الفصل الحادي عشر
سأقتصر فى هذا الفصل على طائفة من الذكريات تخيرتها من عهد كنت فيه تلميذًا، وعهد تال كنت فيه مدرسًا.
وسأكتفى بالمعالم الكبرى والخطوط الرئيسية التى تغنى عن التفاصيل ولست أرمى إلى غاية من هذا التصوير سوى ما يمكن أن يُستفاد من مقابلة عهد بعهد ومواجهة ماض بحاضر. فمثلا يمكن بسهولة أن تتصوروا حال التعليم الابتدائى إذا قلت إن تلميذًا كان معنا فى المدرسة نال الشهادة الإبتدائية فعين فى السنة التالية مدرسًا لنا فى السنة الرابعة التى تعد لنيل الشهادة الابتدائية، وأبلغ من هذا فى الدلالة أنه كان يدرس لنا ما كان يسمى «الأشياء» وهى عبارة عن معارف عامة وكان تدريسها يومئذ باللغة الانجليزية. وأرسم خطا آخر تتم به الصورة — فأقول ما قلت فى فصل آخر: إن ناظرنا كان يقول عن نفسه: إنه جاهل جاهل ولكنه إدارى.
والآن انتقل إلى طائفة أخرى من الصور للمدارس الثانوية.
كان التعليم الثانوى انتقالا بأدق المعانى فقد صار كل ما فى المدرسة انجليزيًا — الناظر والمدرسون والتعليم — ما عدا اللغة العربية.
وأنا إلى هذه اللحظة لا أعرف كيف كنت أنجح فى الامتحانات، وأكبر ظنى أنهم كانوا يترفقون بنا ويعطفون علينا، ويتساهلون معنا، ويتركوننا ننجح على سبيل الاستثناء. وأدع غيرى وأقتصر على نفسى فإنى أعرَف بها، فأقول: إنى ما استطعت قط أن أفهم علوم الرياضة، أو أن أقدر فيها على شىء، ومع ذلك كنت أنتقل من سنة إلى أخرى بلا عائق. وكان الأساتذة يختلفون فمنهم الفظ ومنهم الرقيق. وأذكر أن أحدهم كان يذكرنى درسه بالكتّاب الذى حفظت فيه القرآن الكريم فقد كان يملى درس الجغرافيا، فإذا كان الدرس التالى طالبنا به محفوظًا عن ظهر قلب، وكان يقف أمامه التلميذان والثلاثة دفعه واحدة وعلى مكتبه الكراسة والتلاميذ يتلون وهو يسمع، ثم يضع فى كل ركن واحد من الحافظين ليمتحن زملاءه. وكنت لا أستطيع أن أحفظ شيئًا عن ظهر قلب فكنت أحبس بعد كل درس فى الجغرافيا حتى كرهتها وكرهت حياتى كلها بسببها.
وكان لنا مدرس آخر من أظرف خلق الله وأرقهم حاشية وأعفهم لفظًا، فكان إذا ساءه من أحدنا أمر وأراد أن يوبخه قال له. تهج كلمة بليد مثلا أو مجنون أو غير ذلك كراهة منه لإسناد الوصف إلى التلميذ مباشرة. ولم يكن تدريس اللغة العربية خيرًا من تدريسها فى الوقت الحاضر ولكنا كنا أقوى فيها من تلاميذ هذا الزمان، لا أدرى لماذا؟ وكان المفتش الأول للغة العربية المرحوم الشيخ حمزة فتح الله، وكان من أعلم خلق الله بها وبالصرف على الخصوص، وكان رجلا طيبًا ووقورًا مهيبًا، فكان إذا دخل علينا يسرع المدرس إليه فيقبل يده ويدعو له الشيخ ولا نستغرب نحن شيئًا من ذلك بل نراه أمرًا طبيعيًا جدًا.
وأعتقد أن منظر أساتذتنا وهم يقبلون يد الشيخ حمزة كان من أهم ما غرس فى نفوسنا حب معلمينا وتوقيرهم، فإنى أرانى إلى هذه الساعة أشعر بحنين إلى هؤلاء المعلمين ولا يسعنى إلا إكبارهم حين ألتقى بواحد منهم وإن كنت لم أستفد منهم شيئًا يستحق الذكر.
