الفصل العاشر
انتقلنا من اليسر إلى العسر، ومن السعة إلى الضيق، واستغنينا عن «عم محمد» وامرأته «حليمة».. أو استغنيا هما عنا، سيان، فما كانا خادمين، وإنما كانا منا فيما نحس ونعلم، وأحكمنا تدبير أمورنا فى حدود المورد الذى أسعفنا به حسن الحظ، وزايلنا الشعور الأول بالسخط والألم، وألفنا حياتنا الجديدة وإن كانت حافلة بضروب الحرمان مما كنا ننعم به فى حياة أبى، وكل شىء فى الدنيا عادة، حتى النسك والعبادة، كما يقول النواسى، من قصيدة فى ابن الربيع:
ومضت الأيام، وانتظمت الأمور واستقرت الأحوال بعد القلق والاضطراب، وكانت نفقات التعليم، على ضآلتها، فقد كانت ستة جنيهات فى العام أثقل ما نضطر إلى الاحتياط له وتدبيره وفى وسع القارى أن يتصور حياة من تثقل عليه ستة جنيهات فى العام. فجاءنا يومًا قريب لنا، واقترح علينا أن نطلب من الوزارة أن تعفينى من نفقات التعليم، فاستحسنا ذلك وقلنا عسى ولعل، وشرعنا نعيِّن الوجوه التى ينبغى أن نحول إليها ما كان يأخذه التعليم. وكتب قريبى الطلب وأرانيه فقرأته على أمى فسرتها عبارته وما فيها من القصد والترفع عن الاستجداء والضراعة، قالت حسبنا التعليم بالمجان مذلة.
وغاب قريبنا أيامًا ثم جاءنا بنبأ قال «يا ستى».
قالت أمى «نعم. خير إن شاء الله».
قال «الغاية تبّرر الواسطة».
قالت «يعنى»؟
قال «إن هذا الطلب لا يرجى أن يجاب إلا إذا عززناه بقرشين».
فصاحت به «إيه.. هل تريد أن تقول أن فلانًا — تعنى ناظر المدرسة — يطلب رشوة»؟
فقالت أمى معترضة «إذا كنا سنرشو الناس، ونحن فقراء، فأولى أن نؤدى نفقات المدرسة ونستريح ونعفى ضمائرنا من هذا الإثم».
قال «ولكن الإعفاء سيظل طول مدة التعليم».
قالت «ولو».
فانصرف قريبنا ساخطًا على هذا العناد متعجبًا لهذا التحرج الذى لا موجب له فى رأيه، ولكنه لم يقنط، فأعاد الكرة مرة أخرى، حتى كرهت إلحاحه وآثرت أن تريح نفسها من لجاجته، فأنقدته أربعة جنيهات زعم أنه سيفرقها على رجلين.
ومر شهر، ودنا موعد افتتاح المدارس ونحن كل بضعة أيام نسأل قريبنا عن الطلب ماذا صنع الله به، وهو يقول إنه يتعقبه فى كل مرحلة من مراحله، ثم فجأنا يومًا بالبشرى، ففرحت جدتى واغتمت أمى، واضطربت أنا فلم أعد أدرى أينبغى لى أن أفرح كجدتى أم أحزن كأمى.
وفتحت المدارس، فأهملنا أن نعد مقدار القسط الأول، وهو جنيهان وجاءنا قريبنا يقول إنه أخطأ، وأن الوزارة إنما قبلت أن أتعلم «بنصف مصروفات» فقالت أمى بعد انصرافه «ضيعنا أربعة جنيهات وارتكبنا إثما لنقتصد ثلاثة جنيهات» وناولتنى جنيها — قيمة نصف القسط الأول — وقالت: «اذهب به إلى المدرسة والأمر لله».
وذهبت إلى المدرسة وفى جيبى الجنيه — ولكن الله ألهمنى ألا أذهب إلى كاتب المدرسة فاستأذنت على الناظر وقدمت له الجنيه فسألنى وهو ينظر إليه وإلىّ «ما هذا يابنى».
قلت «جنيه».
قال «ظاهر، ولكن لماذا تعطينيه».
قلت «إن فلانا قريبنا أخبرنا أن الوزارة قبلت أن أتعلم بنصف المصروفات فهذا هو القسط الأول».
وكان الرجل رقيق القلب عظيم الحنان، وكانت بينه وبين أبى صداقة فرأيت الدمع يترقرق فى عينيه وهو يقول.
– «أنا آسف يا بنى، لقد رفضت الوزارة الطلب، ووالله ماقصرت فى السعى لك ولكن هذا ما كان».
فشكرته وأعدت الجنيه إلى جيبى، ورجعت به وبالخبر، آخر النهار إلى أمى.
ودفعنا القسط كاملا.
