًا من الأسر، واخترق صفوف الإنكشارية فقتلوه، وبموته لم تَقُمْ للأروام قائمة، ولم تصدر عنهم مقاومة. ومن ذلك الوقت أصبحت المدينة عرضة للنهب والسلب والحريق، ولما دخلها السلطان محمد أمر بقطع رأس الملك قسطنطين المائت، فقطعوه وطافوا به في جميع بلاده، ثم أمر بقتل أولاد الملك ما عدا صغيرهم، مع قتل كثيرين من أمراء المدينة وأشرافها. وبعد ثلاثة أيام من ذلك العهد، دُقَّتْ طبول الاجتماع، فردعت الجنود عن السلب والنهب، ومنحت الأهالي التأمين على أرزاقهم وأعناقهم، وسمح لهم ببعض الكنائس الحقيرة، ثم ولَّى السلطان على الأروام بطريركًا، وقلَّده بنفسه عصا البطريركية وختمها، وكان ذلك في اليوم التاسع والعشرين من شهر مايو سنة ١٤٥٣، الموافق ليوم ٢٠ من جمادى الأولى سنة ٨٥٧. وقد قال الإنكليز: إن مدينة القسطنطينية قد حوصرت تسعًا وعشرين مرة من بنائها من الملك قسطنطين الأكبر إلى عهد افتتاحها من السلطان محمد الفاتح الذي ضمها إلى سلطنته، وأعلم بذلك سلطان مصر وشريف مكة وشاه العجم، ثم زحف على السرب فنكبها نكبة عظيمة وعاد إلى القسطنطينية، وشرع في بناء جامع الشيخ أيوب شمس الدين. ولما أتم بناءه أقام فيه الصلوات، فقلَّده شيخ الإسلام سيفًا بيده، ومن ذلك الوقت جرت العادة أن السلطان الذي يجلس على تخت الملك يذهب إلى ذاك الجامع ويتقلد بالسيف. وفي ذاك الجامع صخرة كبيرة فوقها بيرق ملفوف بغشاء أخضر رمزًا عن وظيفة أيوب عند الرسول ﷺ.
وبعد فتوحات عديدة، حاصر قلعة بلغراد بمائة وخمسين ألف مقاتل وثلاثمائة مدفع، ففقد من عساكره عددًا عظيمًا وجملة مدافع، وانجرح في فخذه فرجع عنها وذهب إلى أدرنه، وبعد أخذ القسطنطينية بسبع سنين فتح مدينة أثينا عاصمة بلاد اليونان، وفي سنة ١٤٦١م، الموافقة سنة ٨٦٥ﻫ، فتح إيالة طرابزون وولاية سينوب، وفي سنة ٨٦٦ استولى على جزيرة نسيوسه وإقليم بوسنه، ثم جهز عمارة بحرية بمائة ألف مقاتل لفتح جزيرة رودس، فحاصرها ثلاثة أشهر، ثم ظعن عنها وأخذ في إعداد تجريدتين: الأولى لفتح جزيرة قبرص، والثانية لمحاربة شاه العجم، وبينا هو كذلك اعتراه مرض عضال، فمات في مدينة أزنكميد في جمادى الأولى سنة ٨٨٦، ودفن بجوار جامعه الشريف في ضريح مخصوص.
كانت مدة ملكه ٣١ سنة، وعاش ثلاثًا وخمسين سنة، وفي مدة ملكه افتتح مملكتين و١٢ ولاية، واستولى على أكثر من مائتي مدينة، وبنى عدة جوامع ومدارس، وكان يعتبر العلماء، ويحب رجال الأدب. وهو طويل القامة، ضخم الوجه، كثيف اللحية أشقرها. وقد أعقب ولدين؛ يسمى أكبرهما بايزيد، والآخر جم.