ومن لطائف الشيخ حمزة أنه كان يقول ملاحظاته على المعلم على مسمع منا، ولكنه كان لا يكتب فى تقريره إلى الوزارة إلا خيرًا. وقد اتفق لى بعد أن تخرجت من مدرسة المعلمين وعينت مدرسًا فى المدرسة السعيدية الثانوية أن جاء الشيخ حمزة للتفتيش فاغتنمت هذه الفرصة وقلت: «يا أستاذ» ما هو الاسم العربى لهذا الدخان والتبغ تارة أخرى؟ «فقال»: انتظرنى يا سيدى حتى أنظر فى «الكناشة» وأخرج مما يلى صدره تحت القفطان كراسة ضخمة لا أدرى كيف كانت مختبئة غير بادية وقلب فيها ثم أنشد هذا البيت:
ومضى عنى. وفكرت أنا فى كلمة الطباق التى جاءنى بها الشيخ، فاستحسنتها ورأيت أنها على العموم خير من كلمة تبغ نعرب بها اللفظ الانجليزى أو الفرنسى «توباك أو توباكو».
ومن حوادث الشيخ حمزة معى أنى كنت أؤدى الامتحان الشفوى فى الشهادة الثانوية وكان هو رئيسا للجان اللغة العربية، فلما جاء دورى اتفق أنه كان موجودًا، فلما انتهت المطالعة وجاء دور المحفوظات وكان لها مقرر مخصوص سألنى ماذا أحفظ. وكنت فى صباح ذلك اليوم قد قرأت خطبة قصيرة للنبى ﷺ فعلقت بذهنى وألهمنى الله أن أقول إنى أحفظ خطبة للنبى، ففرح الشيخ جدًا وخلع حذاءه وصاح: «قلى يا شاطر الله يفتح عليك» وسترنى الله فلم أخطئ، فاكتفى الشيخ بهذا وأعفانى من النحو والصرف والإعراب.
ولكنه فى مرة أخرى كاد يضيع علىّ سنة. وكنت طالبا فى مدرسة المعلمين وكانت لجنة الامتحان فى اللغة العربية برياسته فقال أحد إخوانى بعد خروجه من الامتحان: إن الشيخ حمزة يفتح كتاب النحو والصرف ويطلب من الطالب أن يتلو الفصل الذى يقع عليه الاختيار، ولم نكن ندرس نحوًا ولا صرفا فى المدرسة لأن الدراسة كانت مقصورة على الأدب فأيقنا بالفشل وجاء دورى فدخلت وأنا واثق من الرسوب وجلست أمامه وناولنى كتاب مقدمة ابن خلدون فقرأت، ولا أزال أذكر فاتحة الكلام وهى: «اعلم أن العدوان على الناس فى أموالهم ذاهب بآمالهم فى تحصيلها» الخ. فقال: ضع الكتاب. فوضعته، فسألنى عن العدوان والفعلين عدا واعتدى وانتقلنا إلى الصيغ المختلفة التى يكون عليها الفعل «واعتدى» مثل «اعتديا» للماضى المثنى «واعتديا» للأمر، فسألنى لماذا كان الماضى بالفتح والأمر بالكسر فلم أعرف لهذا سببًا وقلت إنه لا سبب هناك سوى أن العرب نطقوا بهما هكذا، فدهش لهذا الجواب وقال: «ولكن لهذا سببًا»، قلت: «إن اللغة سبقت النحو والصرف، وكل هذه القواعد موضوعة بعدها، وما دمت أنطق كما كان العرب يفعلون فإن هذا يكفى ولا داعى للبحث عن سبب مختلق». فغضب وظهر هذا على وجهه فلم أبال بغضبه وحدثت نفسي أنه خير لى وأكرم أن أسقط بخناقة من أن تكون علة سقوطى الجهل. وأصررت على رأيى وكاد يحدث مالا يحمد، لولا أن المرحوم الشيخ شاويش — وكان عضوا فى اللجنة — تدارك الأمر، فقد نظر فى ساعته ثم التفت إلى الشيخ حمزة وقال: «العصر وجب يا مولانا». فنهض الشيخ وهو يقول «أى نعم» وذهب للصلاة ونسينى فكان فى هذا نجاتى. وقد حفظت هذا الجميل للشيخ شاويش، وكانت هذه الحادثة بداية علاقتى به.