وسألت أمى قريبنا عن الحقيقة فاعترف لها بأنه كذب عليها وأنه أخذ الجنيهات الأربعة لنفسه، ووعد أن يردها عند الميسرة، وقد مات وهى فى ذمته.
وقالت لى أمى يوما: «لست آسفة إلا على خديعتنا، وما أثمرته من زيادة الضيق الذى كنا فيه، أما التعليم فإنى أحمد الله الذى مكننى من أداء نفقاته فى مراحله كلها، فما كان يسرنى أن تشعر أنك دون أندادك وإنك رقيق الحال، وهم فى سعة، وكنت أخشى أثر هذا فى نفسك فالحمد لله الذى حماك هذا الشعور».
وأخذت الشهادة الإبتدائية، فقالت أمى: «تذهب إلى المدرسة الخديوية وتقدم إليها طلب التحاق بها» ولكن أخى وقريبى الذى أسلفت ذكره جاءا ليقنعا أمى بأن تقبل توظيفى فاستغربت وقالت: «ولكنه طفل».
قال قريبى «إن نفقات التعليم الثانوى كبيرة فمن أين تجيئين بها».
وعزز أخى رأيه. وألح الإثنان عليها إلحاحا شديدًا وهى تأبى وتقول إنها لا ترضى بذلك، وإن ابنها يجب أن يتعلم، وإن أوان التوظيف وكسب الرزق لا يزال بعيدًا فأغلظ أخى لها فى الكلام وعنف معها قريبى فطردتهما وأمضت مشيئتها وأدخلتنى المدرسة. وقد بقيا زمنا غير قصير لايجترئان على دخول بيتنا، ولكنها كانت تبعث بى إليهما لأزورهما، وتوصينى ألا أقطعهما، وتقول إنه خلاف أدى الى جفوة بينها وبينهما، وقد فعلتْ ماتريد وقواها الله عليه فلا مسوغ لبقاء النبوة ولا موجب لها على كل حال فيما بينى وبينهما، وهى لا تضمر لهما بغضا، ولكنها تخاف لعبهما ودخولهما مرة أخرى فيما لا يعنيهما، فخير لى أن يبقيا بعيدين حتى أفرغ من التعليم.
واعترضت الحمى طريقى فى السنة الأخيرة من التعليم الثانوى وكادت تضيعنى بل تقتلنى. وكان قريب لنا من الأطباء يتولى علاجى، ولكن العلاج لم يكن يبدو له أثر فقضيت الصيف كله أوجله راقدًا لا أكاد أعى شيئًا، من شدة الحمى.
وفى إحدى الليالى ثقلت على وطأة المرض جدًا، حتى جزعت أمى — على ما أخبرتنى بعد ذلك — وكادت توقن أنى هامة اليوم أو الغد، لولا أن الأم لا تفقد أملها، وكنا فى بيت كل غرفة فيه تصلح أن تكون ساحة أو ملعبًا، وكانت نوافذ الحجرة التى أرقد فيها تطل على فناء البيت وفيه شجرة جميز عظيمة، تصل أغصانها الذاهبة فى الهواء إلى النوافذ، وكنا نضع قلل الماء على أحد هذه الشبابيك لتبرد، فحدث أن مدت أمى يدها إلى قلة تريد أن تشرب، فقلبت القلة من بين أصابعها وهوت إلى أرض الفناء ففزعت أمى واضطربت جدًا، وكبر ظنها أن هذا نذير بموتى، وخطر لها أن تنحدر إلى الفناء فى فحمة الليل لترى أسلمت القلة أم تحطمت.
وكانت لا تشك فى أنها تكسرت فما يعقل أن تقع من أعلى طبقة فى البيت وأن تنجو من التهشم، ولكنها نزلت مع ذلك، لأن القلة لم تكن عندها فى تلك اللحظة إلا رمزًا، وكانت سلامة القلة معناها البشرى بنجاتى.
ومن العجائب أن القلة لم يصبها سوء ولعل ذلك لأنها وقعت على أرض رخوة طرية كثيرة البلل تحت ظل الشجرة، أو لا أدرى كيف أعلل هذه النجاة من العطب الذى كان ينبغى أن يكون محققًا.
ولقد حدثتنى أمى بعد ذلك بزمان طويل وهى تروى لى هذه القصة، أنها بكت، وأنها عجزت عن القيام، فظلت قاعدة على الأرض غير عابئة بالبلل والرطوبة والوحل، وفى يدها القلة والدموع تنهمر من عينيها دموع الأمل والاستبشار.
وقضت ساعة فيما تحس، ثم نهضت فصعدت، ودنت منى وأنا نائم، ولمست وجهى بكفها، مترفقه محاذرة، مخافة أن توقظنى، فإذا أنا أتصبب عرقًا، وإذا بثيابى كلها — كما قالت — عصرة.
وأصبحت وقد ذهبت عنى وقدة الحمى وأخذت أتماثل ….