ولم تكن المواد كثيرة أو طويلة فى مدرسة المعلمين، ويكفى أن أقول إنه كانت لنا فى الأسبوع ثمانى ساعات لا نتلقى فيها أى درس، فترك هذا التخفيف وقتًا كافيًا للمطالعة الخاصة.. وكان أساتذتنا وناظرنا يشجعوننا عليها بكل وسيلة ولا يفوتهم مع التشجيع والحث أن يوجهونا وينظموا لنا الأمر، وأحسب أن هذا نفعنا جدًا.
وقد صرت معلمًا بعد ذلك وظللت أشتغل بالتعليم عشر سنين: خمس منها فى الوزارة، وخمس فى المدارس الحرة، وفى هذه السنوات العشر لم أحتج أن أعاقب تلميذا أو أوبخه أو أقول له كلمة نابية. ولم يقصر التلاميذ فى محاولة المعاكسة ولكنى كنت حديث عهد بالتلمذة وبشقاوة التلاميذ، فكنت أعرف كيف أقمع هذه الرغبة الطبيعية فى الشقاوة، وكانت طريقتى أن أتجاوز عن الذى لا ضير منه فلا أشغل به نفسى والتلاميذ، مثال ذلك أن يحتاج التلميذ إلى قلم أو نشافة فيطلبها من جاره ويكلمه فى ذلك فلا أعد هذا الكلام الذى لا يباح، ولا أقيم ضجة من أجله وقد حدث يوما وأنا مدرس فى المدرسة الخديوية أن دخلت فرقة فألفيت على مكتبى كل أدوات الرياضة مرصوصة على نحو لاشك أنه متعمد وكان تلاميذى لا يجهلون كرهى للرياضيات، وكنت أنا لا أكتمهم أنى أعد نفسى جاهلا بها حمارا فى علومها، وكان غرضهم من رص هذه الأدوات أن يعابثونى عسى أن أثير الضجة التى يشتهونها ولا يفوزون منى بها ولكنى لم أفعل بل اكتفيت بأن دعوت العامل فحمل هذه الأدوات ووضعها فى مكانها ثم بدأ الدرس. واتفق يوما آخر أن دخلت الفصل فإذا رائحة كريهة لا تطاق، وكان الوقت صيفًا والجو حارًّا جدا فضاعف الحر شعورى بالتنغيص من هذه الرائحة الثقيلة. وأدركت أنها هى المادة التى كنا ونحن تلاميذ نضعها — فى الدواة مع الحبر فتكون لها هذه الرائحة المزعجة. فقلت لنفسى أنهم ثلاثون أو أربعون وأنا واحد وإذا كانت الرائحة القبيحة تغثى نفسى فإنها تغثى نفوسهم معى أيضا. فحالهم ليس خيرًا من حالى، والإحساس المتعب الذى أعانيه ليس قاصرا علىّ ولا أنا منفرد به، وأنهم الأغبياء لأنهم أشركوا أنفسهم معى وقد أرادوا أن يفردونى بهذه المحنة. والفوز فى هذه الحالة خليق أن يكون لمن هو أقدر على الصبر والاحتمال. فتجاهلت الأمر وصرت أغلق النوافذ واحدة بعد أخرى لأزيد شعورهم بالضيق والكرب فلا يعودوا إلى مثلها بعد ذلك، وقد كان. تصبرت وتشددت ودعوت الله فى سرى أن يقوينى على الاحتمال، ومضيت فى الدرس بنشاط وهمة لأشغل نفسى عما أعانى من كرب هذه الرائحة الملعونة. وكنت أرى فى وجوههم أمارات الجهد الذى يكابدونه من التجلد مثلى فأُسرّ واغتبط وأزداد نشاطًا فى الدرس وإغضاء عمن يرفعون أصابعهم ليستأذنوا فى الكلام فقد كنت عارفًا أنهم إنما يريدون أن يستأذنوا فى فتح النوافذ عسى أن تخف الرائحة ويلطف وقعها.
وظللنا على هذا الحال نصف ساعة كادت أرواحنا فيها تزهق، ورأيت أن الطاقة الإنسانية لا يسعها أكثر من ذلك، وأن التلاميذ خليقون أن يتمردوا إذا أصررت على عنادى المكتوم، واغتنمت فرصة أصبع مرفوعة وسألت صاحبها عما يريد، فقال إنه يريد أن يفتح النافذة لأن الحر شديد، قلت افتحها، وفُتحت النوافذ كلها. وتشهدنا جميعًا واستأنفنا الدرس ولكن بفتور لشدة ما قاسينا من رياضة النفس على احتمال مالا يطاق. وانتهى الدرس وخرجت فخرج ورائي ثلاثة أو أربعة من التلاميذ ولحقوا بى، وقال لى واحد منهم إنهم يأسفون لما حصل وأن الأمر كان مقصودا به غيرى، وأنهم يطلبون الصفح، فسررت ولكنى تجاهلت وسألتهم عما يعنون. قالوا. الرائحة الكريهة التى كانت فى الفصل. قلت: «رائحة. أى رائحة.. إننى مزكوم ولهذا لم أشم شيئًا فلا محل لاعتذاركم» ومضيت عنهم، وكان هذا درسا نافعًا لهم ولو أنى عاقبت أحدا لما أثمر العقاب إلا رضاهم عن نفوسهم لأنهم استطاعوا أن ينغصوا على، وأن ينجح معى عبثهم الطبيعى فى مثل سنهم.
وفى آخر سنة من اشتغالى بالتدريس توليت أمر مدرسة ثانوية فقلت للأساتذة: إننى ألغيت العقوبات جميعًا فلا حبس ولا عيش حاف ولاشىء مما اعتاد المعلمون أن يعاقبوا به التلاميذ.
ونظريتى هى أن المدرس الذى يحتاج إلى معاقبة تلميذه لا يصلح لهذه المهنة وخير له أن يشتغل بغيرها وأن العلاقة بين المعلم وتلميذه ينبغى أن تقوم على المودة والاحترام، وأن يكون أكبر وأقوى عامل فيها هو شعور التلميذ بأن المدرس والد له يبغى له الخير ويخدمه، ويفتح له نفسه ويقوي مداركه وينمى استعداده، وأنه لا يلزمه بدرس ولا يفرض عليه شيئًا بل يرغّبه فى الدرس ويحبب إليه التحصيل.
وعلى هذا فليس لأحد من المعلمين أن ينتظر منى معونة على ضبط النظام، وقد كان. قضينا فى هذه المدرسة سنة كاملة لم يشعر فيها التلاميذ بسلطان أو سطوة، وإنما شعروا أنهم أبناء لنا وأننا إخوان كبار لهم وأصدقاء نافعون.
ولم أكتف بهذا بل ألغيت «الجرس» الذى يدق إيذانا بابتداء الدرس أو انتهائه لانى لم أر حاجة إليه بعد أن أصبح التلاميذ يحرصون على الحضور والمواظبة من تلقاء أنفسهم وبدافع من حبهم للمدرسة ورغبتهم فى الوجود بها مع إخوانهم المدرسين، حتى لقد كان الواحد منهم يمرض فيحضر، وبهذا استغنيت أيضًا عن الدفاتر الكثيرة التى تستعمل فى المدارس والتى تحتاح إلى موظفين كثيرين لا داعي لهم.
وقد كنت أحب أن أظل فى هذه المدرسة لأرى نتيجة التجربة، ولكن الحركة الوطنية بدأت فى صيف ذلك العام وجرفنا تيارها الزاخر فهجرت التعليم إلى الصحافة.
ولو عدت إليه الآن لكان من المحقق أن أخفق فقد اختلف الحال جدًا وانقلبت الأوضاع.